45 – مباحث في العقيدة القسم الثاني

الأحد 16 رجب 1445هـ 28-1-2024م

 

 

45 –  مباحث في العقيدة القسم الثاني pdf

 

 

مباحث في العقيدة

(الجزء الثاني)

 

رؤية الله ـ الإسلام والإيمان ـ القرآن كلام الله ـ القضاء والقدر ـ

الإيمان بالرسل والكتب والملائكة

 

تأليف

أ.د/ عبدالله بن محمد أحمد الطيار

 

 

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد:

فإن توضيح العقيدة الصحيحة وبيانها وتجلية أمرها والدعوة إليها هو أهم المهمات وأعظم الواجبات لأنها الأساس الذي تبنى عليه أعمال الناس فلا تصح ولا تقبل إلا إذا كانت مبنية على معتقد صحيح سليم خال من الشوائب والمكدرات وهذا ما كان عليه رسل الله جميعاً – صلوات الله وسلامه عليهم- وكذلك أتباعهم بإحسان وهذا ما دعا إليه وأكد عليه خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وكذا تابعوه إلى يومنا هذا فقد أكدوا على إصلاح العقيدة والبعد عن كل ما يناقضها وهذا هو مسلك القرآن الكريم الذي جاءت معظم سوره تؤكد على هذه العقيدة وتبين معالمها وقد تنزل هذا الكتاب العظيم طيلة العهد المكي على رسولنا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد وإصلاح العقيدة وبيان ما يضادها من جميع الجوانب.

إن العقيدة الإسلامية هي التي بعث الله من أجلها رسله وأنزل بها كتبه ولا يقبل من أحد عملاً إلا بها كما أخبر عن ذلك ربنا – جل وعلا- بقوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ([1])، وقال تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ([2]) .

ومتى تمسك المسلم بهذه العقيدة الصحيحة فقد عصم دمه وماله في الدنيا كما أخبر عن ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم  بقوله:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)([3]).

ومن تمسك بها فإنها تنجيه يوم القيامة من عذاب الله كما جاء في الحديث:(من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)([4]).

وهذه العقيدة الصحيحة هي سبب قبول الأعمال ومغفرة الذنوب قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ([5]).

أما أصحاب المعتقد الفاسد فعملهم حابط باطل كما أخبر ربنا –جل وعلا-:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}([6])، وقال تعالى {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} ([7]).

هذه الأمور وغيرها جعلت أمر العقيدة ذا أهمية قصوى فوجب تعلمها وتعليمها ولذا اهتم بها أهل العلم سلفاً وخلفاً بينوا أصولها ووضحوا مسائلها وركزوا على ما يناقضها.

وإن التعليم في بلادنا الغالية – المملكة العربية السعودية – يتميز على غيره بالاهتمام بالعقيدة والتركيز عليها في مختلف مراحل الدراسة للبنين والبنات. ولقد شرفتني كلية التربية للبنات في محافظة الزلفي بتدريس مادة العقيدة في سنوات الكلية وأخبروني أن المقرر على الطالبات (شرح الطحاوية) ولما كان هذا الكتاب يصعب فهمه على كثير من الطالبات استخرت الله  في تيسير بعض مباحثه وعرضها بأسلوب سهل وألقيت ذلك على الطالبات خلال عامي (1423، 1424هـ).

وكانت مجموعة منهن يكتبن هذه المحاضرات وقد اطلع عليها بعض أعضاء هيئة التدريس من الرجال والنساء الذين يدرسون هذه المادة في كليات مماثلة ورغبوا في طباعتها وألحّ عليّ مندوب مكتبة الرشد وذكر لي حاجة الطالبات لذلك وهاتفني أكثر من مرة ملحاً على سرعة إنجازها وهنا استخرت الله وعزمت على إخراجها بعد أن أعدت النظر فيها وأضفت لها بعض الإضافات اليسيرة فما كان فيها من صواب فمن الله وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة وأسأل الله أن ينفع بها كاتبها والمطلع عليها كما أسأله أن يبارك في جهود المخلصين الصادقين وإني بهذه المناسبة أزجي خالص شكري وتقديري للمسئولين عن كلية التربية للبنات في محافظة الزلفي عميدة ووكيلة ورئيسات أقسام  وكذا مسئولين عن إدارة تعليم البنات بالمحافظة على جهودهم المباركة كما أسأله أن يوفقنا جميعاً لخيري الدنيا والآخرة وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

                                                                                                                  وكتب أبو محمد

                                                                                                    عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار

                                                                                                                  1/ 8/ 1425هـ

 

المبحث الأول

مبحث الرؤية

 أولاً : رؤية الله في الدنيا

وإجماع السلف على عدم وقوعها مع ذكر الأدلة.

ثانياً: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم 

لربّه سبحانه وتعالى واختلاف الناس فيها.

ثالثاً: ذكر بعض المسائل المتعلقة

برؤية النبي صلى الله عليه وسلم  لربّه عز وجل.

رابعاً: رؤية الله تعالى يوم القيامة.

خامساً: رؤية الله في المحشر وأجناس الناس في الرؤية:

(1) جنس المؤمنين

(2) الكفار الخلَّص

(3) المنافقون

سادساً: رؤية المؤمنين لربهم في الجنة مع ذكر الأدلة على ذلك.

سابعاً: أدلة نفاة رؤية المؤمنين لربهم في الجنة مع ذكر الرد عليهم.

 

أولاً: في رؤية الله في الدنيا.

اتفقت الأمة على أن الله تعالى لا يراه أحد في الدنيا بعينه ولم ينازعوا في ذلك إلا ما شذ في هذه المسالة عن بعض غلاة الصوفية أو المشبهة فقد زعموا أنه يجوز رؤية الله في دار الدنيا وأنه يزورهم ويزورونه([8]).

والمنقول عن الأشعري في هذه المسألة قولان:

قال النووي –رحمه الله-:«أما رؤية الله في الدنيا فقد قدمنا أنها ممكنة ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم أنها لا تقع في الدنيا وحكم الإمام أبو القاسم القشيري في رسالته المعروفة عن الإمام أبي بكر بن فورك أنه حكى فيها قولين للإمام أبي الحسن الأشعري أحدهما وقوعها والثاني لا تقع».

قلت: ومما يجب التنبيه عليه أن هناك فرقاً بين القول بإمكانية الوقوع وبين حصول الوقوع، فإمكانية الوقوع لا تعني حصوله ولهذا قال صاحب الطحاوية.

«وهذا القول الذي قاله القاضي عياض –رحمه الله- هو الحق فإن الرؤية في الدنيا ممكنة إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى عليه السلام » ([9]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في رده على من زعم رؤية الله في الدنيا «من قال من الناس أن الأولياء أو غيرهم يرى الله بعينه في الدنيا فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب  والسنة وإجماع سلف الأمة لا سيما إذا ادعوا أنهم أفضل من موسى فإن هؤلاء يستتابون، فإن تابوا و إلا قتلوا والله أعلم» ([10]).

وقال أيضاً رحمه الله : «وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل له {لن تراني} وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء فمن قال أن أحداً من الناس يراه فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتاباً من السماء» ([11]).

ومن هنا يتبين لنا إجماع السلف على أن الله لم يره أحد بعينه في دار الدنيا حتى موسى عليه السلام، وإنما وقع الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

 

ثانياً: ذكر الأدلة على نفي

رؤية الله تعالى في الدنيا.

قبل أن نتعرض لذكر الأدلة على ذلك نحب أن ننبه على أن هذه الأدلة هي نفس ما استدل به المخالفون لأهل السنة على أن الله تعالى لا يرى في الآخرة كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ولكننا هنا سنذكر طرفاً من الأدلة فقط مع ذكر أقوال السلف في بيانها.

أولاً: أدلة الكتاب:

الدليل الأول: قال الله تعالى مخبراً عن موسى -عليه الصلاة والسلام-:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً..} {الأعراف143}. وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى حينما طلب موسى عليه السلام  رؤيته أجابه الله تعالى بقوله { لن تراني} و «لن» تقتضي النفي المؤبد.

لكن هل هذا النفي المؤبد للرؤية في الدنيا والآخرة؟ نقول لا بل النفي المؤبد هنا في الدنيا فقط لأن النصوص جاءت بثبوت الرؤية في الآخرة.

قال ابن كثير –رحمه الله-: «وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعاً بين هذه الآية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة» ([12]).

الدليل الثاني: قوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} {الأنعام103}. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله-:« {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} لعظمته وجلاله وكماله، أي لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه في الآخرة وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم»([13]) .

قلت: فمعنى الآية أنه سبحانه وتعالى  لا يدركه أهل الدنيا قبل الممات أما في الآخرة فأدلة رؤيته واضحة كما سنبين ذلك إن شاء الله.

الدليل الثالث: قول الله عز وجل {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} {الشورى51}.

وجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى حصر تكليم البشر في الدنيا في الوحي إلى الرسل، أو تكليمه لهم من غير وساطة لكن من وراء حجاب، أو بإرسال الرسل وهم الملائكة إلى الأنبياء، وإذا كان الأنبياء والرسل لا يحصل لهم رؤية الله تعالى في الدنيا بأبصارهم وهم أكرم البشر على الله بلا شك فمن باب أولى عدم حصولها لغيرهم([14]).

الدليل الرابع: قال الله تعالى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}{البقرة55} وقال أيضاً {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } {النساء153}.

وجه الدلالة من الآيتين : أن الله تعالى أخذ من طلب رؤيته من بني إسرائيل بالصاعقة وما ذلك إلا لبيان شدة الإنكار على من طلبها ولهذا قال نبي الله موسى عليه السلام  بعد أن أفاق من شدة ما رأى من تحرك الجبل بعد أن  طلب رؤية الرب سبحانه قال:{سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}{النساء153}، فهذا هو حال موسى حينما طلب رؤية الرب سبحانه وتعالى  فكيف يكون حال غيره.

ثانياً: أدلة السنة :

الدليل الأول: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه  قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  بخمس كلمات فقال: (إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه نور) وفي رواية (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)([15]).

وجه الدلالة من هذا الحديث: أن الحديث فيه نص صريح على أن لله تعالى حجاباً هو النور وهذا النور حاجب له تعالى مانع من الرؤية فهو قاهر للبصر وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحجاب ليلة إسرائه لربه تعالى حين سأله عن رؤية ربه سبحانه قال رأيت نوراً.

الدليل الثاني: حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه حيث قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته)([16]).

وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد رؤية الرب سبحانه وتعالى بيوم القيامة ولو كانت الرؤية جائزة في الدنيا لما كان لهذا التحديد معنى.

وبهذا فهم الصحابة – رضوان الله عليهم- أي فهموا أن رؤية الرب سبحانه وتعالى لا تكون إلا في يوم القيامة ولهذا لم يسألوه عن رؤياه سبحانه في الدنيا.

قال أبو هريرة رضي الله عنه : «أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟»([17]).

الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم  (واعلموا أنه لن يرى أحدكم ربه حتى يموت)([18]).

وجه الدلالة من الحديث أنه نص صريح في نفي رؤية الرب سبحانه وتعالى في الدنيا وأنها لم تقع لأحد من الخلق.

ومن هنا نعلم أن الأدلة واضحة في عدم ثبوت رؤية الله تعالى في الدنيا لأحد من الخلق.

 

ثالثاً: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم

لربّه سبحانه وتعالى.

ذكرنا فيما سبق أن سلف الأمة أجمعوا على أن الله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا لكن وقع الخلاف بين أهل السنة والجماعة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا، وهذا الخلاف نشأ منذ عهد الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين – .

فاختلفوا في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الدنيا، وهذا القول هو المروي عن ابن عباس وأبي ذر وكعب رضي الله عنهم وبهذا القول قال الحسن وعكرمة وغيرهم ورواه عن الإمام أحمد – رحمه الله – بعض أصحابه.

استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:

الدليل الأول: ما رواه أحمد في مسنده عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأيت ربي تبارك وتعالى) ([19]).

الدليل الثاني : ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه  في حديثه الطويل المذكور في ليلة إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه (… ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله فيما أوحى خمسين صلاة..)([20]) الحديث.

الدليل الثالث: حديث اختصام الملأ الأعلى وفيه قوله صلى الله عليه وسلم (رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أي ربي أي ربي مرتين فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي …) ([21]) الحديث .

الدليل الرابع: وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم ) ([22]).

الدليل الخامس: وعن عكرمة قال: «سمعت ابن عباس وسئل هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم  ربه؟ قال: نعم، قال فقلت لابن عباس: أليس يقول الله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} قال: لا أم لك، ذلك نوره إذا تجلى نوره لم يدركه شيء» ([23]) .

وعن عياد بن منصور قال: «سألت الحسن فقلت {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}  من ذا يا أبا سعيد؟ قال: ربي» ([24]).

وعن المبارك بن فضالة قال: «كان الحسن يحلف بالله لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم  ربه» ([25]).

وعن كعب قال: «إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد – صلوات الله وسلامه عليهما – فرآه محمد مرتين وكلم موسى مرتين» ([26]).

قلت: هذه جملة من أقوال السلف في إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى، وبهذه الأدلة استدل الإمام أحمد على ثبوت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه.

قال النووي – رحمه الله -: «قال صاحب التحرير: والحجج وإن كانت كثيرة ولكننا لا نتمسك إلا بالأقوى منها، وهو حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – (أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم )([27]) …. ثم ذكر الأدلة على ثبوت الرؤية .. إلى أن قال، الصحابي إذا قال قولاً وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة، وإذا صحت الرواية عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن والاجتهاد، ثم إن ابن عباس أثبت شيئاً نفاه غيره والمثبت مقدم على المنفي»

وقال النووي: «فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه ليلة الإسراء والمعراج لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم  هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه» ([28]).

القول الثاني: وهو قول من قال بعدم ثبوت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم  لربه سبحانه وتعالى  . وهذا القول هو قول عائشة –رضي الله عنها- وهو المشهور عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وكذا المحدثين.

استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها ([29]):

الدليل الأول: عن مسروق قال: «كنت متكئاً عند عائشة فقالت يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحد منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت ما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم  رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}{النجم: 7}، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}{النجم 13} فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال: (إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض) فقالت: أولم تسمع أن الله يقول:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } {الأنعام103} أولم تسمع أن الله يقول {  وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} {الشورى51} ….. » ([30]) .

الدليل الثاني: عن أبي ذر رضي الله عنه  قال: سألت رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: (نور أنى أراه)([31]).

وجه الدلالة من هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم (نور أنى أراه) والمعنى أن هناك نوراً منعني من رؤيته يدل على الرواية الأخرى وقوله صلى الله عليه وسلم  فيها (رأيت نوراً)([32]) فهذا النور الذي رآه صلى الله عليه وسلم حال بينه وبين رؤية ربه سبحانه وتعالى  .

وهناك أدلة أخرى أعرضنا عنها خشية الإطالة في هذا المبحث والخلاصة أن الذي يظهر عندي -والله أعلم- أن المرئي في آيتي النجم هو جبريل عليه السلام  وهو الذي يتفق مع السياق القرآني لا سيما تصريح أم المؤمنين – رضي الله عنها – في تفسيرها لذلك كما وضحنا آنفاً وكما جاء مصرحاً به عن أبي هريرة رضي الله عنه  في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}{ النجم : 13} قال رأى جبريل ([33]).

الراجح من القولين: إذا نظرنا إلى أدلة القولين فإن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم  لم ير ربه عز وجل بعين رأسه في الدنيا أقرب للصواب وأن ما استدل به المثبتون يمكن حمله على أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه جمعاً بين الأدلة.

قال أبو ذر رضي الله عنه «رآه بقلبه ولم يره بعينه» ([34])، وقال إبراهيم التيمي «رآه بقلبه ولم يره ببصره« ([35]).

قال النووي: «قال أبو الحسن الواحدي وعلى هذا رأى بقلبه رؤية صحيحة، وهو أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده أو خلق لفؤاده بصراً حتى رأى ربه رؤية صحيحة كما يرى بالعين»([36]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما الرؤية فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين، وعائشة أنكرت الرؤية، فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد، والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مطلقة أو مقيدة بالفؤاد تارة يقول رأى محمد ربه، وتارة يقول رأى محمد بفؤاده ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية وتارة يقوله رآه بفؤاده ولم يقل أحد أنه سمع أحمد يقول رآه بعينه…» ([37]).

قال القاضي عياض: «وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم  والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص والمعول فيه على آية النجم والتنازع فيها مأثور والاحتمال لها ممكن»([38]) .

 

رابعاً: ذكر بعض المسائل المتعلقة

برؤية النبي صلى الله عليه وسلم  لربّه عز وجل.

المسألة الأولى: إذا ثبتت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم  لربّه سبحانه وتعالى  بقلبه فهل تثبت هذه الرؤية لغيره من المؤمنين؟

نقول: اتفق الصحابة والتابعون والأمة على جوازها للمؤمنين وأنه يحصل للقلوب من المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها على قدر إيمان العبد، لأن من أحب شيئاً تمثل في قلبه ووجده قريباً إليه، وإذا ذكره حضر في قلبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ([39]).

وهذا هو المثل الأعلى الذي قال الله فيه: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} ([40])، فإنه سبحانه لا يماثله شيء أصلاً، فنفسه المقدسة لا يماثلها شيء من الموجودات، وصفاتها لا يماثلها شيء من الصفات، وما في القلوب من معرفته لا يماثله شيء من المعارف، فله المثل الأعلى كما أنه في نفسه الأعلى وهو يتنوع في القلوب بحسب المعرفة بالله والمحبة تنوعاً لا ينحصر وليس الربّ تعالى في نفسه هو كذلك([41]).

وخالف ما ذكرناه المعتزلة فمنهم من أثبت رؤية الربّ سبحانه وتعالى بالقلب ومنهم من أنكرها، وهذه هي عادة المعتزلة في مخالفتهم لأهل السنة والجماعة.

قلت: والربّ سبحانه وتعالى إن لم تعرفه القلوب وتحبه وتجله وتعظمه ذلت وخضعت لعظمته سبحانه، بل كلما زادت معرفة القلوب بخالقها زادت في العبادة والطاعة له والانقياد لحكمه. قال بعض السلف: «من كان لله أعرف كان له أخوف».

المسألة الثانية: إذا ثبتت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم  لربّه سبحانه وتعالى  في المنام فهل تثبت هذه الرؤية لغيره من المؤمنين؟

الجواب: نعم، يجوز لغيره صلى الله عليه وسلم من المؤمنين رؤيته سبحانه وتعالى ومخاطبته، وخالف في ذلك طائفة من المعتزلة وهذا أيضاً مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها بل وما اتفق عليه عقلاء بني آدم.

قال شيخ الإسلام – رحمه الله – : «وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه فإذا كان إيمانه صحيحاً لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق»([42]).

وقال أيضاً شيخ الإسلام رحمه الله:

«وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم وما أظن عاقلاً ينكر ذلك فإن وجود ذلك ممكن لا يمكن دفعه، إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره وهذه مسألة معروفة، وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين ..»([43]).

لكن هناك بعض الأمور التي يجب التنبه عليها:

الأول : أننا إذا قلنا بثبوت رؤيا الرب تبارك وتعالى في المنام فإننا ننبه على أنه تبارك وتعالى ليس كما يراه النائم قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير}{الشورى11}، فما يراه النائم هو صورة مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه سبحانه وتعالى، فإن كان إيمانه واعتقاده في ربه سبحانه وتعالى مطابقاً أتى من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك.

الأمر الثاني: أننا إذا قلنا بثبوت رؤيا الربّ سبحانه وتعالى في قلوبنا فإننا نحذر من التخييل والتوهم بعقولنا لكيفية هذا الربّ سبحانه وتعالى.

قال الإمام الطحاوي رحمه الله: «وكل ما جاء في ذلك -يعني رؤيا الربّ سبحانه وتعالى – من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم  ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه» ([44]).

  

خامساً: رؤية الله تعالى يوم القيامة.

يوم القيامة يوم عظيم وصفه الله تعالى بأوصاف عدة وبيَّن ما سيكون في هذا اليوم العظيم، وإن مما أخبر الله تعالى عنه مما سيحدث فيه رؤيته سبحانه وتعالى، وهذه الرؤية تختلف باختلاف أجناس البشر، فالناس في يوم  القيامة ليسوا على درجة واحدة بل هم على ثلاثة أجناس:

الجنس الأول: مؤمنون خلَّص ظاهراً وباطناً.

الجنس الثاني: كافرون خلَّص ظاهراً وباطناً.

الجنس الثالث: منافقون كافرون باطناً مؤمنون ظاهراً.

ويوم القيامة يبدأ بالمحشر على الله تعالى وينتهي بدخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار.

 

سادساً: رؤية الناس لربهم في المحشر.

اختلف أهل العلم في رؤية الناس لربهم في المحشر على ثلاثة أقوال وذلك حسب اختلاف أجناس الناس التي ذكرناها:

القول الأول : قالوا لا يراه إلا المؤمنون.

القول الثاني : قالوا يراه أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك.

القول الثالث : يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار.

والخلاف نفسه في تكليمه لأهل الموقف. وسنذكر شيئاً يسيراً هنا من أقوال أهل العلم في هذه المسألة أعني رؤية الناس لربهم في المحشر:

الجنس الأول: المؤمنون.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله في الواسطية:

«فصل: وقد دخل أيضاً فيما ذكرنا من الإيمان بالله وبكتبه وبملائكته وبرسله: الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة ، يرونه سبحانه وهم في عرصات يوم القيامة ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله تعالى» ([45]).

فالمؤمنون كما ذكره شيخ الإسلام سيرون ربهم في موطنين:

الموطن الأول : يرونه في عرصات يوم القيامة قبل دخولهم الجنة كما دل على ذلك قوله تعالى:{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}{المطففين15} فقوله {يوْمَئِذٍ} يعني يوم القيامة.

الموطن الثاني : وهو بعد دخولهم الجنة وهذا له مبحث خاص به كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.

الجنس الثاني: الكفار الخلَّص.

اختلفت أقوال أهل العلم في رؤية الكفار لربهم على ثلاثة أقوال:

أحدها : أن الكفار لا يرون ربهم بحال، لا المظهر له ولا المسر له وهذا قول أكثر العلماء المتأخرين وعليه يدل عموم كلام المتقدمين، وعليه جمهور أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.

الثاني : أنه يراه من أظهر التوحيد من مؤمني هذه الأمة  ومنافقيها وغبرات من أهل الكتاب وذلك في عرصة يوم القيامة  ثم يحتجب عن المنافقين فلا يرونه بعد ذلك، وهذا هو قول أبي بكر بن خزيمة من أئمة أهل السنة، وقد ذكر القاضي أبو يعلى نحوه في حديث إتيانه سبحانه وتعالى لهم في الموقف الحديث المشهور.

الثالث : أن الكفار يرون رؤية تعريف وتعذيب – كاللص إذا رأى السلطان – ثم يحتجب عنهم ليعظم عذابهم ويشتد عقابهم، وهذا قول أبي الحسن بن سالم و أصحابه وقول غيرهم([46]).

والذي يظهر لي – والله أعلم – أن الكفار لا يرون ربهم مطلقاً لظهور الأدلة التي استدل بها القائلون بعدم الرؤية خصوصاً قوله تعالى {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} {المطففين15}. وهذا هو قول شيخنا محمد الصالح العثيمين – رحمه الله – في شرحه للواسطية([47]).

الجنس الثالث: المنافقون.

مرّ بنا كلام شيخ الإسلام وذكره لأقسام الناس في رؤية الله تعالى وذكر قول أبي بكر بن خزيمة وغيره أن المنافقين سيرون ربهم ثم يحتجب عنهم فلا يرونه بعد ذلك، وبهذا القول قال شيخنا محمد الصالح العثيمين رحمه الله ([48]).

 

سابعاً: في ذكر الأدلة على ثبوت

رؤية أهل الجنة لربهم سبحانه وتعالى.

قبل الشروع في ذكر الأدلة على ثبوت رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة وبيان أنها أعظم نعيم أهل الجنة نشير هنا إلى بعض الأمور:

الأمر الأول: أن أهل السنة والجماعة يرون ثبوت رؤية الله جل وعلا لأهل الجنة كما ذكرنا ذلك سابقاً وقد قال بذلك الصحابة والتابعون وأهل الحديث وسائر العلماء المحققين في كل زمان ومكان.

الأمر الثاني: أن الذين نفوا الرؤية هم طوائف من المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والخوارج والإمامية وغيرهم. وهؤلاء ليسوا من عداد أهل السنة والجماعة بل هم من أعظم الفرق مخالفة لأهل السنة والجماعة في العقائد والأحكام.

الأمر الثالث: أهمية مسألة الرؤية:

هذه المسألة من أشرف المسائل وهي من أمهات أصول الدين وهي غاية ما يسعى له المجتهدون والمشمرون ويتنافس فيها المتنافسون ولذلك أفردت هذه المسألة في مؤلفات كثيرة وذكرها أهل السنة في أصول الاعتقاد وذكروا الأدلة على ثبوتها ورموا من خالف فيها الكتاب والسنة بالضلال والابتداع هنا تكمن أهمية دراسة هذه المسألة.

الشروع في ذكر الأدلة على:

 

ثبوت رؤية أهل الجنة

لربهم سبحانه وتعالى في الجنة.

أولاً : أدلة الكتاب:  

الدليل الأول: قال الله تعالى{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}{القيامة22-23} هذه الآية من أصرح الأدلة وأوضحها وأبينها في إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الجنة.

من أوجه الاستدلال بالآية:

(1) أن الله أضاف النظر إلى الوجه الذي هو محل النظر.

(2) أن الله تعالى عدَّى النظر بـ إلى وهي صريحة في نظر العين.

(3) أن الآية خلت من قرينة تصرف النظر إلى غير معناه وحقيقته، وقد فسرها ابن عباس وعكرمة وغيرهما ([49]) بالنظر إلى وجه ربها .

وهذا جملة من أقوال السلف في تفسير هذه الآية:

عن الحسن في قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال حسنة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضَّر وهي تنظر إلى الخالق» ([50]) .

قال ابن كثير في تفسيرها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} من المناضرة أي حسنة بهية مشرقة مسرورة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي تراه عياناً كما رواه البخاري في صحيحه (أنكم سترون ربكم عياناً) أي معاينة ينظرون إليه» ([51]).

وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنها: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل، وقال عكرمة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال: من النعيم {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}  قال: تنظر إلى ربها نظراً. ثم حكي عن ابن عباس –رضي الله عنهما- مثله. وهذا قول كل مفسري أهل السنة والحديث ([52]).

الدليل الثاني: قول الله تعالى {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} {ق35}.

قال الطبري «قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك –رضي الله عنهما في تفسيرها: هو النظر إلى وجه الله عز وجل ([53]).

الدليل الثالث: قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}{يونس26} فالحسنى هنا الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم  والصحابة من بعده. ففي صحيح مسلم عن صهيب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال:(إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً ويريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة)([54]) .

وبهذا التفسير فسرها الصحابة – رضوان الله عليهم – جميعاً فإنهم لم يكونوا يعدلون عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم  لها إلى أحد غيره.

الدليل الرابع: قول الله تعالى {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} {المطففين15}.

قال أهل العلم ومنهم الإمام الشافعي وغيره: «لما أن الله حجب هؤلاء حال السخط عليهم كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه حال رضاه عنهم» ([55]).

قال مقاتل في تفسير الآية :«معنى الآية أنهم بعد العرض والحساب لا يرون ربهم والمؤمنون يرون ربهم».

وقال الكلبي :«يقول إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لمحجوبون والمؤمن لا يحجب عن رؤية ربه» ([56]).

ثانياً: أدلة السنة:

أما أدلة السنة في رؤية المؤمنين لربهم – تبارك وتعالى – في الآخرة فهي كثيرة جداً، وقد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى أتباعه من الصحابة وسلف الأمة هذه النصوص بكل قبول وارتياح وكلهم يرجوه ويدعوه ويسأله أن يكون ممن يراه في جنات عدن يوم يلقاه.

فمن الأدلة التي جاءت في ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الجنة:

الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه  أن ناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك) ([57]) .

الدليل الثاني: حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه  قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال:(إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا) ([58]).

الدليل الثالث: حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) ([59]) .

الدليل الرابع: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له فليقولن ألم أبعث إليك رسولاً فبلغك؟ فيقول: بلى يا ربّ، ألم أعطك مالاً وأُفْضِل عليك؟ فيقول بلى يا ربّ) ([60]).

الدليل الخامس: وهو من أصرحها وضوحاً في ثبوت الرؤية ما رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عز وجل: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل)([61]).

وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً ومن أحاط معرفة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بأنه صلى الله عليه وسلم قالها.

قال شارح الطحاوية: «ومن أراد الوقوف على أحاديث الرؤية فليواظب سماع الأحاديث النبوية فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء إذا شاء، وأنه يأتي الخلق لفصل القضاء يوم القيامة، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك إلى غير ذلك من الصفات التي سماعها على الجهمية بمنزلة الصواعق…» ([62]).

 

ثامناً: أدلة نفاة الرؤية والرد عليهم.

نفاة الرؤية من الجهمية والمعتزلة ومن سار على مسلكهم من الخوارج والروافض وغيرهم يعترضون على أدلة أهل السنة بأدلة باطلة وحجج واهية، وسنذكر طرفاً مما استدل به هؤلاء مع مناقشة هذه الأدلة والرد عليهم.

الدليل الأول : استدل النفاة بقوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} {الأنعام: 103}.

وجه الدلالة عندهم من الآية: أن الله تعالى نفى أن يدرك بالأبصار وما دام الإدراك قد قرن بالبصر فإنه يفيد عدم الرؤية بالبصر وعليه يكون قوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} بمعنى لا تراه الأبصار فثبت أنه نفى عن نفسه إدراك الأبصار ([63]).

الرد على هذه الشبهة:

أن الآية تدل على ثبوت الرؤية من وجه حسن لطيف وهو أن الله – جل وعلا – ذكرها في سياق التمدح ومعلوم أن المدح في الصفات الثبوتية وليس في الصفات العدمية إلا إذا تضمن ذلك إثباتاً للكمال كنفي السنة والنوم ونفي اللغوب والإعياء وهكذا نفي الشريك والولد ونفي الأكل والشرب لأن هذا كله يتضمن إثبات صفات كمال لله – جل وعلا – تخالف صفات البشر.

فلو كان المراد من قوله {تُدْرِكُهُ} أنه لا يرى بحال لم يكن في ذلك مدح ولا كمال لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف لا يرى ولا تدركه الأبصار والربّ سبحانه وتعالى يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض. إذاً فمعنى الآية أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو  قدر زائد على الرؤية ([64]) .

