فيض الرحيم الرحمن في أحكام ومواعظ رمضان (القسم الأول) إلى المجلس السادس عشر

الجمعة 24 جمادى الآخرة 1440هـ 1-3-2019م
تأليف : الدكتور. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
وكيل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف
والدعوة والإرشاد لشؤون المساجد
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله الذي كرم الإنسان بالعلم والحجى، وهدى المؤمنين بنور الكتاب الذي لم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، الذي من تبعه فقد نجى، الذي أنزل إليه القرآن الكريم فأشرق الصبح وزال الدجى، أما بعد: فقد قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الصيام أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، شرعه الله لمصالح كبيرة تنفع المسلمين في الآجل والعاجل خصه بأحكام كثيرة يحتاج المسلم إلى معرفتها والعمل بها ليكون صومه صحيحاً وعمله صائباً وقد بين أهل العلم أحكام الصوم، وفصلوها في مظانها من مؤلفاتهم ودرج بعضهم على تأليف كتاب يقرأ على المسلمين في رمضان يجمع أحكام الصيام وغيرها مما يحتاجه المسلم في شؤون دينه ودنياه وتلك سنة حميدة، لأن الناس يقبلون في هذا الشهر على سماع المواعظ والتأثر بها، فكلما كانت الموعظة شاملة والحكم مبين بدليله كان ذلك أدعى للقبول والانصياع، ومن هذا المنطلق قمت بوضع هذه الدروس، ولسائل أن يسأل أليست الكتب في هذا الشأن كثيرة، فلماذا الكتاب فيها؟ وأقول أن سبب الكتابة فيها أمور ثلاثة:
أولها: طلب مني من طلبه عندي محل القبول والتقدير أن أضع كتاباً في دروس رمضان يجمع بين الحكم بدليله والموعظة السليمة من الشوائب فسارعت لتلبية طلبه وتحقيق رغبته وفاء وتقديراً وعرفاناً بالجميل لأهله.
ثانياً: اطلعت على كثير من الكتب المعنية بهذا الشأن فرأيتها بين كتاب علمي لا يناسب عامة الناس. وكتاب يهتم في الجملة بالوعظ على حساب الأحكام الشرعية، فرأيت أن أضع كتاباً يجمع بين الأحكام الشرعية التي يحتاجها الصائم وغيره وبين الموعظة الهادفة والتوجيه الصادق بأسلوب سهل يناسب عامة الناس.
ثالثها: تم تكليفي بكتابة مؤلف في الصيام على غرار ما صدر ــ حول الزكاة ــ فلما رأيت المادة العلمية متوفرة ناسب أن أصوغ كلمات وعظية لعل الله أن ينفع بها ويجعلها ذخراً لي يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
وقد جعلت الكتاب في فصول ثلاثين, كل فصل منها تناسب قراءته في ليلة من ليالي شهر رمضان ورأيت أن أقسم كل فصل إلى قسمين,
قسم: يشتمل على حكم شرعي بدليله، وقسم يشتمل على موعظة أو توجيه, وقد حليته بما يناسب من الأشعار لأنها تحرك النفوس وتروح عنها.
وأخيراً أيها القارئ الكريم أحملك أمانة النصيحة, فما رأيت فيه من ملاحظات أو هفوات، فابعث بها إلي وأنت صاحب الفضل والمعروف، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، وكم من كتاب لو أعاد النظر فيه مؤلفه لغير وبدل وزاد ونقص، وهذا دليل على النقص المجبول عليه سائر البشر ويأبى الله إلا أنتكون العصمة لكتابه [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] ( ). أسأل الله جل وعلى أن ينفع به كاتبه وقارئه وسامعه ومن اطلع عليه إنه ولي ذالك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه :
أبو محمد عبد الله بن محمد أحمد الطيار
الزلفي مساء يوم الأحد:10-4-1411هـ .

المجلس الأول
ــــــــــــــ

فصل في :
فضل شهر رمضان
.
حكم الصيام.
ــــــــــــــــ

فضل شهر رمضان

الحمد لله اللطيف المنان العظيم السلطان الرءوف الرحمن القوي الديان الكريم على توالي الزمان جل عن شريك وولد وعز عن الاحتياج إلى أحد وتقدس عن نظير وانفرد علم ما يكون وأوجد ما كان أنشأ المخلوقات بحكمته وصنعها وفرق الأشياء بقدرته وجمعها ودحى الأرض على الماء وأوسعها والسماء رفعها ووضع الميزان يسعد ويشقي ويعز ويذل كل يوم هو في شأن أنعم على هذه الأمة بتمام إحسانه وعاد عليها بفضله وامتنانه وجعل شهر رمضان مخصوصاً بعميم غفرانه، شهر أنزل الله فيه القرآن أحمده على ما خصنا به من الصيام والقيام وأشكره على بلوغ الآمال وإسباغ الأنعام وأشهد أن لا إله إلا الله الذي لا تحيط به العقول والأذهان. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل خلقه وبريته المقدم على الأنبياء ببقاء معجزته الذي انشق ليلة ولادته الإيوان صلى الله عليه وسلم.
وعلى أبي بكر رفيقه في الغار، وعلى عمر فاتح الأمصار، وعلى عمر شهيد الدار، وعلى علي راسخ الإيمان، وعلى آله وصحبه كلما تعاقب الحدثان وسلم تسليماً. . . أما بعد، فقد جاء رمضان فأهلاً به وسهلاً، اللهم أهله علينا بالسلامة والإسلام والأمن والإيمان واغفر لنا ذنوبنا وأعتقنا منها يا منان.
أخوة الإيمان:
قد نزل بساحتكم شهر رمضان كريم وموسم عظيم خصه الله بالتشريف والتكريم وأنزل فيه القرآن العظيم وفرض صيامه على جميع المسلمين وسن قيامه الرسول الكريم، شهرُ إجابة الدعوات، ومضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، وإجزال الهبات، وكثرة النفحات، شهرُ تكفير السيئات، والصفح عن الموبقات، وإقامة العثرات، شهرُ فضل الله أوقاته على سائر الأوقات، وخصه بأسمى الصفات
فيا ذوي الهمم العالية. والمطالب السامية اغتنموا الفرصة قبل الفوات، وسارعوا مع الصالحين إلى الخيرات، وتعرضوا في هذا الشهر لعظيم النفحات لعل الله أن يتجاوز عنكم كثير الخطيئات.
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين)( ).
كان المسلمون يستقبلون شهر رمضان بقولهم: (اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر فسلمه لنا وسلمنا له وارزقنا صيامه وقيامه وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط وأعذنا فيه من الفتن وذلك لما يعلمون من فضل رمضان سعة فضل الله عليهم فيه وما ينزله تعالى على عباده من الرحمات ويفيضه عليهم من النفحات ويوسع عليهم من الأرزاق والخيرات ويجنبهم فيه من الزلات حيث يفتح لهم أبواب الجنان ويغلق عنهم أبواب النيران ويصفد فيه مردة الجان فهو للأمة ربيعها وللعبادات موسمها وللخيرات سوقها.
فلا شهر أفضل للمؤمن منه ولا عمل يفضل عما فيه فهو بحق غنيمة المؤمنين.
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة من الأمم قبلها.
خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة.
قيل يا رسول الله: أهي ليلة القدر، قال: لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)( ).
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب
*** حتى عصى ربه في شهر شعبان

لقد أظلك شهر الصوم بعدهما
*** فلا تصيره أيضاً شهر عصيان

واتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً
*** فإنه شهر تسبيح وقرآن

كم كنت تعرف ممن صام في سلف
*** من بين أهل وجيران وإخوان

أفناهم الموت واستبقاك بعدهمو
*** حيًّا فما أقرب القاصي من الداني

إخواني: بلوغ شهر رمضان نعمة كبيرة، فكم من شخص تحت الأجداث يتمنى أن يقول لا إله إلا الله، وكم من عاجز عن الصوم يتمنى الصيام، وكم من عاجز عن القيام تتلهف نفسه للقيام وأنتم تعيشون في صحة تامة وأمن وأمان فاغتنموا أوقاته قبل الندم وضاعفوا العمل من غير سأم لعل الله أن يقبل منكم القليل ويعفو عن الكثير( ).
شعراً:
فحافظ على شهر الصيام فإنه
*** لخامس أركانٍ لدين محمد

تُغَلَّقُ أبواب الجحيم إذا أتى
*** وتفتح أبواب الجنان لمسعد

ويرفع عن أهل القبور عذابهم
*** ويصفد فيه كل شيطان معتد

ويبسط فيه الرزق للخلق كلهم
*** ويسهل فيه فعل كل التعبد

تزخرف جنات النعيم وحورها
*** لأهل الرضا فيه وأهل التهجد

وقد خصه الله الكريم بليلة
*** على ألف شهر فضلت فلترصد

فقم ليله واقطع نهارك صائماً
*** وصن صومه عن كل سوء ومفسد

حكم الصيام
لما تقدم من الفضائل لشهر رمضان كتب الله على المسلمين صومه، ولما كان فطم الأنفس عن شهواتها وحجبها عن مألوفاتها من أصعب الأمور تأخر فرضه إلى السنة الثانية للهجرة ولما توطنت القلوب على التوحيد وتعظيم شعائر الله نقلت إليه بالتدرج فبدئ به على التخيير مع الترغيب في صومه لأنه كان قد شق على الصحابة رضي الله عنهم فكان من أراد أن يفطر ويفتدي فعل، ومن أراد أن يصوم فعل.
وصيام رمضان من أركان الإسلام وأحد مبانيه العظام لا يتم إسلام المرء إلا به، والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
فمن الكتاب:
قوله تعالى:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ومن السنة:
ما رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلاً)( ).
وما رواه طلحة بن عبيد الله أن أعرابياً جاء إلى النبيصلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصيام قال: (شهر رمضان) قال هل علي غيره؟ قال: (لا إلا أن تطوع شيئاً)، قال: فأخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق. .)( ).
وأما الإجماع:
فقد أجمعت الأمة على وجوب صيام رمضان وأن من جحد وجوبه فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل على غير ملة الإسلام، لا يغسل، ولا يكفن ولا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يحفر له حفرة بعيداً عن الناس ويدفن لئلا يؤذي برائحته.
وقد نقل الإجماع الكاساني في بدائع الصنائع، والنووي في المجموع، وابن قدامة في المغني.
وأما المعقول: فمن وجوه. .
أحدهما: أن الصيام وسيلة إلى شكر النعمة إذ هو كف النفس عن الأكل والشرب والجماع وهي من أجل النعم وأعلاها والامتناع عنها زماناً معتبراً يعرف قدرها إذ النعم مجهولة فإذا فقدت عرفت، فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر وشكر النعم فرض شرعاً وعقلاً وإليه أشار الله سبحانه وتعالى في آية الصيام بقوله: [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ].
الثاني: أنه وسيلة إلى التقوى لأنه إذا انقادت نفسه للامتناع عن الحلال طمعاً في مرضاة الله تعالى وخوفاً من أليم عقابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام، فكان الصوم سبباً للارتقاء عن محارم الله وإليه وقعت الإشارة في
آخر آية الصوم: [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ].
الثالث: أن في الصوم قهر الطبع وكسر الشهوة، لأن النفس إذا شبعت تمنت الشهوات وإذا جاعت امتنعت عما تهوى، وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصيام لمن لم يجد الباءة: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ( )( ).
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة ووفقنا للتزود من التقوى قبل النقلة وارزقنا اغتنام الأوقات في ذي المهلة وتجاوز عنا ما افترفنا من الخطأ والزلة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المجلس الثاني
ـــــــــــــــــ

