خطبة بعنوان: (نعمة الأمطار وشكر المنعم) بتاريخ 19-1-1435هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

 

الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي أجزل لعباده من إنعامه وفضله، وعطائه وكرمه، والشكر له على ما أولى به من فيض خيره وإحسانه وبره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالرزق والعطاء، والجود والسخاء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي الهدى والرحمة الذي تعلق قلبه بخالقه ومولاه، فكان يقول في دعائه طلباً للمطر (اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت}(رواه أبو داود)، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن تقواه سبيل الخير والرشاد، وخير زاد ليوم المعاد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102)، أما بعد:

عباد الله: إن المطر آية عظيمة من آيات الله جل وعلا، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(الروم: 24)، وجعلها سبحانه وتعالى نعمة عظيمة القدر لأنها من أسباب استمرار حياة الخلق، {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }(الأنبياء: 30)، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}(الشورى: 28).

ومما يدل على عظيم نعمة المطر أنه ينزل بقدر الله تعالى، متى شاء وأين شاء، فيخرج به من بركات الأرض كي يعيش الخلق، قال تعالى:{وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} (المؤمنون: 18ـ 20).
فأكثروا من شكر الله جل وعلا على هذه النعمة، فهو سبحانه يحبّ الشاكرين، قال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}(إبراهيم: 7)، وقال سبحانه:{أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}(النجم: 70) .

فاللهم لك الحمد ولك الشكر على عطاءك وجزيل فضلك.
عباد الله: روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سُرِّي عنه فعَرَّفته عائشةُ ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما أدري لعله كما قال قوم عاد {فلما رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم})الآية.

وروى أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئًا من أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته، ثم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه)، فإن كشفه الله (حمد الله) وإن مطرت قال: (اللهم صيبًا نافعًا)(رواه أحمد، والبخاري في الأدب، والنسائي). وهذا يدل على شدة خوفه ووجله من أن يحل على أمته عذاب من الله جل وعلا.

وما نراه وما نشاهده مما يحدث في شتى أقطار الأرض من فيضانات وأمطار غزيرة دمرت الحرث والنسل، وأهلكت الكثير من الخلق في ساعات معدودة شاهد على ما نقول، فنسأله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

عباد الله: ومن السنن التي يستحب للمسلم أن يفعلها عند نزول المطر أن يحسر عن شيء من ثوبه ليصيب منه، فعن أنس رضي الله عنه قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر. فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال:(لأنه حديث عهد بربه تعالى)(رواه مسلم).

ويسن أيضاً أن يقول عند نزول المطر كما كان صلى الله عليه وسلم يقول (مُطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله)(رواه البخاري).
ويسن الإكثار من الدعاء عند نزول المطر، لأنه من مواطن استجابة الدعاء، لحديث سهل بن سعد مرفوعًا:(ثنتان ما تردان الدعاء عند النداء وتحت المطر)(رواه أبو داود، وصححه الألباني).

ويسن أيضاً إذا كثر المطر وخيف الضرر أن يقول (اللهم حوالينا ولا علينا على الآكام، والجبال والآجام، والظراب، والأودية ومنابت الشجر)(رواه البخاري).

ولا بأس بالجمع بين الصلاتين إذا كثر المطر؛ فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء وزاد مسلم من غير خوف ولا مطر ولا سفر, فدل ذلك انه قد استقر عند الصحابة رضي الله عنهم أن الخوف والمطر عذر في الجمع كالسفر لكن لا يجوز القصر في هذه الحال وإنما يجوز الجمع فقط لكونهم مقيمين لا مسافرين, والقصر من رخص السفر الخاصة.

كما يسن الصلاة في الرحال عند نـزول المطر مع شدة البرد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح، فقال: ألا صلوا في الرحال ثم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول (ألا صلوا في الرحال)(رواه مسلم).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}(الأعراف: 57، 58 ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.
عباد الله: وبقدر ما دخلت الفرحة الغامرة على نفوسنا بنزول المطر، إلا أنه قد ساءنا ما رأيناه من بعض المشاهد السيئة التي صاحبت نزوله ومن ذلك:

* ما يقوم به بعض المستهترين من الشباب ممن يسيرون بسرعة جنونية في مياه الأمطار فيؤذون بها المارة، ويسببون الفزع والخوف في قلوب بعض السائقين، ألا فليتق الله هؤلاء، وليحذروا كل الحذر من أذية إخوانهم المسلمين في طرقاتهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(من آذى المسلمين في طرقهم، وجبت عليه لعنتهم)(رواه الطبراني بسند حسن).

* وأيضاً ما يقوم به بعض الشباب المتهور من التفحيط والتطعيس في أماكن خطرة، وخاصة قرب مجرى السيول وفي المرتفعات، ومن فعل ذلك وتسبب في قتل نفسه فهو على خطر عظيم.

* وما رأيناه من مظاهر تدل على عدم الدقة في تنفيذ بعض المشروعات الحكومية كالكباري، والمباني، والطرقات التي تأثرت بمياه الأمطار والسيول، وهذه مسئولية بعض المقاولين ومنفذي أعمال الطرق، وقد تبين عدم التزامهم بالمواصفات والشروط، ألا فليتق الله كل من ولاه الله أمراً من أمور المسلمين، وليعلم أنه موقوف بين يدي ربه وسوف يسأله عن كل صغيرة وكبيرة.
عباد الله: وأوصي مرتادي البر والمتنزهات بالمحافظة على الصلوات المكتوبة، والحرص على الأهل والأولاد بعدم تعريضهم للأماكن الخطرة التي تكثر فيها السيول والأمطار.

وعلى أولياء الأمور الحذر من تبرج النساء، وتكشفهن أمام السيارات المارة والمتنزهين الآخرين.

وعلى من أراد التنزه والاستمتاع بتلك الأجواء أن يبتعد عن كل ما يسبب الأذى لإخوانه المسلمين، من رفع لأصوات الموسيقى، والنظر إلى النساء الأجانب، والتحرش بهن، والإزعاج بالتفحيط، ورفع الأصوات، والروائح الكريهة وغير ذلك.

كما ينبغي الابتعاد عن أماكن اجتماع السيول أو السباحة فيها خاصة من قبل الأطفال والنساء، مع عدم الغفلة عن الأبناء في تركهم يذهبون مع من يشاءون بحجة الاستمتاع بهذه الأجواء، فقد يحصل ما لا يحمد عقباه.

أسأل الله جل وعلا أن يبارك لنا فيما أعطانا من نعمة الغيث والمطر، وأن يزيدنا من فضله إنه كريم جواد.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 19-1-1435هـ