فخلاصة الرد عليهم في هذه الآية: أن الآية فيها نفي الإدراك، والرؤية لا تستلزم الإدراك ألا ترى أن الرجل يرى الشمس ولا يحيط بها إدراكاً، فإذا أثبتنا أن الله تعالى يُرى لم يلزم أن بكون يدرك بهذه الرؤية، لأن الإدراك أخص من مطلق الرؤية، ونفيه – أي الإدراك – يدل على وجود أصل الرؤية لأن نفي الأخص يدل على وجود الأعم ولو كان الأعم منتفياً لوجب نفيه ([65]).

الدليل الثاني: ومن أدلة النفاة للرؤية أيضاً قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي…} {الأعراف 143} .

وجه الاستدلال عندهم: أن «لن» تفيد التأبيد وأن موسى عليه السلام لما أفاق قال سبحانك أي أنزهك عما لا يجوز عليك وأنه تاب مما وقع منه وهو طلب الرؤية ([66]).

الرد على هذا الاستدلال:

أجاب أهل السنة في ردهم على ما استدل به النفاة في هذه الآية من عدة وجوه وأثبتوا أن الآية دليل على ثبوت رؤية الله – جل وعلا – في الجنة، وأجابوا على استدلال النفاة بها من عدة وجوه:

الوجه الأول: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله موسى – عليه الصلاة والسلام – وهو أعلم الناس بربّه – جل وعلا – في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه بل هذا من أعظم المحال .

الوجه الثاني: أن الله لم ينكر على نبيه موسى – عليه الصلاة والسلام – سؤاله ولو كان ذلك غير ممكن لأنكر سبحانه عليه كما أنكر على نوح – عليه الصلاة والسلام – سؤاله لربه وطلبه نجاة ابنه فقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ}{هود ، 46} .

الوجه الثالث: أن الله تعالى قال: {لَنْ تَرَانِي} ولم يقل إني لا أرى ولا تجوز رؤيتي أو لست بمرئي والفرق بين الجوابين ظاهر.

الوجه الرابع: قال تعالى {وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} {الأعراف143}. فاعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف.

أن الله تعالى تجلَّى للجبل وهو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله و أوليائه في دار كرامته ولكن الله أعلم موسى – عليه الصلاة والسلام – أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار فالبشر الذي خلق من ضعف من باب الأولى.

الوجه السادس: أن الله – جل وعلا – كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكليم والتكلم وأن يسمع مخاطبُه كلامه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمع بينهما بعض المبتدعة فنفوا الرؤية ونفوا الكلام.

الوجه السابع: دعواهم أن «لن» تفيد التأبيد أي أنه لا يرى مطلقاً في الدنيا ولا في الآخرة، فهذا الدعوى باطلة لأن «لن» لا تقتضي النفي المؤبد ولذا يقول ابن مالك:

ومن رأى النفي بـ لن مؤبداً   ***  فقوله فاردد وسواه فاعضدا

الوجه الثامن: استدلالهم بقول موسى –عليه الصلاة والسلام-: { سبحانك} قاله لما رأى من كمال قدرة الله تعالى وعظمته حيث لم يستطع الجبل أن يتحمل قوة نوره سبحانه وتعالى وليس معناه كما يقول النفاة ننزه مما لا يجوز عليه في الرؤية.

الوجه التاسع: قول موسى –عليه الصلاة والسلام- { تبت إليك} أي تبت إليك من مسألة الرؤية في الدنيا، وقيل قاله على جهة الإنابة والخشوع له عند ظهور الآيات كما مرّ وقد أجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية ([67]).

الدليل الثالث:

قال النفاة : إن إثبات الرؤية يلزم منه أن الله في جهة وهذا يلزم منه أن له جسماً وهذا ممتنع على الله.

والجواب على ذلك:

أن نقول: لفظ الجهة فيه إجمال فإن أريد بالجهة  أنه حال في شيء من مخلوقاته فهذا باطل والأدلة ترده وهذا لا يلزم منه إثبات الرؤية، وإن أريد بالجهة أنه سبحانه فوق مخلوقاته فهذا ثابت لله سبحانه وتعالى  ونفيه باطل لا يتنافى مع رؤيته سبحانه وتعالى  .

 

تاسعاً: مسألة حكم من أنكر

رؤية الله تعالى في الآخرة.

قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري الحنبلي – رحمه الله -:

«فإن اعترض الجاهل ممن لا علم معه أو بعض هؤلاء الجهمية الذين لم يوفقوا للرشاد ولعب بهم الشيطان  وحرموا التوفيق فقال: وهل المؤمنون يرون الله عز وجل يوم القيام؟

قيل له: نعم، والحمد لله على ذلك. فإن قال الجهمي: أنا لم أؤمن بهذا.

قيل له: كفرت بالله العظيم.  فإن قال: وما الحجة؟

قيل: لأنك رددت القرآن والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم وقول علماء المسلمين واتبعت غير سبيل المؤمنين وكنت ممن قال الله فيهم { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} {النساء 115} …. ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على ثبوت الرؤية» ([68]).

وسئل سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز – رحمه الله – سؤالاً قال فيه سائله: هل رؤية الله تعالى ثابتة وما الدليل وما القول الراجح في ذلك؟

فأجاب – رحمه الله -: «رؤية الله تعالى في الآخرة ثابتة عند أهل السنة والجماعة من أنكرها كفر، يراه المؤمنون يوم القيامة  ويرونه في الجنة كما يشاء بإجماع أهل السنة كما قال عز وجل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} {القيامة: 22-23} .

وقال سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} {يونس26} فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله .

وثبت في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة، أما في الدنيا فلا يرى الله في الدنيا كما قال تعالى:{تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، {الأنعام103 وقال لموسى: {لَنْ تَرَانِي}{ الأعراف143} .

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (واعلموا أنه لن يرى أحد ربه حتى يموت)([69])، لأن الرؤيا نعيم ورؤية الله أعلى نعيم أهل الجنة، وهذه الدار ليست بدار نعيم، هي دار الأكدار دار الأحزاب دار التكليف، فلا يرى الله في الدنيا ولكن يرى في الآخرة.

أما الكفار فهم محجوبون كما قال تعالى:{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} {المطففين15} .

 

المبحث الثاني

الإسلام  والإيمان

(1) معنى الإسلام

(2) معنى الإيمان

(3) مخالفو جمهور السلف في مسمى الإيمان

(4) الفرق بين الإسلام والإيمان

(5) زيادة الإيمان ونقصانه

(6) أسباب زيادة الإيمان ونقصانه

(7) أسباب نقص الإيمان

(8) الاستثناء في الإيمان

(9) شعب الإيمان

(10) ما يناقض الإيمان

(11) أثر المعاصي على الإيمان

(12) مكفرات الذنوب

(13) حكم الإصرار على المعاصي

(14) الكفر والمكفرات

(15) أصول المكفرات

(16) آثار الكفر

(17) حكم مرتكب الكبيرة

(18) النفاق

 

المبحث الثاني

الإسلام والإيمان

(1) معنى الإســـلام.

الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال:

أحدها: قال طائفة: الإسلام هو الكلمة.

الثاني: أن الإسلام ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة.

الثالث: أن الإسلام مرادف للإيمان وجعلوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة …)([70]) شعائر الإسلام ([71]).

 

(2) معنى الإيمـان.

هناك ثلاث حقائق أساسية لا بد من توفرها حتى يصير الإيمان حقيقياً:

الأولى : حقيقة قولية وهي النطق بالشهادتين وإشهار ذلك وإعلانه.

الثانية: حقيقة قلبية وهي اعتقاد صدق ما نطق به اللسان والإخلاص في ذلك والانقياد له.

الثالثة :  حقيقة عملية وهي ترجمة ما نطق به اللسان واعتقده القلب وإظهاره إلى الواقع العملي بخضوع الجوارح وانقيادها لأداء ما أمر الله وترك ما حرم الله.

أما عن معنى الإيمان فهو:

أولاً : تعريفه في اللغة:

أكثر أهل العلم على أن معنى الإيمان في اللغة أنه التصديق، لكن في هذا التعريف نظر رده شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- من وجوه عدة.

والذي اختاره في تعريف الإيمان أنه الإقرار وبهذا قال شيخنا محمد الصالح –رحمه الله- في شرحه للواسطية ([72]).

ثانياً : تعريفه في الشرع هو:

«قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح»

شرح التعريف:

أولاً: المراد بقول القلب معرفته للحق وتصديقه به، قال الله تعالى{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}{الزخرف  86} أي تشهد بأنه لا إله إلا الله ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي بقلوبـهم معنى ما نطق به بألسنتهم ([73]).

ولذلك كان معرفة القلب وتصديقه من لوازم الشهادتين، قال الإمام أحمد رحمه الله :«من جحد المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً، فإن فساد هذا القول معلوم من دين الإسلام» ([74]). قال شيخ الإسلام: «الإيمان الذي في قلبه لا بد من شيئين: تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته ويقال لهذا قول القلب» ([75]).

أهمية معرفة القلب وتصديقه

«إن معرفة القلب وتصديقه بالحق إذا صادفت قلباً سليماً خالياً من الحسد والكبر والانشغال بالشهوات والأهواء وما إلى ذلك فإن هذا القلب سيخضع للحق حتماً وينقاد له لأن القلوب مفطورة على حب الحق وإرادته و لا شيء أحبّ إلى هذه القلوب السليمة من الله عز وجل » ([76]).

وقال شيخ الإسلام أيضاً: «ولكن قد يعرض للقلوب ما يفسدها إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن اتباعها، فالنصارى مثلاً رغم عبادتهم لا علم لهم، واليهود رغم أنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم لا يتبعونه لما فيهم من الكبر والحسد الذي يوجب بغض الحق ومعاداته ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون)([77]) وأن هؤلاء لهم معرفة بلا قصد صحيح، وهؤلاء لهم قصد في الخير بلا معرفة له فلا يبقى في الحقيقة معرفة نافعة ولا قصد نافع» ([78]).

ثانياً: المراد من قولهم «قول اللسان» أي النطق بالشهادتين والإقرار بلوازمهما، أي إقراره بالشهادتين، وهذا الإقرار عنصر أساسي من عناصر الإيمان فلا يتحقق الإيمان التام إلا إذا تحقق إقرار اللسان بالشهادتين.

قال البدر العيني : «اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على ما قاله النووي: إن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك ونطق مع ذلك بالشهادتين فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً بل يخلد في النار إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية، أو لغير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمناً بالاعتقاد من غير لفظ ([79]).

مسألة : مدلولات الإقرار بالشهادتين:

  1. الإقرار بالتوحيد ولوازمه
  2. ترك الشرك والتبرئ منه
  3. التزام شرائع الإسلام

ثالثاً: المراد من قولهم «عمل القلب»:

عمل القلب المراد به تحركه وإرادته مثل الإخلاص في العمل فهذا عمل قلب وكذلك التوكل والرجاء والخوف، فالعمل ليس مجرد الطمأنينة في القلب بل هناك حركة في القلب ([80]).

قال شيخ الإسلام –رحمه الله- : «ولا بد من عمل القلب مثل حب الله ورسوله وخشية الله  وحب ما يحبه الله ورسوله وبغض ما يبغضه الله ورسوله وإخلاص العمل لله وحده وتوكل القلب على الله وحده وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان» ([81]).

رابعاً: المراد من قولهم «عمل اللسان»

أما عمل اللسان فالمراد به حركاته وليست هي النطق بل النطق ناشئ عنها إن سلمت من الخرس وعمل اللسان ما لا يؤدى إلا به كقراءة القرآن وسائر الأذكار وغير ذلك.

خامساً: المراد من قولهم «عمل الجوارح»

ودخول الأعمال في مسمى الإيمان هو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة وقد حكى غير واحد الإجماع على ذلك.

قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: «وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر» ([82]).

والمراد من عمل الجوارح ما لا يؤدى إلا به مثل الركوع والسجود والمشي في مرضاة الله كنقل الخطى للمساجد والحج والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما يشمله حديث شعب الإيمان.

 

(3) مخالفو جمهور السلف في مسمى الإيمان.

ذكرنا فيما سبق أن إجماع السلف انعقد على أن الإيمان قول بالقلب واللسان وعمل بالقلب واللسان والجوارح، غير أن هناك من خالف جمهور السلف في مسمى الإيمان، وممن خالف السلف في هذا الأمر:

أولاً: الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – وأصحابه من فقهاء الكوفة: حيث قالوا «الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان فقط فأخرجوا بالتالي عمل الجوارح عن مسمى الإيمان.

قال شارح الطحاوية: «اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً، فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة – رحمهم الله – وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان.

وذهب كثير من أصحابنا – أي الحنفية – إلى ما ذكره الطحاوي – رحمه الله – إنه إقرار باللسان والتصديق، ومنهم من يقول إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي –رحمه الله- ويروى عن أبي حنيفة –رضي الله عنه » ([83]).

قال صاحب المسامرة: «القول الرابع وهو أن الإيمان تصديق بالقلب واللسان ويعبر عنه أنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وهو منقول عن أبي حنيفة ومشهور عن أصحابه» ([84]).

ثانياً: المرجئة:

ذهب المرجئة إلى أن الإيمان معنى واحد لا يتجزأ ولا يتبعض فإذا ذهب بعضه ذهب كله فلم يبقى منه شيء.

فعند هؤلاء المرجئة والكرامية أن الإيمان هو إقرار باللسان فقط دون عقد القلب فمتى نطق العبد الشهادتين بلسانه فهذا يكفي في كونه مؤمناً كامل الإيمان وإن زنى وإن سرق وإن لم يفعل خيراً قط.

وهذا القول معلوم فساده بلا شك، لأنهم على قولهم الفاسد يكون المنافقون على هذا مؤمنين مع أن الله تعالى كذبهم في دعواهم فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ إلى قوله ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ {التوبة 84، 85}.

وغير ذلك من الآيات التي دلت على أن المنافقين لم ينفعهم إقرارهم بلسانهم فكيف يسوغ للمرجئة  والكرامية أن يجعل الإيمان هو الإقرار فقط.

ثالثاً : قول الأشاعرة:

أما الأشاعرة فقد جعلوا الإيمان تصديق القلب فقط فلا يكفي عندهم المعرفة بل لا بد من التصديق. وهذا لا شك غير صحيح لأن الكفار يصدقون بقلوبهم كما قال -جل وعلا- :﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ {الأنعام 33}  .

وقال جل وعلا ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾{ النمل 14} .

فالكفار يصدقون بالرسول صلى الله عليه وسلم  في قلوبهم ويعرفون أنه رسول الله ولكنهم أبوا الاعتراف برسالته تكبراً وعناداً وحفاظاً على شرفهم بزعمهم ومكانتهم بين الناس.

قال أبو طالب في بعض أشعاره:

ولقد علمت بأن دين محمد   ***   من خير أديان البرية دينـا

لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

ومن هنا نعلم أن مجرد التصديق بالقلب لا يكفي في مسمى الإيمان لأن الكفار يصدقون بقلوبهم كما ذكرنا لكن يمنعهم الجحود والاستكبار والعناد.

رابعاً: قول الخوارج والمعتزلة:

ذهب الخوارج ومن وافقهم إلى أن الطاعة بأسرها فرضاً كانت أو نفلاً هي الإيمان.

فعند هؤلاء أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأنها شرط في بقائه فمن فعل معصية من الكبائر خرج من الإيمان، لكن الخوارج يقولون إنه كافر أي أن من فعل الكبيرة عندهم كافر. والمعتزلة يقولون هو في منزلة بين المنزلتين فلا نقول مؤمن ولا نقول كافر بل نقول خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر وصار في منزلة بين المنزلتين.

لكنهم اتفقوا على أن فاعل الكبيرة خالد مخلد في النار.

وهذا القول فاسد مصادم لنصوص الشريعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تأتي إليه وفود العرب فيسألونه عن الإسلام والإيمان وكل ما يقول له السائل في الفريضة هل على غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع شيئاً . فجعل النوافل شرطاً من شروط الإيمان غير صحيح.

أما كون مرتكب الكبيرة يكون كافراً فهذا باطل بنصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا{الحجرات  9} .

فقد وصفهم الله بالإيمان والأخوة مع أنهم يقتل بعضهم بعضاً والقتل للمؤمن من كبائر الذنوب ومع ذلك أمرنا سبحانه بالإصلاح بينهما.

فالشارع الحكيم الذي نفى عن السارق والزاني والشارب اسم الإيمان كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن …)([85]).

الشارع نفسه لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام كما زعمت الخوارج بل عاقب هذا بالجلد وهذا بالقطع ولم يقتل أحداً إلا الزاني المحصن ولم يقتله قتل المرتد، فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابته فدل على أنه إن نفى عنهم الإيمان فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر ([86]).

 

(4) الفرق بين الإسلام والإيمان.

هل الإسلام والإيمان بمعنى واحد أم أن بينهما فرقاً ولكل واحد منهما معنى يخالف الآخر؟

هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على قولين:

القول الأول: أن الإسلام والإيمان متغايران وأن بينهما فرقاً وإلى هذا ذهب جماعة من العلماء وقالوا: الإسلام الكلمة والإيمان العمل. وهذا قول الإمام أحمد وغيره من أئمة أهل السنة.

القول الثاني: أنه لا فرق بين الإسلام والإيمان وأنهما بمعنى واحد، وممن قال بذلك ابن عبد البر وغيره من أهل العلم.

والذي يظهر أن لكل منهما معنى وهذا هو ظاهر النصوص التي فرقت بينهما وعطفت أحدهما على الآخر وهي نصوص كثيرة من الكتاب والسنة.

فمن هذه النصوص: قول الله تعالى:﴿قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾{الحجرات:14}، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ { الأحزاب: 35 } .

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم لك أسلمت وبك آمنت…)([87]).

وقيل أيضاً للنبي صلى الله عليه وسلم (مالك وفلان و الله إني لأراه مؤمناً؟ قال: أو مسلماً)([88]) قالها ثلاثاً. فأثبت له اسم الإسلام وتوقف في الإيمان.

ومن هنا نعلم أن المراد من أحدها غير المراد من الآخر فمن قال هما سواء كان مخالفاً، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله.

 

(5) زيادة الإيمان ونقصانه.

لقد جاءت نصوص الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة على زيادة الإيمان ونقصانه وأن أهله متفاضلون فيه، فبعضهم أكمل إيماناً من بعض منهم السابق بالخيرات ومنهم المقتصد ومنهم الظالم لنفسه، فمنهم المحسن ومنهم المؤمن ومنهم المسلم كما جاءت نصوص الكتاب والسنة في ذلك، فهم ليسوا في الدين في مرتبة واحدة.

وهذا هو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة في هذه المسألة أي أنهم يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه.

الأدلة على ذلك:

أولاً: دلالة الكتاب:

قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾{ آل عمران 173}.

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾{ الأنفال 2}.

وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾{ التوبة 124}.

وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾{ الأحزاب 22}

وقوله تعالى: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾{ الفتح 4}، وقوله تعالى: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾{ المدثر 31} .

فهذه ستة مواضع من كتاب الله تدل دلالة واضحة على زيادة الإيمان. وإذا كانت هذه الآيات جاءت في التصريح بزيادة الإيمان فهي أيضاً تدل بدلالة المفهوم على نقصانه فكل ما جاز زيادته جاز عليه النقصان.

ثانياً: دلالة السنة على زيادة الإيمان ونقصانه

الدليل الأول:  عن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن)([89]). فالمراد من هذا الحديث نفي كمال الإيمان الواجب لمن اقترف هذه المعاصي وأنه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان.

فالمؤمن قد يرتكب هذه المعاصي فينقص إيمانه فيكون مؤمناً ناقص الإيمان فإن تاب وأقلع عن هذه المعاصي زاد إيمانه.

وممن احتج بهذا الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه جماعة من أهل العلم منهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

قال إسحاق بن إبراهيم: سألت أبا عبد الله عن الإيمان ونقصانه فقال: نقصانه قول النبي صلى الله عليه وسلم  :(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)([90]).

وقال أيضاً رحمه الله: «الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وقال الزيادة في العمل وذكر النقصان إذا زنى وسرق» ([91]).

الدليل الثاني: ومن الأدلة أيضاً على زيادة الإيمان ونقصانه من السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع و سبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)([92]).

وجه الدلالة من الحديث أن هذه الشعب المذكورة في الحديث ليست على درجة واحدة في الفضل بل بعضها أفضل من بعض كما هو ظاهر  من قوله صلى الله عليه وسلم (أعلاها) وقوله (أدناها)فشعب الإيمان منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادتين ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق.

ولهذا استدل بهذا الحديث علماء السنة على زيادة الإيمان ونقصانه، وممن استدل به الترمذي فخرجه في باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادة نقصانه([93]) .

وقال ابن حبان في صحيحه: «ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، ثم ذكر حديث أبي هريرة: الإيمان بضع وسبعون شعبة» ([94]).

قال العلامة ابن سعدي –رحمه الله- تعليقاً على حديث أبي هريرة هذا «وهذا صريح في أن الإيمان يزيد وينقص بحسب زيادة هذه الشرائع والشعب واتصاف العبد بها أو عدمه ومن المعلوم أن الناس يتفاوتون فيها كثيراً فمن زعم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فقد خالف الحس مع مخالفته لنصوص الشرع كما ترى»([95]).

الدليل الثالث: ومن الأدلة أيضاً حديث أنس بن مالك رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله  وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير)([96]).

فهذا الحديث احتج به الإمام البخاري على زيادة الإيمان ونقصانه، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن القائلين لا إله إلا الله متفاوتون في إيمانهم وأن منهم من يدخل النار بتفريطه وتقصيره في طاعة الله وأنه لا يخلد في النار لوجود أصل الإيمان معه فلا يسوي في الإيمان بين من معه إيمان يمنعه من دخول النار كلية وبين من لم يمنعه إيمانه من دخولها لتفريطه وكثرة معاصيه أن يمكث فترة قصيرة في النار وبين من استوجبت له أن يمكث فترة أطول.

وبهذه الأدلة نرى أن مذهب أهل السنة في هذه المسألة -أعني مسألة زيادة الإيمان ونقصانه- هو المذهب الصحيح بخلاف ما ذهب إليه بعض الطوائف الأخرى من القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه أو زيادته دون نقصانه أو توقف في النقصان دون الزيادة.

 

(6) أسباب زيادة الإيمان ونقصانه.

لما كان الإيمان يزيد وينقص كما قررنا سابقاً جعل الله لزيادته أموراً تزيده وحثّ عليها، وذكر أن هناك أموراً تضعفه وتنقصه فحذر منها.

والمسلم الحق هو الذي يبحث عما يقوي به إيمانه فيقوم بفعله ويتعرف عما ينقص به إيمانه ليحذر منه ويتجنبه.

فما هي إذاً عوامل زيادة الإيمان ونقصانه؟

الأسباب المؤدية إلى زيادة الإيمان:

أولاً: تعلم العلم النافع.

من أعظم ما يزيد الإيمان تعلم العلم النافع المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس العلم المبني على الفلسفة والمنطق فإن هذا العلم يورث صاحبه الكآبة والسآمة ونقصان الدين ولذا حذر السلف من هذا العلم.

فأعظم العلم العلم بالله وأسمائه وصفاته وشرعه، فهذا الذي يورث العبد زيادة في إيمانه قال تعالى:﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾{الفاطر 28}.

وقال تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾{آل عمران 18}، وقال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾{ الإسراء، الآيات: 107-109} .

وفي الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)([97]).

وعن أبي إمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم إن الله عز وجل وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير)([98]).

والأدلة على فضل العلم وفضل أهله كثيرة وهي تدل دلالة واضحة أن من سلك طريق العلم فإنه قد ورث ميراث النبوة فإنهم لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم.

وزيادة الإيمان الحاصلة بالعلم تكون من وجوه متعددة:

الوجه الأول: خروجه وخروج أهله في تحصيله.

الوجه الثاني:  جلوسهم في حلق الذكر.

الوجه الثالث:  مذاكرة بعضهم بعضاً في مسائل العلم.

الوجه الرابع: زيادة معرفتهم بالله وشرعه.

الوجه الخامس: تطبيقهم لما تعلموه من العلم الشرعي.

فهذه بعض الجوانب ووجوه تعلم العلم الذي يزداد بها الإيمان.

 

أبواب العلم النافع التي يحصل بها زيادة الإيمان

أما عن الأبواب التي يحصل بها زيادة الإيمان من خلال العلم الشرعي فمن هذه الأبواب:

الباب الأول : قراءة القرآن بتدبر

فهي من أعظم أبواب العلم المؤدية إلى زيادة الإيمان وثباته وقوته، قال ابن القيم –رحمه الله-: «وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله…» ([99]).

الباب الثاني: معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى.

من أعظم الأمور التي يزداد بها القلب إيماناً معرفة الربّ سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة والتي تدل على كمال الله المطلق من كافة الوجوه.

فمن الفوائد المترتبة على معرفة أسماء الله وصفاته:

(1) أن علم توحيد الأسماء والصفات من أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق فالاشتغال بفهمه والبحث عنه اشتغال بأعلى المطالب.

(2) أن معرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العلم له وهذا عليه سعادة العبد.

(3) إن أحد أركان الإيمان بل وأفضلها الإيمان بالله وليس الإيمان قول «آمنت بالله» من غير معرفته لربه بل حقيقة الإيمان أن يعرف المؤمن أن يعبده ويؤمن به فيبذل جهده ومعرفة أسمائه وصفاته، فكلما ازداد العبد معرفة بربه ازداد إيمانه به .

(4) أن العلم به تعالى هو أصل الأشياء كلها حتى إن العارف به حقيقة المعرفة يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام، لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه ووصفاته.

الباب الثالث: تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم :

فهذا من أسباب زيادة الإيمان فالنظر إلى سيرته صلى الله عليه وسلم ودراستها وتأمل ما ذكر فيها من نعوته الطيبة وخصاله الكريمة وشمائله الحميدة وغير ذلك من الخصال الحميدة فإن العبد يزداد إيمانه بذلك، وتحصل هذه الزيادة  من جهة أنه متى عرف خصال النبي الكريم – صلوات الله وسلامه عليه – ازداد محبته له وأورثته هذه المحبة متابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم في القول والعمل وبالتالي يزداد إيمان العبد من جهة هذه المتابعة.

الباب الرابع: تأمل محاسن الدين الإسلامي:

إن الدين الإسلامي كله محاسن، عقائده أصلح العقائد وأصدقها وأنفعها، وأخلاقه أحمد الأخلاق وأجملها، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها.

وبهذا النظر الجليل والتأمل الجميل في محاسن هذا الدين يزيد الله الإيمان في قلب العبد ويحببه إليه كما امتن به على خيار خلقه بقوله ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ { الحجرات  7} .

فيكون الإيمان في القلب أعظم المحبوبات وأجمل الأشياء وبهذا يذوق العبد حلاوة الإيمان ويجدها في قلبه.

الباب الخامس : قراءة سيرة السلف الصالح.

فإن سيرة السلف الصالح –رضوان الله عليهم- من أصحاب النبي  وتابعيهم بإحسان تعد من أعظم ما يزيد القلب إيماناً ومحبة لله وإجلالاً له، فهم خير القرون وحماة الإسلام وأهل المشاهد والمواقف العظام، وهم حملة هذا الدين أقوى الناس إيماناً وأرسخهم علماً وأبرهم قلوباً وأزكاهم نفوساً اختارهم الله لنصرة دينه ونصرة نبيه فقاموا بذلك أعظم قيام فرضي الله عنهم جميعاً.

ثانياً : من الأسباب المؤدية لزيادة الإيمان «التأمل في آيات الله الكونية»

إن التأمل في آيات الله الكونية وما تحتوي عليه هذه الآيات من أعظم أسباب الإيمان ودواعيه.

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{ البقرة 164} .

وقال تعالى:﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾{آل عمران 190}.

وقال تعالى:﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾{ الغاشية، الآيات:17-20}.

الآيات التي تدعو إلى التفكر في آيات الله الكونية كثيرة، قال ابن سعدي -رحمه الله -:

«ومن أسباب الإيمان ودواعيه، التفكر في الكون في خلق السماوات والأرض وما فيهن من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان وما هو عليه من الصفات، فإن ذلك داع قوي للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته.»([100]).

 

(7) أسباب نقص الإيمان.

كما أن هناك أسباباً تزيد الإيمان وتقويه فهناك أسباب تنقص الإيمان وتضعفه، ومن أعظم أسباب نقص الإيمان ما يلي:

(1) الجهل بالله وشرعه.

فهذا من أعظم أسباب نقص الإيمان كما أن العلم من أعظم أسباب زيادته، فالمسلم العالم لا يؤثر محبة وفعل ما يضره ويشقى به ويتألم به على ما فيه نفعه وفلاحه وصلاحه.

وخلاصة القول هنا أن الجهل بالله وبأسمائه وصفاته من أعظم الأمور التي تضعف الإيمان فهو داء خطير ومرض فتاك يجر على صاحبه من الويلات والعواقب الوخيمة الشر الكثير.

(2) الغفلة والإعراض والنسيان.

      فهذه الأمور سبب عظيم من أسباب نقص الإيمان، فمن اعترته الغفلة وشغله النسيان وحصل فيه الإعراض نقص إيمانه وضعف بحسب هذه الأمور الثلاث وأوجبت له مرض القلب أو موته باستيلاء الشهوات والشبهات عليه.

(3) فعل المعاصي وارتكاب الذنوب.

فإن هذا لا يخفى ما به من ضرر وسوء الأثر على الإيمان، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فكما أن فعل ما أمر الله به من واجب ومندوب يزيد في الإيمان فكذلك فعل ما نهى الله عنه من محرم ومكروه ينقص الإيمان.

 

(8) الاستثناء في الإيمان.

معنى الاستثناء في الإيمان أن يقول العبد: «أنا مؤمن إن شاء الله» أو «أرجو أن أكون مؤمناً» يقول ذلك حينما يسأل  هل هو مؤمن؟

ولما كانت هذه المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بينها وبين المسألة السابقة -أعني مسألة زيادة الإيمان ونقصانه- كان ولا بد من التنبيه عليه.

العلاقة بين القول بالاستثناء في الإيمان والقول بزيادة الإيمان ونقصانه.

إن العلاقة ذات ارتباط وثيق وعلاقة وطيدة بين كليهما لأن من كان مذهبه أن الإيمان يزيد وينقص وأن أهله يتفاضلون فيه يرى الاستثناء في الإيمان على اعتبار أنه لا يقطع بتكميل الإيمان وبالإتيان به على الدرجة العالية المطلوبة، بخلاف من يرى أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص وأن أهله فيه سواء فصاحب هذا القول يرى عدم جواز الاستثناء في الإيمان ويقطع بإيمانه بل ويعد من قال باستثناء في الإيمان شاكاً ولذلك سموا من يقول بالاستثناء وهو أهل السنة بلا شك سماهم أهل البدع (الشكاكة) لأنهم يقولون بالاستثناء.