فصل في:
فضل رمضان.
حكم من أفطر في رمضان بغير عذر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فضل الصيام
الحمد لله الذي وفق العاملين لطاعته فوجدوا سعيهم مشكوراً وحقق آمال الآملين برحمته فمنحهم عطاء موفوراً، وبسط بساط كرمه على التائبين فأصبح وزرهم مغفوراً، وأسبل من نعمه على الطالبين وابلا غزيراً.
أحمده أن أفاض على عباده جزيل الإنعام، ووفقهم للصالحات على الدوام.
فلو رأيتهم وقد هجروا لذيذ المنام وأداموا لربهم الصيام وصلوا بالليل والناس نيام يتسابقون كل يسأل حاجته.
واحد يسأل العفو عن زلته، وآخر يسأل التوفيق لطاعته، وثالث يستعيذ به من عقوبته، ورابع يرجو منه جميل مثوبته، وخامس يشكو إليه ما يجد من لوعته، وسادس شغله ذكره عن مسألته، فسبحان الله من وفقهم، وغيرهم محروم أحمده سبحانه، فرض علينا الصيام، وسن لنا رسوله المصطفى القيام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله تفرد بالكمال والدوام وتقدس عن مشابهة جميع الأنام. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صفوة الأنام، وعلى آله وصحبه البرّرة الكرام وعنا معهم بمنك وكرمك ما تعاقبت الدهور والأيام.
أخوة الإيمان:
لقد جاءت آيات بينات محكمات في كتاب الله المجيد تحض على الصوم تقرباً إلى الله عز وجل وتبين فضائله من ذلك قوله تعالى: [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً]( ).
وقوله تعالى: [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في الثابت والسنة أن الصوم حصن من الشهوات وأنه وقاية من النار وأنه سبب لدخول الجنة وأن فيها باباً خاصاً بالصائمين وأن الصيام يشفع لصاحبه وأنه كفارة، وإليك بيان ذلك.
1ـ الصوم جنة:
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من اشتدت عليه شهوة النكاح ولم يستطع الزواج بالصيام وجعله وجاء( ) لهذه الشهوة لأنه يحبس قوى الأعضاء عن الاسترسال في شهواتها ويسكن كل عضو منها وللصوم تأثير عجيب على حفظ الجوارح يعرف ذلك من صامت جوارحه عن المحرمات. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة( ) فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)( ).
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجنة محفوفة بالمكاره وأن النار حفت بالشهوات فإذا تبين لك أيها المسلم أن الصوم يقمع الشهوات ويكسر حدتها وهي التي تقرب من النار فقد حال الصيام بين الصائم والنار لذلك جاءت الأحاديث تبين أنه حصن من النار.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك وجهه عن النار سبعين خريفاً)( ).
2ـ الصوم يدخل الجنة:
إذا كان الصوم يبعد صاحبه من النار فهو إذاً يدنيه من بحبوحة الجنة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا ربه فرح بصومه)( ).
3ـ الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما:
روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال فيشفعان)( ).
4ـ الصيام كفارة:
ومما ينفرد به الصيام من فضائل أن الله جعله لبعض الأعمال التي تصدر من المسلم ومنها حنث اليمين.
يقول تعالى: [لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
5ـ الريان للصائمين:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة باباً يقال
له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل فيه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد. . .)( ) ( ).
شعراً:
قم في ظلال الليل واقصد مهيمناً
*** يداك إليه في الدجى تتوسل

وقل يا عظيم العفو لا تقطع
الرجا *** فأنت المنى يا غايتي والمؤمل

فيا رب فاقبل توبتي بتفضل
*** فما زلت تعفو عن كثير وتمهل

إذا كنت تجفوني وأنت ذخيرتي
*** لمن أشتكي حالي ومن أتوسل

حقيق لمن أخطأ وعاد لما مضى
*** ويبقى على أبوابه يتذلل

ويبكي على جسم ضعيف من البلى
*** لعل يعود السيد المتفضل

قصدت إلهي رحمة وتفضلاً
*** لمن تاب من زلاته يتقبل

الترهيب من الفطر في رمضان بغير عذر:
من ترك صيام رمضان بغير عذر فلا يخلو إما أن يتركه جحوداً والعياذ بالله، وإما أن يتركه كسلاً.
فإن تركه جحوداً بأن جحد وجوبه فقال إن الصيام ليس بواجب في الشرع، فهذا كافر مرتد لأنه أنكر أمراً مجمعاً معلوماً من الدين بالضرورة وركناً من أركان الإسلام. ويترتب على ردته هذه كل ما يترتب المرتد في ماله وزوجته ووجوب قتله لردته وغير ذلك من أمور تغسيله وتكفينه ودفنه في مدافن المسلمين. ولا يستثنى من هذا إلا من كان حديث العهد بالإسلام أو من نشأ بعيداً عن أهل العلم كمن نشأ في البادية، أما إذا ترك الصيام كسلاً فالوعيد الشديد ينتظره. روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي ـ عضدي ـ فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد فقلت: إني لا أطيقه فقالا اصعد فقلت: إني لا أطيقه فقالا سنسهله لك فصعدت حتى إذا كنت في سواد الجبل إذا بأصوات شديدة قلت: ما هذه الأصوات، قالوا: هذا عواء أهل النار ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم دماً قال قلت من هؤلاء قال الذين يفطرون قبل تحلة صومهم. . .)( ).
أيها المسلم المشفق على نفسه من عذاب الله الشديد أرجو أن تنظر إلى الصورة البشعة المفزعة التي سيعذب بها المستهترون الذي يفطرون قبل أن يحل لهم الإفطار فلا يرعون حق الصوم ولا يسمعون لأمر الله لهم فيفطرون قبل حلول وقت الإفطار والأعمال بخواتيمها.
إن هؤلاء سيعلقون من عراقيبهم (مؤخر أقدامهم) يوم القيامة كما تعلق الدابة الذبيحة وستشقق أشداقهم (جوانب أفواههم) ويسيل منها الدم وهم معلقون منكسون على رؤوسهم. يا لهول هذا العذاب وقانا الله منه أترى كيف سيكون إذن حال من أنكر رمضان.
الفطر بدون عذر يعرض صاحبه لغضب الجبار سبحانه وتعالى وعذاب النار فليحذر كل من تسول له نفسه من الفطر بدون سبب لأن المعاصي نتيجتها وخيمة وعاقبتها مخزية.
هذا وقد أوجب أهل العلم على من أفطر متعمداً أن يقضي اليوم الذي أفطره.
يقول الذهبي رحمه الله من المقرر عند المؤمنين أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا عذر أنه شر من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه ويظنون به الزندقة والانحلال وقال في موضع آخر الكبيرة السادسة من أفطر في رمضان من غير عذر( ).
اللهم اجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الفضيل وخصنا فيه بالأجر الوافر والعطاء الجزيل وخفف ظهورنا من الأوزار والحمل الثقيل، وتقبل منا يسير الأعمال فإنك عفو تقبل القليل.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المجلس الثالث
ـــــــــــــــ

فصل في:
تلاوة القرآن.
أحكام الرؤية.
ـــــــــــــــــ

فضل تلاوة القرآن
الحمد لله الذي أنشأ وبرأ وخلق الماء والثرى وأبدع كل شيء ووذرا. لا يغيب عن بصره صغير النمل في الليل إذا سرى. ولا يعزب عن عمله مثقال ذرة مما لا نرى، [لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى]( ).
خلق آدم فابتلاه ثم اجتباه فتاب عليه وهدى وبعث نوحاً فصنع الفلك بأمر الله وجرى.
ونجى الخليل من النار فصار حرها برداً وسلاماً عليه فاعتبروا لما جرى. وآتى موسى تسع آيات فما ادكر فرعون وما ارعوى. وأيد عيسى بآيات تبهر الورى وأنزل الكتاب على محمد فيه البينات والهدى.
أحمده على نعمه التي لا تزال تترى وأصلي وأسلم على نبيه محمد المبعوث في أم القرى صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبه في الغار أبي بكر بلا مرى وعلى عمر الملهم في رأيه فهو بنور الله يرى وعلى عثمان زوج ابنته ما كان حديناً يفترى وعلى ابن عمه علي بحر العلوم وأسد الثرى وعلى جميع الآل والأصحاب الذين انتشر فضلهم في الورى وعنا معهم بمنك وكرمك يا من تعلى ما جرى.
أيها الأخوة المؤمنون، والأخوات المؤمنات:
يعود إلى القلوب حنينها إلى ما تنطوي عليه أيام رمضان من بركات هي الهدى في ضيائه والنور في إشراقه والقوة في صفاء ينبوعها وعظمة أصالتها لأنها تنتسب إلى طريق الهدى وتسير فيه، ولئن اقتضت حكمة الخالق أن يعطي كل رسول ما يتناسب والذي يكون قبلة الأنظار في زمانه وموطن التباري والسمو في عصره فإن الذي له الغلبة عند العرب ومهوى الأفئدة هو فصاحة اللسان وبلاغة البيان فجاء القرآن بلسان عربي مبين.
باللغة التي يتكلمون، والأحرف التي ينطقون.
وهذه الحقيقة خالدة على مر الزمن تتحدى القيود والحدود وهي ينبوع العطاء الذي لا يتوقف ومصدر الهداية التي لا تنفد. وباعث القوة التي لا تلين.
وما علينا إلا أن نفتح القلب لهذا النور والنفس لهذا الهدى حتى تشرق شمس حياتنا من جديد ولنستمع إلى ما أثنى الله تبارك وتعالى به على من قرأ القرآن وعمل بما فيه من أحكام وآداب. يقول الحق تبارك وتعالى:
[إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ]( ).
وقوله تعالى: [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ]( ).
وقد أمر الله نبيه أن يرتل القرآن ويقرأه على الناس على مكث يقول الله تعالى: [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( )، [وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]( ).
وقد وردت النصوص الكثيرة من السنة توضح فضل قراءة القرآن من ذلك.
ما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)( ).
وما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)( ).
وما رواه موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمن
الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي
لا يقرأ القرآن كمثل الثمرة لا ربح لها وطعمها حلو)( ).
وما رواه أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرؤا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)( ).
وما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل)( ).
وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) ( ).
ما أجمل أن تغص المساجد في رمضان بأولئك الذين يجتمعون لتلاوة كتاب الله والتزود منه.
ولكن الأجمل والأحسن أن نجعل من رمضان فرصة لمراجعة حياتنا كلها هل هي على وفق ما يجب أن يكون أم لا.
هل طهرنا بيوتنا من المنكرات.
هل ربينا أطفالنا تربية إسلامية.
هل قمنا بواجب النصيحة للقريب والجار والصديق.
هل طهرنا أموالنا من الربا ونميناه بأداء الزكاة.
هل أوقفنا هذا السيل الجارف من النساء اللاتي يذهبن إلى الأسواق زرافات ووحداناً يختلطن ويماكسن الباعة من غير ضرورة ولا حاجة يوم أن نرى المجتمع يأتمر بأمر الله ويقف عند حدوده عندها يتحقق الأمن والخير لهذا المجتمع ولنا فيمن حولنا عبرة وعظة.
وصدق الشاعر:
متى نرى الحكم في الآفات قرآناً
*** والدين يعمر أقطاراً وبلداناً

متى ترى أمة القرآن واحدة
*** تغدو بنعمة هذا الدين إخوانا

الخير في المصحف الهادي ومنهجه
*** ففيه ذخرٌ لدنيانا وأخرانا

كل القوانين إن حققت ذاهبة
*** والذكر يبقى مع الأيام فرقاناً

إن الحياة في رحاب القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وما أجمل أن تقوم الحياة على القرآن وتستقي من نبعه الطاهر.
ألا نكون خلفاً صالحاً لسلف صالح فنقرأ القرآن ونتعلم ما فيه ونعمل به أسوة بسلفنا الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم وجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر( ).
شعراً:
عليك بما يفيدك في المعاد
*** وما تنجو به يوم التناد

فمالك ليس ينفع فيك وعظ
*** ولا زجر كأنك من جماد

ستندم إن رحلت بغير زاد
*** وتشقى إذ يناديك الماد

فلا تفرح بمال تقتنيه
*** فإنك فيه معكوس المراد

وتب مما جنيت وأنت حي
*** وكن متنبهاً من ذا الرقاد

يسرك أن تكون رفيق قوم
*** لهم زاد وأنت بغير زاد

بم يثبت دخول شهر رمضان المبارك؟
يثبت دخول شهر رمضان بأحد أمرين:
الأول: رؤية هلال رمضان. يقول تعالى: [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
أناط الله صيام رمضان بمن شهد الشهر، والشهر عادة يثبت بانقضاء الشهر الذي قبله أو برؤية الهلال.
روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له)( ).
الحديث نص صحيح صريح على تعليق وجوب الصوم في رمضان برؤية هلاله ومفهومه النهي عن الصوم بدون رؤية الهلال.
يقول تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ).
جعل الله الأهلة مواقيت للناس يعرفون بها أوقات عباداتهم ومعاملاتهم رحمة منه بعباده حيث علق وجوب الصوم بأمر واضح وعلامة بارزة يعرفها سائر الناس وليس من شرط وجوب الصوم أن يرى الهلال كل الناس بل إذا رآه بعضهم ولو كان شخصاً واحداً على الصحيح وهو عدل ثقة تمكن رؤيته لزم الناس كلهم الصيام إذا كان مطلعهم واحداً.
الثاني: مما ثبت به دخول رمضان (إذا لم ير الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً) يدل ذلك ما رواه عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما وفيه:
(. . . فإن غم عليكم فاقدروا له) ( )، ومعنى اقدروا له أي إذا غطى على الهلال غيم أو قتر وتعذرت رؤية الهلال فالواجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً يؤكد ذلك الرؤية الصحيحة الصريحة (. . . فإن غم عليكم فأكملوا شعبان
ثلاثين يوماً)( ).
ولا يثبت دخول الشهر بغير هذين الأمرين إطلاقاً، ومن ادعى غير ذلك فعليه الدليل. وما يدعو إليه بعض المنتسبين للعلم من الاعتماد على الحساب أمر لا يقره شرع ولا عقل إذ الأمة الإسلامية من لدن مبعث نبيها محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وهي تعتمد على الرؤية ولم تعمل بالحساب اتباعاً للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي يقول في الحديث الذي يرويه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين)( ).
يقول ابن حجر تعليقاً على هذا الحديث المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضاً إلا النزر اليسير فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً ويوضحه قوله في الحديث الماضي: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ولم يقل فسلوا أهل الحساب.
والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم( ).
وبهذا يتبين أن الله جل وعلا حدد دخول الشهر بإحدى علامتين ظاهرتين يعرفهما العامي والمتعلم وهما رؤية الهلال أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، فمن جاء بشيء غيرهما يزعم أن يعلم به دخول الشهر غير ما بينه الشارع فقد حاد الله ورسوله وأوقع الأمة في الحرج المرفوع عنها بنص القرآن: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ). لأن معرفة الحساب لا يعلمها إلا خواص الناس فكيف نطالب الأمة بمعرفتها ونوجب عليها ما لم يوجبه الله ولا رسوله سبحانك هذا بهتان عظيم. اللهم ارزقنا الاتباع وجنبنا الزلل والشطط والقول عليك بلا علم. واغفر اللهم لنا ولوالدينا ومن له حق علينا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين( ).