أقوال الناس في الاستثناء:

تعددت أقوال الناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

الأول: تحريم الاستثناء وهو قول المرجئة والجهمية ونحوهم، وهؤلاء يجعلون الإيمان شيئاً واحداً يعلمه الإنسان من نفسه كالتصديق بالرب ونحوه مما في قلبه ويجزم به ويعرفه فهم يقولون نحن نعلم أننا مؤمنون كما نعلم أننا تكلمنا بالشهادتين وكما نعلم أننا قرأنا الفاتحة.

فقولنا نحن مؤمنون كقولنا نحن مسلمون وقولنا قرأنا الفاتحة فنحن نعلم ذلك ونقطع به فكما أننا لا نقول قرأنا الفاتحة إن شاء الله فكذلك لا نقول نحن مؤمنون إن شاء الله، فمن استثنى في إيمانه عند هذه الطوائف فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون الشكاكة.

الثاني : قال أصحابه بوجوب الاستثناء وأنه يجب على المسلم أن يستثني ولا يجزم بأنه مؤمن، وقال بهذا القول الكلابية والأشعرية وذلك لأن الإيمان عند هؤلاء هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً وكافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة له، والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل  الكمال وكالصيام الذي يفطر صاحبها قبل الغروب.

ومفهوم الموافاة عند هؤلاء  أن العبد يأتي موافياً به بأنه يبقى عليه إلى الوفاة فيكون متصفاً به إلى آخر حياته.

ويقولون أيضاً أننا لو قلنا بأنا مؤمنون لجزمنا بأنا في الجنة لأن الله وعد المؤمنين بالجنة ولا يجوز القطع بذلك إلا لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

ثم إن في ذلك تزكية للنفس وقد نهينا عن ذلك في قوله تعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى﴾{ النجم  32}   .

ثم إن الاسم عند الإطلاق يقتضي الإطلاق والمتكلم بذلك لا يعلم به فهو لا يقطع بأنه كامل الإيمان.

ولذا كان السلف يخافون على أنفسهم النفاق لشدة خوفهم من الله وعدم قطعهم بتحقيق كمال الإيمان لهم رضوان الله عليهم ([101]) .

الثالث: جواز الاستثناء وأنه مشروع.

وهذا هو قول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، لأن الإيمان عندهم شامل للاعتقادات والأقوال والأعمال، فإذا سئل أحدهم هل أنت مؤمن أجاب قائلاً: أنا مؤمن إن شاء الله أو قال: أرجو أن أكون مؤمناً، أجاب بذلك مخافة عدم تكميل الأعمال التي بكمالها يكمل الإيمان.

وليس هذا شكاً منهم كما زعم ذلك أهل البدع، فهم أعلى وأرفع من ذلك تركاً لتزكية النفس والشهادة لها بتكميل الأعمال.

قال شيخ الإسلام: «وأما مذهب سلف أصحاب الحديث كابن مسعود وأصحابه والثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء أهل البصرة وأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة فكانوا يستثنون في الإيمان وهذا متواتر عنهم»([102]).

وقال أيضاً: «الاستثناء في الإيمان سنة عند أصحابنا وأكثر أهل السنة» ([103]).

 

(9) شعب الإيمان.

للإيمان شعب كثيرة حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال في الحديث الذي رواه  أبو هريرة رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)([104]).

وقد حصر بعض أهل العلم هذه الشعب وبينوها، ومن هؤلاء الإمام البيهقي فقد حصرها وشرحها في كتاب كبير في سبع مجلدات.

وهذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب وأعمال اللسان وأعمال البدن. فأعمال القلب هي المعتقدات والنيات ومنها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر واليوم الآخر والحساب والميزان والإخلاص والتوبة والخوف والرجاء والشكر وغيرها.

وأعمال اللسان منها تلاوة القرآن وتعلم العلم وتعليم الناس الخير والدعاء والذكر.

وأعمال البدن منها التطهر والصلاة والزكاة والصيام والعمرة والحج والاعتكاف والوفاء بالنذر وأداء الواجبات الشرعية والقيام بحقوق الأولاد وصلة الرحم وبر الوالدين والجهاد وحسن معاملة الجار وأداء الأمانة ورد السلام وكف الأذى وإماطة الأذى وغير ذلك.

 

(10) ما يناقض الإيمان.

إذا كان الإيمان لا يتحقق إلا بتحقق عناصره من القول والعمل في الظاهر والباطن، وإذا كان الكفر هو  تخلف أحد هذه العناصر مما يمس أصل الإيمان، فإن تحقق الإيمان لشخص ما لا يضمن له النجاة من الكفر إلا إذا مات على هذا الإيمان ولم ينقضه بقول أو عمل أو اعتقاد.

ونواقض الإيمان من الأقوال والأفعال والاعتقادات قد أفردها كثير من العلماء وجعلوا لها باباً خاصاً بها سموه باب المرتد.

والردة في الشرع هي «الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وقطع الإسلام» وتحصل هذه الردة تارة بالقول وتارة بالفعل وتارة بالاعتقاد.

أولاً: نواقض الإيمان القولية:

وذلك كأن يسب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو أن يدعي أنه يوحى إليه أو يدعي النبوة أو يدعي أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها وكذا لو سبّ نبياً من الأنبياء أو استخف به فكل ذلك يعد ناقضاً من نواقض الإسلام.

ثانياً: نواقض الإيمان الفعلية:

تحصل الردة بالفعل كأن يسجد لصنم أو الشمس أو القمر أو أن يلقي المصحف في القاذورات وكذا أن يذبح لغير الله كأن يذبح للأصنام وكذا السخرية بأسماء الله تعالى أو بأمره ووعيده أو قراءة القرآن على ضرب الدف، أو فعل فعلاً أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا عن كافر وإن كان مصرحاً بالإسلام مع فعله كالسجود للصليب ونحو ذلك، فهذا ردة عن دين الإسلام.

ثالثاً: نواقض الإيمان الاعتقادية: 

كأن يعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع  أو اعتقد نفي ما هو ثابت لله بالإجماع أو أثبت ما هو منفي عنه بالإجماع كالألوان والاتصال والانفصال، أو استحل ما هو حرام بالإجماع أو حرم حلالاً بالإجماع أو استحل الخمر أو لحم الخنزير أو الزنا أو اللواط، أو أن السلطان يحلل ويحرم أو أن يرضى بالكفر  أو  أن يعتقد أن هذا الكون له مدبر غير الله فيعتقد في الأولياء أنهم يدبرون حوائج الناس، أو اعتقد أن الولي أفضل من النبي ونحو ذلك مما يعتقده عباد القبور كل هذا يعد ناقضاً من نواقض الإيمان.

 

 (11) أثر المعاصي على الإيمان.

ذكرنا فيما سبق أن الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فللمعصية دور كبير في نقصان الإيمان لكن المعاصي درجات فبعضها كفر وبعضها ليس بكفر، وما ليس بكفر منها ما هو كبيرة من كبائر الذنوب ومنها ما هو صغيرة، وبيان ذلك كالآتي:

(1)  المعاصي بعضها كفر وبعضها ليس بكفر:

جاءت نصوص الكتاب والسنة مبنية ما هو من المعاصي مخرج من الملة و ما هو غير مخرج من الملة، وأخبرت هذه النصوص أن الأولى – أعني المعاصي المخرجة من الملة – لا تغفر إلا بالتوبة وتجديد الإيمان وأن الثاني صاحبها في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، قال تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾{ النساء 48}.

وقال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾{الحجرات:7} .

ففي الآية الأولى يبين سبحانه وتعالى أنه لا يغفر لأحد مات على الشرك وما دون الشرك فإنه يغفره لمن يشاء من عباده.

وفي الآية الثانية قال شيخ الإسلام – رضي الله -: «قال محمد ابن نصر المروزي: لما كانت المعاصي بعضها كفر وبعضها ليس بكفر فرّق بينها فجعلها ثلاثة أنواع: نوع منها كفر ونوع منها فسوق وليس بكفر ونوع عصيان وليس بكفر ولا فسوق وأخبر أنه كرَّهها كلها إلى المؤمنين» ([105]).

وإذا كانت المعاصي درجات فكما ذكرنا أنها أيضاً درجات في التوبة فمنها ما تحتاج إلى توبة وتجديد إيمان لمعصية الشرك أو الكفر فإنه لا يغفرها سبحانه إلا بذلك، أما المعاصي الأخرى فصاحبها تحت المشيئة على ما ذكرناه.

المعاصي التي ليست بكفر:

المعاصي التي هي دون الكفر أو الشرك المخرج من الملة ذهب السلف والخلف إلى انقسامها إلى قسمين: كبائر وصغائر.

دليل هذا التقسيم قوله صلى الله عليه وسلم (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)([106]).

وقوله صلى الله عليه وسلم (من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسبّ أبا رجل فيسبّ الرجل أباه ويسبّ أمه فيسبّ أمه)([107]).

وإذا كانت المعصية على ما ذكرناه منها ما هو كبيرة ومنها ما هو صغيرة فلا بد من بيان ذلك وبيان كيفية الخروج من إثمهما.

أولاً: الكبائر:

تعريفها: اختلفت تعريفات العلماء لها والراجح من أقوال أهل العلم في تعريفها أنها: «هي كل معصية يترتب عليها حد أو توعد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب».

ثانياً: الصغائر:

الصغائر هي «كل معصية لم يترتب عليها حد ولم يتوعد عليها بالنار أو اللعن أو الغضب» لكن هل الإصرار على المعصية يوصلها إلى الكبيرة؟

الجواب: نص بعض العلماء على أن الإصرار على الصغيرة بمثابة ارتكاب الكبيرة وحد الإصرار عندهم أن يتكرر فعل الصغيرة تكراراً  يشعر بقلة مبالاة الشخص بدينه وكذلك الإكثار من فعل الصغائر ولو كانت مختلفة لا يقل عند البعض عن ارتكاب كبيرة من الكبائر لأن هذا الإكثار من فعل الصغائر عندهم يدل على عدم المبالاة بالدين ([108]).

 

(12) مكفرات الذنوب.

فتح الله تعالى لعباده المؤمنين أبواباً لتكفير الذنوب والخطايا التي يقعون فيها تخليصاً لهم مما يقعون فيه وإسقاطاً للعقوبة عنهم، كل ذلك فضلاً منه ورحمة.

ولما كان كل بني آدم خطاء كان ولا بد من بيان جملة من الأبواب التي يقرعها المذنب  عند وقوعه في الزلل لكي تسقط العقوبة عنه.

وهذه جملة من الأسباب التي تسقط العقوبة عن العبد:

الأول: التوبة والاستغفار:

وهذا متفق عليه عند أهل السنة والجماعة. والتوبة التي تسقط العقوبة هي التوبة النصوح النابعة من القلوب لا المقتصرة على نطق اللسان فقط بل توبة يصاحبها الندم على ما فات من المعاصي والعزم على أن لا يعود إليها.

الثاني: الأعمال الصالحة:

اتفق أهل السنة على أن التوبة النصوح تكفر الذنب كبيره وصغيره، لكن هل الأعمال الصالحة والإكثار منها يكفر الذنوب دون حصول التوبة والاستغفار؟ 

اتفق أهل السنة على أن الأعمال الصالحة تكفر الصغائر لكن اختلفوا في تكفيرها للكبائر، قال الله تعالى ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً﴾{النساء 31} وقال صلى الله عليه وسلم (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)([109]). فجمهور أهل العلم على أن الكبائر لا تكفر بدون توبة وأن الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط.

وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن الحسنات قد تكفر الكبائر أيضاً وبهذا قال شيخ الإسلام ([110]).

الثالث: من أسباب غفران الذنب «حصول المصائب»:

قال صلى الله عليه وسلم (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)([111]).

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له وما أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له)([112]).

قال ابن رجب تعليقاً على هذا الحديث: «وقوله عوقب، يعم العقوبات الشرعية وهي الحدود المقدرة وغير المقدرة كالتعزيرات، ويشمل العقوبات القدرية كالمصائب والإسقام والآلام» ([113]).

الرابع: دعاء المؤمنين :

دعاء المؤمنين للمؤمنين واستغفارهم لهم في الحياة وبعد الممات كصلاتهم على جنائزهم من الأسباب التي تكفر الذنوب. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(ما من رجل يموت يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)([114]).

الخامس : فعل المعروف للميت بعد موته:

اتفق أهل العلم على ما يعمل للميت بعد موته من أعمال البر كالصدقة عنه والحج وكذا العتق وغير ذلك من أعمال البر كل ذلك ينتفع به لورود النصوص الصريحة في ذلك.

السادس : ما يحصل في القبر من الفتنة الضغطة والروعة فإن هذا مما يكفر به الخطايا.

السابع : أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.

الثامن: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يؤذن الله لهم بالشفاعة يوم القيامة من أهل الذنوب كما جاءت النصوص بذلك.

التاسع: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد ([115]).

 

(13) حكم الإصرار على المعصية.

معنى الإصرار على المعصية هو الإقامة على فعلها ولزوم الفعل لها مع علمه بأنها معصية ولا يحدث لذلك استغفار ولا توبة.

حكم المصر على المعصية عند أهل السنة والجماعة كحكم مرتكب الكبيرة ويخشى عليه سوء العاقبة لأن العاصي يريد الكفر والإكثار من المعاصي قد يؤدي إلى الوقوع في الكفر والردة.

فالاستغراق في المعصية والإصرار عليها قد يجعلها تحيط بصاحبها وتنبت النفاق في قلبه.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر كما قال بعض السلف العاصي يريد الكفر فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط كما قال تعالى:{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة }{النور : 63}، أي الكفر
{أو يصيبهم عذاب أليم }{النور : 63} وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً وغيره أصابه عذاب أليم» ([116]).

وخلاصة الأمر هنا أن مجرد فعل المعصية والإصرار عليها لا يدل عند أهل السنة والجماعة على نقض الشهادتين والخلود في النار مع الكفار والمرتدين إلا إذا صاحب ذلك استحلال لهذه المعصية.

قال شيخ الإسلام: «أن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه واعتقاد انقياده لله تعالى فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند، ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبراً  كإبليس كفر بالاتفاق ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة وإنما يكفره الخوارج…» ([117]).

 

(14) الكفر والمكفرات.

الكفر: هو الإنكار المتعمد لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أو بعض ما جاء به مما علم من دينه بالضرورة. وكما أن الإيمان له شعب فكذلك الكفر له شعب وهو يكون بالقلب كالجحود والتكذيب والبغض لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم .

ويكون باللسان كسبّ الله ورسوله أو الاستهزاء بالله ورسوله، ويكون أحياناً بترك بعض الأعمال التي ورد الشرع بأن تركها كفر مثل الصلاة.

أقسام الكفر.

ينقسم الكفر إلى قسمين:

الأول: كفر أكبر يناقض الإيمان ويوجب الخروج من الملة والخلود في النار. والكفر الأكبر ينقسم إلى عدة أنواع:

النوع الأول: كفر التكذيب

وهو اعتقاد كذب الرسل – عليهم الصلاة والسلام – وهذا النوع من الكفر يكون بتكذيب المخبر أو بتكذيب الخبر. فتكذيب المخبر يكون بسماع خبر الرسول وما جاء به من ربه فيكذبه في رسالته ويرد خبره.

قال ابن القيم – رحمه الله -: «فأما كفر التكذيب فهو اعتقاد كذب الرسل وهذا القسم قليل في الكفار، فإن الله تعالى أيد رسله وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة أو أزال به المعذرة» ([118]).

أما التكذيب بالخبر فيكون بسماع الرجل الخبر معلوماً بالضرورة من دين الإسلام ثم ينكره كأن ينكر فرضية الصلاة والزكاة والحج والصيام وأن لا يعترف بحرمة الزنا أو القتل أو الخمر أو السرقة أو الربا أو غير ذلك من أحكام الإسلام التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم  وعلمت من الدين بالضرورة كالإيمان بأسماء الله وصفاته وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافة وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين وغير ذلك. فمتى كذب أحد ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين.

النوع الثاني : كفر العناد والاستكبار.

وهو ما يسميه يعض أهل العلم الكفر الإبليسي وهو الذي يقع عناداً واستكباراً وقد وقع هذا النوع من كثير من الكفار.

تعريفه: هو أن يعرف الحق بقلبه ويصدقه بقلبه ولسانه ولكن يأبى أن يذعن له ويلتزم به ويستسلم له بقلبه وجوارحه.

قال الحكمي – رحمه الله -: «وإن انتفى عمل القلب وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان كفر عناداً واستكباراً ككفر إبليس وكفر غالب اليهود الذين شهدوا أن الرسول حق ولم يتبعوه أمثال حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهم وكفر من ترك الصلاة عناداً واستكباراً» ([119]).

دليل هذا النوع من الكفر قوله تعالى:﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ){البقرة:89}، وقال أيضاً كما حكى عن فرعون وقومه ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ {المؤمنون 47}. وكما قال تعالى:﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) {البقرة 146}  .

النوع الثالث: كفر الإعراض.

وذلك بأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغى له ولا إلى ما جاء به البتة.

كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم والله أقول لك كلمة إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك([120]). وقال تعالى في بيان هذا النوع من الكفر وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾{الأحقاف 3}.

وقال أيضاً:﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾ { السجدة 22}.

النوع الرابع : كفر الشكّ.

قال ابن القيم – رحمه الله -:

«وأما كفر الشك فإنه لا يجزم بصدقه ولا يكذبه بل يشك في أمره وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة فلا يسمعها ولا يلتفت  إليها ([121]). قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ {الدخان 9} .

وقوله تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ {إبراهيم  10}.

النوع الخامس: كفر النفاق.

وهو أن يظهر التصديق باللسان ويظهر الانقياد والاستسلام باللسان والجوارح بينما قلبه يكون خالياً من الاعتقاد.

يقول صاحب معارج القبول: «وإن انتفى عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة والإذعان وانقياد الجوارح الظاهرة فكفر نفاق سواء وجد التصديق المطلق أو انتفى وسواء انتفى بتكذيب أو شك قال تعالى:﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، إلى قوله تعالى:﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ {البقرة، الآيات: 8-20} ([122])

القسم الثاني من أقسام الكفر:

الكفر الأصغر:

وهذا لا ينافي أصل الإيمان ولا يذهب به بالكلية وإنما ينقص كماله والمتصف به يصبح مذموماً شرعاً وإن جرت عليها الأحكام لبقاء أصل الإيمان معه وهذا يوجب استحقاق الوعيد دون الخلود في النار عكس الأكبر.

قال حافظ الحكمي – رحمه الله -:

«ولا منافاة بين تسمية العمل فسقاً أو عامله فاسقاً وبين تسميته مسلماً وجريان أحكام المسلمين عليه لأنه ليس كل فسق يكون كفراً ولا كل ما سمي كفراً و ظلماً يكون مخرجاً من الملة حتى ينظر إلى لوازمه وملزوماته وذلك لأن كلاّ من الكفر والظلم والفسوق والنفاق جاءت في نصوص على قسمين:

أكبر يخرج من الملة لمنافاة أصل الدين بالكلية، وأصغر يُنقص الإيمان وينافي كماله ولا يخرج صاحبه منه فكفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسوق دون فسوق ونفاق دون نفاق»([123]).

ذكر بعض النصوص التي تسمي بعض المعاصي كفراً وشركاً.

من هذه النصوص:

قوله صلى الله عليه وسلم :(سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)([124])، وقوله صلى الله عليه وسلم (من حلف بغير الله فقد أشرك)([125])، وقوله صلى الله عليه وسلم (من حمل السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا)([126])، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )([127]).

وهذه النصوص حملها أهل السنة والجماعة على أنها من جملة المعاصي التي تنقص الإيمان وتنافي كماله ولا تخرج صاحبه من الملة، وخالف أهل السنة فيها الخوارج فحملوها على ظاهرها فحكموا بكفر مرتكب الكبيرة.

الفرق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر.

الفرق بينهما يكون من وجوه:

أولاً: أن الكفر الأكبر يحبط العمل بالكلية، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾{ إبراهيم 18}.

أما الكفر الأصغر فإنه لا يحبط العمل وإن كان ينقصه.

ثانياً: الكفر الأكبر يوجب الخلود في النار كما قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾{البينة:  6} .

أما الكفر الأصغر فلا يوجب دخول النار بل تحت المشيئة على قول.

وفي قول آخر أنه يوجب دخول النار لكن دون الخلود فيها بل يعذب على قدر المعصية ثم يخرج من النار.

ثالثاً : أن الكفر الأكبر إذا مات عليه صاحبه لم يغفر له.

أما الكفر الأصغر فهو تحت المشيئة إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ولا ينافي ذلك إيجابه الوعيد.

رابعاً: أن الكفر الأكبر صاحبه يحل دمه وماله ولا يرث الكافر قريبه المسلم ولا يرثه الكافر.

أما الكفر الأصغر فلا يوجب شيئاً من ذلك.

خامساً: أن الكفر الأكبر يخرج من ملة الإسلام، أما الكفر الأصغر فلا يخرج من ملة الإسلام وصاحبه مؤمن ناقص الإيمان.

 

(15) أصول المكفرات.

الكفار نوعان:

النوع الأول: الكفار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام أصلاً من اليهود والنصارى والمجوس والهندوس والبوذيين والملاحدة وغيرهم من أصناف الكفرة فهؤلاء جميعهم دل الكتاب والسنة والإجماع على كفرهم ودخولهم في النار وتحريم الجنة عليهم.

النوع الثاني: الذين ينتسبون إلى دين الإسلام ويزعمون أنهم مؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم يصدر منهم ما يناقض ذلك ويزعمون أنهم باقون على دين الإسلام وأنهم من أهله.

فهؤلاء إذا وجدت الأسباب لتكفيرهم وتلبسوا بشيء من ذلك استحقوا هذا الحكم علماً أن جميع الأسباب ترجع إلى تكذيب الله ورسوله وعدم التزام دينه.

جميع المكفرات تدخل تحت نواقض أربعة: القول أو الفعل أو الاعتقاد أو الشكّ وقد ذكرنا ذلك سابقاً.

 

(16) آثار الكفر.

من آثار الكفر في الدنيا:

(1) الضلال والبعد عن طريق الهداية، قال الله تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً ﴾{ النساء 167} .

(2) الطبع على القلب فلا يستفيد من وحي الله، قال تعالى:﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾{البقرة: 7}، وقال تعالى:﴿قَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾{ النساء  155}.

(3) المرتد يقتل ولا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يرمى في حفرة ويوارى عليه التراب.

(4) تنتهي ولايته على أولاده ويفرق بينه وبين زوجته ولا يجوز موالاته ولا مناصرته.

أما آثار الكفر في الآخرة: دخول النار والخلود فيها نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه.

 

(17) حكم مرتكب الكبيرة.

اختلف الناس في مرتكب الكبيرة ولهم في ذلك أربعة أقوال:

الأول: أن مرتكب الكبيرة كافر في الدنيا مخلد في النار في الآخرة، وهذا قول الخوارج وهذا من أصول معتقدهم وقد استحلوا بسببه دماء المسلمين.

الثاني: أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه في المنزلة بين المنزلتين، هذه حاله في الدنيا، أما في الآخرة فلا يدخل الجنة بل هو خالد مخلد في النار، وهذا هو قول المعتزلة.

الثالث: أنه مؤمن كامل الإيمان وهذا هو قول المرجئة المبني على معتقدهم أنه لا يضرّ مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة.

الرابع: أن صاحب الكبيرة لا يسلب اسم الإيمان على الإطلاق ولا يعطي له على الإطلاق وإنما هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته تحت مشيئة الله في الدار الآخرة إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له. وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة.

قال شارح الطحاوية:

«إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج…. وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب كما وردت به السنة لا كما يقول المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ولا ينفع مع الكفر طاعة» ([128]).

وهذا هو مقتضى الوسطية التي تميز بها أهل السنة والجماعة فهم وسط في هذا الباب بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة فلم يسلبوا اسم الإيمان ولم يقولوا إنه مؤمن كامل الإيمان بل قالوا مؤمن ناقص الإيمان في الدنيا أما في الآخرة فأمره إلى الله.

 

(18) النفـــاق.

تعريفه في اللغة: مأخوذ من نافقاء اليربوع لأنه يظهر مدخله ويخفي مخرجه وهو إظهار شيء وإخفاء ضده .

تعريفه في الاصطلاح: «هو إظهار ما يوافق الحق وإبطال ما يخالفه. والمنافق هو الذي خرج من الإيمان باطناً بعد دخوله فيه ظاهراً»([129]).

قال ابن سعدي – رحمه الله -: «فالنفاق هو مخالفة الظاهر للباطن فإن كان في أصل الإيمان  كان نفاقاً أكبر مخرجاً عن الدين وإن كان في فروعه كان حاله يحسب ذلك» ([130]).

أصناف المنافقين.

ضرب الله مثلين في أول سورة البقرة أوضح فيهما حال صنفين من المنافقين يندرج تحتهما كافة أحوال المنافقين وصفاتهم المختلفة.

(1) المثل الأول :هو المثل الناري، قال الله تعالى ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ﴾{ البقرة، الآيتان: 17-18} .

قال ابن كثير – رحمه الله تعالى – في تفسير ذلك:

«وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع والله أعلم» ([131]).

قال ابن مسعود وناس من الصحابة: «إن ذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال والحرام والخير والشر فبينما هو كذلك  فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر».

وعن ابن عباس: «هم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك»

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «هذه هي صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً ثم كفروا فذهب الله بنورهم  فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون» ([132]).

(2) المثل الثاني: المثل المائي، يقول الله تعالى ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾{ البقرة، الآيتان: 19-20} .

قال ابن كثير – رحمه الله -:«هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى قلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم (كصيب) والصيب المطر نزل من السماء حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق (ورعد) وهو ما يزعج القلوب من الخوف فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والجزع».

قال ابن عباس رضي الله عنه : «كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر… يعرفون الحق ويتكلمون به فهم في قولهم له على استقامة فإن ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين» ([133]).

أنواع النفاق:

النفاق نوعان: نفاق أكبر ونفاق أصغر.

النوع الأول : النفاق الأكبر ” الاعتقادي “

تعريفه: هو النفاق الاعتقادي وهو ما أبطن فيه الكفر في القلب وظهر الإيمان على لسانه وجوارحه. وهو الذي كان على عهده صلى الله عليه وسلم  وفي أهله نزل القرآن بتكفيرهم.

أنواع النفاق الاعتقادي.

أنواع النفاق الاعتقادي (النفاق الأكبر) منها:

الأولى : تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم أو تكذيب ما جاء به.

الثانية : بغضه صلى الله عليه وسلم وبغض ما جاء به

الثالثة : إظهار الفرح والسرور بهزيمة وانخفاض دين الإسلام.

الرابعة: إعلان الحزن والكراهية حين ينتصر الإسلام

الخامسة: عدم اعتقاد وجوب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته.

النوع الثاني : النفاق الأصغر.

النفاق الأصغر: هو النفاق العملي ويراد به فعل بعض الأعمال التي تخالف مقتضى الإيمان. وعرفه البعض بأنه هو ما ظهر فيه العمل على وجه يخالف ما يجب أن يكون شرعاً.

أنواع النفاق الأصغر

جاءت نصوص السنة تبين بعض أنواع النفاق الأصغر كقوله صلى الله عليه وسلم (آيات المنافق أربع: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر)([134]).

فهذه بعض أنواع النفاق العملي وكذا قوله صلى الله عليه وسلم (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر)([135]).

فالغدر والخيانة والفجور والخصومة وإخلاف الوعد وترك صلاة العشاء والفجر جماعة كل هذا من أنواع النفاق العملي الذي لا يخرج صاحبه من الإسلام.

خطورة النفاق العملي.

يُعد النفاق العملي مقدمة للنفاق الأكبر الاعتقادي فهو طريق له فمتى سلكه العبد وصار خلقاً له  خيف عليه من النفاق الاعتقادي. ولذلك ينبغي للمسلم أن يحذره ويتجنبه لكي ينأى بنفسه وينجو من سخط الله وأليم عقابه.

خطر النفاق والمنافقين

على الأمة الإسلامية.

لئن كان النفاق في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم  وخلفائه ومن بعدهم له خطره العظيم فإن النفاق في عصرنا هذا أشد، لأن المنافق في ذاك الزمن يتصرف على طبيعته ولم تكن للنفاق صروح علمية تخطط له وتدافع عنه وترصد له مقدراتها العلمية والمادية والحسية والمعنوية كما هو الحال في عصرنا هذا.

ولذا كانت معرفة النفاق والمنافقين وصفاتهم العامة من أهم ما يجب على المسلمين معرفته حتى يحذروا خطره ويغلقوا على المنافقين الطريق حتى لا يفسدوا حياة المسلمين.

مع أننا نعلم أن المنافقين في عصرنا كان لهم أثر كبير في نقل كثير من الكفر إلى بلاد المسلمين، وذلك كمثال الدعوات القومية والدعوة إلى علمنة الفكر والعلم ومن ثم علمنة الحياة حتى لا يقوم لدين الله قائمة ولا يبقى لدين الله إلا رسوم يتشبث بها بعض الناس.

وقد نجحوا إلى حد ما في بعض مخططاتهم ومنها جعل كل شيء في حياة المسلمين حتى الأصول العقدية والعلمية الإسلامية مجالاً للنقاش حتى تكون أموراً شخصية  يسهل الخروج عليها.

ومن ثم لا يبقى للدولة الإسلامية أي مجال لتطبيق تعاليم الإسلام والتحاكم إليها، فيكون لكل أحد أن ينشر ما شاء من الأفكار ويجمع حولها ما شاء وعندئذ تنقض عرى الإسلام عروة عروة فلا يبقى له وجود بين المسلمين.

ولكن وعد الله ببقاء الحق المنزل من عنده هو الكفيل بإفساد مخططاتهم كما قال صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله)([136]).

ومن هذا المنطلق لا بد لنا من الرجوع إلى منهج القرآن الكريم والسنة لنتعرف منه على صفات المنافقين وطبائعهم ثم نطبقه على واقعنا حتى يتسنى لنا كشفهم وعدم الوقوع في حبالهم الشيطانية ([137]).

طرق وأهداف المنافقين.

للمنافقين أهداف كثيرة منها:

(1) الدعوة إلى فقد الثقة بالصحابة رضى الله عنهم نقلة الإسلام ودعاته وذلك بالطعن فيهم وتكفير بعضهم وأيضاً باستغلال ما حصل بينهم للطعن فيهم وغير ذلك كطعنهم في أبي هريرة رضي الله عنه وكذا طعنهم في أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- وغير ذلك.

(2) القدح في مصادر الدين الإسلامي ومناهج التلقي فيه في الفروع والأصول وهي الكتاب والسنة.

(3) القضاء على دين الإسلام جملة وتفصيلاً.

(4) إبطال دلالة النصوص على حقائق الإسلام فروعاً وأصولاً.