المجلس الرابع
ــــــــــــــــ

فصل في:
آداب تلاوة القرآن.
أحكام النية.
ـــــــــــــــ

آداب تلاوة القرآن

الحمد لله الذي لم يزل عليماً عظيماً علياً جباراً قادراً قهاراً قوياً رفع سقف السماء بصنعته فاستوى مبنياً، وسطح المهاد بقدرته وسقاه كلما عطش رياً، وأخرج صنوف النبات فكسى كل نبت زياً، قسم الخلائق سعيداً وشقياً وقسم الرزق بينهم فترى فقيراً وغنياً، والعقل فجعلهم ذكياً وغبياً، سبحانه منْ إله جاد على أوليائه بإسعاده وبين لهم مناهج الهدى بفضله وإرشاده ورمى المخالفين له بطرده وإبعاده أحمده سبحانه أمر بتلاوة القرآن وتدبره فقال: في محكم البيان: [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( ).
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين من كانت معجزته القرآن: [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( ).
أيها الصائمون ويا أيتها الصائمات.
إن هذا القرآن الذي تتلونه هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم من تمسك به نجى ومن طلب الحق من غيره ضل ومن حكم به عدل وهو الذكر المبارك والنور المبين وصفه الله جل وعلا بأوصاف عظيمة ينتفع به المسلمون ويتأدبون بآدابه ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ومن أوصافه [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ]( ).
[قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ]( ).
[ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً]( ).
[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
فهذه الأوصاف وغيرها كثير تدل على عظمة القرآن ووجوب التأدب عند تلاوته وسماعه.
ومن أهم آداب التلاوة:
أولاً: إخلاص النية لله تعالى لأن أي عمل من الأعمال لا يقبله الله ما لم يكن خالصاً له وحده.
يقول تعالى: [فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
ويقول تعالى: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ]( ).
ثانياً: أن يقرأ بقلب حاضر منصرف إلى السماع ويتدبر كل ما يقرؤه ويحاول الفهم قدر استطاعته وأما أولئك الذين يهذون القرآن هذا ولا يتدبرون معانيه ولا يخشون عند وعده ووعيده فقلوبهم مشغولة بغير القراءة من متاع الدنيا وعرضها الزائل.
ثالثاً: أن يقرأ على طهارة كاملة، لأن هذا من تعظيم كلام الله واحترامه ولا حرج عليه لو كان مضطراً للقراءة ولا يجد وسيلة لبلوغ الماء كمن يرقد على السرير أو في سيارة لا يملك إيقافها أو في طائرة أو في سجن وما أشبه ذلك فهؤلاء قد يكونون معذورين لو قرأوا وهم على غير طهارة شريطة أن يتطهروا من الحدث الأكبر والله أعلم.
رابعاً: ألا يقرأ في أماكن مستقذرة كدورات المياه وأماكن المنكرات والمعاصي. أو في مجتمع لا ينصب له كمجتمع البيع والشراء أو مجتمع الرياضة أو مجتمع لعب الورق وغير ذلك من المجتمعات المشغولة لأن القراءة في هذه الأماكن إهانة لكتاب الله.
خامساً: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند بدء القراءة سواء كان من أول السورة أو من وسطها لقول الله تعالى: [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ).
سادساً: أن يقرأ البسملة إذا كان يقرأ من أول السورة، فإن كان يقرأ من وسط السورة فلا يبسمل وهذا في كل سور القرآن ما عدى سورة التوبة فإنه لا يقرأ في أولها البسملة لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم هل هي تتمة لسورة الأنفال أم أنها سورة جديدة فرأوا أن يفصلوها في المصحف ولا يضعوا قبلها البسملة.
سابعاً: أن يحسن صوته بالقرآن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أذن الله لشيء (أي ما استمع لشيء) كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)( ).
والجهر بالقراءة أولى إلا إذا كان حوله من يتأذى بجهره في قراءته كالنائم والمصلي فإنه حينئذ يجهر جهراً خفيفاً يسمعه هو ولا يسمعه من حوله.
ثامناً: ومن آداب تلاوة القرآن أن يسجد عند تلاوة الآيات التي فيها سجود سواء كان الوقت وقت نهي أو غيره، ولأن سجود التلاوة من ذوات الأسباب والصحيح المعتمد أن سجدة ـ ص ـ محل للسجود وهل لسجود التلاوة في غير الصلاة تكبير عند الخفض وتكبير عن الرفع وسلام؟ محل خلاف بين أهل العلم والأمر واسع إن شاء الله ويقول في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثاً وإن زاد سجد وجهي لله الذي خلقه فصوره ثم شق سمعه وبصره بحوله وقوته اللهم اجعل لي بها ذخراً وضع عني بها وزراً وتقبلها مني كما تقبلتها من نبيك داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام فهذا حسن.
والأفضل للمستمع أن يسجد تبعاً للتالي، أما السامع فلا يسجد والفرق بينهما أن هذا منصت للقارئ متابع له، والسامع غير منصت ولا متابع( ) والله أعلم.
شعراً:
بذكرك يا مولى الورى نتنعم
*** وقد خاب قوم عن سبيلك قد عموا

شهدنا يقيناً أن علمك واسع
*** وأنت ترى ما في القلوب وتعلم

إلهي تحملنا ذنوباً عظيمة
*** أسأنا وقصرنا وجودك أعظم

سترنا معاصينا عن الخلق جملة
*** وأنت ترانا ثم تعفو وترحم

وحقك ما فينا مسيء يسره
*** صدودك عنه بل يذل ويندم

سكتنا عن الشكوى حياء وهيبة
*** وحاجاتنا بالمقتضى تتكلم

إذا كان ذل العبد بالحال ناطقاً
*** فهل يستطيع الصبر عنه ويكتم

إلهي فجد واصفح وأصلح قلوبنا
*** فأنت الذي تولي الجميل وتكرم
صيام يوم الشك
يحرم صيام يوم الشك ـ وهو يوم الثلاثين من شعبان ـ بنية الاحتياط عن رمضان وذلك في حال الغيم أو القتر لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (فإن غبي عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين)( ). ولقول عمار بن ياسر رضي الله عنه: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم محمد صلى الله عليه وسلم( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجلاً يصوم صوماً فليصمه)( ).

أحكام النية
من الأمور التي لا يقدرها بعض الصائمين حق قدرها نية الصيام سواء من حيث وجود أصلها أو من حيث تبييتها أو تعيينها أو من حيث كونها جازمة غير مترددة.
ومحل النية القلب والتلفظ بها بدعة.
ومن استيقظ قبل طلوع الفجر وعقدها أجزأته إذ لا يلزم تبييتها قبل النوم بل يكفي قبل الفجر، والصحيح من كلام أهل العلم أنه لا يصح صوم فرض بلا نية يدل لذلك قوله تعالى:[ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)( ).
والنية لها أهميتها الكبرى في الصوم، لأنها تعتبر الفيصل الحقيقي بين العبادة والعادة.
فالفرق شاسع بين أن يزاول المرء العبادة وهو يستشعر رضاء الله ويستصحب الحرص على طاعته وابتغاء وجهه خالصاً بحيث يصبح هذا الإحساس يقوده لطاعة الله رغبة ورهبة لا تشوب نيته شائبة في مخافة أحد سوى الله أو طلب مدح أحد أو ثنائه، وبين أن تكون عادة يستمر عليها المرء خوفاً من العقاب الدنيوي لا طمعاً في رضا الله سبحانه وتعالى، وعبادة الصوم وحدها هي التي تقوى فيها الصلة بين العبد وربه إذ يستطيع في غفلة من الناس أن يأكل ويشرب إذا لم يراقب الله سبحانه.
هل تكفي النية أول الشهر:
اختلف أهل العلم هل تكفي نية الصيام في أول شهر رمضان أم أن لكل يوم نية مستقلة، ولا شك أن الأحوط أن يكون لكل يوم نية مستقلة، لأن صيام كل يوم عبادة مستقلة.
إذا لم يعلم بخبر الصيام إلا في وسط النهار:
إذا لم يعلم المسلم بخبر الصيام إلا بعد طلوع الفجر لزمه الإمساك من حين علم ووجب عليه القضاء، لأن فطره أول النهار معذور فيه إذ لم يعلم خبر الشهر ألا بعد طلوع الفجر.
وأما إلزامه بالإمساك فلحرمة الشهر وإلزامه بالقضاء، لأن صيامه جزءاً من اليوم لا يجزيه إذ لا بد من صيام اليوم كاملاً من طلوع الفجر حتى غروب الشمس.
هل النية واجبة في الفرض والنفل:
تبييت النية واجب في الفرض فقط، وأما النفل فله أن يمسك ولو في وسط النهار ما دام لم يأكل ولم يشرب ولم يأت مفطراً من المفطرات من طلوع الفجر يدل لذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيني فيقول: (أعندك غداء فأقول لا فيقول: إني صائم) قالت: فأتاني يوماً فقلت يا رسول الله أنه أهديت لنا هدية، قال: وما هي؟ قلت: حيس، قال: (أما أني أصبحت صائماً) قالت: ثم أكل( ).
وفي هذا دليل صحيح صريح على أنه يجوز للإنسان أن يصوم صيام التطوع بنية من وسط النهار كما أنه يدل دلالة صريحة على أن من بات صائماً صيام نفل يجوز له أن يفطر في وسط النهار قبل تمام صومه. وهذا من يسر الإسلام وسماحته ولله الحمد والمنة.
اللهم وفقنا لاتباع الهدى وجنبنا أسباب الهلاك والشقاء واجعل شهرنا شاهداً لنا يوم العرض وأعنا فيه على طاعتك وجنبنا طرق معصيتك واختم لنا بالصالحات وضاعف لنا الحسنات وتقبل منا القليل واعف الزلل والتقصير واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين( ).

المجلس الخامس
ــــــــــــــــــ

فصل في:
أركان الصوم ومكانته في الإسلام.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أركان الصوم ومكانته في الإسلام
الحمد لله خالق كل مخلوق ورازق كل مرزوق مصرف الأشياء فمنها سابق ومسبوق موجد المنظور والملبوس والمذوق أنشأ الآدمي بالقدرة من ماء مدفوق وركب فيه العقل يدعو إلى مراعاة الحقوق والهوى يحث على ما يوجب العقوق.
أحمده سبحانه على ما يقضي ويسوق مما يغم ويشوق.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله وقد ازدحمت سوق الباطل في أروج سوق فدفع بصدقة أهل الزيغ وأرباب الفسوق وعلى أله وأصحابه ما هب الهوى ولمعت البروق وعلى صاحبه أبي بكر الصديق الصدوق وعلى عمر الملقب بالفاروق وعلى عثمان الصابر على الشهادة يدفعه الشوق وعلى علي مطلق الدنيا فما غره من ذَهَبٍ بروق وعلى جميع أتباعهم ما تعاقب الغروب والشروق.
إخوتي الصائمين والصائمات سلام الله عليكم ورحمته وبركاته درسنا هذه الليلة حول تعريف الصيام وأركانه ومكانته في الإسلام فنقول:
الصيام في اللغة: الإمساك، ويستعمل في كل إمساك، يقال: صام فلان أي أمسك عن الكلام وصامت الخيل إذا وقفت ومنه قوله تعالى: [إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً]( ).
وقول الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمه *** تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
والصوم في الاصطلاح: الإمساك عن المفطرات بنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
فهو إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن شيء مخصوص من شخص مخصوص.
ومن هذا التعريف نأخذ أركان الصوم الثلاثة:
1ـ النية.
2ـ الإمساك عن المفطرات.
3ـ زمن الصوم.
وللصوم مكانة عظيمة لا يحسب قدرها ولا يعرف سموها إلا المؤمن الصادق الذي يعيش مع رمضان بقلبه وقالبه ولبه وجوارحه فوجهه باسم متهلل بتباشير الرحمة التي تنبعث مع أول خيط من خيوط الفجر في أول يوم من هذا الشهر الكريم.
دنيا المؤمن مملوءة في رمضان بضياء الرحمة والمسامحة والصفح والغفران في ظلال العبادة والخضوع والتواضع.
وقلب المؤمن خاشع ضارع إلى ربه يرتل القرآن ويرجعه في صفاء وبعد عن شياطين الإنس والجن.
سعادة المؤمن في رمضان لا تعدلها سعادة، لأنه يحس من خلال جوعه وعطشه وصفاء نفسه بالجنة وقد ازدانت لاستقبالها وقد اصطفت الحوريات تنتظر القادم الغالي.
إن شهر رمضان شهر التوبة والغفران شهر العفو والعتق من النيران شهر تفيض فيه المساجد بين قائم وراكع وساجد وعابد دائب ونادم تائب.
كل مؤمن تهفو نفسه أن يكون في إحدى لياليه من ضمن المعتقين الأبرار ليجتمع في جنات الخلود بالأصحاب والأخيار.
شهر رمضان شهر السمو الروحي والتهذيب الخلقي والصفاء القلبي.
أجر الصائم لا حد له ترك الله جزاه لكرمه سبحانه مما لا عين رأت و أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لا نعرف شيئاً عن هذا الجزاء، ولكننا نؤمن إيماناً جازماً أنه يتناسب وكرم الله وعطائه وجزيل مغفرته وثوابه، فكما أن الصيام له وحده سبحانه لا تدخله الرغبة والشهوة فكذلك الجزاء والجزاء من
جنس العمل.
فهنيئاً لك أيها الصائم في صيامك وقيامك وأبشر بما أعد الله لك من جزيل الأجر وبالغ العطاء.
وحذار حذار أن تفسد صومك برفث أو جهل أو فسوق أو عصيان فيحبط عملك وعليك بالوصية الجامعة ممن لا ينطق عن الهوى (وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم)( ).
شعراً:
يا أمة ذاك ماضيها الذي عرفت
*** منه بمجد صريح غير مؤتشب

ماذا دهاك فقد أصبحت هاوية
*** مهاوي الذل من جبن إلى عطب

قد كنت تاجاً لأجيال الورى عصراً
*** فصرت من بعد تلك الجيل في العقب

وكنت موفورة الخيرات صاعدة
*** بالدين ذروة مجد غير منسحب

فصرت أسفل سفلاها كما انقلبت
*** بالخسف ذورة طود شر منقلب

وكنت هذبت أخلاق الورى زمناً
*** واليوم منك سوى الأخلاق لم يعب

وكنت آمره المعروف معرضة
*** وصرت للمنكر المذموم في طلب

وكنت حررت من ظلم ومن عنت
*** قوماً من الظلم والظلام في نصب

فاليوم تظلمك الدنيا بأجمعها
*** ولا يهيجك هيَّاج إلى الغضب

وكنت أنقذت من جهل ومن عمه
*** بني جهالتها الهاوين في الريب

لئن رجعت إلى الطاعات من كثب
*** لتظفرن بحول الله من كثب

وإن بقيت على ما أنت فيه فلا
*** مفر من نقمة الجبار والتبب

شر بشر ومن يعمله يلق ومن
*** يزرع من الشوك لا يحصد من العنب

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يقول تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
ويقول تعالى: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ).
المعروف هو ما عرفه الناس بأنه محبوب للشارع ويدخل فيه الواجبات والمستحبات والمنكر ما ينكره الشارع ولا يرضاه من المحرمات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب واجبات الإسلام وقد عده بعض أهل العلم الركن السادس من أركان الإسلام.
يقول العلامة ابن حزم( ): (اتفقت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف بين أحد منهم لقوله تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتصف بالصفات الآتية:
1ـ العلم بقول الله تعالى: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
والحكمة هنا هي العلم النافع ليكون الآمر والناهي قوياً في حجته مؤثراً في سامعيه وليكون أمره ونهيه على بصيرة وبينة لئلا يقع في الخطأ فيأمر بما ليس بمعروف وينهى عن شيء ليس بمنكر.
2ـ العمل بما يقول:
يقول تعالى: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ]( ).
ويقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ]( ).
إن هداية الغير فرع للاهتداء وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة والإصلاح زكاة عن نصاب الصلاح فمن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج( ).
3ـ الإخلاص:
فكل عمل لا يقوم على الإخلاص فلا حاجة لله فيه، ولهذا كان في الإسلام شرطان لقبول العمل أي عمل أحدهما الإخلاص: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]( ).
وثانيهما: صدق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)( ).
4ـ الأمانة:
وذلك بأن يكون المسلم أعينا في تبليغ شرع الله فلا يزيد ولا ينقص ولا يقول عن الله إلا ما كان عالماً به متمكناً فيه.
وصدق الله العظيم: [وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ]( ).
5_ الصبر:
فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتحلى بالصبر على ما يصيبه، لأن هذا هو طريق الأنبياء والمرسلين وقد أوذوا فصبروا فكانت العاقبة لهم في الدنيا والآخرة رزقنا الله اتباعهم.
يقول تعالى: [يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ]( ).
ويقول تعالى: [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]( ).
6ـ الرفق واللين:
والرفق ما خالط شيئاً إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه وكم من داعية أدرك برفقه ولينه ولطفه ما لا يدركه آلاف الدعاة الذين لا يتحلون بهذه الخصال، وقد أوصى الله الدعاة فيها فقال عن موسى وهارون: [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى]( ).
ويقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
7ـ التيسير والتبشير:
فينبغي للآمر الناهي أن يكون ميسراً ومبشراً وأن يفتح أبواب الخير للناس ويرغبهم في التوبة والإنابة ويذكر لهم الجزاء في الآخرة، وقد أرشد الله إلى هذا الأسلوب في كتابه فقال: [قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
يا أيها الرجل المعلم غيره
*** هلا لنفسك كان ذا التعلم

تصف الدواء لذي السقام وذي الظّنا
*** كيما يصح به وأنت سقيم

وتراك تصلح بالرشاد عقولنا
*** أبداً وأنت من الرشاد عديم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
*** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يسمع ما تقول ويهتدى
*** بالقول منك فينقع التعليم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله
*** عار عليك إذا فعلت عظيم

اللهم يا واسع العطاء والجود امنن علينا بصلاح الظاهر والباطن واجعلنا ممن ادخر له الجزاء في جنات الخلود: [فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ]( ).
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين( ).

المجلس السادس
ـــــــــــــــــــ

فصل في:
التوبة.
ومفسدات الصوم.
ــــــــــــــــــــ

التوبة
الحمد لله الذي نصب من كل كائن على وحدانيته برهاناً وتصرف في خليقته كما شاء عزاً وسلطاناً، واختار المتقين فوهب لهم أمناً وإيماناً وعم المذنبين بحلمه ورحمته عفواً وغفراناً ولم يقطع أرزاق أهل معصيته جوداً وامتناناً روح أهل الإخلاص بنسيم قربه وحذر يوم الحساب بجسيم كربه وحفظ السالك نحو رضاه في سربه. وأكرم المؤمن إذ كتب الإيمان في قلبه. حكم في بريته فأمر ونهى وأيقظ بموعظته من غفل وسها. ودعا المذنب إلى التوبة لغفران ذنبه.
أحمده حمد عابد لربه معتذر إليه من تقصيره وذنبه وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص من قلبه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى من حزبه صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر خير أحبته وصحبه.
وعلى عمر الذي لا يسير الشيطان في سربه، وعلى عثمان الشهيد لا في صف حربه، وعلى علي معينه في جهاده وحربه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً. . . وبعد.
إخوتي الصائمين. . نلتقي في هذه الليلة لنستجلي موضوعاً هاماً يهم كل مسلم ومسلمة على وجه الأرض ألا وهو موضوع التوبة الذي ذكره الله في القرآن وأكد على التوبة إليه والتضرع بين يديه وتقديم الاستغفار والذكر. يقول تعالى: [وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ]( ).
ويقول تعالى: [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ]( ).
ويقول تعالى: [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ويقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
ويقول تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
وقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوبة ورغب فيها وذكر عن نفسه أنه يتوب كل يوم مائة مرة يدل لذلك:
ما رواه الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لا ستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)( ).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح)( ).
والتوبة هي الرجوع من معصية الله إلى طاعته لأنه سبحانه هو المعبود حقاً وحقيقة العبودية هي التذلل والخضوع للمعبود محبة وتعظيماً، فإذا حصل من العبد شرود عن طاعة ربه فتوبته أن يرجع إليه ويقف ببابه موقف الفقير الذليل الخائف المنكسر بين يديه. وهي واجبة على الفور و لايجوز تأخيرها ولا التسويف بها إذ قد تفجأه المنية وهو على معصيته والعياذ بالله، وكم رأينا وسمعنا في واقعنا المعاصر من أشخاص ماتوا على معاصيهم.
تجد الشخص يحصل عليه حادث في سيارته وهو في الطريق وصوت المغني أو المغنية مرتفع، بل قد يلفظ أنفاسه ويبقى الصوت مرتفعاً شاهداً عليه في الدنيا قبل الآخرة.
وكم من شخص مات في رمضان وهو مفطر والعياذ بالله استعبدته الجريمة فأصبحت هي معبوده من دون الله.
وكم من أشخاص هلكوا وأرصدتهم الربوية تلعنهم شاهدة عليهم.
وكم من أقوام درسوا وقد عقوا والديهم وآذوا جيرانهم وأكلوا حقوق غيرهم.
فاتقوا الله يا أيها المؤمنون وأصدقوا مع الله فرمضان فرصة قد لا تعود عليكم أعلنوها توبة خالصة لعل الله أن يمحو بها كثير السيئات ويضاعف بها قليل الحسنات.
وصدق الله الرحيم الرحمن: [قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
شعراً:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب
*** حتى عصى ربه في شهر شعبان

لقد أظلك شهر الصوم بعدهما
*** فلا تصيره أيضاً شهر عصيان

واتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً
*** فإنه شهر تسبيح وقرآن