(5) بعث روح الفرقة في التنازع في صفوف المسلمين ([138]).

صفات المنافقين.

ذكرنا فيما سبق خطورة النفاق والمنافقين على أمة الإسلام، لكن ما هي إذاً صفات المنافقين لكي يحذرهم المسلم ويكن على بينة من أمرهم؟

أبرز صفات المنافقين المذكورة في الكتاب والسنة هي:

(1) يدَّعون الإيمان وهم كاذبون

(2) يدَّعون الإصلاح وهم مفسدون

(3) يرمون المؤمنين بالسفه وهم السفهاء الحقيقيون.

(4) أقوالهم مزخرفة وعباراتهم منمقة وهم ألدّ الخصماء.

(5) إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى.

(6) يراءون الناس بأعمالهم.

(7) لا يذكرون الله إلا قليلاً

(8) لا ينفقون إلا وهم كارهون.

(9) يقبضون أيديهم عن الإنفاق في وجوه الخير

(10) يتثاقلون عن صلاتي العشاء والفجر.

(11) يخلفون الوعد.

(12) يكذبون في الحديث ويغدرون في اللهو وينقصون المواثيق.

(13) يأخذون من الدين ما يوافق رغباتهم.

(14) يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.

(15) يوالون أعداء الله من الكفرة .

آثار النفاق.

من أبرز آثار النفاق ما يلي:

(1) الخلود في النار وبئس القرار بل في الدرك الأسفل من النار. قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾{التوبة 68}. وقال تعالى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾{ النساء 145} .

(2) وجوب اللعنة عليهم ومطاردتهم بها، قال تعالى في حقهم ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ﴾ {الأحزاب 61}.

(3) عدم قبول الأعمال الصالحة ورفضها وإبطالها قال تعالى:﴿قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾{ التوبة، الآيتان: 53، 54}.

(4) حرمان المنافق من دعاء المؤمنين وصلاتهم عليهم عند موتهم، قال تعالى:﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾{ التوبة، الآية، 84} .

الفرق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر

 ذكرنا فيما سبق الفرق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر وتعد هذه الفروق هي نفس الفروق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر ولا حاجة لتكرارها فلتراجع هناك ([139]).

 

المبحث الثالث

القرآن كلام الله

(1) عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم

(2) منشأ القول بخلق القرآن

(3) افتراق الناس عقيدة في القرآن

(4) حكم من قال بخلق القرآن

(5) حكم أهل السنة في الواقفة

(6) حكم أهل السنة في اللفظية

(7) أقوال الناس في صفة الكلام لله تعالى

(8) نصوص أهل السنة في إثبات الكلام.

(9) الرد على شبه المخالفين لأهل السنة من المعتزلة ومن وافقهم.

(10) إثبات النداء بصوت لله تعالى.

 

 

المبحث الثالث

القرآن كلام الله

(1) بيان عقيدة أهل السنة والجماعة

في كلام الله تعالى.

قبل أن نتحدث عن اختلاف الناس ومذاهبهم في كلام الله تعالى لا بد لنا أن نبين ما عليه سلف الأمة من اعتقاد في كلام الله تعالى، فنقول -وبالله التوفيق-:

قال الإمام الطحاوي:

« وأن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً وأنزله على رسله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً،  وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر، فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾{ المدثر 26}، فلما أوعده الله بسقر لمن قال:﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ {المدثر 25} علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر »([140])

قال شيخ الإسلام في تقريره لمذهب أهل السنة في القرآن:

« فصل: ومن الإيمان بالله وبكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة.

وأن هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره. ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة بل إذا قرأه الإنسان أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف  حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً وهو كلام الله حروفه ومعانيه وليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف» ([141]).

إذاً فالقرآن كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل – عليه الصلاة والسلام- والمدون بالمصاحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس وقد تكفل الله بحفظه فلا تمتد له الأيدي بالتحريف أو التبديل لأن الله أراد له الخلود والبقاء باعتباره خاتم الكتب وآخرها الذي أنزل على آخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم،  قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾{ الحجر:9}.

وقد حفظ الله كتابه خلال القرون الماضية رغم عوادي المعتدين وكيد الكائدين وتآمر شياطين الإنس والجن على إطفاء نور الله ولكن: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾{ التوبة 32}.

القرآن الكريم هو الكتاب الناسخ لجميع الكتب قبله قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾{ المائدة 48}.

ولا يقبل الله ديناً سوى دين الإسلام ولا يسع أحداً أن يخرج على هذا الدين أو يؤمن بخلافه منذ بعثته صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)([142])، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾{ آل عمران 85}.

الأوصاف التي وصف بها كتاب الله تعالى:

وقد وصف الكتاب بأوصاف كثيرة منها:

(1) أنه معجز لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو بعشر سور منه أو بسورة واحدة، قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾{ الإسراء 88} .

وقال أيضاً: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾{ هود 13}

وقال تعالى:﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾{يونس 38}

(2) أنه حق محض ليس لباطل منه سبيل قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾{ فصلت، الآيتان: 41-42} .

(3) أنه يشتمل على الآيات البينات والدلائل القاطعات على جميع قضايا العقيدة والعبادة والتشريع والأخلاق والسلوك والعلاقات ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾{ النحل 89} ([143]).

 

(2) فتنة القول بخلق القرآن.

القول بخلق القرآن من أعظم الفتن التي وقعت في تاريخ الأمة الإسلامية وكان أول من أظهره : الجعد بن درهم سنة 124هـ، وحمل لواء هذه البدعة بعد الجعد بن درهم الجهم بن صفوان سنة 128هـ.

وفي أوائل القرن الثالث أظهر بشر المريسي  سنة 218هـ وأحمد بن دؤاد 240هـ، وزينها ابن أبي دؤاد للخليفة المأمون حتى اعتنقها وحمل الناس عليها وأكرههم على اعتقادها وذلك عام 218هـ ثم هلك في هذه السنة.

ثم خلفه أخوه المعتصم بالله وورث الدعوة إلى هذه البدعة حتى مات سنة 227هـ ثم ورثها أخوه الواثق حتى مات سنة 332هـ.

ثم ولى الخلافة المتوكل فرفع الفتنة عام 334هـ.

وقيل نصر الله الإسلام بأبي بكر يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة، وقد كان موقف الإمام أحمد بن حنبل موقفاً عظيماً في فتنة القول بخلق القرآن  قمع الله به هذه الفتنة إذا صبر وصابر وتحمل الأذى ورفض هذا القول ورده على أصحابه فسجن وضرب وأوذي وخذله الكثير من العلماء والصالحين ولكنه ثبت وحيداً كالجبل الراسي فأحيا الله به السنة وأمات به البدعة وانقشعت الغمة عن المسلمين على أيدي المتوكل بالله العباسي، فرحمه الله ورحم إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل .

 

(3) افتراق الناس عقيدةً في القرآن الكريم.

عندما ظهرت فتنة القول بخلق القرآن التي تعني تعطيل الله عز وجل  عن صفة الكلام وأنه لم يتكلم عز وجل لا بالقرآن ولا بغيره، وهذا مما لا شك فيه من أعظم الكفر وأشنعه. انقسم الناس في هذه الفتنة إلى ستة أقسام:

الأول: من قال بأن القرآن مخلوق وهم المعتزلة والجهمية.

الثاني: من قال بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وهم أهل السنة والجماعة وقد ذكرنا عقيدتهم في ذلك.

الثالث: الواقفة الذين قالوا لا نقول مخلوق ولا نقول غير مخلوق.

الرابع: اللفظية الذين قالوا القرآن كلام الله غير مخلوق ولكن ألفاظنا به مخلوقة.

الخامسة: وهم الأشاعرة حيث قالوا بأن القرآن عبارة عن كلام الله وليس هو كلامه.

السادسة: وهم الكلابية حيث قالوا إنه حكاية عن كلام الله ([144]).

 

(4) حكم من قال بخلق القرآن.

وقد قرر علماء أهل السنة أن من قال بخلق القرآن فهو كافر فقد قال الإمام مالك بن أنس : «من قال به – أي بخلق القرآن – فاقتلوه فهو كافر»، وقد ذكرنا كلام الطحاوي في كفر من أنكر أن القرآن كلام الله.

وقال أيضاً الإمام مالك: «من قال القرآن مخلوق يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه» وبهذا أيضاَ قال عبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وغيرهم.

وقال عبد الله بن المبارك: «سمعت الناس منذ تسع وأربعين سنة يقولون: من قال القرآن مخلوق فامرأته طالق ثلاثاً البتة، فإن قلت ولم ذلك، قال لأن امرأته مسلمة ومسلمة لا تكون تحت كافر».

وقال أيضاً علماء أهل السنة فيمن قال بخلق القرآن بعد القول بكفره: «لا ينكحون ولا يصلى عليهم ولا تعاد مرضاهم ولا تشهد جنائزهم وأن موالاة الإسلام انقطعت بينهم وبين المسلمين ولا يصلى خلفهم » ([145]).

 

(5) حكم أهل السنة في الواقفة

(القائلون: لا نقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق)

قضى السلف الصالح على الواقفة بأن من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي ومن لم يحسن الكلام بل عُلم أنه كان جاهلاً بسيطاً فهنا تقام عليه الحجة بالبيان والبرهان، فإن تاب وآمن أنه كلام الله تعالى وإلا فهو شر من الجهمية ([146]).

 

(6) حكم أهل السنة في اللفظية.

أما اللفظية الذين يقولون بأن لفظي بالقرآن مخلوق فالمشهور عن السلف الصالح كأحمد بن حنبل وهارون الفروي وجماعة من أئمة الحديث أن اللفظية جهمية.

وقال أئمة أهل السنة بالتفصيل في الحكم على اللفظية فقالوا: إن اللفظ يطلق على معنيين:

أحدهما: الملفوظ به وهو القرآن وهو كلام الله ليس فعلاً للعبد ولا مقدوراً له.

الثاني: التلفظ وهو فعل العبد وكسبه وسعيه، فإذا أطلق لفظ الخلق على المعنى الثاني شمل الأول وهو قول الجهمية، وإذا عكس الأمر بأن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق شمل المعنى الثاني وهذا بدعة أخرى من بدع الاتحادية ([147]).

 

(7) أقوال الناس في صفة كلام الله.

افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال:

أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على المنفوس من المعاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أومن غيره وهذا قول الصائبة والمتفلسفة.

ثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه فهو ليس له معنى يقوم بذاته سبحانه بل هو شيء من مخلوقاته كالسماء والأرض والناقة والبيت وما أشبه ذلك فليس معنى قائماً في نفسه ، فكلام الله حروف خلقها الله عز وجل وسماها كلاماً له كما خلق الناقة وسماها ناقة الله وكما خلق البيت وسماه بيت لله .

ولهذا كان الكلام عندهم عبارة عن حروف وأصوات خلقها الله عز وجل ونسبها إليه تشريفاً وتعظيماً وهذا هو قول المعتزلة والجهمية.

ثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار  إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وهذا هو قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره.

ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل وهذا قول طائفة من أهل الكلام.

وخامسها: أنه حروف وأصوات لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً وهذا هو قول الكرامية وغيرهم.

وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته وهذا يقول به صاحب (المعتبر في الحكمة) ويميل إليه الرازي.

وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره وهذا قول أبي منصور الماتريدي.

وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي وغيره.

وتاسعها: أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن كلام الله قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً وهذا المأثور عن أئمة أهل السنة.

 

(8) نصوص أهل السنة

في إثبات صفة الكلام لله تعالى.

جاءت نصوص الكتاب والسنة المستفيضة في إثبات الكلام لله تعالى على الوجه اللائق به، وقد ذكرنا قول أهل السنة في إثبات هذه الصفة لله تعالى.

أما نصوص الكتاب فمنها:

(1) قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ…﴾ {البقرة 253} .

(2) وقوله تعالى:﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ﴾{النساء 163} فأكده بالمصدر مبالغة في البيان والتوضيح.

(3) وقوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾{ الأعراف 143} .

(4) وقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾{ مريم، الآيتان:51-52}.

والآيات في إثبات هذه الصفة كثيرة جداً. والقرآن من كلامه كما هو مذهب أهل السنة كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾{ التوبة 6}.

أما أدلة السنة فهي أيضاً كثيرة منها:

ما جاء في صحيح البخاري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان …)([148]).

وفيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى (يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)([149]).

وهذا فيه دليل لأهل السنة في إثبات أن الله تعالى يتكلم بصوت بخلاف من قال بأنه قائم بذاته لا ينفك عنه.

وصفة الكلام لله تعالى عند أهل السنة هي من الصفات الذاتية والفعلية فهو سبحانه يتكلم متى شاء إذا شاء لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون قال الله تعالى:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾{الشورى 11} .

ولا يجوز عند أهل السنة السؤال عن كيفية كلام الله كما لا يجوز تشبيه كلام الله بكلام خلقه وهكذا القول في بقية أسماء الله وصفاته.

 

(9) الرد على شبه المخالفين لأهل السنة

من المعتزلة ومن وافقهم.

ذكرنا فيما سبق قول المعتزلة ومن وافقهم في القرآن وقولهم بأنه مخلوق، وقد استدل المبتدعة من المعتزلة وغيرهم بأدلة على ما زعموه من القول بخلق القرآن، ومن هذه الأدلة:

قوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ){ الزمر 62} والقرآن شيء فهو مخلوق كجميع الأشياء.

واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾{الزخرف 3} فقالوا كل مجعول مخلوق لأن جعل بمعنى خلق.

واستدلوا أيضاً بقوله تعالى:﴿نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ﴾{القصص30}. قالوا إن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة  فسمعه موسى منها.

ومن قولهم أيضاً أن الله أضاف الكلام إليه إضافة تشريف وقد ذكرنا قولهم في صفة الكلام.

فهذه هي جملة ما احتج به المعتزلة على القول بخلق القرآن.

الرد عليهم:

أولاً: استدلالهم بآية سورة الرعد ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾{ الزمر 62} .

نقول: بأن عموم (كل) في كل موضع بحسبه ويعرف ذلك بالقرائن كقوله تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾{الأحقاف 25}، فمساكنهم شيء ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح وذلك لأن المراد ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير.

وكذلك كقوله تعالى حكاية عن بلقيس ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾{النمل 23} المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام.

أما معنى قوله تعالى:﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي كل شيء مخلوق وكل موجود سوى الله فهو مخلوق فدخل في هذا العموم أفعال العباد  ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره لأنه سبحانه هو الموصوف بصفات الكمال  وصفاته ملازمة لذاته المقدسة.

ثانياً: الرد على الشبهة الثانية:

قوله تعالى:﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾{الزخرف3} نقول إن كلمة (جعل) قد تتعدى إلى مفعول واحد وهنا يكون معنى جعل خلق، كقوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾{الأنعام 1} أي وخلق الظلمات والنور، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾{ الأنبياء 30 } أي وخلقنا من الماء كل شيء حي.

﴿وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ﴾{ الأنبياء 31}  وخلقنا على الأرض جبالاً رواسي حتى لا تضطرب بهم الأرض، فالجبال خلقها الله تعالى لتثبت بها الأرض.

وقد تأتي (جعل) لتتعدى إلى مفعولين وهنا لا تكون بمعنى خلق كقوله تعالى:﴿ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ﴾{ النحل 91}.

وكقوله تعالى:﴿وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ﴾{الإسراء39} وكقوله تعالى:﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ﴾{ الزخرف 19}.

وهكذا قوله تعالى:﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾{الزخرف 3} فليس معنى جعل هنا خلق كما زعم المعتزلة.

ثالثاً: استدلالهم بقوله تعالى:﴿نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ.﴾{القصص30}، وقولهم بأن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة فسمعه موسى منها فهذا من أبطل الباطل لأن الله تعالى قال:﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ..﴾.

والنداء: هو الكلام من بعد فسمع موسى –عليه الصلاة والسلام- النداء من حافة الوادي ثم قال: ﴿فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ ﴾ أي أن النداء كان في البقعة المباركة من الشجرة كما تقول: سمعت كلام زيد من البيت يكون (من البيت) لابتداء الغاية لأن البيت هو المتكلم ولو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾{ القصص 30}.

وهل قال: ﴿إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ غير رب العالمين ([150]).

رابعاً: قول المعتزلة ومن وافقهم أن الله أضاف إليه الكلام إضافة تشريف، يقال لهم:

إن المضاف إلى الله تعالى معان وأعيان، فإضافة الأعيان إلى الله للتشريف وهي مخلوقة له كبيت الله وناقة الله بخلاف إضافة المعاني كعلم الله وقدرته وعزته وجلاله وكبريائه وكلامه وحياته وعلوه وقهره فإن هذا كله من صفاته لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقاً .

والوصف بالمتكلم من أوصاف الكمال وضده من أوصاف النقص ولهذا نفاه الله عن العجل في قصة موسى وقومه وأبان الله عن نقصه وعجزه وعدم ألوهيته وذلك لعدم كلامه، قال تعالى ﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً﴾ { الأعراف 148}.

وقال تعالى:﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً﴾{ طه 89} .

فعلم أن نفي رجع القول  ونفي التكلم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.

وغاية شبهة المعتزلة ومن وافقهم أنهم يقولون يلزم من كلامه سبحانه التشبيه والتجسيم.

ويقال لهم: إذا قلنا أنه يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم فنحن نؤمن بشهادة الجوارح يوم القيامة وكلام الأيدي والأرجل لكن لا نعلم كيف تتكلم قال تعالى:﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ {يس 65} .

وكذا تسبيح الشجر والعصى والطعام وسلام الحجر كل ذلك حاصل وليس لهذا فم يخرج منه الصوت، وقد جاءت النصوص أن الله يكلم أهل الجنة قال تعالى:﴿سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾{ يس 58} وقد ذكرنا جملة من الأدلة على إثبات كلام الله تعالى.

وقد ذكر ابن القيم – رحمه الله – أننا إذا أنكرنا أن الله لم يتكلم فقد أبطلنا الشرع والقدر. أما الشرع فإن الرسالات إذا جاءت بالوحي والوحي كلام مبلغ إلى الرسل فإذا نفينا الكلام انتفى الوحي وإذا انتفى الوحي انتفى الشرع.

أما القدر فلأن الخلق يقع بأمره بقوله كن فيكون كما قال تعالى:﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾{يس  82} .

 

(10) إثبات النداء بصوت لله تعالى

قال تعالى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾{ مريم 52}.

وقال تعالى: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلايَتَّقُونَ﴾ {الشعراء 10،11}، وقال تعالى:﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ {الأعراف 22}، وقال تعالى:﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ {القصص62}، وقال تعالى:﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ﴾{القصص، 65}.

في هذه الآيات إثبات النداء لله تعالى، وقد أخبر الله تعالى في القرآن بندائه لعباده من أكثر من عشرة مواضع، والنداء لا يكون إلا بصوت باتفاق أهل اللغة وسائر الناس كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وقد استفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة أهل السنة أنه سبحانه وتعالى  ينادي بصوت نادى موسى بصوت وينادي عباده يوم القيامة بصوت ويتكلم بصوت وقد ذكرنا أدلة على ذلك من السنة في إثبات صفة الكلام لله تعالى.

وهذه الآيات تدل على أن الله تعالى يوصف بالصفات الاختيارية الفعلية، فإنه سبحانه لما ذكر النداء فيها وَقَّته بظرف محدود فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه.

وهذا يدل لصحة مذهب أهل السنة من أن صفة الكلام صفة ذات وفعل. فالله جلا وعلا لم يزل متكلماً إذا شاء وكيف شاء.

فالنداء حصل حين أكل آدم وحواء من الشجرة ولم يحصل لهما قبل ذلك ونداء موسى –عليه الصلاة والسلام- حينما جاء لميقات ربه ولم يحصل قبل ذلك، وهكذا النداء في يوم القيامة في يوم معين. 

     

المبحث الرابع

القضاء والقدر

أولاً : التعريف بهما في اللغة والاصطلاح

ثانياً : الأدلة على الإيمان بالقضاء والقدر.

ثالثاً : حكم الإيمان به ومرتبته.

رابعاً : فوائد وثمرات الإيمان بالقضاء والقدر.

خامساً : مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة

في عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر.

سادساً: مخالفو أهل السنة في القضاء والقدر.

سابعاً: الرد على الطوائف التي ضلت في مسألة القدر

ثامناً: مسائل في القدر

 

المبحث الرابع

القضاء والقدر

أولاً: التعريف بهما في اللغة والاصطلاح:

القدر في اللغة: يقال قدر يقدر قدراً فهو قادر وقدير ومقتدر فهو بمعنى التقدير.

 أما القضاء في اللغة فهو الحكم.

تعريفهما في الاصطلاح:

القدر في الاصطلاح: هو «ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد وأنه عز وجل  قدر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده -تعالى- وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها» ([151]).

وقال شيخنا في تعريفه «القدر هو تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته» ([152])

القضاء في الاصطلاح :

قيل في تعريفه: « القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل » ([153]) قال ابن حجر « وقالوا: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل » ([154]).

قلت: وبهذا التعريف يكون القضاء سابقاً للقدر عند هؤلاء العلماء ولذلك قالوا في تعريف القدر: « هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضى السابق » ([155]).

قال ابن حجر: القدر هو جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله.

العلاقة بينهما:

ذكرنا فيما سبق أن القضاء والقدر متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فهما إن اجتمعا

افترقا وإن افترقا اجتمعا فإذا قيل هذا قدر الله فهذا يشمل القضاء، وإذا قيل هذا قضاء وقدر؛ فالتقدير هو ما قدر الله تعالى في الأزل أن يكون في خلقه، أما القضاء فهو ما قضى الله سبحانه وتعالى في خلقه من إيجاد وإعدام أو تغيير، وعلى هذا يكون التقدير سابقاً على القضاء ([156]).

 

ثانياً : الأدلة على الإيمان بالقضاء والقدر.

(1) أدلة الكتاب :

نصوص الكتاب كثيرة جداً منها:

قول الله تعالى: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ﴾{ الأحزاب 38} .

وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾{ القمر 49}

وقوله تعالى: ﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾{ المرسلات 23}.

وقوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾{ الفرقان 2}.

 (2) أدلة السنة، من ذلك:

1-حديث جبريل عليه السلام الطويل وفيه ( وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ([157]) .

2-عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإن لها ما قدر لها) ([158]).

3-وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأتي ابن آدم النذر بالشيء لم يكن قد قدر الله له ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدّر له فيستخرج الله تعالى به من البخيل فيؤتى عليه ما لم يكن يؤت عليه من قبل) ([159]).

4-وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قد قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان)([160]).

5-وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- وقول النبي صلى الله عليه وسلم له (.. واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم بكن ليصيبك رفعت الأقلام وجفت الصحف) ([161]).

6-عن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال وعرشه على الماء)([162]).

(3) الإجماع :

أجمع المسلمون على الإيمان بالقدر خيره وشره من الله وممن نقل الإجماع على ذلك النووي حيث قال «وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى » ([163]).

 

ثالثاً : حكم الإيمان به ومرتبته.

الإيمان بالقدر واجب ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)([164]).

 

رابعاً : فوائد وثمرات الإيمان بالقضاء والقدر.

عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر ذات أثر عظيم في حياة المسلم يترتب عليها سعادته في

الدنيا والآخرة، ففي الدنيا لا يحزن على ما فاته  ولا يفرح بما أدركه من حظوظ الدنيا وإنما تراه مجتهداً في تتبع محاب الله ومراضيه فهو حريص على الطاعة وبعيد كل البعد عن المعصية يدفع أقدار الشر بالخير وأقدار الجوع بالطعام وأقدار العطش بالشرب وأقدار المرض بالدواء وأقدار الفقر بالسعي في طلب الرزق يأخذ بالأسباب ولا يعتمد عليها  بل يتوكل على ربه سبحانه وتعالى ولذا لما بلغ الصحابة هذه المنزلة العالية ارتاحت نفوسهم واطمأنت خواطرهم وأثمرت حياتهم ثماراً يانعة، فانطلقوا في أرجاء الدنيا يبلغون شرع الله جل وعلا.

ولعل من أبرز ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر ما يأتي:

(1) الشعور بالارتياح والطمأنينة لأن المؤمن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه كل أقدار الله تجري بأمره وتدبيره وحكمته والمحروم من هذه العقيدة لا يصمد أمام الشدائد ولا يتحمل ظروف الحياة وشدة الابتلاء بل تطيش سهامه فيقع في المحاذير الشرعية.

(2) السلامة من الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي تفتك بالمجتمعات كالحسد والضغينة والحقد لأن المؤمن يعلم أن هذا الرزق الذي حصل عليه فلان من الله ليس من أحد غيره فهنا تطمئن نفسه ويرتاح خاطره.

(3) التوكل الصادق على الله بالاعتماد الجازم عليه وحده سبحانه وتعالى لأن العبد يعلم أنه لا يصيبه إلا ما قدر الله وأن الناس لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم شيئاً.

(4) التسليم للخالق العظيم وعدم الاعتراض على أحكامه بل يتقبل المؤمن ذلك بصدر رحب وهنا يطمئن ويرتاح ويزول عنه القلق والاضطراب.

(5) علو الهمة وعدم اليأس والقنوط بل يدفعه الإيمان بالقدر لمضاعفة الجهود واستنفاد الطاقة لتحصيل أموره الخاصة والأمور العامة للمسلمين.

(6) معرفة الإنسان قدر نفسه فلا تفخر إذا عمل الخير لأن كل شيء بقضاء الله وقدره.

(7) تهون المصائب على العبد فمتى جزم أنها من عند الله هانت عليه كما قال تعالى ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾{ التغابن 11} . قال علقمة -رحمه الله- « هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم»([165]) .

إلى غير ذلك من الحكم العظيمة التي تدفع العبد لمزيد من الإيمان والتصديق والصبر.

 

خامساً : مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة

في عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر.

إن مما يجب التنبيه عليه أن أهل السنة والجماعة هم أسعد الناس أخذاً بنصوص الكتاب والسنة بخلاف غيرهم ممن ضل في الأخذ بهما ولذلك كان ولا بد من بيان عقيدة أهل السنة الجماعة في مسألة القضاء والقدر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر:

« مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهو أن الله خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها، من أفعال العباد وغير أفعال العباد.

وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون  في الوجود شيء إلا بمشيئته، وقدرته لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئاً إلا هو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم وما كان، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

وقد دخل في ذلك أفعال العباد، وغيرها، وقد قدّر الله  مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر آجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، وكتب ذلك.

وكتب ما يصيرون إليه من سعادة، وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون ».

إلى أن قال رحمه الله:

« وسلف الأمة وأئمتها متفقون أيضاً على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به منهيون عما نهاهم عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده ووعيده الذي نطق به الكتاب والسنة، ومتفقون على أنه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرم فعله، بل لله الحجة البالغة على عباده »([166]).

وقال أيضاً رحمه الله :

« ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها – مع إيمانهم بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء- أن العباد لهم مشيئته وقدره ويفعلون بمشيئتهم، وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه – مع قولهم، أن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، كما قال الله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾{المدثر الآيات (54-56)} ([167]).

 

سادساً: مخالفو أهل السنة في القضاء والقدر.

خالف أهل السنة والجماعة في عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر فرقتان وهما الجبرية والقدرية.

أولاً: الجبرية ([168]).

وهم قد غلوا في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته وأنكروا أن يكون للعبد فعل بل قالوا: إن العباد ليسوا بحاجة إلى العمل ولا إلى الأخذ بالأسباب لأن العباد مجبورون على أفعالهم وأن الإنسان لا قدرة له بل هو كالريشة في مهب الريح. 

وترتب على هذه العقيدة الفاسدة تعطيل قدرة الإنسان واستسلامه لشهواته وغرائزه ووقوعه في الذنوب والمعاصي وكذا ترك الأعمال الصالحة وعدم الدعاء وفعل الأسباب المنجية من عذاب الله فالذي قدره الله كائن لا ينفع معه شيء عند هؤلاء، ولذلك تراهم عطلوا الحدود وأقروا الظلم ووقعوا في كثير من المصائب التي دمرت مجتمعاتهم وفتكت بهم.

كما أن هذه الطائفة ظنت بربها أسوأ الظنون ونسبته إلى أقبح الظلم وأنه يعاقب على الفعل وهو الذي أمر به وجر العبد إليه فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

ثانياً : القدرية:

وهم نفاة القدر الذين يزعمون أن الله تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها بل لا يعلمها إلا بعد وقوعها. وإذا أمر الله العباد ونهاهم فهو لا يعلم من يطيعه منهم ومن يعصيه فإذا أطاعوه أو عصوه علم بعد ذلك السعداء منهم والأشقياء.

ويقولون أيضاً أن العبد مستقل بالإرادة والقدرة وليس لمشيئة الله وقدرته في ذلك أثر، وأفعال العباد عندهم ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها بل وذنوب العباد عندهم ليست واقعة بمشيئة الله.

وقد نشأ هذا القول في أواخر عهد الصحابة وأول من قال به معبد الجهني ونقله عنه رؤوس الاعتزال كواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وقد عرفوا بعد ذلك  بالقدرية وهم المعتزلة([169]) .

 

سابعاً: الرد على الطوائف

التي ضلت في مسألة القدر.

لا شك أن دلالة الكتاب والسنة والفعل الصحيح والفطرة المستقيمة كلها حجج وبراهين على بطلان ما تعتقده الجبرية والقدرية، ولهذا تصدى أهل السنة والجماعة لما منحهم الله من قوة  لفهم كتابه وسنة رسوله تصدوا لمزاعم من ضلوا في القدر وردوا على مذهبهم وبينوا أن الإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية، وبهذا ردوا على الجبرية، ومن أدلة القرآن على إثبات المشيئة للعبد ما يأتي:

(1) دلالة القرآن في الرد على الجبرية:

قال تعالى: ﴿ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ﴾{ النبأ 39}

وقال تعالى: ﴿ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾{ البقرة 223}

وجه الدلالة من الآيتين أن الله أثبت للعباد مشيئة في أفعالهم وعلاقاتهم مع زوجاتهم وهذا ظاهر واضح.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ {التكوير الآيتان : 28، 29} .

فأثبت الله تعالى للعباد مشيئة ولكن هذه المشيئة تابعة لمشيئة الله تعالى.

وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾{ الكهف الآية : 29}. 

ومن أدلة القرآن أيضاً قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ﴾{ فصلت46}.

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾{الزمر 41}.

وقال:﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾{النساء 79}.

وقال أيضاً سبحانه وتعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ { الأعراف 28}.

فهذه الآيات وغيرها صريحة في الرد على الجبرية وذلك بإثبات أن العبد ليس بمجبور فالعبد يفعل الطاعات والمعاصي بقصده واختياره ولا يخرج عن قضاء الله وقدره.