فاحمل على جسد ترجو النجاة له
*** فسوف تضرم أجساد بنيران

كم كنت تعرف ممن صام في سلف
*** من بين أهل وجيران وإخوان

أفناهم الموت واستبقاك بعدهم
*** حيا فما أقرب القاصي من الداني

ومعجب بثياب العيد يقطعها
*** فأصبحت في غد أثواب أكفان

مفسدات الصوم

تتبعت كلام أهل العلم في المفطرات وحصرتها فوجدتها في الغالب لا تخرج عن ثلاث مجموعات هي:
المجموعة الأولى: الإفطار بما دخل إلى الجوف.
المجموعة الثانية: الإفطار بالأعمال الجنسية.
المجموعة الثالثة: الإفطار بما خرج من الجوف.
وإليك بيان هذه المجموعات وما يدخل تحتها من المفطرات.
المجموعة الأولى: الإفطار بما دخل إلى الجوف:
1ـ إذا أكل الصائم أو شرب عامداً ذاكراً لصومه فإنه يبطل.
يقول تعالى: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ).
فقد بينت الآية أنه لا يباح للصائم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر حتى الليل ـ غروب الشمس ـ فمن أكل أو شرب خلال هذا الوقت فقد أبطل صيامه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يذر طعامه وشرابه وشهوته من أجلي . . .)( ). ويستوي في ذلك ما يتغذى به وما لا يتغذى به. قال ابن قدامة: أجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يتغذى به، فأما ما لا يتغذى به فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل به)( ).
أما إذا أكل أو شرب ناسياً فصيامه صحيح ويجب على من رآه يأكل أن ينبهه وما شاع لدى العوام من عدم تنبيه الصائم الناسي لا أصل له بل من رآه يأكل وهو يعلم أنه صائم ولم ينبهه فإنه آثم، لأن هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدل لصحة صومه ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه
الله وسقاه)( ).
2ـ ويفطر بكل ما أدخله إلى جوفه مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التحرز عنه سواء وصل من الفم أو الأنف لأن هذا يشبه الأكل والشرب)( ).
3ـ الإبر المغذية التي يكتفي بها عن الأكل والشرب، فإذا تناولها أفطر لأنها وإن لم تكن أكلاً وشرباً حقيقة فإنها بمعناهما فثبت لها حكمهما. فأما الإبر غير المغذية فلا تفطر لأنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا بمعنى الأكل والشرب فلا يثبت لها حكمها.
وهنا ينبغي أن يعلم أنه يرخص في تناول الإبر المغذية في نهار رمضان إذا اضطر إليها ولم يستطع أن يصبر إلى الليل وحكمه هنا حكم المريض المرخص له في الفطر فيتناول الإبرة ويفطر ويقضي ذلك اليوم تيسيراً من الله جل وعلا: [وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
ويتفرع على ما سبق مسائل:
الأولى: إذا تسحر وهو يظن أن الفجر لم يطلع، فإذا هو قد طلع أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا هي لم تغرب أمسك بقية يومه وعليه القضاء( ).
يدل لذلك ما روته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يوم غيم ثم طلعت الشمس، قيل لهشام فأمروا بالقضاء. قال لا بد من قضاء وقال معمر سمعت هشاماً لا أدري أقضوا أم لا( ).
قال ابن قدامة: هذا قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم واحتج لهم بقوله:
إنه أكل مختاراً ذاكراً لصومه فأفطر كما لو أكل يوم الشك ولأنه جهل بوقت الصيام فلم يعذر به كالجهل بأول رمضان ولأنه يمكن التحرز منه. قلت: وفيه احتياط للعبادة ومنع لضعاف النفوس من التحايل على الفطر وفيه مطالبة للمؤذنين أن يثبتوا من غروب الشمس لئلا يوقعوا المسلمين في الحرج والعنت المرفوع عنهم شرعاً.
الثانية: إذا أكل شاكاً في طلوع الفجر ولم يتبين الأمر فليس عليه قضاء وله أن يأكل حتى يتيقن طلوع الفجر( ).
والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أنه هنا لم يتبين له طلوع الفجر أما في المسألة الأولى فإنه قد تبين له أنه أكل أو شرب بعد طلوع الفجر.
الثالثة: وإن أكل شاكاً في غروب الشمس ولم يتبين فعليه القضاء لأن الأصل بقاء النهار وإن كان حين الأكل ظاناً أن الشمس قد غربت أو أن الفجر لم يطلع ثم شك بعد الأكل ولم يتبين فلا قضاء عليه لأنه لم يوجد يقين أزال ذلك الظن الذي بنى عليه فأشبه ما لو صلى بالاجتهاد ثم شك في الإصابة بعد صلاته( ).
اللهم يا جابر كسر المنكسرين ويا مغيث الملهوفين والمستغيثين نسألك أن تقابل إساءتنا بإحسانك وتقصيرنا بعفوك وامتنانك. اللهم سلمنا من نفوسنا التي هي أقرب أعدائنا وامنن علينا بالتوفيق بعمل إليك يقربنا واتمم علينا يا مولانا ما به أكرمتنا. وأدم علينا إحسانك كما عودتنا فها نحن عبيدك قد ألقينا نفوسنا بين يديك وطمعنا بحسن وعدك وجميل رفدك فيما لديك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك، واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله
وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين( ).

المجلس الرابع
ـــــــــــــــــــ
فصل في:
التوبة.
مفسدات الصوم.
ــــــــــــــــــــ

التوبة
الحمد لله العلي القوي المتين القاهر الظاهر المبين لا يعزب عن سمعه أقل الأنين ولا يخفى على بصره حركات الجنين ذل لكبريائه جبابرة السلاطين وقل عند دفاعه كيد الشياطين قضى قضاءه كما شاء على الخاطئين وسبق اختياره لما اختار الماء والطين فهؤلاء أهل الشمال وهؤلاء أهل اليمين جرى القدر بذلك قبل عمل العاملين.
أحمده حمد الشاكرين وأسأله معونة الصابرين وأصلي وأسلم على رسوله المقدم من النبيين وعلى صاحبه الصديق أول تابع له على الدين، وعلى الفاروق عمر القوي الأمين، وعلى عثمان زوج ابنته ونعم القرين، وعلى علي بحر العلوم أب الحسن والحسين وعلى بقية الأصحاب والآل والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإيمان:
ذكرنا طرفاً من الكلام عن التوبة في الفصل السابق وهنا سنكمل الحديث عنها بمشيئة الله تعالى فنقول التوبة نوعان: واجبة، ومستحبة.
فالواجبة هي التوبة من ترك مأمور أو فعل محظور، وهذه واجبة على جميع المكلفين، كما أمرهم الله بذلك في كتابه وعلى ألسنة رسله عليهم السلام.
والمستحبة هي التوبة من ترك المستحبات وفعل المكروهات فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين، ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين، إما الكافرين وإما الفاسقين. قال الله تعالى: [وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً *فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ]( ).
وقال تعالى: [فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ]( ).
والتوبة التي أمر الله بها هي التوبة النصوح التي تشتمل على شرائط التوبة وهي خمسة:
الأول: أن تكون خالصة لله عز وجل وذلك بأن يكون الباعث عليها محبة الله سبحانه وتعالى والطمع في رضوانه والخوف من عقوبته ونيرانه فإن كان الباعث لها عرضاً زائلاً من الدنيا أو طعماً في جاه أو تزلفاً لأحد من المخلوقين أو خوفاً من أحد من المخلوقين فليست بتوبة خالصة وكل زارع سيحصد ما زرع.
الثاني: الندم على ما بدر منه من الذنوب والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى والانكسار بين يديه، وكلما كان الندم صادقاً وقوياً كلما ظهرت آثاره على العمل اللاحق فتجد التائب يقبل على الأعمال الصالحة بنهم وحرص شديد ليعوض ما فاته من الأوقات التي قضاها في العصيان وغضب الرحمن.
الثالث: الإقلاع عن المعصية فوراً دون تردد أو خجل من أحد أو مجاملة لأحد، وعليه فإن كانت المعصية بفعل أمر محرم وجب الابتعاد عنه فوراً وهجر أصحابه ومجالسه وإن كانت بترك واجب وجب أن يبادر إلى فعله وإن كان مما يقضى كالصوم والحج وجب قضاؤه وصار متعلقاً بذمته.
وإن كانت المعصية بأكل حقوق الخلق فلا تصح إلا بردها واستباحتهم وإن كان لا يعرف أصحاب الحقوق وجب أن يتصدق بها على نية دفعها لأصحابها لو طلبوها فيما بعد.
الرابع: أن يعزم على ألا يعود في المستقبل إلى المعصية، لأن هذا هو ثمرة التوبة ودليل صدق التائب، فإن قال إني تائب من كذا وهو ما زال يعمله أو يتوب من الشيء ثم يعود إليه فليست هذه بتوبة صحيحة، لأن التائب الصادق يكره المعصية كراهية شديدة ويتمنى ألا يتذكر ماضيه السابق لأنه يجلب له الهم والحزن.
الخامس: ألا تكون التوبة بعد انتهاء وقت قبولها فإن كانت بعده لم تقبل
وانتهاء وقت القبول نوعان نوع عام لكل أحد ونوع خاص لكل شخص.
فأما العام: فهو طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تنفع التوبة. يقول تعالى: [يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً]( ).
وقد فسر أهل العلم بأنها طلوع الشمس من مغربها ويدل لذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)( ).
وأما الخاص: فهو عند حضور الأجل فمتى حضر الأجل وعاين الإنسان الموت لم تنفعه التوبة، ولم تقبل منه يدل لذلك قوله تعالى: [وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ]( ).
التوبة الصادقة تمحو كل ذنب مهما اجتمعت جيوش الدنيا وهواجس النفس وسهام الخلق وخطرات القلب وعداوة الشيطان لأن هذه كلها صغيرة حقيرة بجانب الاتكال على الله والاعتماد عليه.
يقول ابن القيم رحمه الله: (كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه وولد لا يعذره وجار لا يأمنه وصاحب لا ينصحه وشريك لا ينصفه وعدو لا ينام عن معادته ونفس أمارة بالسوء ودنيا متزينة وهوى مرد وشهوة غالبة له وغضب قاهر وشيطان مزين وضعف مستول عليه، فإن تولاه الله وجد به إليه انقهرت له هذه كلها وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة).
وقال رحمه الله (اطلب قلبك في ثلاثة مواطن:
1ـ عند سماع القرآن.
2ـ وفي مجالس الذكر.
3ـ وفي أوقات الخلوة.
فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك)( ).
ولله در القائل:
لك الحمد يا ذا الجود والمجد والعلى
*** تباركت تعطي من تشاء وتمنع

إلهي وخلاقي وسؤلي وموكلي
*** إليك لدى الإعسار واليسر أفزع

إلهي لئن خيبتني وطردتني
*** فمن ذا الذي أرجو ومن ذا أشفع

إلهي لئن أعطيت نفسي سؤالها
*** فها أنا في روض الندامة أرتع

إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي
*** وأنت مناجاتي الخفية تسمع

إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ
*** فؤادي فلي في سيب جودك مطمع

إلهي أجرني من عذابك إنني
*** أسير ذليل خائف لك أخضع

إلهي لئن جلت وجمت خطيئتي
*** فعفوك من ذنبي أجل وأوسع

بقية مفسدات الصوم

سبق لنا في الفصل الماضي بيان المجموعة الأولى وهي الإفطار بما دخل إلى الجوف وسيكون حديثنا هذه الليلة إن شاء الله عن المجموعتين الثانية والثالثة.
المجموعة الثانية: الأعمال الجنسية:
1ـ الجماع يبطل الصوم ويوجب القضاء والكفارة إذا كان في نهار رمضان وليس عند الصائم عذر يبيح فطره.
يدل لذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت، قال ما لك: قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تجد رقبة تعتقها قال: لا، قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟) قال: لا، فقال: هل تجد إطعام ستين مسكيناً؟) قال: لا، فمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم فبينما نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر والعرق المكتل، قال أين السائل؟ فقال: أنا قال: خذها فتصدق به، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتهيا ـ يريد الحرتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: (أطعمه أهلك)( ).
ولعل الحكمة في إيجاب الكفارة والله أعلم أنه لما هجم على هتك حرمة شعائر الله وكان مبدؤه إفراطاً طبيعياً وجب أن يقابل بإيجاب طاعة شاقة غاية المشقة ليكون بين يديه مثل تلك فيزجره عن غلواء نفسه وجموح شهواتها( ).
وقد نبه أهل العلم أن الكفارة إنما هي على من أبطل صومه في رمضان بالجماع من غير عذر.
أما في قضاء رمضان فليس عليه الكفارة إذا أبطل بالجماع بل عليه الإثم
وقضاء ما أبطل.
قال الإمام مالك رحمه الله سمعت أخل العلم يقولون ليس على من أفطر يوماً في قضاء رمضان بإصابة أهله نهاراً الكفارة التي تذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أصاب أهله نهاراً في رمضان وإنما عليه قضاء ذلك اليوم وهذا أحب ما سمعت في إلي( ).
والمرأة في ذلك كالرجل سواء بسواء فمتى أفطرت بالجماع في نهار رمضان من غير عذر وجب عليها القضاء والكفارة، لأن ذلك نوع من المفطرات فاستوى فيه الرجل والمرأة كالأكل والشرب.
2ـ ومتى قبل فأنزل أو باشر فأنزل وجب عليه القضاء ولا كفارة لأنها خاصة بالجماع لكن ينبغي للمسلم أن يتجنب مواقع الزلل فيبتعد تماماً عن أهله في نهار رمضان لأن كل ممنوع مرغوب.
وزاده كلفاًً في الحب أن أمنعت
*** أحب شىء إلى الإنسان مـا معنا

3ـ وإذا استمنى فأنزل فسد صومه وارتكب جرماً خطيراً لأن الاستمناء باليد أو غيرها أو غيرها حرام في رمضان وغيره ولكن الحرمة تشتد في رمضان لحرمة الزمان ووجوب الصيام وهل تلزمه الكفارة الصحيح المعتمد من كلام أهل العلم أنها لا تلزم إلا بالجماع فقط لورود النص خاصاً به.
4ـ ومن أنزل من غير شهوة كالمصاب بمرض في الظهر فهل يبطل صومه قولان لأهل العلم أصحهما أن صومه صحيح لأنه لا ذنب له ولم يفرط أو يتعد بل هذا أمر خارج عن إرادته.
5ـ وإن نام فاحتلم لم يفطر لأن هذا خارج عن إرادته والله لا يكلف نفساً إلا وسعها وما جعل علينا في الدين من حرج.
6ـ ويصح صوم الرجل والمرأة إذا أصبح الواحد منهم وهو جنب لما روته عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم( ). لأنه لما أذن في المباشرة إلى طلوع الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يجوز أن يصبح صائماً وهو جنب( ).
المجموعة الثالثة: الإفطار بما خرج من الجوف:
1ـ التقيؤ عمداً وهو إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمداً فليقض)( ). ولو حصل القيء بدون سبب منه فليس عليه شيء لأنه لا ذنب له وهذا خارج عن إرادته والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
2ـ إخراج الدم بالحجامة ودليل ذلك ما رواه شداد بن أوس قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم)( ).
وفي معنى الحجامة إخراج الدم بالفصد وإخراجه من أجل التبرع به.
ولهذا لا يسوغ للمسلم أن يتبرع بدمه في نهار رمضان إلا بشرطين:
الأول: أن توجد ضرورة ملحة كإنقاذ معصوم ولا يوجد من يتبرع له من غير الصائمين.
الثاني: ألا يتضرر المتبرع فمتى توافر هذان الشرطان جاز للشخص أن يتبرع بدمه في نهار رمضان ويفطر ويكون معذوراً وعليه قضاء ذلك اليوم.
أما خروج الدم بالجرح أو قلع الضرس أو الرعاف أو أخذ الدم للتحليل إذا كان يسيراً فلا يفطر به لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها إذ لا يؤثر في البدن كتأثير الحجامة.
3ـ خروج دم الحيض والنفاس يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في المرأة: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم)( ). فمتى رأت دم الحيض أو النفاس بطل صومها ولو كان قبل غروب الشمس بدقائق والله أعلم.
إخواني: حافظوا على الطاعات وجانبوا المعاصي والمحرمات وابتهلوا إلى فاطر الأرض والسماوات وتعرضوا لنفحات جوده، فإنه جزيل الهبات واعلموا أنه ليس لكم من دنياكم إلا ما أمضيتموه في طاعة مولاكم فالغنيمة الغنيمة قبل فوات الأوان والربح الربح قبل حلول الخسران.
اللهم وفقنا لاغتنام الأوقات وشغلها بالأعمال الصالحات اللهم جد علينا بالفضل والإحسان وعاملنا بالعفو والغفران اللهم ارزقنا شفاعة نبينا وأوردنا حوضه وأسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم( ).

المجلس الثامن
ــــــــــــــــــــ

فصل في:
نعيم القبر وعذابه.

وأقسام الصيام.
ـــــــــــــــــــ

نعيم القبر وعذابه
الحمد لله الذي شرع الشرائع وأحكم الأحكام. وجعل النعيم والعذاب جزاء عادلاً للأنام. وبين الحلال وحرم الحرام واحتجب في هذه الدار عن سائر مخلوقاته المتفرد باختراع الكون وإيجاده. المتصرف في خلقه بمحض مشيئته ووفق مراده والمحيط علمه بسائر برياته. نبه من شاء من العباد من غفلته ورقاده فأيقن أنه مسافر إلى الله فكان همه إعداد زاده وحكم على من شاء بطرده وإبعاده فصرف همته للعاجلة واشتغل عن حشره ومعاده فسبحان من قسم الفضائل بين خلقه فهذا فضيل وهذا مفضول وهذا مطرود وهذا مقبول وهذا قد رمي بالإبعاد والخذلان وهذا قد قرب من مولاه الرحيم الرحمن وأحق البشر في ذلك النبي من نسل عدنان عليه وعلى أله وأصحابه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
أيها الأحبة في الله. . .
حديثنا هذه الليلة عن نعيم القبر وعذابه أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا ووالدينا ممن ينعمون في قبورهم ويفسح لهم فيها مد البصر.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة، وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت في الأرض وجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر(ثلاثاً) ثم قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة ـ وفي رواية المطمئنة ـ اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها.
وفي رواية حتى إذا خرجت روحه ـ صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء وفتحت له أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم ـ فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط فذلك قوله تعالى: [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ]( ) ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال: (فيصعدون بها فلا يمرون ـ يعني ـ بها على ملأ من الملائكة ـ إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمعونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: (اكتبوا كتاب عبدي في عليين) فيكتب كتابه في عليين ثم يقال أعيدوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فيرد إلى الأرض وتعاد روحه في جسده فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينتهره فيقول: من ربك وما دينك من نبيك وهو آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حين يقول الله عز وجل: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
فيقول ربي الله، وديني: الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينادي مناد في السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره قال: ويأتيه، وفي رواية يمثل له رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له وأنت فبشرك الله بخير من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله بطيئاً في معصية الله فجزاك الله خيراً ثم يفتح له باب من الجنة وباب من النار فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله أبدلك به هذا فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي: فيقال له: اسكن.
قال وإن العبد الكافرـ وفي رواية الفاجر ـ إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد سود الوجوه معهم المسموح من النار فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود، الكثير الشعب ـ من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء وتغلق أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث فيقولون: فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ]( ). فيقول الله عز وجل (اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى) ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإنه وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء طرحاً حتى تقع في جسده ثم قرأ: [وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ]( ). فتعاد روحه في جسده قال فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له من ربك فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري، فيقولان له فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فلا يهتدي لا سمه فيقال محمد فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذلك قال: فيقال: لا دريت ولا تلوت فينادي مناد من السماء أن كذب فأفرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه، وفي رواية ويمثل له رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول وأنت فبشرك الله بالشر من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول أنا عملك الخبيث ـ فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله سريعاً إلى معصية الله ـ فجزاك الله شراً ثم يقيض له أعمى أصم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان تراباً فيضربه حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان فيضربه أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار ويمهد من فرش النار فيقول رب لا تقم الساعة)( ).
شعراً:
ثم انقضى العمر الذي تهنا به

*** وبدأت في ضعف وفي نقصان

ودنا الفراق ولات حين تهرب
*** أين المفر من القضاء الداني

والتف صحبك يرقبون بحسرة
*** ماذا تكون عواقب الحدثان

واستل روحك والقلوب تقطعت
*** حزناً وألقت دمعها العينان

فاحتاج أهل الدار حزن بالغ
*** واجتاح من حضروا من الجيران

وأتى المغسل والمكفن قد أتى
*** ليجللوك بحلة الأكفان

وسكنت لحد قد يضيق لضيقه
*** صدر الحليم وصابر الحيوان

وسمعت قرع نعالهم من بعد ما
*** وضعوك في البيت الصغير الثاني

إن كنت في الدنيا لربك مخلصاً
*** تدعوه بالتوحيد والإيمان

فتحت عليك من الجنان نوافذ
*** تأتيك بالأنوار والريحان

ويظلك الله الكريم بظله
*** والناس في عرق إلى الآذان

والزوج حور في البيوت كواعب
*** بيض الوجوه خوامص الأبدان

أبكار شبه الدر في أصدافه
*** واللؤلؤ المكنون والمرجان

أما إذا ما كنت فيها مجرماً
*** متتبعاً لطرائق الشيطان

فهناك تسحب للجحيم مكبلاً
*** بسلاسل ومسربل القطران

فيها الأفاعي والهوام كأنها
*** أعجاز نخل داخل النيران

أقسام الصيام
الصيام على أنواع:
منه الواجب، ومنه المندوب، ومنه المكروه، ومنه المحرم.
وسيكون حديثنا هنا عن الصيام الواجب والصيام المحرم فنقول.
الصيام الواجب:
1ـ صوم شهر رمضان ودليله قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
2ـ صوم النذر:
يجب على المسلم أن يصوم الأيام التي نذر أن يصومها طالت أو قصرت تتابعت أم تفرقت.
ودليل ذلك قوله تعالى: [يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً]( ).
فأثنى جل وعلا على الذين يوفون بالنذر وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه)( ).
فإذا نذر المسلم صيام أيام معينة لزمه صيامها إلا أن تكون مما يحرم صومه كيومي العيدين وأيام التشريق وإن نذر صوم شهر معين لزمه التتابع وإن نذر صيام أيام معدودة كعشرة أو عشرين لم يلزمه التتابع إلا إذا نوى ذلك.
3ـ الصيام الواجب للكفارة، فمتى وجبت الكفارة على المسلم ولم يجد عتق رقبة لزمه صيام شهرين متتابعين وذلك في كفارة القتل الخطأ. يقول تعالى: [وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ]( ).
والتتابع هنا شرط لصحة الصوم، فمتى قطعه لزمه أن يبدأ من جديد إلا إذا قطعه لعذر شرعي كالحيض والنفاس والسفر غير المقصود تحيلاً فإن سافر لقصد التحليل على قطع الصوم لم يصح. وكالفطر يوم العيد ويوم التشريق، ومثل كفارة القتل الخطأ كفارة الظهار وسائر الكفارات الأخرى على اختلاف في مدة الصيام الواجبة ككفارة الجماع في نهار رمضان وكفارة اليمين وكفارة حلق الرأس للمحرم ومن لم يجد هدى التمتع وجزاء الصيد الذي قتله المحرم فكل هذه الأشياء الصيام فيها واجب.
4_ الصيام المحرم:
1ـ يحرم على المسلم صيام يومي العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى كمال
يحرم عليه صيام أيام التشريق الثلاثة بعد عيد الأضحى ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
(أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله)( ).
2ـ كما يحرم على المرأة أن تصوم تطوعاً بغير أذن زوجها إذا كان حاضراً.
3ـ ويحرم صيام يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا حصل غيم أو قتر إلا لمن كانت له عادة في الصيام فوافق عادته أو صامه قضاء أو عن نذر أو كفارة دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم)( ).
اللهم أنت المدعو بكل لسان والمقصود في كل آن نسألك فأنت المعروف بالإحسان ألا تردنا خائبين ولا من عطاياك مفلسين ولا عن بابك مطرودين وآمنا من فزع يوم الدين اللهم اعصمنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن وعافنا في الدارين من المحن فها نحن ببابك واقفون وإليك متوجهون فألحقنا بالصالحين واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين( ).

المجلس التاسع
ــــــــــــــــــ

فصل في:
العذاب الجسمي
للعصاة في القبر.
وبقية أقسام الصيام
ـــــــــــــــــــــــــــ.

العذاب الجسمي للعصاة في القبر
الحمد لله الذي نور بجميل هدايته قلوب أهل السعادة. وطهر بكريم ولايته أفئدة الصادقين فأسكن فيها وداده وحرس سرائر المؤمنين فطرد عنها الشيطان وذاده. ودعاها إلى ما سبق لها من عنايته فأقبلت منفادة. الحي الذي تعرف بأدلة وحدانيته فتحققت قلوب المؤمنين وجوده ووحدانيته وقدمه وبقاءه وانفراده المجيد الموصوف بالحياة والعلم والسمع والبصر والكلام والقدرة والإرادة.
سبحانه من إله رفع السماء بغير عمد وأسكن الأرض على الماء ومهد المنزه عن الصاحبة والوالد والولد الغني فلم يحتج إلى أحد.
أحمده أن بعث لنا خير رسله وخاتم أنبيائه وشرفنا بأن كنا من حزبه وأتباعه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإيمان من الصائمين والصائمات. . سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد. سبق لنا في الفصل الماضي بيان شيء من نعيم القبر وعذابه وسنتناول في هذا الفصل العذاب الجسمي للعصاة في القبر فنقول:
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم من رؤيا فيقص عليه من شاء الله أن يقص وأنه قال لنا ذات غداة: (أنه أتاني الليلة آتيان وأنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما وأنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيشعله رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت لهما سبحان الله ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصبح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى. قال: قلت: سبحان الله ما هذان قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور فأحسب أنه قال فإذا فيه لغط وأصوات فاطلعنا فيه فّإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضووا قلت: ما هؤلاء قالا لي: انطل فانطلق فانطلقنا فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أنه أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفعر له فاه فيلقمه حجراً فينطلق فيسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فيفعر له فاه فألقمه حجراً قلت لهما ما هذان قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة أو كأكره ما أنت راء رجلاً مرأى فإذا هو عنده تار يحثها ويسعى حولها قلت لهما: ما هذا؟ قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة فيها من كل نور الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان ما رأيتهم قط، قلت: ما هذا؟ وما هؤلاء؟ قال لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا إلى دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها، ولا أحسن قالا لي: ارق فيها فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر منهم كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر وإذا هو نهر معترض بحري كأن ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة، قال قالا لي: هذه جنة عدن وهذاك منزلك فسما بصري صعداً فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قالا لي: هذا منزلك قلت لهما بارك الله فيكما فذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا وأنت داخله، قلت لهما: فإني رأيت هذه الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت قالا لي، أما أنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق. وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحثها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم. وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، وفي رواية البرقاني: (ولد على الفطرة) فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد المشركين. وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم( ).
شعراً:
والخل في ضيق فذا متشفع
*** وهناك مغشي وذاك يعاني