(2) دلالة السنة في الرد على الجبرية:

عن جابر رضي الله عنه  قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن: فيما العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ قال: ففيم العمل؟ (قال: اعملوا فكل ميسر) ([170]).

وفي رواية (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ([171]).

والأحاديث التي جاءت في إبطال قول الجبرية كثيرة وشهيرة فقد جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر وقطع يد السارق ورجم في الزنا فلو كان هؤلاء مجبورين على معاصيهم لما أقيمت فيهم الحدود ولكن الجبرية كذبوا على الله وزوروا الباطل فالله أعظم وأجل من أن يجبر أحداً على ذنب ثم يعذبه عليه فتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

(3)  دلالة العقل في الرد على الجبرية:

من المعلوم أن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة يفعل بهما ما يريد ويترك ما يريد وأنه يفرق بين ما وقع بإرادته ويتحمل كامل مسؤوليته وبين ما وقع بغير اختياره مثل الأكل ناسياً في نهار رمضان فهذا لا يفسد الصوم لكن لو تعمد فأكل فهذا تناول مفطراً باختياره فيفسد صومه. وهذه المشيئة للعبد داخلة ضمن مشيئة الله وقدرته كما قال تعالى:﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾{التكوير 29}. فالآية أثبتت مشيئة داخلة تحت مشيئة الرب عز وجل .

(4)  الردود على القدرية.

رد أهل السنة والجماعة على القدرية بالآيات والأحاديث التي جاءت في إثبات الإيمان بالقضاء والقدر التي مر ذكرها ومن هنا أنكروا عليهم إنكاراً شديداً حتى إن الصحابة نهوا الناس عن الاستماع لهذه الفئة استجابة لخبر النبي صلى الله عليه وسلم الدال على وجوده الذي رواه ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم) ([172]).

وقد نص بعض الأئمة على كفر هذه الطائفة وممن نص على كفرهم الإمام مالك والشافعي وأحمد.

(5)  شبهة القدرية.

ذهبت القدرية إلى ما ذهبوا إليه بقصد تنزيه الله عز وجل  فزعموا أن الله تعالى شاء الإيمان من الكافر ولكن الكافر شاء الكفر وحجتهم أن ذلك يؤدي للظلم إذ كيف يشاء الله الكفر من الكافر ثم يعذبه عليه وهؤلاء كما يقول الطحاوي كالمستجير من الرمضاء بالنار لأنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه ويلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله وهذا من أقبح الاعتقاد.

 

ثامناً: مسائل في القدر.

المسألة الأولى:

لا يلزم من الإيمان بالقدر أن يكون في فعل الله شر.

لا يلزم من الإيمان بالقدر خيره وشره أن يكون في فعله سبحانه وتعالى شر محض ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح (والخير بيديك والشر ليس إليك) فإنه لا يخلق شراً محضاً بل كل ما يخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير ولكن قد يكون فيه شر جزئي إضافي فأما شر كلي أو شر مطلق فالرب منزه عنه.

وهذا هو الشر الذي ليس إليه، وأما الشر الجزئي الإضافي فهو خير باعتبار حكمته، ولهذا لا يضاف إليه الشر مفرداً قط بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات لقوله تعالى: ﴿الله خالق كل شيء﴾{ الزمر 62}

وإما أن يضاف إلى السبب كقوله تعالى:﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾{الفلق 2} وإما أن يحذف فاعله كقول الجن ﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾{الجن 10}.

وخلاصة الأمر في هذه المسألة أن يقال:

الشر في القدر ليس باعتبار تقدير الله له لكن باعتبار المقدور له، فتقدير الله ليس بشر بل هو خير حتى وإن كان لا يلائم الإنسان ويؤذيه ويضره لكن باعتبار المقدور، فالمقدور إما أن يكون خيراً  أو يكون  شراً، فالقدر خيره وشره يراد به المقدور خيره وشره.

مثال ذلك قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾{الروم 41} .

ففي الآية يبين سبحانه وتعالى ما حدث من الفساد وسببه والغاية منه، فالفساد شر وسببه هو عمل الإنسان والغاية حصول الرجوع والإنابة والإخبات لله تعالى.

فالفساد لا يحبه الله تعالى ولا يحب أهله كما قال تعالى:﴿اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾{المائدة 64} لكن قدر الله تعالى ظهوره في البر والبحر لحكمة فهو نفسه شر لكن لحكمة عظيمة بها يكون تقديره خيراً وهكذا سائر المعاصي هي من تقدير الله لحكمة عظيمة.

المسألة الثانية:

يحب ما لا يريد ويريد ما لا يحبه.

يحب سبحانه وتعالى ما لا يريده ويريد ما لا يحبه وذلك أن المراد قد يراد  لغيره فيريد الأشياء المكروهة لما في عاقبتها من الأشياء المحبوبة ويكره فعل بعض ما يحبه لأنه يفضي إلى ما يغضبه.

وهو سبحانه وتعالى يحب المتقين والمحسنين والتوابين وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء وهذا أمر معروف متقرر عند أهل الفطر السليمة والعقول الصحيحة.

مثال ذلك: خلق إبليس يؤدي إلى محاب كثيرة فالعبد الذي يغويه إبليس فيقع في المعصية ثم يستغفر الله ثم يتوب إليه ويتضرع بين يديه  ليغفر له ذلته ويقبل منه توبته فهذا أمر محبوب لله تعالى.

المسألة الثالثة:

العباد فاعلون حقيقة.

العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة لا مجازاً وهذا قول السلف و الأئمة من بعدهم وهو الحق الذي دل عليه المنقول والمعقول كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : فإن الله تعالى وصف العبد بأنه يعمل  ويفعل وقد جاءت النصوص بإثبات فعل العبد فآيات القرآن كثيرة ما يرد فيها ﴿يعملون﴾ ﴿يفعلون﴾ ﴿يؤمنون﴾ ﴿يكفرون﴾ ﴿يتفكرون﴾ ﴿يحافظون﴾ ﴿يتقون﴾ وهذا كله دليل على ثبوت الفعل من العبد على وجه الحقيقة. وخالف أهل السنة في هذه المسألة القدرية من المعتزلة والجبرية من الجهمية.

فقالت القدرية: إن العباد فاعلون حقيقة والله لم يخلق أفعالهم . وقالت الجبرية: إن الله خالف أفعالهم وليسوا فاعلين حقيقة لكن أضيف الفعل إليهم من باب المجاز و إلا فالفاعل الحقيقي هو الله. ولا شك أن هذا القول باطل كما ذكرناه آنفاً يؤدي إلى وحدة الوجود وأن الخلق هو الله ثم يؤدي إلى قول من أبطل الباطل لأن العباد منهم الزاني ومنهم السارق ومنهم شارب الخمر  وغيره فحاشا أن تكون هذه الأفعال منسوبة إلى الله ([173]).

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: « ولم يكن من السلف والأئمة يقول إن العبد ليس بفاعل ولا مختار ولا مريد ولا قادر ولا قال أحد منهم إنه فاعل مجازاً بل من تكلم منهم بلفظ الحقيقة والمجاز متفقون على أن العبد فاعل حقيقة والله تعالى خالق ذاته وصفاته وأفعاله»([174]).

المسألة الرابعة:

العباد لهم مشيئة.

مما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن العباد لهم مشيئة وقدرة يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه كما قال تعالى ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾{ الإنسان 30}.

وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد فإنها لا تكون إلا بمشيئة الرب سبحانه وتعالى. قال تعالى:﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾{التكوير 28}، وهذا فيه الرد على الجبرية الذين لم يثبتوا للعباد المشيئة ﴿إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾{التكوير 29} ففيها الرد على القدرية الذين لم يثبتوا لله مشيئة وجعلوا العباد هم الفاعلون لأفعالهم دون تدخل لمشيئة الله تعالى في ذلك.

المسألة الخامسة:

العباد مخلوقون هم وأفعالهم.

ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد، فالعبد مخلوق والله خالق ذاته وصفاته وأفعاله، وقد دل القرآن على ذكر أفعال العباد التي بقلوبهم وجوارحهم وأنه سبحانه وتعالى يحدث من ذلك ما يشاء قال تعالى في إثبات خلق العبد وخلق عمله ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾{ الصافات 96}.

فهو سبحانه خالق كل عامل وعمله وكل متحرك وساكن وسكونه، وما من ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا والله سبحانه وتعالى خالقها وخالق حركتها وسكونها، ومن يضلل الله فلا هادي له ومن يهدي الله فهو المهتدي قال تعالى ﴿فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ ﴾ { الأعراف 30} .

المسألة السادسة: الإيمان بالقدر خيره وشره لا يتضمن الإيمان بكل مقدور،

بل المقدور منه ما هو مقدور كوني ومنه ما هو مقدور شرعي.

فالمقدور الكوني: هو أن يقدر الرب سبحانه وتعالى على العبد شيئاً يكرهه كأن يمرضه مثلاً أو يصاب في أهله وولده ونفسه فهذا مقدور كوني لا بد أن يقع رضي العبد أم لم يرضى.

والمقدور الشرعي: هو ما قد يفعله الإنسان وقد لا يفعله كأن يفعل طاعة مأمور بها شرعاً أو يقع في معصية منهي عنها شرعاً فهذا باعتبار الرضى فيه تفصيل؛

إن كان ما فعله الإنسان طاعة لله فهنا يجب الرضى به وإن كان معصية وجب سخطه وكراهته والقضاء عليه.

فإذا وقع الإنسان في معصية الكفر فلا نرضى بالكفر منه لكن نرضى بكون الله أوقعه.

المسألة السابعة:

هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟

يلاحظ أن بعض الناس يجيب بأنه مسير وهذا خطأ والبعض يجيب بأنه مخير وهذا خطأ بل الأمر يحتاج إلى تفصيل. فالعبد مخير باعتبار أن له مشيئة يختار بها وله قدرة يفعل بها والقرآن مليء بالشواهد على ذلك ومنها ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾{الكهف 29}، وقال تعالى:﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾{ البلد 10} .

والعبد مسير باعتبار أنه في جميع أفعاله وتصرفاته وحركاته وسكناته داخل في القدر لا يخرج عما قدره الله عليه كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾{يونس 22}، وقوله تعالى:﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾{القصص 68}، وقد جمع الله بين هذين الأمرين كونه مسيراً وكونه مخيراً في قوله تعالى:(ِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾{التكوير، الآيتان :28-29}.

المسألة الثامنة:

مراتب القدر.

للقدر مراتب أربع ويسميها بعضهم بأركان القدر وهي المدخل لفهم مسائل القدر المتشابكة وبعضها مرتبط ببعض لذا لا يتم إيمان المرء إلا إذا حققها كلها واكتمل إيمانه بها وعلى قدر الإخلال بها  بقدر ما يختل الإيمان وهي: « العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق والإيجاد » وإيضاحها كالتالي:

المرتبة الأولى: العلم.

لا بد من الإيمان بأن الله عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً فكل ما يتعلق بأفعاله وبأفعال عباده صغيرها وكبيرها دقيقها وجليلها قديمها وحادثها فعلمه سبحانه محيط بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهو سبحانه يعلم الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل، علم أحوال الخلق وحركاتهم وسكناتهم وأهل الجنة منهم وأهل النار.

ولم يخالف في هذه المرتبة إلا مجوس هذه الأمة وهم القدرية ([175]).

من أدلة هذه المرتبة:

أولاً: دلالة القرآن:

قوله تعالى ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ {الحشر 22} وقوله تعالى ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾{ سبأ 3}.

وقوله عز وجل ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾{ الأنعام 59}.

ثانياً: أما دلالة السنة فمنها:

ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبناء المشركين فقال :(الله أعلم بما كانوا عاملين)([176]).

وفي صحيح مسلم عن عليّ رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً وفي يده عود يبكت به فرفع رأسه فقال:(ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار، قالوا: يا رسول الله فلم نعمل، أفلا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى – إلى قوله- فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)([177]).

المرتبة الثانية: الكتابة:

ولا بد من الإيمان بأن الله – جل وعلا – كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ.

وهذه المرتبة أيضاً محل إجماع بين سلف الأمة من لدن الصحابة فمن بعدهم. فكل كائن إلى يوم القيامة فهو عندهم مكتوب في اللوح المحفوظ.

ومن الأدلة على هذه المرتبة:

أولاً: دلالة القرآن:

قوله تعالى:﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ {الحج 70}، وقوله تعالى:﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾{ يس 12} وقوله سبحانه وتعالى في محاجة موسى عليه السلام لفرعون ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى﴾{طه، الآيتان:52،51}.

ثانياً: دلالة السنة على هذه المرتبة:

ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وكان عرشه على الماء)([178]). وفي الصحيحين من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة)([179]).

المرتبة الثالثة : المشيئة:

ولا بد من الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وإحاطته بكل شيء فما شاء كان  وما لم يشأ لم يكن فليس شيء في الوجود إلا بمشيئته فلا هداية ولا إضلال ولا حركة ولا سكون إلا بمشيئته.

وهذه المرتبة محل إجماع وقد تواطأ عليها رسل الله وكتبه المنزلة ودلت عليها الفطرة واقتضاها العقل السليم.

أولاً: دلالة القرآن على مرتبة المشيئة:

قوله تعالى:﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ {القصص 68}، وقوله تعالى:﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾{التكوير 29}، وقوله تعالى:﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ{الكهف، الآيتان: 23-24}.

ثانياً: دلالة السنة على هذه المرتبة:

قوله صلى الله عليه وسلم (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء)([180]).

المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد

ولا بد من الإيمان في هذه المرتبة بأن جميع الكائنات مخلوقة لله بذواتها وصفاتها فكل ما سوى الله مخلوق.

وهذه المرتبة محل إجماع السلف ومن بعدهم، وقد أجمع عليها الرسل عليهم الصلاة والسلام ودلت عليها الكتب المنزلة والعقول السليمة.

أولاً: دلالة القرآن على هذه المرتبة :

قوله تعالى ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾{ الزمر 62}.

وقوله تعالى ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ { الملك 2}.

وقوله تعالى ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾{ فاطر 3} .

ثانياً: دلالة السنة على هذه المرتبة:

ما رواه البخاري في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يصنع كل صانع وصنعته)([181]).

المسألة التاسعة: في أقسام التقدير.

للتقدير أربعة أقسام، منها:

(1)  التقدير العام.

وهو تقدير الخالق صلى الله عليه وسلم لجميع الكائنات علماً وكتابة ومشيئة وخلقاً ويدل لذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾{الحج 70}. وقال تعالى:﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾{الحديد 22} وقال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ﴾{التوبة 51}.

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه  قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب! قال: رب ماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)([182]).

(2) التقدير العمري.

وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى الموت ويدل على ذلك حديث إرسال الملك إلى الجنين  فيكتب إذ ذاك ذكوريتها وأنوثيتها والأجل والعمل والشقاوة والسعادة والرزق وجميع ما هو لاق فلا يزاد فيه ولا ينقص منه.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ { الحج 5}.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه  قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد….) ([183]) الحديث .

(3) التقدير السنوي:

وذلك على الصحيح في ليلة القدر من كل سنة ويدل على ذلك قوله تعالى: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾{ الدخان، الآيات: 1-5}  .

قال مجاهد: «ليلة القدر ليلة الحكم».

وقال سعيد بن جبير: « يؤذن للحجاج في ليلة القدر فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ».

وقال الحسن البصري: « والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان وإنها لليلة القدر يفرق فيها كل أمر حكيم فيها يقضي الله عز وجل  كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها».

وقال ابن عباس: «يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال يحج فلان ويحج فلان»([184]).

(4) التقدير اليومي:

والمراد به سَوْق المقادير إلى المواقيت التي قدر الله فيما سبق فيعز ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع ويحيي ويميت ويضحك ويبكي كل ذلك بأمره وحكمته قال الله تعالى: ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾{ الرحمن  29} جاء في تفسير هذه الآية عند ابن جرير رحمه الله عن منيب بن عبد الله قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ فقلنا: يا رسول الله ما ذاك الشأن؟ قال: (أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع الآخرين)([185]). وهكذا فسرها السلف رضوان الله عليهم.

قال البغوي في تفسيرها: «من شأنه أن يحيي ويميت ويخلق ويرزق ويعز قوماً ويذل قوماً ويشفي مريضاً ويفك عانياً ويفرج مكروباً ويجيب داعياً ويعطي سائلاً ويغفر ذنباً إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء» ([186]).

المسألة العاشرة: الاستطاعة التي يجب بها فعله.

يرى عامة أهل السنة والجماعة أن الاستطاعة بالنسبة للمخلوق على قسمين:

الاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به، هذه تكون مع الفعل.

وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات فهي مثل الفعل وبها يتعلق الخطاب كما قال تعالى: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾{البقرة 286}  .

وهذا القول وسط بين قول القدرية الذين يقولون لا تكون القدرة إلا قبل الفعل وبين قول البعض لا تكون مع الفعل.

ومن أدلة الاستطاعة قوله تعالى: ﴿ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾{ آل عمران 97}. فأوجب الحج على المستطيع وهذا هو القدرة على الأسباب أما لو كان المقصود من حجّ لأصبح المعنى لا يجب الحج إلا على من حج.

وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة فقوله تعالى: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾{ هود 20}، والمراد هنا نفي حقيقة القدرة لا نفي الأسباب والآلات لأنها كانت ثابتة.

وكذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً ﴾{ الكهف 67} أي حقيقة قدرة الصبر لا أسباب الصبر وآلاته لأن هذه ثابتة له بدليل أنه عاتبه على ذلك لأنه يملك الآلات والأسباب ولو لم يكن يملكها لما عاتبه إذ لا يلام من لا يملكها .

المسالة الحادية عشرة: أفعال العباد خلق الله وكسب العباد.

اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية فقالت الجبرية – وإمامهم الجهم بن صفوان – إن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى وهي كلها اضطرارية لا اختيار للعباد فيها بل هي كحركة الأشجار وأما إضافتها إلى العباد فذلك على سبيل المجاز.

وقالت المعتزلة جميع أفعال العباد من خلقهم  ولا قدرة لله عليها.

وتوسط أهل السنة والجماعة فقالوا: أفعال الخلق مخلوقة لله لكنهم فاعلون لها وبها صاروا مطيعين وعصاة. وكل دليل صحيح يقيمه الجبري فهو دليل لأهل السنة، وكل دليل صحيح يقيمه المعتزلي القدري فهو لأهل السنة فكل طائفة منهما معها حق فإذا ضم بعضه إلى بعض فهو مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب، قال شارح الطحاوية: «فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر الكتب المنزلة من عموم قدرة لله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان  والأفعال وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة وأنهم يتوجبون عليها المدح والذم» ([187]).

المسألة الثانية عشرة: الأخذ بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقضاء والقدر.

إن مما يجب التنبه عليه أن فعل الأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل إن الأخذ بهذه الأسباب من تمام الإيمان بالقضاء والقدر، ولهذا يجب على العبد مع الإيمان بالقدر الاجتهاد في العمل والأخذ بأسباب النجاة.

قال شيخ الإسلام: « وإذا ترك العبد ما أمر به متكلاً على الكتاب كان ذلك من المكتوب المقدور الذي يصير به شقياً، وكان قوله ذلك بمنزلة من يقول: أنا لا آكل ولا أشرب فإن كان الله قضى بالشبع والري حصل و إلا لم يحصل أو يقول لا أجامع امرأتي فإن كان الله قضى لي بولد فإنه يكون.

وكذلك من غلط وترك الدعاء أو ترك الاستعانة والتوكل طالما أن ذلك من مقامات الخاصة ناظراً إلى القدر فكل هؤلاء جاهلون، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)([188]) .

فأمره بالحرص على ما ينفعه والاستعانة بالله ونهاه عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء أن لا ييأس على ما فاته بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر إلى الله، فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك كما قال بعض العقلاء: الأمور أمران: أمر فيه حيلة وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه» ([189]) .

المسألة الثالثة عشرة: أنفع الدعاء دعاء الفاتحة.

ينبغي للعبد أن يستعيذ من شر نفسه ومن سيئات عمله ويسأل ربه أن يعينه على طاعته فبذلك يحصل له كل خير ويندفع عنه كل شر.

ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شر في الدنيا ولا في الآخرة.

وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الطعام والشراب ([190]).

المسألة الرابعة عشرة: هل يحتج بالقدر على فعل المعصية أو ترك واجب؟

بعض الناس إذا وقع في الذنب أو ترك واجباً من الواجبات الشرعية احتج بالقدر عند الإنكار عليه وقال هذا ما قدر الله عليّ أتعترض على الله؟ ثم هو يحتج بما احتج به آدم عليه السلام  على موسى عليه السلام  .

فهل يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية و ترك الواجب؟ نقول: أما القدرية فلم يحتجوا بهذا الحديث  الذي احتج به من وقع في الذنب أو ترك الواجب لأنه من قبيل أحاديث الآحاد وهي لا توجب اليقين عندهم ولذلك لم يقبلوا هذا الحديث  لأنه عارض العقل عندهم.

وأما الجبرية فهذا الحديث عمدة عندهم في الاحتجاج به ولذا عندهم لا يلام العبد على ما قدر عليه وقد ذكر عقيدتهم في الإيمان بالقدر.

أما أهل السنة والجماعة فقالوا: إن الإيمان بالقدر ليس معناه أن يحتج العاصي بفعل المعصية أو ترك واجب، فلو كان الاحتجاج بالقدر سائغاً عند الوقوع في المعصية لما كان هناك حاجة لإرسال الرسل وإنزال الكتب.

قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: «وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين وسائر أهل الملل وسائر العقلاء فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض ويحتج بالقدر.

ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدى عليه واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول» ([191]).

ومن الأدلة على بطلان القول بالاحتجاج بالقدر عند الوقوع في المعصية ما يأتي:

(1) قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾{ الأنعام 148}.

وجه الدلالة من الآية : أن هؤلاء المشركين احتجوا بالقدر على معصية الشرك فوصفهم الله تعالى بالكذب وأذاقهم الله بأسه فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لهم ما ذاقوا بأس الله تعالى.

(2) قوله تعالى﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾{النساء 165} . وجه الدلالة أنه لو كان القدر حجة  ما بطلت بإرسال الرسل بل هو باق.

(3) أما ما يحتج به من حديث احتجاج آدم وموسى على فعل المعصية فنقول أن أهل السنة أسعد الناس أخذاً به فهم ليسوا كالجبرية عند الأخذ به وليسوا كالقدرية في رده وعدم قبوله فقد قال أهل السنة في الأخذ به.

إن آدم – عليه الصلاة والسلام – فعل الذنب وصار ذنبه سبباً لخروجه من الجنة لكنه تاب من الذنب وبعد توبته اجتباه ربه سبحانه وتعالى وتاب عليه وهداه والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. ومن المحال أن موسى –عليه الصلاة والسلام- وهو أحد أولى العزم من الرسل أن يلوم أباه على شيء تاب منه وإنما اللوم على المصيبة التي حصلت بفعله وهي إخراج الناس من الجنة فإن سبب هذا الإخراج هو معصية آدم.

على أن آدم – عليه الصلاة والسلام – لا شك لم يفعل هذا ليخرج من الجنة حتى يلام فكيف يلومه موسى .

وهذا وجه ظاهر في أن موسى –عليه الصلاة والسلام- لم يرد لوم آدم على فعل المعصية التي هي من قدر الله وحينئذ يتبين أنه لا حجة بهذا الحديث  للجبرية ([192]).

المسألة الخامسة عشرة:

الجمع بين قوله تعالى:﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾{النساء 78}،

وقوله تعالى:﴿فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ {النساء 79}.

قوله تعالى:﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ أي الخصب والجدب والنصر والهزيمة كلها من عند الله. أما قوله تعالى ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ أي ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما قال الله تعالى:﴿مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ {الشورى 30}.

المسألة السادسة عشرة:

كيف يوجه الخطاب للجماد؟

(أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب! قال: وما أكتب؟ قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) ([193]).

استشكل بعض الناس فقال كيف يوجه الخطاب إلى الجماد؟

والجواب على ذلك أن الجماد بالنسبة إلى الله عاقل يصح أن يوجه إليه الخطاب والأدلة من كتاب الله كثيرة، من ذلك قوله تعالى:﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ {فصلت11}. فوجه الله تعالى إليها الخطاب وذكر جوابها وكان الجواب بجمع العقلاء طائعين دون طائعات. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ
{الأنبياء 69} فكانت كذلك. وقال أيضاً: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ{سبأ  10} فكانت الجبال تؤوب معه ([194]).

المسألة السابعة عشرة:

القدر يتضمن أصولاً عظيمةً.

القدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولاً عظيمةً ومنها:

(1)أنه سبحانه وتعالى عالم بالأمور المقدرة قبل كونها وهذا دليل على ثبوت علمه القديم وفي ذلك الرد على من ينكر ذلك.

(2) أن التقدير يتضمن مقادير المخلوق وهي صفاتها المعينة المختصة بها قال تعالى ﴿خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾{ الفرقان 2}. وهذا يتضمن تقدير الشيء في نفسه وتقديره قبل وجوده وهذا فيه دلالة على علمه بالكليات والجزئيات.

(3)أنه يتضمن أنه أخبر ذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً وهذا يقتضي أنه يمكن أن يعلم بها العباد قبل وجودها وهذا يدل بطريق الأولى على علم الخالق بها فإذا كان يُعلم عباده بذلك فعلمه من باب أولى.

(4)أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله محدث له بمشيئته وإرادته ليس لازماً لذاته.

(5)أنه يدل على حدوث هذا المقدور وأنه كان بعد أن لم يكن فإنه يقدره ثم يخلقه.

المسألة الثامنة عشرة:

معنى المحو والإثبات وزيادة الأجل ونقصانه.

يشكل على بعض الناس مواضع من كتاب الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول بعضهم: إذا

كان الله تعالى علم ما هو كائن وكتب ذلك كله عند في كتاب فما معنى قوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾{الرعد 39}، وإذا كانت الأرزاق والأعمال والآجال مكتوبة لا تزيد ولا تنقص فما توجيهكم لقوله صلى الله عليه وسلم(من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)([195]).

وما قولكم في الحديث الذي فيه أن الله جعل عمر داود عليه الصلاة والسلام مائة سنة بعد أن كان أربعين سنة؟

الجواب: يجاب عن هذه الإشكالات بما يأتي:

الأرزاق والأعمال نوعان:

نوع جرى به القدر وكتب في أم الكتاب فهذا لا يتغير ولا يتبدل.

ونوع أعلم الله به ملائكته فهذا هو الذي يزيد وينقص ولذا قال الله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾{ الرعد 39} وأم الكتاب هي اللوح المحفوظ الذي قدر الله فيه الأمور على ما هي عليه.

ففي كتب الملائكة يزيد الأمور وينقص وكذلك الرزق بحسب الأسباب فإن الملائكة يكتبون له رزقاً وأجلاً فإذا وصل رحمه زيد له في الرزق والأجل و إلا فهو ينقص له منهما([196]).

والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله وأجل مقيد فإن الله يأمر الملك أن يكتب لعبده أجلاً رحمه يأمره أن يزيد في أجله ورزقه والملك لا يعلم أيزيد له في ذلك أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر فإذا جاء الأجل لم يتقدم ولا يتأخر([197]).

 

المبحث الخامس

الإيمان بالرسل

تعريف النبيّ والرسول

الإيمان بالأنبياء والرسل من أصول الإيمان

الأنبياء والرسل جم غفير

الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن

أشخاص صالحون مشكوك في نبوتهم

الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام

لا تثبت النبوة لأحد إلا بدليل

حاجة البشرية إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام

وظائف الرسل

صفات الرسل

أمور تفرد بها الأنبياء دون البشر

دلائل النبوة

أمثلة لآيات الرسل عليهم الصلاة والسلام

دعوة الرسل

تفاضل الأنبياء

 

المبحث الخامس

الإيمان بالرسل

تعريف النبيّ والرسول

النبيّ في اللغة: مشتق من النبأ وهو الخبر، قال تعالى:﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾{النبأ، الآيتان: 1-2  } .

والنبيّ: مخبر من الله ومخبر عن الله، قال تعالى:﴿نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾{التحريم3} وقال تعالى:﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾{ الحجر49} .

وقيل: النبوة مشتقة من النَّبوة، وهي ما ارتفع من الأرض.

والأنبياء أشرف الخلق وهم الأعلام التي تهتدي بها الخلق فتصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة.

الرسول في اللغة: مأخوذ من الإرسال وهو التوجيه، قال تعالى ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾{ النمل35}  .

والرسل موجهون من الله مكلفون بحمل رسالة ربهم إلى الناس بتبليغها ومتابعتها.

الفرق بين النبيّ والرسول:

قيل لا فرق بينهما فكل منهما يدل على الآخر وهذا غير مسلم والصواب أن بينهما فرقاً بدليل أن الله عطف النبي على الرسول في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ { الحج52}.

وقد وصف الله بعض رسله بالنبوة والرسالة مما يدل على أن الرسالة أمر زائد على النبوة قال تعالى عن موسى –عليه الصلاة والسلام- ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً﴾{مريم51}. والمتعارف عليه عند كثير من أهل العلم أن الرسول أعم من النبي، فالرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.

قال شارح الطحاوية: «وقد ذكروا فرقاً بين النبي والرسول وأحسنها أن من نبأه الله بخبر السماء إن أمره أن يبلغ غيره فهو نبيّ رسول وإن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبيّ وليس برسول، فالرسول أخص من النبيّ فكل رسول نبيّ وليس كل نبيّ رسولاً» ([198]).

لكن الذي يظهر لي – والله أعلم – أن الأمر ليس كما قال شارح الطحاوية، لما ذكرته من آية الحج وهذا هو اختيار شيخ الإسلام –رحمه الله- والشنقيطي وغيرهم.

قال شيخ الإسلام –رحمه الله-:

«والنبيّ هو الذي ينبؤه الله وهو ينبئ بما أنبأه الله به فإن أُرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبيّ وليس برسول.. إلى أن قال رحمه الله»

فقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى، قال دليل على أن النبيّ رسول ولا يسمى رسولاً عند الإطلاق لأنه لم يرسل إلى قوم بما لا يعرفونه بل كان يأمر المؤمنين بما يعرفون أنه الحق» ([199]).

قال الشنقيطي –رحمه الله-:

«النبيّ الذي هو الرسول أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي تثبت بها نبوته وأن النبي المرسل الذي هو غير الرسول هو من ينزل عليه كتاب وإنما أوحي إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يرسلون ويؤمرون بالعمل بما في التوراة»([200]).

 

الإيمان بالأنبياء والرسل من أصول الإيمان.

الإيمان بالأنبياء والرسل أحد أركان الإسلام الستة التي لا يتم إيمان المرء إلا بها قال تعالى ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ { آل عمران:84}.

ومن لم يؤمن بهم فقد ضل وخسر قال تعالى ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً﴾ { النساء136}.

 

الأنبياء والرسل جم غفير.

اقتضت حكمة الله ألا يعذب أحداً  يرسل له رسولاً، وقد كانت الأنبياء والرسل ترسل بأعداد كبيرة في الأمم السابقة ولم يرسل الله للبشرية كلها رسولاً عاماً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره من الرسل فقد كانوا يرسلون إلى أممهم خاصة.

ولذلك قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً..﴾{الأعراف 158}، وقال صلى الله عليه وسلم  (كان النبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)([201]).

وجميع الأمم أرسل الله إليها رسلاً ينذرونهم ويبشرونهم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾{فاطر 24}. وقد جاء عدد الأنبياء والرسل في حديث عند الإمام أحمد أن عددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبيّ وأن عدد الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً بعدد من حضروا بدراً.

وقال أكثر أهل العلم أنه لا يعلم عددهم إلا الله لأن هناك من لم يقصصه الله علينا فمن جاء ذكره في كتاب الله عرفناه ومن لم يذكر لا نعرفه قال تعالى:﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ { النساء 164} .

 

الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن.

ذكر الله في كتابه خمسة وعشرين نبيّاً ورسولاً، ذكر ثمانية عشر في سورة واحدة وهي الأنعام في موضع واحد، قال تعالى:(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ *وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ){الأنعام، الآيات:83-86}. وذكر سبعة في مواضع متفرقة وهم آدم وهود وصالح وشعيب وإدريس وذا الكفل ومحمد صلى الله عليه وسلم .

وهؤلاء الخمسة والعشرون منهم أربعة من العرب هم هود وصالح وشعيب ومحمد صلى الله عليه وسلم .

وقد جاءت السنة بالنص على بعض الأنبياء ومنهم شيث ويوشع بن نون.

 

أشخاص صالحون مشكوك في نبوتهم.

هناك أشخاص صالحون مشكوك في نبوتهم وهم:

(1) ذو القرنين:

ذكر الله تعالى خبر ذي القرنين  في سورة الكهف في آخرها وأخبر أنه خاطبه فقال ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) { الكهف 86}.

فهل كان هذا الخطاب مباشرة له أو بواسطة نبيّ كان معه؟ جزم بعض أهل العلم بنبوته ونفاها بعضهم عنه.

وقد قال ابن حجر: «إن القول بنبوته مروي عن عبد الله بن عمرو وعليه  ظاهر القرآن» ومن الذين نفوا نبوته عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين.

(2) تبع:

ورد ذكر تبع في قوله تعالى:(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) {الدخان 37}.

وقال تعالى:(وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ){ق 13}.

فهل كان نبياً مرسلاً إلى قومه فكذبوه فأهلكهم الله أم لا ؟

والأفضل التوقف في أمر ذي القرنين وتبع لأنه ورد الدليل بتوقف الرسول صلى الله عليه وسلم فنحن من باب أولى.

فقد روى الحاكم والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا أدري أتبع نبياً أم لا، وما أدري ذا القرنين نبياً أم لا)([202]).

(3) الخضر:

الخضر هو الرجل الصالح الذي رحل إليه موسى – عليه الصلاة والسلام – ليطلب منه علماً، وقد جاء خبرهما في سورة الكهف.

وسياق القصة يوحي بنبوته من وجوه:

أحدها: قوله تعالى:(فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً){الكهف 65} .

الثاني: قول موسى – عليه الصلاة والسلام- له (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً){ الكهف، الآيات: 66-70}.

فلو كان غير نبيّ لم يكن معصوماً ولم يكن لموسى مع نبوته وعظيم قدره الحرص الشديد على تحصيل العلم منه لأنه خص بعلوم وأسرار لم تكن لموسى عليه الصلاة والسلام.

الثالث: أن الخضر أقدم على قتل الغلام وما ذاك إلا للوحي إليه لأنه لا يجوز لأحد مهما بلغت درجة ولايته أن يقدم على قتل معصوم إلا إذا كان نبياً يوحى إليه من ربه

وهذا وحده كاف في الدلالة على نبوته و الله أعلم.

الرابع : أن الخضر لما فسر لموسى حقيقة أمر كل ما فعله من خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار قال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي){ الكهف 86} أي ما فعلته من تلقاء نفسي بل أمرت به وأوحي إليّ فيه.

وقد نازع في نبوته أقوام من أهل  العلم فجزم ابن حجر بنبوته واستدل بما ذكرناه آنفاً وليس لدينا نص صريح يدل على نبوته ولذا يبقى الأمر محل نظر عند أهل العلم والله أعلم.

 

الكفر برسول واحد كفر

بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام

الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل، قال تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) {الشعراء 105}  .

وقال تعالى:(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ){الشعراء 123}، (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) {الشعراء 141}، (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ){الشعراء 160}.

ومن المعلوم أن كل أمة كذبت برسولها لكن عد تكذيبهم لرسولهم تكذيباً للرسل جميعاً ذلك أن الرسل حملة رسالة واحدة ودعاة دين واحد ومرسلهم واحد يبشر متقدمهم بمتأخرهم ويصدق متأخرهم متقدمهم.

وقد جاء النص بذلك صريحاً قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً) {النساء،150 151}. وقد أمرنا الله بعدم التفريق بينهم قال تعالى: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) {البقرة136}.

وقد مدح الله هذه الأمة ورسولها لأنهم آمنوا بجميع الرسل ولم يفرقوا بينهم.

قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) {البقرة285}.

وقد ذم الله تعالى أقواماً لتفريقهم بين الرسل، فاليهود لا يؤمنون بعيسى ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والنصارى لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم .

 

لا تثبت النبوة لأحد إلا بدليل

جاءت أخبار كثيرة عن بني إسرائيل بتسمية بعض الأنبياء كالذين ذكرهم الله في سورة (يس) في قصة أصحاب القرية الذين أرسل إليهم اثنين ثم عزز بثالث. وهكذا ما ذكره بعض المفسرين حول تسمية بعض الأنبياء كجرجس وخالد بن سنان كل ذلك لا دليل عليه ولذا لا تثبت النبوة لأحد إلا بدليل صريح صحيح.

وكذا لا تنفي نبوة من جاءت الأخبار عن بني اسرائيل بذلك لأن خبرهم يحتمل الصدق والكذب ولكن نقطع بأنه لا نبيّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم .

 

حاجة البشرية إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام

الناس اليوم يحتاجون إلى الرسالة أشد من حاجتهم في السابق لكن شياطين الإنس ينفخون في عقولهم ويدعون إلى التمرد على شرع الله المطهر بحجة أن هذه الشريعة فيها حجر على العقول وتقييد للحريات لكن الواقع أن البشرية اليوم أحوج من ذي قبل لأن هذا النضج الذي بلغوه وتلك العبقريات في شتى مجالات الحياة غوصاً في أعماق البحار وانطلاقاً إلى أجواء الفضاء، كل ذلك يدعوهم بحق إلى التعلق بالشرع المطهر لأنه السياج الآمن والمنطلق الثابت الذي يحفظ عليهم توازنهم ويمنع المزالق الخطيرة التي تؤدي بحياة البشرية وتوقعها في الهاوية في الدنيا ثم الجحيم في الآخرة.

يقول ابن القيم –رحمه الله-: «فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث إلا من جهتهم ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم فالقلب الذي يبعد عن الشرع كالحوت الذي يفارق الماء…. إلى أن قال: ..والوحي مع العقل كنور الشمس أو الضوء مع العين فإذا حجب الوحي عن العقل لم ينتفع الإنسان بعقله كما أن المبصر لا ينتفع بعينه إذا عاش في ظلمة فإذا أشرقت الشمس وانتشر ضوءها انتفع بناظريه وكذلك أصحاب العقول إذا أشرق الوحي على عقولهم وقلوبهم أبصرت وأهتدت (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)([203]).

 

وظائف الرسل.

للرسل وظائف بينها القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن هذه الوظائف:

(1) البلاغ المبين.

هذه هي الوظيفة الأساسية للرسل – عليهم الصلاة والسلام – وهذه أعظم الأمانات التي تحملوها، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ){ المائدة 67} .

والبلاغ يكون بتلاوة النصوص التي أوحاها الله إليهم من غير نقص أو زيادة، قال تعالى (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ){ العنكبوت 45}  .

ومن البلاغ أن يوضح الرسول الوحي الذي أنزل إليه من ربه ويبينه لعباد الله لأنه أقدر الناس على فهمه وإيضاحه للناس.

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأحكام المجملة كالصلاة والزكاة والصيام والحج. وكما يكون البيان بالقول يكون بالفعل.

وهكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بيان وإيضاح بالقول والفعل والتقرير والوصف.

(2) الدعوة إلى الله.

لا تقف مهمة الرسول عند بيان الحق للناس بل عليهم دعوة الناس وهدايتهم بدلالتهم إلى الطريق الحق والرشاد وجميع الرسل مهمتهم أن يقولوا للناس اعبدوا الله فأنتم عباد الله والله هو الإله الواحد فيجب على جميع الخلق طاعته وعبادته.

قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) {النحل 36}. وقال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ){ الأنبياء25}. وقد بذل رسل الله صلى الله عليه وسلم جهوداً مباركة وحرصوا على هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

فهذا نوح –عليه الصلاة والسلام- يمكث في دعوته قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً كلها دعوة متواصلة دعاهم علانية وسراً ليلاً ونهاراً ترغيباً وترهيباً وعداً ووعيداً ومع ذلك عصوه ولم يستجيبوا له قال تعالى: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً){ نوح 21} .

(3) التبشير والإنذار:

دعوة الرسل مقترنة بالتبشير والإنذار، قال تعالى (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ){الكهف56}. وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً حيّاً لنفسه وأمته فقال (مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير فالنجاء النجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم  فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق) ([204]).

ومهمة التبشير والإنذار للرسل لها جانبان: جانب دنيوي وجانب أخروي فهم في الدنيا يبشرون الطائعين بالحياة الطيبة، قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً){ النحل97} وقال تعالى (فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) {طه123}. وبالمقابل يخوفون العصاة بالشقاء الدنيوي، قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى){ طه124}.

وهكذا المتتبع لنصوص الكتاب والسنة يلحظ هذا الأمر التبشير والإنذار ولذا فينبغي للدعاة وأهل العلم أن يركزوا على ذلك في أحاديثهم وخطبهم وكتاباتهم توجيهاً للناس ودلالة لهم على الخير وبيان ثمرة الطاعة ومغبة المعصية.

(4) إصلاح النفوس وتزكيتها.

من مهمات الرسل إصلاح نفوس الناس وتزكيتها لتقبل الخير والنور ولتخرج من الظلمات إلى النور، ولذا عمل الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم – على تعريف أقوامهم بخالقهم وبيان ما يستحق من العبادة ودلالة الخلق على النافع الضار وبيان سبل العبادة والطاعة، قال تعالى:(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ){ الجمعة2} .

 

صفات الرسل.

للرسل صفات يشتركون فيها مع سائر الناس وصفات تخصهم. ومن هذه الصفات التي يشتركون فيها مع الناس ما يأتي:

(1) البشريـة:

اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل – عليهم الصلاة والسلام – من البشر أنفسهم قال تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ){ الكهف 110}.

والبشر أهل لأن يتحملوا الرسالة لأنها أمانة والإنسان قادر على تحمل الأمانة (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً){ الأحزاب 72}. لكن الرسل يُعدُّون إعداداً خاصاً لتحمل النبوة وهذا ما حدث لنبينا صلى الله عليه وسلم  حيث أحاطه ربّه بعنايته كما قال الله تعالى (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى){ الضحى، الآيات: 6، 7، 8}.

ولِـمَ لَـمْ يكن الرسل ملائكة؟

كثر اعتراض الناس على بعثة الرسل وكونهم من البشر وهذا واحد من أسباب صد الناس عن الإيمان بهم قال تعالى (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً){الإسراء 94}، وقال تعالى: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً){ الفرقان 7}.

وقد قال أهل العلم في حكمة اختيارهم من البشر لا من الملائكة:

أ-أن ذلك أعظم في الابتلاء والاختبار.

ب -أن في ذلك إكراماً لمن سبقت لهم من الله الحسنى حيث أكرمهم وتفضل عليهم باختيارهم من سائر البشر، قال تعالى (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا){ مريم 58}.

ج- أن البشر أقدر على القيادة والتوجيه وهم الذين يصلحون قدوة وأسوة فهو مثلهم يحس بإحساسهم ويعمل بالتكاليف التي يبلغهم بها فهو يبدأ بنفسه في تطبيق ما يدعو إليه فهم يقتدون به في حركاته وسكناته وأعماله وأخلاقه.

د -صعوبة رؤية الملائكة لأن طبيعة البشر لا تتحمل ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم مع ما أعطاه الله من القدرات كان يرجف فؤاده وترتعد أطرافه إذا جاءه جبريل ولذا ناسب أن يرسل إلى البشر بشر مثلهم، ولو كان سكان الأرض ملائكة لأرسل إليهم من جنسهم وصدق الله العظيم (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ){آل عمران 164}. وقال تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً){الإسراء 95}.

(2) تعرض الأنبياء للبلاء.

من مقتضى بشرية الرسل أنهم يتعرضون للبلاء كما يتعرض البشر فقد يسجن النبي كما سجن يوسف -عليه الصلاة والسلام-، وقد يخرج من دياره ويؤذى كما حصل لإبراهيم ومحمد -عليهما السلام- وقد يصابون بالأمراض كما حصل لأيوب -عليه الصلاة والسلام-.

بل إن الأنبياء هم أشد الناس بلاء كما جاء ذلك في الحديث (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى المرء على قدر دينه)([205]).

(3) اشتغال الأنبياء بأعمال البشر.

من مقتضى بشرية الرسل – عليهم الصلاة والسلام- أنهم يشتغلون بأعمال البشر فقد عمل أنبياء الله بالتجارة ورعوا الغنم وكان داود حداداً  يعمل الدروع وزكريا نجاراً ([206]).

(4) ليس فيهم شيء من خصائص الألوهية والملائكة.

من مقتضى بشرية الرسول أنهم لا حول لهم ولا قوة إلا بالله، فليس فيهم شيء من خصائص الألوهية وما كان لأحد منهم أن يدعي ذلك، ولذا أخبرنا الله عن عيسى – عليه الصلاة والسلام – فقال (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ){ المائدة 116} .

وليس فيهم شيء من خصائص الملائكة بل هم يأكلون ويشربون وينكحون ويخالطون الناس كسائر البشر.

(5) الكمال البشري.

البشر يتفاوتون فيما بينهم في الخَلق والخُلق والمواهب والقدرات، والأنبياء يمثلون الكمال الإنساني ذلك أن الله اختارهم واصطفاهم فهم أطهر الناس قلوباً وأزكاهم أخلاقاً وأجودهم أنفساً وأنفعهم لعباد الله وصدق الله (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ){الأنعام 124}.

فعندهم كمال الخلقة وكمال الخلق وهم أفضل الناس نسباً وقد أعطاهم الله عقولاً راجحة وذكاء حاداً ولذا عرضوا شريعتهم وأفحموا المعارضين لها وبلغوا دين الله بكل أمانة وصدق وإن ما قصه الله علينا من حوار بين موسى – عليه الصلاة والسلام – وفرعون الطاغية خير مثال لما نقول قال تعالى(قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ){الشعراء، الآيات :23-29}. ومن صور كمال الأنبياء أن الله اختارهم كلهم من الرجال قال تعالى(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ){ الأنبياء 7} .

ومن الحكم في اختيار الأنبياء رجالاً ما يأتي:

أ- أن الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة ومخاطبة الرجال والنساء والتنقل في أرض الله ومواجهة المكذبين وإعداد الجيوش وقيادة المعارك وهذا يناسب الرجال دون النساء.

ب – الرسالة تقتضي قوامة الرسول على من يتابعه فهو الحاكم والقاضي والأمير والمسئول ولو كانت امرأة لما استطاعت ذلك ولامتنع أقوام من الطاعة لها والانقياد لأوامرها.

ج – الذكورة أكمل من الأنوثة ولذا جعل الله القوامة للرجال على النساء، قال تعالى:(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ){ النساء34}.

د- المرأة يطرأ عليها ما يعطلها عن كثير من الوظائف والمهمات كالحيض والحمل والولادة والنفاس وما يصاحب ذلك من اضطرابات وآلام وأوجاع وكل ذلك مانع من القيام بأعباء الرسالة وتكاليفها.

 

أمور تفرد بها الأنبياء دون البشر.

1- الوحي.

خصّ الله الأنبياء دون سائر البشر بوحيه إليهم، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ){الكهف110}. وهذا الوحي يقتضي عدة أمور يفارقون بها الناس، فمن ذلك تكليم الله بعضهم واتصالهم ببعض الملائكة وتعريف الله لهم شيئاً من الغيوب الماضية أو الغيوب المستقبلة ومن ذلك الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم  إلى بيت المقدس والعروج به إلى السماوات ورؤيته للملائكة والأنبياء وإطلاعه على الجنة والنار وسماعه لعذاب المعذبين في قبورهم.

2- العصمة.

اتفقت ([207]) الأمة على أن الرسل معصومون في تحمل الرسالة فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم إلا شيئاً قد نسخ وقد تكفل الله بذلك قال تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ){الأعلى، الآيتان: 6، 7}. وهم معصومون في التبليغ فالرسل لا يكتمون شيئاً مما أوحاه الله إليهم ذلك أن الكتمان خيانة والرسل يستحيل عليهم ذلك قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) {المائدة 67}. ويرى أكثر العلماء أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر، قال شيخ الإسلام: «القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام» ([208]).

3- الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.

مما اختص الله به الأنبياء أن أعينهم تنام وقلوبهم لا تنام وقد جاء في حديث الإسراء عند البخاري (والنبي نائمة عيناه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم)([209])، وقال صلى الله عليه وسلم (إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا) ([210]).

4- تخيير الأنبياء عند الموت.

مما تفرد به الأنبياء أنهم يخيَّرون بين الدنيا والآخرة، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: (ما من نبيّ يمرض إلا خيِّر بين الدنيا والآخرة)([211]).

5- لا يقبر نبيّ إلا حيث يموت.

مما خصّ الله به الأنبياء بعد موتهم أمور :

الأول : أنه لا يقبر نبيّ إلا في الموضع الذي مات فيه جاء في الحديث (لم يقبر نبيّ إلا حيث يموت)([212]). ولذا دفن رسول الله في حجرة عائشة حيث قبض.

الثاني: من إكرام الله لأنبيائه ورسله أن الأرض لا تأكل أجسادهم فمهما طال الزمن وتقاوم العهد تبقى أجسادهم محفوظة من البلى، قال صلى الله عليه وسلم(إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)([213]).

الثالث:  أحياء في قبورهم. صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم  (أن الأنبياء أحياء في قبورهم)([214]) وقد جاء ذلك في حادثة الإسراء فقد رأى نبينا موسى – عليه الصلاة والسلام – يصلي وإذا عيسى – عليه الصلاة والسلام- يصلي وإذا إبراهيم قائم يصلي ([215]) .

 

دلائل النبوة.

هناك دلائل كثيرة للأنبياء ومن أهمها:

الآيات والمعجزات التي يجريها الله تصديقاً لرسله.

الآية والمعجزة هي ما يجريه الله على أيدي أنبيائه ورسله من أمور خارقة للسنن الكونية المعتادة التي لا قدرة للبشر على الإتيان بمثلها  كتحويل العصا إلى أفعى تتحرك. فيكون هذا الأمر دليلاً صادقاً غير قابل للنقض والإبطال على صدق رسالتهم.

وقد تنوعت هذه الآيات والمعجزات التي أجراها الله على أيدي أنبيائه ورسله، وجميع هذه الآيات والمعجزات تندرج تحت أمور ثلاثة: العلم والقدرة والغنى.

فالإخبار بالمغيبات الماضية والآتية كإخبار عيسى قومه بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم وإخبار رسولنا صلى الله عليه وسلم  بأخبار الأمم السابقة وإخباره بالفتن وأشراط الساعة التي ستأتي في المستقبل، كل ذلك من باب العلم.

وتحويل العصا إلى أفعى وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وشق القمر من باب القدرة.

وعصمة الله لرسله من الناس وحمايتهم ممن أراد بهم سوءً أو قيام الأنبياء بأمور قد لا يطيقها غيرهم كمواصلة نبينا الصيام بالليل والنهار من باب الغنى.

وهذه الأمور الثلاثة العلم والقدرة والغنى التي ترجع إليها جميع المعجزات لا ينبغي أن تكون إلا لله على وجه الكمال المطلق، وقد أمر الله رسوله أن يتبرأ من دعوى هذه الأمور  في قوله (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ){ الأنعام 50}.

فالرسول يبرأ من دعوى علم الغيب وملك خزائن الأرض ومن كونه ملكاً مستغنياً عن الطعام والشراب والمال. والرسل ينالون من هذه الثلاثة ما يعطيهم الله فيعلمون ما علمهم الله ويقدرون على ما أقدرهم ويستغنون بما أغناهم.

 

أمثلة لآيات الرسل عليهم الصلاة والسلام.

آيـة نبيّ الله صالح.

دعا صالح – عليه الصلاة والسلام – قومه إلى عبادة الله كغيره من الرسل، قال تعالى:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ){النمل 45}.

لكن قومه كذبوه وطلبوا منه آية تدل على صدقه قال تعالى:(مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ){الشعراء، الآيتان:153، 154}.

وقد ذكر كثير من المفسرين أن ثمود قوم صالح اجتمعوا ذات يوم في ناديهم فجاءهم نبيهم صالح فدعاهم إلى الله وذكَّرهم وحذَّرهم ووعظهم وأمرهم فقالوا له على سبيل التحدي والتعجيز: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة القريبة ناقة صفتها كذا وكذا ومنها أن تكون عُشراء طويلة، فقال لهم نبيهم صالح أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئت به وتصدقوني بما أرسلت به؟ قالوا: نعم، فأخذ عليهم العهود والمواثيق على ذلك.

ثم قام إلى مصلاه فصلى ما قدر له ثم دعا ربه أن يجيبهم إلى ما طلبوا فأمر الله تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عُشراء على الوجه الذي طلبوا فلما عاينوها كذلك رأوا أمرا عظيماً وقدرة باهرة ودليلاً قاطعاً وبرهاناً ساطعاً يدل على صدق صالح ونبوته فآمن كثير منهم لكن أكثرهم استمر على كفره عناداً وجحوداً كعادة الكفار.

قال تعالى مبيناً هذه المحاورة بين صالح وقومه (قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ) {الشعراء 155}. وقال تعالى: (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ) {الأعراف 73}.

معجزة إبراهيم عليه السلام.

حطَّم إبراهيم آلهة قومه التي كانوا يعبدونها فأشعلوا له النار ورموه فيها فأمر الله -جل وعلا- النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ){ الأنبياء، الآيات: 68، 69، 70}.

ومن الآيات التي أجراها الله على يد نبيه إبراهيم إحياء الموتى في قصة طيور حيث أمره مولاه أن يذبح الطيور ثم يقطعها ويفرق لحمها على عدة جبال ثم يدعوها فتجتمع الأجزاء المتفرقة وتدب فيها الحياة وتلبي نداءه وتحلق طائرة في السماء كما قال تعالى (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً){ البقرة 260}.

آيات نبيّ الله موسى عليه الصلاة والسلام.

أعطى الله موسى تسع آيات بينات، قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) {الإسراء 101}.

وهذه الآيات هي:

1-العصا وهي أعظم الآيات وأكبرها فهي تتحول بقدرة الله إلى حية عظيمة حينما يلقيها في الأرض قال تعالى (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى){طه، الآيات: 17-21}. وقد أعلن السحرة إيمانهم لما عاينوا ما فعلته هذه الحية لأنهم بخيرتهم علموا أنها ليست من السحر بل من صنع الخالق العظيم فسجدوا أمام الجموع في وقت التحدي إذعاناً للخالق العظيم (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى){ طه70}

2-ومن الآيات لموسى أنه يضم يده إلى جناحه فتخرج بيضاء تتلألأ كأنها قمر من شدة بياضها وليس فيها مرض من برص أو بهق بل من عظيم قدرة الله جل وعلا (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى) { طه 22}.

وجاءت سبع آيات في سورة الأعراف حيث أصاب الله فرعون وقومه بها.

3-أصابهم بالسنين وهي الجدب والقحط بسبب قلة المطر.

4-نقص الثمرات ذلك أن الأرض منعت خيراتها وما يخرج تصيبه الآفات.

5-الطوفان الذي يتلف المزارع ويهدم المباني والقرى.

6-الجراد الذي لا يدع شيئاً أخضر إلا أكله بل أكل حتى اليابس.

7-القمل وقد سلط الله عليهم حشرة تؤذيهم في أجسادهم على وجه لا يمكن مدافعتها.

8-الضفادع التي نغصت عليهم عيشتهم وكثرت بحيث تلاحقهم في كل مكان.

9-الدم الذي يصيب الطعام والشراب فلا يفتحون إناء إلا وجدوه دماً، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ *فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ){ الأعراف، الآيات: 130-133}.

وأعطى الله موسى – عليه الصلاة والسلام – آيات أخرى ومنها ضرب البحر بعصاه فانفلق اثني عشر طريقاً وضرب الحجر فانفلق اثنتي عشرة عيناً وإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل في صحراء سيناء.

معجزات عيسى عليه الصلاة والسلام.

من معجزات عيسى –عليه الصلاة والسلام- أنه يصنع من الطين ما يشبه الطيور ثم ينفخ فيها فتصبح طيوراً بإذن الله وقدرته ويمسح الأكمه فيبرأ بإذن الله ويمسح الأبرص فيذهب عنه البرص ويمرّ على الموتى فيناديهم فيجيبونه قال تعالى (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي){المائدة 110}.

ومن آياته تلك المائدة التي أنزلها الله من السماء إكراماً لعيسى لما طلبها الحواريون قال تعالى (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ){ المائدة 115}.

آيات محمد صلى الله عليه وسلم.

أجرى الله على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معجزات باهرات وآيات عظيمات وقد تعددت وتنوعت حتى فاقت الألف معجزة وقد تكلم عنها أهل التفسير والحديث والسير.

أعظم آيات نبينا.

أعظم آياته بل أعظم آيات جميع الأنبياء هو القرآن الكريم والكتاب المبين آية باقية ومعجزة خالدة لا تتغير ولا تتبدل (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ){ فصلت، الآيتان: 41-42}.

وقد تحدى الله به أرباب البيان والفصاحة وأساطين البلاغة وقد بلغوا الذروة في ذلك فجاء هذا الكتاب العظيم وتحداهم رسولنا أن يأتوا بمثله بل بسورة بل آية فعجزوا وأذعنوا وسلموا للتحدي لكن المكابرة والغطرسة جعلتهم يتأخرون في الانقياد لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ){ البقرة، الآيتان: 23-24}.

معجزة لا كالمعجزات.

شاء الله أن تكون معجزة خاتم الأنبياء نمطاً فريداً مخالفاً لمعجزات الرسل فليست شيئاً مؤقتاً فقط بل معجزة خالدة على مرّ العصور والأزمان، معجز في تشريعه في نظمه وسبكه معجز في ألفاظه معجز في دقائقه وخصائصه في تلاوته وترديده لا يتغير ولا يتبدل  لا يخلق على كثرة ترديده إنه المعجزة المفتوحة للأجيال كلها ولذا خضعت العرب وانبهرت من عظمته وبلاغته. وهكذا ضرب الله العرب في أعز ما تملك وهو الفصاحة والبيان فكانت المعجزة من جنس ما تميزوا به فسبحان العليم العظيم.

الإسراء والمعراج.

من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم  الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حيث جمع الله له الأنبياء فصلى بهم إماماً قال تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ){ الإسراء 1}.

ومن هنا عرج به إلى السماوات العلى ورأى من آيات ربه الكبرى رأى جبريل على هيئته التي خلق عليها وصعد به إلى سدرة المنتهى وكلمه الرحمن وقد صور الله ذلك بقوله (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى){ النجم، الآيات:12-18}.

لقد استعظمت قريش هذا الأمر الذي تذهب القوافل وتعود خلال وقت طويل كيف يتسنى لرجل أن يذهب ويرجع في جزء من ليلة واحدة إنه أمر خارق للعادة ولكن ذلك يزول حينما نعلم أن الذي أسرى به هو خالقه  مالك الكون رب السماوات والأرض والله على كل شيء قدير.

انشقاق القمر.

من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم  انشقاق القمر حينما طلب منه المشركون آية على نبوته فانشق القمر شقين وكان وقتها بدراً وقد رأوا حراء بين الشقين.

وقد أخبر الله عن هذه الآية بقوله (اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ){ القمر، الآيتان:1-2}.

تكثيره الطعام صلى الله عليه وسلم .

من معجزاته صلى الله عليه وسلم  أنه يكثر الطعام ولو كان قليلاً وقد وقع منه ذلك أكثر من مرة  فمن ذلك قصة طعام أم سليم حينما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم  بالنفر الذين في المسجد كلهم وهم في حدود السبعين أو الثمانين فجعل يدخلهم عشرة عشرة حتى أكلوا وشبعوا ([216]).

ومن ذلك قصة خبز امرأة جابر حينما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم  أهل الخندق وكانوا في حدود الألف فأكلوا حتى شبعوا وما نقص الخبز وذلك ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ([217]).     

نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم 

من معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه أحياناً يكثِّر الماء ولو كان قليلاً وينبع من بين أصابعه ومن ذلك ما ذكره جابر يوم الحديبية  قال: (عطش الناس وكان مع رسول الله ركوة  يتوضأ منها فأقبل عليه الناس وقالوا نريد الشرب والوضوء ولا ماء إلا ما في ركوتك يا رسول الله فوضع يده في الركوة  فأخذ الماء يفور من بين أصابعه كأنه عيون، قال جابر: فشربنا وتوضأنا، قيل لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: كنا خمس عشرة مائة ولو كنا مائة ألف لكفانا)([218]).

حنين الجذع.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع فلما تحول إلى المنبر وبدأ يخطب عليه حنَّ الجذع فأتى رسول الله ومسح عليه وقد سمع للجذع كصوت العشار ([219]).

انقياد الشجر له.

ومن معجزاته أن الشجر ينقاد له ويسلم عليه ويكلمه وكل ذلك بأمر الله جل وعلا وقد سلم عليه الحجر وجاءه العذق ([220]) يمشي وانقادت له شجرتان حتى قضى حاجته ثم رجعتا إلى مكانهما وشكى له البعير ما يلقى من صاحبه ، وكل ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم  ([221]).

 

دعوة الرسل.

جاء الرسل بمنهج كامل متكامل لإصلاح البشرية في كل شؤون الحياة وهذا الدين الذي جاء به الرسل منزل من عند الله فلا بد أن يكون في غاية الكمال وهو خال من النقائص والعيوب يتفق تماماً مع فطرة الإنسان وسنن الكون وقد أشار كتاب ربنا إلى ذلك قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً){النساء 82}.