والنار مطبقة وليس بناضب
*** لهب لها فاصبر مدى الأزمان

يا ظالماً يا فاسقاً يا مجرماً
*** هذا جزاء الظلم والعدوان

يا هاجر القرآن حسبك عبرة
*** هذا الجزاء لهاجر القرآن

يا تارك المفروض في أوقاته
*** متذرعاً بالشغل والنسيان

هذا مآل الناس فليعمل له
*** راجي الجنان وراهب النيران

كل سيحصد غرسه بيمينه
*** لا يظلم المولى بني الإنسان

يا رب فارحمنا وخفف وزرنا
*** وامنن علينا رب بالإحسان

بقية أقسام الصيام
سبق لنا الحديث عن قسمين من أقسام الصيام وهما الصيام الواجب والصيام المحرم، وسيكون حديثنا هنا عن نوعين آخرين، هما الصيام المندوب والصيام المكروه فنقول:
الصيام المندوب:
1ـ صيام ستة أيام من شوال:
من صام رمضان ثم اتبعه بست من شوال متتابعة أو متفرقة فكأنما صام الدهر يدل لذلك ما رواه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)( ).
ومعنى ذلك أن الحسنة بعشر أمثالها فالشهر بعشرة أشهر الستة أيام بستين يوماً فذلك ثلاثمائة وستون يوماً وهي سنة كاملة.
والسر في مشروعيتها والله أعلم أنها بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة تكمل فائدتها وتجبر نقصها فكذلك هنا هذه الستة الأيام تكمل ما نقص من شهر الصوم وتجبر ما حصل فيه من التقصير مما عسى المسلم يعلمه أولا يعلمه، والله المستعان.
2ـ صوم عشر ذي الحجة:
أيام عشر ذي الحجة شريفة مفضلة يضاعف العمل فيها، ولذا ينبغي أن يجتهد المسلم فيها ويكثر من الصلاة والصيام والصدقة والذكر وقراءة القرآن يدل لذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر) فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)( ).
3ـ يوم عرفة:
وهو يوم شريف عظيم يستحب صيامه لغير الواقف لحديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)( ).
والسر في صومه والله أعلم أنه تشبه بالحاج وتشوق إليهم وتعرض للرحمة التي تنزل عليهم وخوض في لجتها فهنيئاً لمن قبل الله منه قليل الأعمال وبالسعادة من باهى الله به ملائكته في هذا الموقف العظيم الذي تسكب فيه العبرات وتستمطر فيه الرحمات وتتنزل البركات من لدن رب الأرض والسماوات.
4ـ صيام شهر الله المحرم:
يدل لذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)( ).
5ـ يوم عاشوراء:
آكد أيام المحرم يوم عاشوراء، ويوم قبله أو بعده. يدل ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه)( ).
6ـ صيام ثلاثة أيام من كل شهر:
يسن يصام ثلاثة أيام من كل شهر ويستحب أن تكون أيام البيض وهي ثلاثة عشرة وأربعة عشر وخمسة عشر.
يدل لذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام( ).
7ـ صيام يومي الاثنين والخميس:
يسن صيام يومي الاثنين والخميس لأن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يصومهما يدل لذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)( ).
8ـ صوم يوم وإفطار يوم:
أفضل صيام التطوع صيام يوم وإفطار يوم. يدل لذلك ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص قال أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت فقلت له قد قلته بأبي أنت وأمي. قال: (فإنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر وقم ونم وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر).
قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: (فصم يوماً وأفطر يوماً فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا أفضل من ذلك)( ).

الصيام المكروه
1ـ صيام الدهر:
يكره أن يصوم المسلم الدهر كله لورود النهي عن ذلك في حديث أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام الدهر فقال: (لا صام ولا أفطر أو ما صام ولا أفطر)( ).
2ـ يكره الوصال في الصيام:
وهو ألا يفطر بين اليومين بأكل ولا شرب، وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم لما فيه من الضعف والمشقة يدل لذلك ما رواه أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تواصلوا) قالوا: فإنك تواصل. قال: (لست كأحد منكم إني أطعم وأسقى أو إني أبيت أطعم وأسقى)( ).
3ـ إفراد الجمعة بالصوم:
يدل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو بعده)( ).
4ـ إفراد يوم السبت:
يدل لذلك حديث: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)( ).
والحكمة في النهي عن إفراد هذين اليومين والله أعلم أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة فاستحب الفطر فيه ليكون أعون عليها وهو عيد الأسبوع وأما السبت فلأن اليهود كانت تعظمه وتخصه بالإمساك وترك العمل فيه فيصير صومه تشبهاً بهم فإن صامه مع غيره أو صامه عن نذر أو قضاء لم يكره لزوال المحذور والله أعلم.
اللهم يا من لا تشتبه عليه اللغات ولا تختلف عليه الأصوات ولا يتبرم بإلحاح ذوي الحاجات على اختلاف اللغات وتفنن المسئولات اجعل مآلنا إلى عالي الجنات ونعمنا بما فيها من الكرامات وارفع لنا عندك الدرجات واغفر عنا جميع السيئات.
اللهم أسلك بنا سبيل الإبرار واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار وامنن علينا بالعفو والعتق من النار وانظمنا في سلك المتقين والأخيار واغفر اللهم ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين( ).

المجلس العاشر
ــــــــــــــــــ

فصل في:
الأخوة الإسلامية.
وعلى من يجب الصوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الأخوة الإسلامية
الحمد لله الذي أحكم الأشياء كلها صنعاً وتصرف كما شاء إعطاءً ومنعاً. أنشأ الآدمي من قطرة فإذا هو يسعى وخلق له عينين ليبصر المسعى ووالى لديه النعم وتراً وشفعاً وضم إليه زوجة تدبر أمر البيت وترعى وأباحه محل الحرث وقد فهم مقصود المرعى.
أحمده سبحانه ما أرسل سحاباً وأنبت زرعاً وأصلى على رسوله محمد أفضل نبي علم أمته شرعاً وعلى أبي بكر الذي كانت نفقته للإسلام نفعاً وعلى عمر ضيف الإسلام بدعوة الرسول المستدعى، وعلى عثمان الذي ارتكب منه الفجار بدعاً، وعلى الذي يحبه أهل السنة جمعاً.
أيها الصائمون والصائمات سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد سيكون حديثنا هذه الليلة عن الأخوة الإسلامية وآثارها راجين من الله جلا وعلا أن تتحقق هذه الأخوة في مجتمع المسلمين اليوم كما تحققت في مجتمع المسلمين الأول وباركها رسول البشرية صلى الله عليه وسلم بل شجع على تحقيقها ورعاها أتم الرعاية يوضح ذلك ما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تدابروا ولا يبع بعظكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)( ).
أيها الصائمون: العمل بهذا الحديث العظيم من أعظم الأسباب الموصلة للتآلف بين المسلمين وقلة الشحناء بينهم فالمؤمنون أخوة في النسب أبوهم آدم وأمهم حواء لا يتفاضلون إلا بالتقوى. وإخوة في الدين قال تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين
أصابعه)( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)( ).
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا) أي لا يحسد بعضكم بعضاً. والحسد تمني زوال النعمة عن أخيك المسلم وهو حرام لأنه اعتراض على الله في نعمته وقسمته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر)( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)( ).
وقال تعالى: [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تناجشوا).
والنجش هو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليفر غيره بها وهو حرام لأنه من أسباب العداوة والبغضاء ومن أسباب أكل المال بالباطل ولهذا قال بعض العلماء الناجش آكل ربا خائن غاش. . . ومن غشنا فليس منا)( ).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولاتباغضوا) أي لا يبغض بعضكم بعضاً بتعاطي أسباب البغضاء من السب والشتم واللعن والغيبة والنميمة والخمر والميسر قال تعالى: [إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ]( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى
تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)( ).
والتباغض المذموم هو الذي منشؤه التنافس في الدنيا واتباع الأهواء فأما الحب في الله والبغض في الله فذلك أوثق عرى الإيمان وأحب الأعمال إلى الله.
وبناء على هذا يجب عليك أيها المسلم محبة الله ومحبة رسوله ومحبة الصالحين ومحبة ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح لأنك مع من أحببت يوم القيامة. كما يجب عليك بغض الكفر والفسوق والمعاصي وبغض الكفرة والمشركين والعصاة والملحدين.
وصدق الله العظيم: [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ثم قالصلى الله عليه وسلم: (ولا تدابروا).
والتدابر التهاجر والتقاطع، فإن كلاً من المتقاطعين يولي صاحبه دبره ويعرض عنه ولا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) معنى البيع على بيع أخيه أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أبيعك مثلها بتسعة والنهي للتحريم لما فيه من الإيذاء الموجب للتباغض، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخواناً) وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر وبيع بعضهم على بيع بعض كانوا إخواناً أي تعاملوا وتعاشروا معاملة الإخوان ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير مع صفاء القلوب والتضحية بكل حال فكنوا عباد الله إخواناً في المحبة والدين والرفق واللين.
شعراً:
شمر عسى أن ينفع التشمير
*** وانظر بفكرك ما إليه تصير

طولت آمالاً تكنفها الهوى
*** ونسيت أن العمر منك قصير

قد أفصحت دنياك عن غدراتها
*** وأتى مشيبك والمشيب نذير

دار لهوت بزهوها متمتعاً
*** ترجو المقام بها وأنت تسير

ليس الغنى في العيش إلا بلغة
*** ويسير ما يكفيك منه كثير

لا يشغلنك عاجل عن آجل
*** أبداً فملتمس الحقير حقير

ولقد تساوى بين أطباق الثرى
*** في الأرض مأمور بها وأمير

على من يجب الصوم

من المعلوم لكل مسلم صغيراً أو كبيراً عالماً أو جاهلاً بل من المعلوم من الدين بالضرورة أن صيام شهر رمضان واجب على كل مسلم بالغ عاقل.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وقال تعالى: [الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً)( ).
وأما الكافر:
فلا يجب عليه الصيام وجوب أداء في الدنيا لأنه لا يصح منه لو فعله وذلك لأن الإسلام شرط من شروط صحته.
وإنما يجب عليه وجوب مؤاخذة في الآخرة بمعنى أن الله يعاقبه على عدم فعله يوم القيامة. يقول تعالى حكاية عن سؤال المؤمنين الكافرين: [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ]( ).
وأما الصبي:
فلا يجب الصيام على المسلم الصغير الذي لم يبلغ، لأن القلم رفع عنه إلا أنه إذا فعله الصبي المميز صح منه وأثيب عليه وينبغي لأولياء الأمور أن يأمروا الصغار الذي يطيقون الصيام ويشجعونهم عليه ويضعون لهم الحوافز والجوائز.
وما يفعله بعض الأولياء مع أولاده من منعهم من الصيام رحمة بهم وشفقة عليهم لا أساس له من شرع ولا منطق ولا منظور تربوي راشد، لأن الخير في تعويدهم على الطاعة وحفزهم إليها وتشجيعهم عليها، وهذا كله مرهون بعدم حصول الضرر عليهم وهو منتف ولله الحمد في هذه الأزمنة مع توفر وسائل الراحة من التكييف وغيره.
وأما المجنون:
فلا يجب الصيام عليه لرفع القلم عنه لما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق)( ).
وبهذا يتبين أن الصيام واجب على المسلم البالغ العاقل المقيم القادر السالم من الموانع فالمسلم يخرج الكافر إذ لا يجب عليه الصوم كما سبق.
والبالغ يخرج الصغير إذ لا يجب عليه الصوم لكنه يؤمر به تعويداً له عليه وتدريباً له وليسهل عليه إذا بلغ.
وينبغي أن يعلم أن البلوغ يحصل بواحد من أمور ثلاثة:
1ـ إنزال المني باحتلام أو غيره.
2ـ نبات شعر العانة.
3ـ بلوغ تمام خمس عشرة سنة.
وتزيد الأنثى بأمر رابع وهو الحيض فمتى حاضت فقد بلغت مهما كان سنها.
والعاقل: يخرج المجنون إذ لا يجب عليه الصيام.
والمقيم: يخرج المسافر فهو مخير بين الصيام والفطر إلا إذا شق عليه الصيام فالفطر أفضل وإن تساوى الأمران فالصيام أفضل.
والقادر: يخرج المريض ومن حكمه كالكبير والعجوز الذين لا يطيقان الصيام فهما يطعمان عن كل يوم مسكيناً من غالب قوت البلد.
والسالم من الموانع: يخرج من به مانع يمنعه من الصيام كالحيض والنفاس.
فيجب على المسلم أن يهتم بأمر الصيام هذه العبادة العظيمة التي تتكرر في حياة المسلم كل عام وفيها من المنافع المعلومة المتحققة الشيء الكثير فهنيئاً لمن أدى هذه العبادة على وجهها الصحيح دون سأم أو ملل أو تبرم.
وهنيئاً لمن عمر أوقات رمضان بالطاعة وقضاها بأنواع القربات من ذكر ودعاء وصدقة وتلاوة للقرآن.
ويا لخسارة من تكاسل في هذه الأوقات الفاضلة. وضيع هذه الفرصة الثمينة ففتش عن نفسك أخي المسلم هل أنت ممن أحسنوا قبل رمضان فزادوا فيه إحساناً على الإحسان. أم أنت ممن ضيع قبل رمضان فجاءه رمضان وما غير من أحواله شيئاً تبع هواه فأرداه وأطاع شيطانه فأغواه وغداً سيندم على التفريط يوم لا ينفع الندم.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد يا ذا الجلال والإكرام يا منان يا بديع السماوات والأرض يا حي يا قيوم نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى وأن تجعلنا ممن رضي بك رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ونسألك أن تثبتنا على ذلك إلى الممات وأن تغفر لنا الخطايا والسيئات وأن تهب لنا منك رحمة إنك أنت الوهاب وأن تغفر لنا ولوالدينا برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلَّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم( ).