والقرآن الكريم يهدي للطريق الأقوم قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) {الإسراء 9}. والله -جل وعلا- من لطفه ورحمته ألا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة عن طريق الرسل (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ){ الإسراء 15}.

وقد جاء هذا الدين الكامل الشامل موافقاً للفطرة والعقل، سئل أعرابي بم عرفت أن محمداً رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل ليته ينهى عنه ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به ([222]).

ولذا جاءت معجزته خالدة على مر العصور وتعاقب الأجيال كتاب عزيز فيه من الأسرار والعلوم الشيء الكثير وصدق الله العظيم (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ){ العنكبوت 48}.

 

تفاضل الأنبياء.

أولاً : الأنبياء أفضل من غيرهم من سائر البشر وقد فاضل الله بين الخلق قال تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ){ القصص 68} .

وقد أجمعت الأمة على تفضيل الأنبياء على غيرهم من الصديقين والصالحين والشهداء (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ){ الحج 75} .

وقال تعالى (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ* وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ){ الأنعام، الآيات: 83-86}. وقد خالف في هذه المسألة العظيمة الشيعة فقالوا: إن أئمتهم لهم منزلة أعظم من منزلة الأنبياء.

وهذا القول ساقط مردود بنصوص الكتاب والسنة  وهو يدل على بطلان مذهبهم.

وقد صرح بذلك زعيم ثورتهم في هذا العصر الخميني حيث يقول في كتابه (الحكومة الإسلامية صـ52): «إن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبيّ مرسل».

ثانياً : الأنبياء يتفاضلون فيما بينهم وقد أخبرنا ربنا سبحانه أنه فضل بعض النبيين على بعض قال تعالى (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً){ الإسراء55}.

وقد أجمعت الأمة أن الرسل أفضل من الأنبياء والرسل كذلك يتفاضلون فيما بينهم قال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ){ البقرة 253}.

وأولو العزم من الرسل هم أفضلهم، وأولو العزم هم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ){ الأحقاف 35}. وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ…){الشورى13}، قال تعالى:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) {الأحزاب7} .

وهنا سؤال مفاده:

بم يتفاضل الأنبياء والرسل؟ وجواباً عليه نقول: الذي يتأمل الآيات السابقة التي تشير إلى تفاضل الأنبياء والرسل يلاحظ أن الله فضل بعضهم بإعطائه خيراً لم يعطه غيره أو رفع درجته فوق درجة غيره أو باجتهاد النبي في العبادة أو الدعوة.

فداود –عليه الصلاة والسلام- فضله بإعطائه الزبور (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً){الإسراء55} وأعطى موسى التوراة (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ){البقرة53} وأعطى عيسى الإنجيل (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ){المائدة46} وقد اختص آدم بأنه أبو البشر خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له.

وفضل نوحاً بأنه أول الرسل إلى أهل الأرض وسماه الله عبداً شكوراً. وفضل إبراهيم باتخاذه خليلاً (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً){النساء 125}، وجعله للناس إماماً (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ){ البقرة 124} .

وفضل الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء بفضائل كثيرة منها الإسراء به وإمامته للأنبياء والشفاعة العظمى لأهل الموقف.

وقد أرسل للناس كافة إنسهم وجنهم عربهم وعجمهم من كان في زمنه ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة .

وأنه خاتم الأنبياء لا نبي بعده قال صلى الله عليه وسلم(فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)([223]) .

       

المبحث السادس

الإيمان بالملائكة

* كيف الإيمان بالملائكة

* المهمات التي أوكلت إلى الملائكة

* أعداد الملائكة وعظم خلقهم

* أثر الإيمان بالملائكة في حياة الإنسان

 

المبحث السادس

الإيمان بالملائكة

الملائكة: جمع ملأك مأخوذ من الألوكة، وهي الرسالة قال تعالى:(جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) { فاطر 1} .

فالملائكة عالم غيبي خلقهم الله من نور وجعلهم طائعين متذللين له  ولكل منهم وظائف خصه الله بها، والإيمان بهم والتصديق بوجودهم جزء من عقيدة المؤمن وهو ركن من أركان الإيمان لا يصح إيمان العبد إلا به، وقد خلقهم الله وجبلهم على الطاعة والعبادة وعدم المعصية قال تعالى:(لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ){التحريم 6}  .

وقال تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ){الأنبياء، الآيتان: 19-20}.

وقال تعالى:(بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ){الأنبياء، الآيتان 26-27}. وأهل السنة والجماعة يقررون وجوب الإيمان بهم وبوظائفهم حسبما جاءت به النصوص الصحيحة وأنهم ليسوا بنات الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً كما زعم ذلك المشركون وكذبهم الله في كتابه (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ){الزخرف19}.

كيف الإيمان بالملائكة؟

نؤمن بأنهم عالم غيبي لا يشاهدون وقد يشاهدون إنما الأصل أنهم عالم الغيبي مخلوقون من نور مكلفون بما كلفهم الله به من العبادات وهم خاضعون لله عز وجل أتم الخضوع ونؤمن بأسماء من علمنا بأسمائهم، ونؤمن  بوظائف من علمنا بوظائفهم، فجبريل موكل بالوحي وإسرافيل موكل بنفخ الصور وميكائيل موكل بالقطر والنبات.

ونؤمن بأنهم أجساد قال تعالى (جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) { فاطر1}. وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم  جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق خلافاً لمن زعم أنهم أرواح دون أجساد.

وقد يسأل سائل: هل لهم عقول؟ فنقول له هل لك عقل إذاً لماذا ليس لهم عقول وقد أثنى الله عليهم ثناء عظيماً أيثني عليهم وليس لهم عقول، وهذا السؤال من السفه والحمق بل من الجنون لأنه طعن فيهم وبأدائهم لمهماتهم التي أناط الله بهم.

وقد استدل أهل السنة على وجوب الإيمان بهم بما يأتي :

قال تعالى:(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ){البقرة 177}. وقال تعالى:(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ){البقرة 285}. وقال تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً){النساء 136}.

ومن السنة حديث عمر بن الخطاب حينما جاء جبريل يعلم الناس دينهم فقال (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)([224]).

المهمات التي أوكلت إلى الملائكة.

أوضحت النصوص الكثيرة أن الله كلف الملائكة بمهمات عظيمة يقومون بها وهي كثيرة ومتنوعة وقد أثنى الله عليهم لقيامهم بها على أتم وجه وأكمله، ومن هذه الوظائف:

1-التعظيم لله عز وجل بالتنزيه والتسبيح، وهذه هي وظيفتهم الرئيسية ولذا قدمها الله في الذكر على الإيمان فقال: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ){غافر 7}، وهذا التسبيح يصدر منهم في كل وقت وبصفة دائمة وبطريقة تلقائية ومن غير ملل أو سآمة قال تعالى:(وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) {الأنبياء، الآيتان:19-20} وقال تعالى (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ){فصلت38}.

2-إبلاغ الأنبياء والرسل بالرسالات السماوية، فهم حملة الوحي الذي ينزله الله على من وقع عليه الاختيار من البشر ليكون نبياً أو رسولاً، وهذا العمل من أعظم أنواع التكريم للملائكة لأن أمانة إبلاغ الوحي من المهام العظيمة التي تتطلب قدراً كبيراً من الأمانة والمسئولية ولذا وصف الله جبريل بالروح الأمين قال تعالى (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ){الشعراء، الآيات:192-195}.

3-تدوين أعمال المكلفين، فقد وكل الله بكل إنسان اثنين من الملائكة أحدهما يسجل الحسنات والآخر يسجل السيئات قال تعالى (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) {ق18}. وهل يكتبون كل كلام أم أنهم يكتبون ما يترتب عليه الثواب والعقاب؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم.

4-قبض أرواح البشر، وذلك عند انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم، فقد كتب الله الفناء على جميع الخلائق دون استثناء (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) {الرحمن، الآيتان: 26-27} وقد وكل الله بهذه المهمة العظيمة ملك الموت (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) {السجدة11} .

5-البحث عن مجالس الذكر وحفّ الجالسين فيها، جاء في صحيح مسلم وغيره (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)([225]). وجاء في الحديث الذي يرويه البخاري (إن لله ملائكة سيارة فضلاء يتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا)([226]) الحديث.

6-تهنئة المؤمنين بدخول الجنة، وذلك بدخول الملائكة على أهل الجنة من كل باب واستقبالهم وإلقاء السلام عليهم وتهنئتهم بهذا الفوز العظيم، قال تعالى:(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ){ الرعد، الآيتان:23-24}.

7-القيام بتعذيب أهل النار، فهم خزنة جهنم والقائمون بتعذيب أهلها وهم في غاية الغلظة والشدة والقسوة قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) {التحريم 6}.

وقد أجمل ابن القيم – رحمه الله – أعمالهم فقال:

«منهم أولياء الإنسان وأنصاره وحفظته ومعلموه وناصحوه والداعون له والمستغفرون له وهم الذي يصلون عليه ما دام في طاعة ربه ويصلون عليه ما دام يعلم الناس الخير ويبشرونه بكرامة الله تعالى في منامه وعند موته ويوم بعثه وهم الذين يزهدونه في الدنيا ويرغبونه في الآخرة وهم الذين يذكرونه إذا نسي وينشطونه إذا كسل ويثبتونه إذا جزع وهم الذين يسعون في مصالح دينه ودنياه وآخرته…» ([227]).

أعداد الملائكة وعظم خلقهم.

لا يعلم عددهم إلا الله (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ){المدثر31}. وجاءت أوصاف خلقهم في السنة على هيئة عظيمة جداً فبعضهم له ستمائة جناح وبعضهم رجلاه في الأرض وعلى قرنه العرش وبعضهم ما بين شحمة أذنيه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام وهذا كله بقدرة الخالق العظيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فلا إله إلا الله يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد.

خلق الملائكة كان قبل خلق البشر.

جاءت النصوص تفيد أن الملائكة مخلوقون قبل البشر، ذلك أن الله خاطبهم بأمر آدم قبل خلقه وهم مخلوقون موجودون، وجَّه الله لهم الخطاب بقوله (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ){البقرة30} وهذا الخليفة هو آدم عليه الصلاة والسلام.

الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة.

لا يجوز أن نصف الملائكة بأنهم ذكور أو أنهم إناث ومن سماهم إناثاً فقد افترى على الله وقد شنع الله على المشركين الذين سموهم إناثاً في قرآن يتلى إلى يوم القيامة (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) {الزخرف 19}، أي ما شهدوا خلقهم وما عرفوا حقيقتهم فحكمهم عليهم بأنهم إناث محض افتراء وكذب وسيعاقبون على هذا الاختلاق وهذا البهتان.

الملائكة أشداء أقوياء.

أعطى الله الملائكة من الخصائص ما لا يعلمه البشر فهم أقوياء أشداء موصوفون بالغلظة والشدة لكن لا نعلم حدودها ولا مقاييسها إلا ما جاء وصفهم به في القرآن والسنة (مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) { التحريم 6}.

الملائكة مسخرون للعبادة.

الملائكة معصومون عن المعاصي قائمون بطاعة الله ملازمون لعبادته لا يعصون الله تعالى ولا يخالفون له أمراً (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ){الأنبياء، الآيتان:19-20}.

الملائكة يكونون معنا ولا نراهم.

أعطى الله البشر حاسة البصر لكنها لا تدرك إلا ما أقدرهم الله عليه وحقيقة الملائكة خارجة عن هذه القدرة البشرية فلا يستطيع البشر رؤية الملائكة.

روت عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام فقلت وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا أرى أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم )([228]).

الملائكة قادرون على التشكل بأشكال البشر.

هذا الأمر ليس مستحيلاً والله جل وعلا قادر على كل شيء وهو الذي وهبهم هذه الخاصية، قال الله في حق مريم وجبريل (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً) {مريم، الآيات: 16-19} والروح هنا جبريل عليه السلام .

صفات جبريل عليه السلام.

وصف الله جبريل بأوصاف عظيمة قال تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) {التكوير، الآيات: 19-20} فوصفه في هذه الآية بعدة صفات:

الأولى: القوة (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ )

الثانية: المكانة ( مَكِينٍ )  أي ذو مكانة عند الله لا يصل أحد غيره.

الثالث: الطاعة ( مُطَاعٍ )  أي تطيعه الملائكة بأمر الله تعالى

الرابع: الأمانة ( أَمِينٍ )  أي على الوحي لا يزيد في القول أو ينقص فيه وإنما يبلغه كما أوحاه الله إليه.

رؤية محمد صلى الله عليه وسلم  لجبريل.

قال تعالى:(وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ){التكوير23} أي رأى محمد جبريل وذلك في موقفين:

الأول: في بطحاء مكة رفع رأسه فرآه في عنان السماء له ستمائة جناح كل جناح منها سد الأفق ([229]) .

الثاني:(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى){النجم، الآيتان:13-14} ليلة المعراج رآه على خلقته التي خلقه الله عليها في السماوات.

أوجه الاختلاف بين عمل الملائكة وعمل الشياطين

أولاً: الملائكة يسبحون بحمد ربهم ويتفقدون لمن في الأرض ويدلونهم على الخير فهم أنصح الخلق لبني آدم عكس الشياطين أغش الخلق لبني آدم فهم سبب ضلالهم وإغوائهم وبعدهم عن الله قال تعالى:(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ){الأعراف 27}.

ثانياً: الملائكة تأمر العباد بالخير والشياطين يحثونهم على الشر (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ){الزخرف36}.

ثالثاً: ذكر الله يطرد الشياطين ويقرب الملائكة فكل مجلس ذكر  فالملائكة تحفه وتغشاه والشياطين أبعد الخلق عنه.

رابعاً: الملائكة لا تدخل البيوت التي فيها لهو أو تصاوير أما الشياطين فتعشعش فيها.

أثر الإيمان بالملائكة في حياة الإنسان.

الإيمان بالملائكة له أثر عظيم في حياة الإنسان فإذا شعر الإنسان بمراقبة الملائكة له وتقييدهم أعماله فإنه يتحفظ لئلا يُسجَّل في صحيفته أعمال يندم عليها يوم القيامة.

فثمرة الإيمان بالملائكة أن الإنسان يحصن نفسه من الأقوال والأعمال السيئة التي تسجل عليه لاسيما  أنه لا يرى الذين يكتبونها وهذا دافع قوي في عدم الوقوع فيما حرم الله تعالى.

قال شارح الطحاوية: «وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وأنها موكلة بأصناف المخلوقات وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة ووكل بالسحب والمطر ملائكة ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته ووكل بالموت ملائكة ووكل بالسؤال في القبر ملائكة ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها ووكل بالشمس والقمر ملائكة ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل آلآتها ملائكة فالملائكة أعظم جنود الله ومنهم المرسلات عرفاً والناشرات نشراً والفارقات فرقاً والملقيات ذكراً ومنهم النازعات غرقاً والناشطات نشطاً والسابحات سبحاً فالسابقات سبقاً ومنهم الصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً. ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب وملائكة قد وكلوا بحمل العرش وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى» ([230]).

 

المبحث السابع

الإيمان بالكتب المنزلة

* القرآن آخر الكتب المنزلة وناسخها

* هل يكفي في القرآن مجرد التصديق؟

* كيفية الإيمان بالكتب المنزلة

* ذكر بعض الأمور المتعلقة بالإيمان بالكتب

 

المبحث السابع

الإيمان بالكتب المنزلة

هي الكتب التي أنزلها الله على رسله وحياً عن طريق جبريل عليه السلام متضمنة أوامر الله ونواهيه وشرائعه وأحكام دينه وهي كثيرة نزلت في أماكن متعددة وبلغات مختلفة يقول الله جل وعلا(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ){إبراهيم 4}.

وقد حوت هذه الكتب شرائع الأمم التي توافق أحوالهم وأزمنتهم قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً){ المائدة48} غير أن جميع هذه الكتب جاءت لإثبات توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ){ النحل36} وقال صلى الله عليه وسلم (الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد) ([231]).

وأهل السنة يقررون وجوب الإيمان بجميع الكتب السماوية التي أنزلت على الرسل سواء ما ذكر في القرآن أو لم يذكر وأنها كلام الله سبحانه باعتبار ذلك ركناً من أركان الإيمان لا يتم إيمان العبد إلا به وقد استدلوا على ذلك بما يأتي:

قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ){ البقرة136}.

وقال تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) {البقرة285}. ومن السنة حديث جبريل حينما جاء يعلم الناس أمر دينهم فسأل عن الإيمان فقال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)([232]).

القرآن آخر الكتب المنزلة وناسخها

القرآن كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل عليه السلام والمدون بالمصحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس وقد تكفل الله بحفظه فلا تمتد له الأيدي بالتحريف أو التبديل لأن الله أراد له الخلود والبقاء باعتباره آخر الكتب الذي أنزل على آخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم  قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ){ الحجر9}.

وقد حقق الله وعده  بحفظ كتابه فها نحن اليوم وقد مضى على نزول القرآن أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان وهو بين أيدينا محروس من الزيادة والنقصان رغم كيد الكائدين وحرص الشياطين على العبث به وإطفاء نوره وصدق الله العظيم (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ){ التوبة32}.

والقرآن هو الكتاب الناسخ لما قبله من الكتب السماوية التي نزلت على سائر الأنبياء والمرسلين قال تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ){ المائدة48}.

ولهذا لا يسوغ لكائن من كان أن يخرج عن شرع محمد صلى الله عليه وسلم بل لا بد من العمل بشريعته واتباع أمره ونبذ كل شيء يخالف ذلك. وقد جاءت أوصاف القرآن كثيرة ومنها:

(1) أنه معجز لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو بعشر سور منه أو بسورة واحدة قال تعالى (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً){ الإسراء88}.

(2) أنه حق محض ليس للباطل إليه سبيل قال تعالى (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ){فصلت، الآيتان:41-42}.

(3) أنه مشتمل على الآيات البينات والدلائل القاطعة على جميع قضايا العقيدة والعبادة والسلوك والأخلاق قال تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ){ النحل89}.

قال شارح الطحاوية: «وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين فنؤمن بما سمَّى الله تعالى منها في كتابه من التوراة والإنجيل والزبور ونؤمن بأن لله سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله»([233]).

وقال: «وأما الإيمان بالقرآن فالإقرار به واتباع ما فيه وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله وأنها حق وهدى ونور وبيان وشفاء …» ([234])

هل يكفي في القرآن مجرد التصديق؟

أما مجرد التصديق فلا يكفي في القرآن فلا بد مع التصديق من الأخذ به والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه قال تعالى (المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ){ الأعراف، الآيات:1-3}.

فالقرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يصلنا إلى الله بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم:(أبشروا فإن هذا القرآن بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً)([235])

فالقرآن هو العصمة بعد الله تعالى من الضلال والهلاك لمن تمسك به.

 

كيفية الإيمان بالكتب المنزلة؟

للإيمان بالكتب المنزلة أمور لا بد من توفرها فيمن آمن به، من هذه الأمور:

(1) يجب الإيمان بأن هذه الرسالات أنزلها الله تعالى على أنبيائه ورسله والتصديق بأن هؤلاء الرسل بلغوها للناس على الوجه الأكمل، قال تعالى (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ){ الأحزاب 39}.

(2) يجب الإيمان بالكتب كلها فمن آمن ببعضها وكفر ببعضها فقد كفر بكلها فلا يقبل الله منه إيماناً إلا إذا آمن بجميع الكتب، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً){ النساء 150}.

فالكفر بالرسول هو في الحقيقة كفر بما أنزله الله إليه وقال تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ){ البقرة 136}، وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم) {الشورى15}. وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ){ النساء 136}.

فما أعلمنا الله به تفصيلاً فالكتب التي ذكرها وهي صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى والقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فهذا نؤمن به تفصيلاً كما أخبر الله تعالى. ونؤمن بأن هناك كتباً ووحياً غير ذلك ولم يعلمنا الله سبحانه بها.

(3) ويجب الإيمان بما جاء في الكتب السماوية السابقة وأن الانقياد لها والحكم بها كان واجباً على الأمم التي نزلت إليها الكتب.

(4) ويجب الإيمان بأن هذه الكتب يصدق بعضها بعضاً فالإنجيل مصدق للتوراة كما قال تعالى (وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ){ آل عمران 50}.

(5) ونؤمن أن من أنكر شيئاً مما أنزله فهو كافر قال تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً){ النساء136}.

(6) وللإيمان بهذه الكتب يجب الإيمان بأن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية نزولاً وأنه هو المهيمن على الكتب السابقة، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ){ المائدة 48}.

 

ذكر بعض الأمور المتعلقة بالإيمان بالكتب.

أولاً: مصدرها والغاية من إنزالها.

الكتب السماوية مصدرها واحد كما قال تعالى (الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ){ آل عمران، الآيات:1-4}.

أما هدف هذه الكتب وغايتها فقد أنزلها الله تعالى لتكون حياة للبشر الذين يعيشون على هذه الأرض وذلك بأن تقودهم  إلى ما فيها من تعاليم وتوجيهات وهداية، أنزلت لتكون روحاً ونوراً تحيى نفوسهم وتنيرها وتكشف ظلماتها وظلمات الحياة.

ثانياً: الرسالة العامة والرسالة الخاصة.

الرسالات السماوية السابقة أنزلها الله تعالى لأقوام بأعينهم، أما الرسالة الخاتمة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهي عامة للبشرية كلها قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً){الأعراف 158}. وقال صلى الله عليه وسلم:(.. وكان كل رسول يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )([236]).

ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الرسالة العامة للبشرية كان ولا بد أن تمتاز عن الرسالات السابقة، ولهذا جعلها الله تعالى شريعة كاملة صالحة لجميع البشر في كل مكان وزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولهذا نجد أن عيسى عليه الصلاة والسلام حينما ينزل إلى الأرض في آخر الزمان فإنه لا يحكم إلا بهذه الشريعة ولا يقبل غيرها.

ثالثاً: حفظ الرسالات.

كانت الرسالات السابقة مرهونة بوقت وزمان فإنها لا تخلد ولا تبقى ولم يتكفل الله بحفظها وقد وكل الله حفظها إلى علماء تلك الأمة التي أنزلت إليها، فالتوراة وكل حفظها إلى الربانيين والأحبار قال تعالى (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ){ المائدة 44}.

ولم يطق الربانيون والأحبار حفظ كتابهم وخان بعضهم الأمانة فغيروا وبدلوا وحرفوا قال تعالى (مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.. ){ النساء 46} فالتوراة حصل بها من التحريف ما حصل وبدلوا فيها من التبديل ما لا يخفى على ذي بصيرة بأمرهم والنصارى حرفوا في الإنجيل وبدلوا فيه.

أما هذه الرسالة الخاتمة أعني رسالة محمد صلى الله عليه وسلم  فقد تكفل الله بحفظها ولم يكل بحفظها إلى البشر قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ){ الحجر 9}.

فالذي ينظر إلى هذا العالم شرقه وغربه يرى العدد الهائل الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب بحيث لو شاء ملحد يهودي أو نصراني تغيير حرف منه فإن صبياً صغيراً يستطيع الرد عليه وبيان خطئه وافترائه.

رابعاً: مواضع الاتفاق والاختلاف في الرسالات.

جاءت جميع الرسالات متفقة في أن الدين واحد قال تعالى:(إن الدين عند الله الإسلام) {آل عمران19}.

الإسلام هو اسم الدين المشترك الذي هتف به الأنبياء من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم  فقد قال نوح عليه الصلاة والسلام (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ){ يونس72} وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ){ البقرة131}.

ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب أبناءه قائلاً (فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) {البقرة132}.

وموسى عليه الصلاة والسلام يقول لقومه (يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) {يونس84}.

الحواريون يقولون لعيسى عليه الصلاة والسلام: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ){ آل عمران52}.

فالإسلام هو شعار دعوة الرسل في كتبهم المنزلة من عند الله تعالى وهكذا اتفقت جميع الرسالات فكان الدين الواحد الذي دعت إليه جميع الكتب هو دين الإسلام.

أما الشرائع: فهي مختلفة قال تعالى:(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا…) {المائدة48}.

والشرعة: هي الشريعة والسنة والمنهاج هو الطريق والسبيل.

وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافاً كلياً. فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية كالصلاة والزكاة والحج وأخذ الطعام من حله وغير ذلك، لكن الاختلاف فيها يكون في بعض التفاصيل فأعداد الصلوات وشروطها وأركانها ومقادير الزكاة ومواضع النسك وكذا الصوم فقد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يحل الله أمراً في شريعة لحكمة ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة.

 

نماذج

أسئلة على منهج المستوى الثاني

أسئلة  مبحث الرؤية

(1) من هم الذين يثبتون رؤية المؤمنين لربهم في الجنة؟

(2) اذكر نفاة الرؤية!

(3) مما استدل به نفاة الرؤية قوله تعالى (لن تراني) وجه ذلك وكيف ترد عليه؟

(4) مما استدل به نفاة الرؤية قوله تعالى (لا تدركه الأبصار) وضّح ذلك مع الرد عليه!

(5) اذكر ثلاثة أدلة من القرآن على إمكانية رؤية المؤمنين لربهم في الجنة!

(6) وجه الاستدلال بقوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة) !

(7) اذكر دليلين من السنة على إمكانية الرؤية مع بيان الشاهد وتوجيه الاستشهاد!

(8) قال الطحاوي رحمه الله: «والرؤية حق لأهل الجنة» وضح ذلك!

(9) هل يرى الناس ربهم في المحشر؟ اذكر كلام أهل العلم في ذلك!

(10) هل تمكن رؤية الله في الدنيا مع التعليل؟

(11) هل رأى رسولنا صلى الله عليه وسلم ربه بعينه في الإسراء مع الترجيح وتوجيه ذلك؟

 

أسئلة

مبحث القضاء والقدر

(1) عرّف القضاء والقدر لغة واصطلاحاً!

(2) استدل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر بدليلين من القرآن !

(3) اذكر دليلاً من السنة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر !

(4) وضح الاستدلال من العقل على الإيمان بالقدر !

(5) بين مرتبة الإيمان بالقدر من الدين !

(6) اذكر شيئاً من فوائد الإيمان بالقدر !

(7) اذكر الطوائف التي ضلت في القدر !

(8) وفق الله أهل السنة فكانوا وسطاً في باب القدر وضح ذلك !

(9) ردّ أهل السنة على الفرق التي ضلت في القدر بالكتاب والسنة والعقل أوجز ذلك !

(10) هل يلزم من الإيمان بالقدر أن يكون في فعل الله شر ؟ وضح ذلك !

(11) وضح المقولة «يحب ما لا يريد ويريد ما لا يحبه» !

(12) هل العباد فاعلون ؟ وجه ذلك !

(13) هل للعباد مشيئة مع الاستدلال ؟

(14) هل العباد مخلوقون هم وأفعالهم مع توضيح ذلك ؟

(15) هل يوجه الخطاب إلى الجماد مع الاستدلال والتوجيه؟

(16) قال صاحب الطحاوية «ولذا كان أنفع الدعاء دعاء الفاتحة» وجه ذلك!

(17) كيف تجمع بين قوله تعالى (من عند الله) وقوله (فمن نفسك)؟

(18) هل الإنسان مسير أم مخير مع التوجيه؟

(19) اذكر أقسام التقدير !

(20) وضح مراتب القدر!

(21) من مراتب القدر العلم استدل لها !

(22) استدل على مرتبة الكتابة من مراتب القدر !

(23) المشيئة إحدى مراتب القدر ما دليلها؟

(24) الخلق والإيجاد المرتبة الرابعة من مراتب القدر فما دليلها؟

(25) توسط أهل السنة والجماعة في الاستطاعة للعبد فما هو رأيهم وما الدليل على ذلك ؟

(26) توسط أهل السنة والجماعة في أفعال العباد الاختيارية بين الجبرية والقدرية وضح ذلك !

(27) تضمن القدر أصولاً عظيمة اذكر اثنين منها !

 

أسئلة مبحث

القرآن كلام الله

 

(1) افترق الناس في كلام الله على أقوال، اذكر ثلاثة منها مع بيان الراجح منها!

(2) استدل على كلام الله من القرآن الكريم!

(3) أوجز رأي المعتزلة في ثلاثة أسطر حول كلام الله!

(4) كيف ترد على المعتزلة في مقالتهم في كلام الله؟

(5) قال المعتزلة :«يلزم من كلام الله التشبيه والتجسيم» ناقش هذه المقولة!

(6) هل صفة الكلام لله صفة ذات أو صفة فعل وضح ذلك!

(7) القرآن كلام الله غير مخلوق اشرح هذه العبارة بما لا يزيد عن خمسة أسطر!

(8) وصف الله كتابه بصفات اذكري ثلاثاً منها!

(9) تكلم عن فتنة القول بخلق القرآن بما لا يزيد عن خمسة أسطر!

(10) ثبت الإمام أحمد في فتنة القول بخلق القرآن وضح ذلك !

(11) ما حكم من قال بخلق القرآن؟

(12) استدل على إثبات النداء لله تعالى من القرآن الكريم!

 

فهرس الموضوعات

الموضوع الصفحة
المقدمـــــة  
المبحث الأول : رؤية الله  
أولاً: الكلام على رؤية الله في الدنيا  
المنقول عن الأشعري في هذه المسألة
المنقول عن شيخ الإسلام في هذه المسألة
ثانياً: ذكر الأدلة على نفي رؤية الله تعالى في الدنيا  
أدلة الكتاب:  
الدليل الأول: قوله تعالى ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه … ) الآية.  
وجه الدلالة.  
الدليل الثاني: قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)  الآية.  
وجه الدلالة.   
الدليل الثالث: قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ)  الآية
وجه الدلالة     
الدليل الرابع: قوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)  الآية.
وجه الدلالة.
أدلة السنة:
الدليل الأول : حديث أبي موسى الأشعري (إن الله لا ينام…)
وجه الدلالة من الحديث.
الدليل الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم  (إنكم سترون ربكم …)
وجه الدلالة من الحديث.
الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم  (واعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت)
وجه الدلالة من الحديث.
ثالثاً: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم  لربه سبحانه وتعالى  .  
ذكر الخلاف في المسألة
القول الأول: من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم  رأى ربه.
أدلة القول الأول
الدليل الأول:  حديث (رأيت ربي تبارك وتعالى)
الدليل الثاني: حديث ليلة الإسراء
الدليل الثالث: حديث اختصام الملأ الأعلى.
الدليل الخامس: ما جاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما. 
القول الثاني: من قال بعدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم  لربه سبحانه وتعالى .
الدليل الأول: ما جاء عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها.
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم  (نور أنى أراه)
وجه الدلالة.
رابعاً: ذكر بعض المسائل المتعلقة برؤية النبي صلى الله عليه وسلم  لربه سبحانه وتعالى  .  
المسألة الأولى: إذا ثبتت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم  لربه سبحانه وتعالى بقلبه فهل ثبتت هذه الرؤية لغيره.
المسألة الثانية: إذا ثبتت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم  لربه سبحانه وتعالى في المنام فهل ثبتت هذه الرؤية لغيره.
خامساً: رؤية الله يوم القيامة  
أجناس الناس في رؤية الله تعالى يوم القيامة.
سادساً: رؤية الناس لربهم في المحشر  
ذكر أجناس الناس في رؤيته سبحانه وتعالى  في المحشر
الجنس الأول: المؤمنون
الجنس الثاني: الكفار الخلَّص
اختلاف أهل العلم في شأن الكفار الخلَّص في رؤيتهم لربهم في المحشر:
القول الأول: من قال لا يرونه.
القول الثاني:  أنه يراه من أظهر التوحيد.
القول الثالث: أن الكفار يرونه رؤية عذاب
الجنس الثالث: المنافقون
سابعاً: ذكر الأدلة على ثبوت رؤية أهل الجنة لربهم.  
أولاً: أدلة الكتاب.
الدليل الأول : قول الله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة)
وجه الدلالة من الآية.
الدليل الثاني: قوله تعالى ( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد)
الدليل الثالث: قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)
الدليل الرابع: قوله تعالى (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)
ثانياً: أدلة السنة
الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه  أن ناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟
الدليل الثاني: حديث جابر بن عبد الله البجلي وفيه قوله صلى الله عليه وسلم (إنكم سترون ربكم عياناً)
الدليل الثالث: حديث أبي موسى الأشعري وفيه قوله صلى الله عليه وسلم  (… وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه…)
الدليل الرابع: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه  وفيه قوله صلى الله عليه وسلم  (وليلقين أحدكم يوم يلقاه…)
الدليل الخامس: حديث صهيب وفيه قوله صلى الله عليه وسلم  (… فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم…)
ذكر قول شارح الطحاوية على الأدلة.
ثامناً: أدلة نفاة الرؤية والرد عليهم  
الدليل الأول: قوله تبارك وتعالى (لا تدركه الأبصار…) الآية
وجه الدلالة عندهم
الرد على هذه الشبهة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه …  ) الآية
وجه الدلالة عندهم
الرد على هذا الاستدلال
الدليل الثالث: قولهم إن إثبات الرؤية يستلزم إثبات الجهة.
الجواب على هذا الكلام.
تاسعاً: حكم من أنكر رؤية الله تعالى في الآخرة.
ذكر كلام الإمام الآجري في ذلك.
جواب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله  في ذلك.
المبحث الثاني : الإسلام والإيمان  
 (1) معنى الإسلام
أقسام الناس في مسمى الإسلام
معنى الإيمان
حقائق أساسية لا بد من توفرها حتى يصير الإيمان حقيقياً.
الحقيقة الأولى: الحقيقة القولية
الحقيقة الثانية: الحقيقة القلبية
الحقيقة الثالثة: الحقيقة العملية
(2) تعريف الإيمان في اللغة  
تعريفه في الشرع
شرح التعريف
المراد من قولهم ( قول القلب)
أهمية معرفة القلب.
المراد من قولهم:  ( قول اللسان)
المراد من قولهم: ( عمل القلب)
المراد من قولهم:  ( عمل اللسان)
المراد من قولهم:  ( عمل الجوارح)
(3) مخالفو أهل السنة في مسمى الإيمان  
أولاً: الإمام أبو حنيفة رحمه الله  وأصحابه من فقهاء الكوفة.
ثانياً: المرجئة
ثالثا: الأشاعرة
رابعاً: الخوارج والمعتزلة.
(4) الفرق بين الإسلام والإيمان  
القول الأول: من قال أنهما متغايران
القول الثاني: من قال أنه لا فرق بينهما
الصواب من القولين.
(5) زيادة الإيمان ونقصانه  
ذكر الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه
أولاً: أدلة الكتاب
ثانياً: دلالة السنة على زيادة الإيمان ونقصانه
الدليل الأول: حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).
المراد من الحديث.
ذكر قول الإمام أحمد فيه
الدليل الثاني: حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة …) الحديث.
وجه الدلالة من الحديث
قول العلامة ابن سعدي على الحديث.
الدليل الثالث: حديث (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله …) الحديث.
احتجاج الإمام البخاري بالحديث.
(6) أسباب زيادة الإيمان ونقصانه  
أولاً: تعلم العلم النافع
الوجوه التي يحصل بها تحصيل العلم النافع

أبواب العلم النافع التي يحصل بها زيادة الإيمان:

الباب الأول: قراءة القرآن بتدبر
الباب الثاني: معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته.
الباب الثالث: تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم .
الباب الرابع: تأمل محاسن الدين الإسلامي.
الباب الخامس: قراءة سيرة السلف الصالح.
ثانياً: من أسباب زيادة الإيمان التأمل في آيات الله الكونية.
(7) أسباب نقص الإيمان  
1- الجهل بالله وشرعه
2- الغفلة والإعراض والنسيان
3- فعل المعاصي وارتكاب الذنوب
(8) الاستثناء في الإيمان.  
معنى الاستثناء في الإيمان.
العلاقة بين القول بالاستثناء وزيادة الإيمان ونقصانه.
أقوال الناس في الاستثناء.
(9) شعب الإيمان.  
(10) ما يناقض الإيمان  
أولاً: نواقض الإيمان القولية
ثانياً: نواقض الإيمان الفعلية
ثالثاً: نواقض الإيمان الاعتقادية
(11) أثر المعاصي على الإيمان  
المعاصي بعضها كفر وبعضها ليس بكفر
المعاصي التي ليست بكفر
أولاً: الكبائر  تعريفها
ثانياً: الصغائر  تعريفها.
(12) مكفرات الذنوب  
1. التوبة والاستغفار
2. حصول المصائب
3. دعاء المؤمنين
4. حصول المعروف للميت بعد موته.
5. ما يحصل للميت في قبره.
6. أهوال يوم القيامة وشدائدها.
7. شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم .
8. رحمة الله وعفوه.
(13) حكم الإصرار على المعاصي  
معنى الإصرار
حكم المصر على المعصية عند أهل السنة والجماعة.
قول شيخ الإسلام
(14) الكفر والمكفرات.  
تعريف الكفر
شعب الكفر
أقسام الكفر
الأول: الكفر الأكبر
أنواع الكفر الأكبر:
النوع الأول: كفر التكذيب
النوع الثاني: كفر العناد والاستكبار
النوع الثالث: كفر الإعراض
النوع الرابع: كفر الشك
النوع الخامس: كفر النفاق.
الثاني: الكفر الأصغر
تعريفه.
ذكر بعض النصوص التي تسمي بعض المعاصي كفراً أو شركاً.
الفرق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر.
(15) أصول المكفرات  
أنواع الكفار
النوع الأول: الكفار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام.
النوع الثاني: الكفار الذين ينتسبون إلى دين الإسلام
ما ترجع إليه جميع المكفرات.
(16) آثار الكفر.  
آثار الكفر في الدنيا
آثار الكفر في الآخرة
(17) حكم مرتكب الكبيرة  
اختلاف الناس في ذلك
ما قاله شارح الطحاوية
(18) النفاق.  
تعريفه في اللغة والاصطلاح
أصناف المنافقين
أمثالهم في القرآن
أنواع النفاق:
النوع الأول: النفاق الأكبر
تعريفه
أنواع النفاق الأكبر
النوع الثاني: النفاق الأصغر.
تعريفه
أنواع النفاق الأصغر
خطورة النفاق العملي
خطورة النفاق والمنافقين.
طرق وأهداف المنافقين.
صفات المنافقين.
آثار النفاق.
الفرق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر.
المبحث الثالث : القرآن كلام الله  
أولاً: بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى.
قول الإمام الطحاوي
ما قاله شيخ الإسلام. 
الأوصاف التي وصف بها كتاب الله.
(1) كونه معجزاً.
(2) أنه حق محض.
(3) اشتماله على الآيات البينات.  
ثانياً : فتنة القول بخلق القرآن
متى حصلت وعلى يد من؟
متى قمعت وعلى يد من؟ 
ثالثاً: افتراق الناس عقيدة في القرآن الكريم.
رابعاً: حكم من قال بخلق القرآن.
خامساً : حكم أهل السنة في الواقفة.
سادساً : حكم أهل السنة في اللفظية.
سابعاً : أقوال الناس في صفة الكلام.
ثامناً : نصوص أهل السنة في إثبات صفة الكلام.
نصوص الكتاب
نصوص السنة.
تاسعاً : الرد على شبه المخالفين لأهل السنة من المعتزلة وغيرهم.
(1) الرد على الشبهة الأولى في قوله تعالى (الله خالق كل شيء)
(2) الرد على الشبهة الثانية في قوله تعالى (إن جعلناه قرآناً عربياً)
(3) الرد على الشبهة الثالثة في قوله تعالى (نودي من شاطئ الواد الأيمن)
(4) الرد على قولهم أن الله أضاف إليه الكلام إضافة تشريف.
عاشراً : إثبات النداء بصوت
الآيات التي تدل على ذلك.
المبحث الرابع : القضاء والقدر  
أولاً: التعريف بهما في اللغة.
التعريف بهما في الاصطلاح
القضاء في الاصطلاح
العلاقة بينهما
ثانياً: الأدلة على الإيمان بالقضاء والقدر.
(1) أدلة الكتاب.
(2) أدلة السنة
(3) الإجماع
ثالثاً: حكم الإيمان بالقضاء والقدر ومرتبته.
رابعاً: فوائد وثمرات الإيمان بالقضاء والقدر.
خامساً: مجمل اعتقاد أهل السنة في الإيمان بالقضاء والقدر.
سادساً: مخالفو أهل السنة في القضاء والقدر.
أولاً: الجبرية.
ثانياً: القدرية.
سابعاً: الرد على الطوائف التي ضلت في القضاء والقدر.
(1) دلالة القرآن في الرد على الجبرية.
(2) دلالة السنة في الرد على الجبرية
(3) دلالة العقل في الرد على الجبرية. 
(4) الرد على القدرية.
(5) شبهة القدرية.
ثامناً: مسائل في القدر
المسألة الأولى: لا يلزم من الإيمان بالقدر أن يكون في فعل الله شر.
المسألة الثانية: يحب ما لا يريد ويريد ما لا يحبه.
المسألة الثالثة: العباد فاعلون حقيقة.
المسألة الرابعة: العباد لهم مشيئة.
المسألة الخامسة: العباد مخلوقون هم وأفعالهم.
المسألة السادسة: المقدور منه ما هو مقدور كوني ومنه ما هو مقدور شرعي.
المسألة السابعة: هل الإنسان مسير أم مخير.
المسألة الثامنة: مراتب الإيمان بالقدر. 
المرتبة الأولى: العلم
دلالة القرآن عليها.
دلالة السنة.
المرتبة الثانية: الكتابة.
دلالة القرآن عليها. 
دلالة السنة.
المرتبة الثالثة: المشيئة.
دلالة الكتاب.
دلالة السنة.
المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد.
دلالة القرآن الكريم.
دلالة السنة المطهرة.
المسألة التاسعة: أقسام التقدير.
(1) التقدير العام.
معنى التقدير العام
(2) التقدير العمري. 
معنى التقدير العمري. 
(3) التقدير السنوي. 
معنى التقدير السنوي
(4) التقدير اليومي. 
معنى التقدير اليومي. 
المسألة العاشرة: الاستطاعة التي يجب بها الفعل. 
المسألة الحادية عشرة: أفعال العباد خلق الله وكسب العباد. 
المسألة الثانية عشرة: الأخذ بالأسباب لا ينافي القضاء والقدر. 
المسألة الثالثة عشرة: أنفع الدعاء دعاء الفاتحة. 
المسألة الرابعة عشرة: هل يحتج بالقدر على فعل المعصية أو ترك واجب. 
المسألة الخامسة عشرة: الجمع بين قول الله تعالى (كل من عند الله) وقوله تعالى (فمن نفسك)
المسألة السادسة عشرة: كيف يوجه الخطاب للجماد. 
المسألة السابعة عشرة: ما يتضمنه القدر من أصول عظيمة. 
المسألة الثامنة عشرة: المحو والإثبات. 
المبحث الخامس : الإيمان بالرسل  
(1)  تعريف النبي والرسول
قول شيخ الإسلام في الفرق بين النبي والرسول
ما قاله الشنقيطي رحمه الله
الإيمان بالأنبياء والرسل من أصول الإيمان. 
الأنبياء والرسل جم غفير. 
الأنبياء والرسل المذكورون في القرآن
أشخاص صالحون مشكوك في نبوتهم. 
ذو القرنين. 
تبع. 
الخضر. 
الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل. 
لا تثبت النبوة لأحد إلا بدليل. 
حاجة البشرية إلى الرسل. 
وظائف الرسل: 
(1) البلاغ المبين. 
(2) الدعوة إلى الله. 
(3) التبشير والإنذار. 
(4) إصلاح النفوس وتزكيتها. 
صفات الرسل: 
(1) البشرية. 
لِمَ لم يكن الرسل ملائكة؟
أقوال أهل العلم في اختيارهم من البشر. 
(2) تعرض الأنبياء للنسيان. 
(3) اشتغال الأنبياء بأعمال البشر. 
(4) ليس فيهم من خصائص الألوهية والملائكة. 
الكمال البشري. 
الحكمة من اختيار الملائكة رجالاً
أمور تفرد بها الأنبياء عن البشر: 
(1) الوحي. 
(2) العصمة. 
(3) الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. 
(4) تخيير الأنبياء عند الموت. 
(5) لا يقبر نبي إلا حيث يموت. 
دلائل النبوة: 
(1)  الآيات والمعجزات التي يجريها الله تصديقاً لرسله. 
أمثلة لآيات الرسل: 
آيات نبي الله صالح. 
معجزة إبراهيم عليه الصلاة والسلام
آيات نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام
معجزة عيسى عليه الصلاة والسلام
آيات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  : 
أعظم آيات نبينا
معجزة لا كالمعجزات. 
الإسراء والمعراج. 
انشقاق القمر. 
تكثيره للطعام 
نبع الماء من بين أصابعه. 
حنين الجذع
انقياد الشجر له. 
دعوة الرسل
تفاضل الأنبياء
أولا: الأنبياء أفضل من غيرهم. 
ثانيا: الأنبياء يتفاضلون فيما بينهم. 
المبحث السادس : الإيمان بالملائكة  
التعريف بالملائكة. 
وجوب الإيمان بالملائكة. 
كيف الإيمان بالملائكة. 
المهمات التي أوكلت إلى الملائكة. 
(1) تعظيم الله تعالى وتنزيهه. 
(2) إبلاغ الأنبياء والرسل بالرسالات السماوية. 
(3) تدوين أعمال المكلفين. 
(4) قبض أرواح البشر. 
(5) البحث عن مجالس الذكر. 
(6) تهنئة المؤمنين بدخول الجنة. 
(7) القيام بتعذيب أهل النار. 
أعداد الملائكة وعظم خلقهم. 
خلق الملائكة كان قبل خلق البشر. 
الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة. 
الملائكة أشداء أقوياء. 
الملائكة مسخرون للعبادة
الملائكة يكونون معنا ولا نراهم. 
الملائكة قادرون على التشكل بأشكال البشر. 
صفات جبريل عليه السلام  . 
رؤية محمد صلى الله عليه وسلم  لجبريل عليه السلام  . 
أوجه الاختلاف بين الملائكة وعمل الشياطين. 
أثر الإيمان بالملائكة في حياة الإنسان. 
المبحث السابع : الإيمان بالكتب  
التعريف بالكتب
وجوب الإيمان بالكتب. 
القرآن آخر الكتب المنزلة. 
هل يكفي في القرآن مجرد التصديق. 
كيفية الإيمان بالكتب المنزلة. 
ذكر بعض الأمور المتعلقة بالإيمان بالكتب. 
أولاً: مصدرها والغاية من إنزالها. 
ثانيا: الرسالة العامة والرسالة الخاصة. 
ثالثاً: حفظ الرسالات. 
رابعاً: مواضع الاتفاق والاختلاف في الرسالات. 
نماذج الأسئلة  
فهرس الموضوعات   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) سورة الذاريات، الآية:56، 57

([2]) سورة النحل، الآية:36

([3]) رواه البخاري (1/70)، مسلم برقم (22)

([4]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم (93) باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.

([5]) سورة النحل، الآية:97

([6]) سورة الزمر، الآية:65

([7]) سورة المائدة، الآية: 72

([8]) انظر في ذلك الملل والنحل للشهرستاني (1/105)

([9]) الطحاوية  (1/224)

([10]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (6/512)

([11]) مجموع الرسائل والمسائل لابن تيمية (1/100،99)

([12]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/244)

([13]) تفسير الكريم الرحمن (2/447)

([14]) انظر تفسير هذه الآية في تفسير أحكام القرآن للقرطبي (16/35)

([15]) صحيح مسلم (179) كتاب الإيمان – باب قوله صلى الله عليه وسلم {إن الله لا ينام}.

([16])  صحيح البخاري (4/200)  

([17])  سبق تخريجه ص 17 .

([18]) أخرجه مسلم –كتاب الفتن وأشراط الساعة- برقم (2245)

([19]) رواه أحمد في مسنده (1/285)، ومجمع الزوائد للهيثمي (1/78).

([20]) سنن الترمذي (5/70) وحسنه الترمذي

([21]) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه (5/45) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2581) 

([22])   الغنية في مسألة الرؤية لابن حجر العسقلاني صـ42 

([23])  المرجع السابق.   

([24]) المرجع السابق صـ76 بتحقيق الدكتور محمد عبد المحسن التركي

([25]) المرجع السابق.

([26])  المرجع السابق.  

([27]) سبق تخريجه ص 20 .

([28]) شرح مسلم للنووي (2/5)

([29]) مسلم – شرح النووي (3/5)

([30]) صحيح مسلم (1/159)

([31]) صحيح مسلم (1/161)

([32]) صحيح مسلم (1/12)

([33]) صحيح مسلم (1/6)

([34]) كتاب التوحيد لابن خزيمة ص 208

([35]) المصدر السابق

([36]) شرح مسلم للنووي (3/6)

([37]) مجموع الفتاوى (6/509)، وانظر أيضاً فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية (2/128)

([38]) الطحاوية (223-224)

([39]) صحيح البخاري (1/20)، ومسلم (1/37)

([40]) سورة النحل، الآية: 60

([41]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (5/249-251)

([42])  مجموع فتاوى شيخ الإسلام (3/390)

([43]) تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/73)

([44]) شرح العقيدة الطحاوية – لابن أبي العز الحنفي (1/207)

([45]) انظر في ذلك الواسطية وشرحها لشيخنا محمد  الصالح العثيمين رحمه الله (2/101-103)

([46]) انظر كلام الشيخ ابن تيمية رحمه الله ورسالته إلى أهل البحرين  في رؤية الكفار لربهم، مجموع الفتاوى (6/485-506)

([47]) شرح الواسطية لابن عثيمين (2/103)

([48]) المرجع السابق (1/103)

([49]) انظر في ذلك شرح الطحاوية – لابن أبي العز الحنفي (1/108)

([50]) تفسير الطبري (29/129-193)

([51]) تفسير ابن كثير (8/304)

([52]) شرح الطحاوية (1/210)

([53]) شرح الطحاوية (1/210)

([54]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان – باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (181)

([55]) انظر في ذلك الطحاوية (1/212)

([56]) انظر تفسير ابن كثير (3/485)

([57]) رواه البخاري ح (4737)، مسلم ح (182)

([58]) رواه البخاري ح (7434)

([59])  صحيح مسلم – شرح النووي (3/14-15)

([60]) أخرجه البخاري برقم (1413) (3595)، ومسلم برقم (1016)

([61]) سبق تخريجه ص 37 .

([62]) شرح الطحاوية –لابن العز الحنفي (1/218)

([63]) شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (232)

([64]) انظر حادي الأرواح لابن القيم (ص201)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (1/214-215)

([65]) شرح الواسطية – للشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله (1/457)

([66]) تفسير الرازي (14/233)، والكشاف للزمخشري (3/115)

([67]) تفسير القرطبي (7/279)

([68]) التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة ص (35-36)

([69]) سبق تخريجه ص 18 .

([70]) الحديث أخرجه البخاري (1120)، مسلم (769)

([71]) انظر شرح الطحاوية (2/489)

([72]) الإيمان الأوسط لابن تيمية ص73 ، وشرح الواسطية (2/230)

([73]) انظر في ذلك معارج القبول (1/307)

([74]) كتاب الإيمان لابن تيمية (ص 376، 377)

([75])  الإيمان (ص 176)

([76]) الإيمان الأوسط للشيخ الإسلام ابن تيمية (ص79)

([77]) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (8202)

([78])  الإيمان الأوسط صـ 70- 71

([79]) عمدة القاري (1/110)

([80]) شرح الواسطية لشيخنا رحمه الله (2/231)

([81]) الإيمان لابن تيمية (ص176)

([82]) الإيمان لابن تيمية (ص197)

([83]) الطحاوية (2/459)

([84]) المسامرة: للكمال ابن أبي شريف الشافعي على المسايرة للكمال أبي الهمام الحنفي (ص786)

([85])  رواه البخاري برقم (2475) (5578)، ومسلم (57)    

([86]) كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص282)

([87]) قطعة من حديث أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769)

([88])  أخرجه البخاري (27)، (1478)، ومسلم (150)

([89]) رواه البخاري انظره في الفتح (5/119) (10/30)، ومسلم شرح النووي (2/41)

([90])  رواه الخلال في السنة برقم (1045) وابن هانئ في مسائله (2/164)

([91])  رواه الخلال (1035)، وابن بطة في الإنابة (1045)

([92])  أخرجه البخاري انظر فتح الباري (1/51)، ومسلم شرح النووي (2/6)

([93])  السنن (5/10)

([94])  الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان (1/194)

([95]) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان (ص14)

([96]) أخرجه البخاري، انظر في الفتح (1/103)، ومسلم في شرح النووي (2/59)

([97]) رواه البخاري (فتح الباري 1/164)، ومسلم (2/1524)

([98]) رواه الترمذي (5/50) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2/343)

([99]) مفتاح دار السعادة صـ 204

([100])  التوضيح والبيان صـ31

([101]) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (2/495) 

([102]) مجموع الفتاوى (7/438-439)

([103]) الفتاوى (7/666)

([104]) سبق تخريجه ص 63 .

([105]) الإيمان لابن تيمية (ص39)

([106]) رواه مسلم برقم (233) 

([107]) رواه البخاري (فتح الباري 10/338)، ومسلم برقم (2556)  

([108]) الإيمان لمحمد نعيم ياسين (ص123)

([109])  سبق تخريجه   

([110]) انظر في ذلك كتاب الإيمان الأوسط لشيخ الإسلام (ص34،33،32)

([111])  أخرجه البخاري برقم (5640)، ومسلم (2572)        

([112])  رواه البخاري برقم (28)      

([113]) جامع العلوم والحكم صـ 152

([114])  رواه مسلم برقم (948)

([115]) انظر في ذلك كتاب الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة لابن حجر العسقلاني، وكتاب كفارات الخطايا وموجبات المغفرة لكل من حامد إبراهيم أحمد ومحمد حسين العقبي

([116] )  الإيمان الأوسط (ص 36)

([117])  الصارم المسلول (521، 522)

([118]) مدارج السالكين (1/337)، وانظر كذلك معارج القبول (2/22)

([119]) معارج القبول (2/22)

([120]) مدارج السالكين (1/338)

([121]) مدارج السالكين (1/338)

([122]) معارج القبول (2/22)

([123])  معارج القبول (2/420)

([124])  رواه البخاري برقم (48) (6044)، ومسلم برقم (64)

([125])  رواه أحمد (2/69، 87) وأبو داود (3251) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2787)

([126]) رواه مسلم برقم (101)، (102)

([127]) سبق تخريجه ص 58 .

([128]) الطحاوية (2/442).

([129]) الإيمان ص (284-285)

([130]) الرياض الناضرة (5/529) مجموع مؤلفات ابن سعدي رحمه الله 

([131]) تفسير ابن كثير (1/53)

([132]) تفسير ابن كثير (1/53-56)

([133]) انظر تفسير ابن كثير (1/52-56)

([134]) رواه البخاري (في الفتح 1/83-84)، ومسلم برقم (59)

([135])رواه البخاري (في الفتح 2/118)، ومسلم برقم (252)

([136]) رواه مسلم برقم (1920)

([137]) نقلاً من كتاب المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للدكتور إبراهيم بن محمد البريكان (ص162-163)

([138]) المصدر السابق ص (162)

([139]) ولزيادة البحث عن النفاق وما يتعلق به يراجع كتاب المنافقون في القرآن الكريم- للدكتور عبد العزيز بن عبد الله الحميدي ورسالة صفة النفاق وذم المنافقين- لأبي بكر الغرنابي .

([140])  شرح الطحاوي لابن أبي العز الحنفي (1/175)

([141])  انظر الواسطية وشرحها لشيخنا محمد الصالح العثيمين رحمه الله (2/93-100)

([142]) رواه مسلم (1/99) – السلسلة الصحيحة برقم (157)

([143])  عقيدة أهل السنة والجماعة لسعيد بن مسفر القحطاني (ص281-282)

([144])  ولمعرفة هذه الفتنة وأقسام الناس فيها انظر في ذلك منهاج السنة لشيخ الإسلام (1/21) (2/78)، والصواعق المرسلة (2/286)، وشرح الطحاوية (1/195-204).

([145])  شرح أصول اعتقاد أهل السنة للا لكائي (2/345-351)

([146]) معارج القبول (1/243)

([147]) المرجع السايق (1/254)

([148]) رواه البخاري برقم (6539)، ومسلم برقم (1016)

([149]) رواه البخاري برقم (6530)، ومسلم برقم (222)

([150]) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (1/181-183)

([151]) لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/348)

([152]) شرح الواسطية للشيخ محمد بن صالح العثيمين (2/188)

([153]) القضاء والقدر للشيخ عمر بن سليمان الأشقر ص 27

([154]) فتح الباري (11/486)

([155]) القضاء والقدر للأشقر ص 27 .

([156])  شرح الواسطية لشيخنا محمد الصالح العثيمين رحمه الله (2/188)

([157])  رواه مسلم في كتاب الإيمان (1/38)

([158])  رواه البخاري – فتح الباري (8/153)

([159])  رواه البخاري – فتح الباري (10/437)، ومسلم برقم (1640)

([160]) رواه مسلم برقم (2664)

([161]) رواه الترمذي برقم (2516) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2043)

([162]) رواه مسلم في القدر برقم (16) وفتح الباري (11/489)

([163]) شرح صحيح مسلم للنووي (1/155).

([164]) سبق تخريجه ص 145 .

([165]) تفسير ابن كثير (4/375)

([166])  مجموع فتاوى شيخ الإسلام (8/449-450)

([167])  مجموع الفتاوى (8/459)

([168])  الجبر لغة الإلزام، والجبرية من فرق الضلال كما سنذكره وهم من أتباع الجهم بن صفوان سموا بهذا الاسم لأنهم قالوا نحن مجبورون على أفعالنا.

([169])  انظر في التعريف بهم مقالات أبي الحسن الأشعري (2/221) وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ص299) والمعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها للدكتور عواد المعتق (ص151-159).

([170]) رواه مسلم (2648)

([171]) رواه البخاري (4949) ومسلم (2647)

([172]) أخرجه أبو داود (4691) حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (5039)

([173]) شرح الطحاوية (2/641)

([174])  فتاوى شيخ الإسلام (8/409-460)

([175])  انظر تفصيل مراتب الإيمان بالقدر في شفاء العليل (ص 61)، ومعارج  القبول للحكمي (2/328).

([176])  رواه البخاري برقم (1384) ومسلم برقم (2659)

([177])  رواه مسلم في القدر (8/47) برقم (2647)

([178]) سبق تخريجه ص 146 .

([179]) رواه البخاري في كتاب التفسير (6/84) ومسلم في القدر (8/46-47)

([180]) صحيح مسلم (8/51)

([181]) رواه البخاري في خلق أفعال العباد (25)

([182]) رواه أبو داود برقم (4700) في السنة باب في القدر

([183]) أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643)

([184]) معارج القبول (2/293)

([185]) تفسير الطبري (22/213-74)

([186])  انظر تفاصيل هذه التقادير في معارج القبول (2/323-348)

([187])  شرح الطحاوية (2/640)

([188]) رواه مسلم في القدر (8/56)

([189]) مجموع الفتاوى (8/284-285).

([190]) شرح الطحاوية (2/519)

([191]) مجموع الفتاوى (8/179)

([192]) شرح الواسطية لشيخنا محمد الصالح العثيمين (2/223-224)

([193]) سبق تخريجه ص 167 .

([194]) شرح الواسطية (2/198-199)

([195]) رواه البخاري (2/728) ومسلم (4/1982) .

([196]) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام (8/540) .

([197])  مجموع فتاوى شيخ الإسلام (8/540) .

([198]) شرح الطحاوية (1/155)

([199]) النبوات لابن تيمية ص 255

([200]) أضواء البيان للشنقيطي (5/735)

([201]) أخرجه البخاري برقم (335، 438، 3122)، ومسلم برقم (521)

([202]) صحيح الجامع الصغير (5/121)

([203])  زاد المعاد (1/15)

([204])  صحيح الجامع (5/205)

[205] ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (143)

[206] ) ثبت ذلك عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم  كما جاء في مشكاة المصابيح (3/117)

([207])  نقل الإجماع على ذلك أكثر من واحد منهم شيخ الإسلام ابن تيمية (10/291)

([208]) مجموع الفتاوى (4/319)

([209]) رواه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه  ، فتح الباري (6/579)

([210])  صحيح الجامع (3/55)

([211])  رواه البخاري (فتح الباري 8/255)

([212])  صحيح الجامع (5/46)

([213]) رواه أبو داود برقم(1047) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (925)         

([214]) صحيح الجامع (2/414)

([215]) فتح الباري (6/487)

([216]) متفق عليه –المشكاة (3/182)

([217]) المشكاة (3/168)

([218]) متفق عليه – المشكاة (3/170)

([219]) جامع الأصول (12/68)

([220]) العذق : العنقود

([221]) انظر تفاصيل هذه المعجزات في الرسل والرسالات للدكتور عمر بن سليمان الأشقر (صـ 131-153)

([222])  مفتاح دار السعادة (2/6-7)

([223]) رواه مسلم  صحيح الجامع (2/21)

([224]) رواه البخاري برقم (50) ، ومسلم برقم (8)

([225]) رواه مسلم (4/2074) برقم 2699

([226]) رواه مسلم برقم (2699)

([227]) إغاثة اللهفان (2/125)

([228]) رواه البخاري (الفتح 6/305) برقم (3217)

([229]) رواه البخاري انظره في الفتح (8/611)

([230]) الطحاوية (2/4-5)

([231]) رواه مسلم ح (2365)

([232]) رواه البخاري برقم (50)، ومسلم برقم (8)

([233])  شرح الطحاوية:(2/424-425)

([234]) المرجع السابق

([235]) رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/66)

([236]) سبق تخريجه ص 232 .