المجلس الحادي عشر
ـــــــــــــــــــــــــــ

فصل في:
آداب الصيام.
بر الوالدين.
ــــــــــــــــــ

آداب الصيام
الحمد لله مدبر الليالي والأيام ومصرف الشهور والأعوام الملك القدوس السلام المتفرد بالعز والعظمة والبقاء والدوام المنزه عن النقائص ومشابهة الأنام يعلم ما كان وما يكون ويرى ما في داخل العظام ورب قادر بالمجرمين شديد البطش والانتقام قدر أمور عباده فنظمها أحسن نظام وشرع الشرائع فأحكمها أيما إحكام بقدرته تهب الرياح ويسير الغمام وبحكمته ورحمته يتعاقب الضياء والظلام أحمده سبحانه شرع لعباده الصلاة والصيام وأودع في الصيام من الأسرار ما تحار فيه الأفهام.
وأصلي وأسلم على عبده أفضل من صلى وصام وعلى أصحابه وأتباعه في الصحب الكرام.
أيها الأخوة المؤمنون:
لقاؤنا هذه الليلة حول آداب الصيام وسيقتصر الحديث على بعض الآداب الواجبة، ونركز على الغيبة والنميمة وسماع آلات اللهو لأنها هي الكثيرة الشائعة في المجتمع فنقول والله حسبنا ونعم الوكيل.
من الآداب الواجبة على الصائمين وغيرهم أداء الفروض في أوقاتها فبعض المسلمين هداهم الله يتهاون بالصلاة في رمضان فتراه يصوم النهار وينام عن الصلوات وما علم المسكين أن عاص لله سبحانه وتعالى إذا ضيع أهم فروض الإسلام على الإطلاق وهي الصلاة مع جماعة المسلمين ويكفي هؤلاء زجراً ووعيداً قوله تعالى: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً]( ).
ومن الآداب الواجبة أن يجتنب الصائم جميع ما حرم الله جل وعلا من الأقوال والأعمال وأخطر ذلك الكذب.
ويتجنب الغيبة وهي ذكره أخاه بما يكره في غيبته سواء كان في خلقته أو خلقه ويجتنب النميمة وهي نقل كلام شخص في شخص إليه ليفسد بينهما.
ويجتنب الغش في جميع المعاملات من بيع وإجارة صناعة وزراعة ومنه الغش في الامتحانات.
ويجتنب المعازف بجميع أشكالها وأنواعها ففي الحلال ما يغني عن الحرام.
وإليك أخي المسلم طرفاً من النصوص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم تؤكد ما سبق.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام)( ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذبان فقال: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بل إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)( ).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (. . . كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)( ).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة. . . إلى قوله ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله بن عمرو هذه التي بلغت بك)( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)( ).
وقد حذر صلى الله عليه وسلم من المعازف وقرنها بالزنا فقال: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)( ).
فيا أخي الصائم ويا أختي الصائمة.
حذار أن تطلقوا ألسنتكم في أعراض إخوانكم المسلمين اتقوا الله فيهم فإن كل كلمة مسجلة. وصدق الله العظيم: [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
وحذار من غش المسلمين والتحايل عليهم لأكل أموالهم بالباطل فالحساب عسير والصراط دقيق والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وحذار أيتها الأخت المسلمة من التبرج والسفور، وفي رمضان تصفد الشياطين، لكن شياطين الإنس يغدون ويروحون.
إلزمي بيتك وأرسلي من يحضر حاجتك واتقي الله في نفسك وعرضك وزوجك فسيأتي يوم تندمين فيه ولات ساعة مندم.
شعراً:
ومسندون تعاقروا كأس الردى
*** ودعا بشربهم الحمام فأسرعوا

برك الزمان عليهم بجرانه
*** وهفت بهم ريح الخطوب الزعزع

خرسى إذا ناديت إلا أنهم
*** وعظوا بما يزع اللبيب فأسمعوا

والدهر يفتك بالنفوس حمامه
عجباً لمن يبقى ذخائر ماله
ولغافل ويرى بكل ثنية أتراه يحسب أنهم أسأروا

***
***
***
*** فلمن تعد كريمة أو تجمع
ويظل يحفظهن وهو مضيع
ملقى له بطن الصفائح مضجع
من كأسه أضعاف ما يتجرع

بر الوالدين
إخوة الإيمان:
اتقوا الله واعلموا أن بر الوالدين من أوجب الواجبات وأفضل الأعمال والبر من صفات المؤمنين والعقوق من صفات الفسقة والأنذال وقد أمر الله ببر الوالدين فقال: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً]( ).
على الولد أن يعرف قدر والديه ويحسن إليهما بقوله وفعله ولا يتكبر عليهما ولا ينهرهما.
وعليه أن يقوم بما يلزمهما من خدمة وطاعة ويبذل لهما ما يرغبانه ويشتهيانه من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ويتحمل منهما كما تحملا منه حال صغره وعجزه عن القيام بنفسه فهما اللذان ربياه بنعم الله وهما السبب في وجوده وتحملا منه حضانة وتغذية وكسوة وقدماه على أنفسهما إن مرض مرضاً وإن سهر سهراً، لقد عانيا من التعب والمشاق رجاء أن يكبر فينفعهما ويخدمهما ويرثهما في العلم والدين والأدب والسكن ويكون رب الأسرة عند عجزهما ولعله يكون صالحاً فيدعو لهما ويكون خير خلف لهما.
فيا أيها الولد الصالح لا تخيب رجاء والديك فيك لا تعقهما فتعاقب بعذاب الله وتعاقب بعقوق أبنائك لك وقد ورد الحديث: (بروا آباءكم تبركم أبنائكم)( ).
وقد جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله، فقال له عليه السلام: (أحي والداك) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد)( ).
وقال رجل: أي الجهاد أفضل؟ قال: (الصلاة لوقتها)، قال: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين)، قال: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)( ).
انظر أخي المسلم كيف قدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، وذلك لأهمية حق الوالدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف امرىء أدرك أحد والديه أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة)( ).
واعلم أخي المسلم: أن هناك ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر فلا يعق والديه إلا رجل عاص لئيم.
إن العقوق من كبائر الذنوب، ومن أعظم المحرمات ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم: العاق لوالديه ومدمن الخمر، والمنان)( ).
كل الذنوب تؤخر عقوبتها إلا عقوق الوالدين، فالعقوبة تعجل نسأل الله السلامة والعافية. إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع الرحم، فما الظن بالعاق أنه ممقوت عند ربه وعند عباده لا يرغب أحد في مصاهرته ومعاملته.
إن حق الوالدين عظيم فبشراك أيها المسلم البار وهنيئاً لك بر أولادك في الدنيا والأجر الوفير في العقبى هنيئاً لك في بسط الرزق وبركة العمر هنيئاً لك الذكر الحسن في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة.
لقد ملأ سمع الناس اليوم حوادث كثيرة تنبئ عن عقوق الأولاد لآبائهم وأمهاتهم. لقد ثبت لنا أن هناك من وضع أمه في الملاجئ زهداً فيها.
لقد ثبت لنا أن هناك من رفض الإفصاح عن أبيه في بعض الولائم لئلا يشوه سمعته.
فوا أسفا على الحمل والرضاع ووا أسفا على السهر والبكا ويا ضيعة الغذاء والكساء والدواء.
والله لا يحس المسلم في التقصير والتفريط مع والديه إلا إذا ودعهما للمقابر فهنا يسكب الع برات ويتحسر على ضياع الأوقات فاغتنم أخي المسلم ما بقي من عمرك وعمر والديك فبرهما من أقصر الطرق إلى الجنة، وصدق الله العظيم:
[وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ]( ).
اللهم اجعل بر الوالدين من أجل قرباتنا والقيام بشأنهما من أعظم أعمالنا والسهر على مصالحهما من أفضل حسناتنا ففي ذلك لنا سعة الرزق، وطول العمر وحسن الخاتمة.
اللهم اجعلنا ممن يقوم ببعض حقوق والديه عليه وهيأ لنا أسباب رضاهما عنا. اللهم رضهما حتى يسامحانا وأعل درجاتهما في الجنة إكراماً.
اللهم اجمعنا بهما في جنات النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
اللهم رب ارحمهما رب ارحمهما رب ارحمهما كما ربياني صغيراً رب اغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين( ).

المجلس الثاني عشر
ـــــــــــــــــــــــــ

فصل في:
آداب الصيام.
وحديث
عبدالرحمن بن سمرة.
ــــــــــــــــــــــــــــ

آداب الصيام
الحمد لله الذي جعل صيام رمضان جُنة من العذاب، وفضله على سائر الشهور، وأجزل فيه الأجر للصائمين فجزاهم بغير حساب أضاف الصوم لنفسه وقال الصوم لي وأنا أجزي به، فيا سعادة من صامه وقامه إيماناً واحتساباً جعل شهر رمضان تاجاً على رأس الزمان فيا بشرى لأهل الصبر والاحتساب، شهر أنزل الله فيه الكتاب هدى ورحمة ونوراً لأولي الألباب.
شهر رمضان خص الله فيه الصائمين بالدعاء المستجاب أحمده سبحانه حمد معترف لربه قد خر له راكعاً وأناب، وأشكره وقد تأذن بالمزيد لمن شكر وتاب، وأصلي وأسلم على رسوله المصطفى شفيعنا يوم الحساب وعلى آله وأصحابه الطيبين أولي الألباب.
إخوة العقيدة:
يتجدد اللقاء مساء هذه الليلة مع درس من دروس الصيام أسأل الله جل وعلا أن ينفعنا بما نسمع وأن يجعله حجة لنا لا علينا يوم تتطاير الصحف ويُسلَّم الكتاب، درسنا هذه الليلة حول آداب الصيام المستحبة من سحور وتأخيره وفطر وتعجيله وكثرة دعاء وصدقة وتلاوة للقرآن فاستمع أخي جيداً لعلك أن تحظى بالقبول لتفوز على الدوام.
للصيام آداب كثيرة ينبغي على المسلم أن يفعلها لأنها تكمل الصوم وتجمله وتجبر ما عساه يقع من خلل أو تقصير غير مقصود.
من هذه الآداب:
1ـ السحور:
فيستحب لمن يريد الصيام أن يتسحر لما في السحور من البركة والاستعانة على صيام النهار ومخالفة أهل الكتاب كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقد روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسحروا فإن في السحور البركة)( ).
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)( ).
ووقت السحور يمتد بين نصف الليل إلى طلوع الفجر ويحصل بكثير المأكول وقليله كما أنه يحصل بالماء والتمر وغيرهما.
ويستحب تأخير السحور إلى آخر الليل ما دام المرء متيقناً بقاء الليل.
روى عبد الله بن عمر وعائشة أن بلالاً كان يؤذن بليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم كلثوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)( ).
وروى زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ما بينهما قال خمسين آية( ).
2ـ تعجيل الفطر:
وكونه على تمر أو ماء والدعاء عنده، يستحب للمسلم تعجيل الفطر بغروب الشمس، كما يستحب له أن يكون فطره على تمر، فإن لم يجد فعلى ماء يدل لذلك كله ما رواه سهل بن سعد أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)( ).
وعن أبي عطية قال: دخلت أنا مسروق على عائشة فقلنا يا أم المؤمنين رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما يعجل الإفطار، ويعجل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة، فقالت: أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، قلنا عبد الله بن مسعود قالت كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
وعن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور)( ).
3ـ الإكثار من الصدقة وتلاوة القرآن وتفطير الصائمين:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة( ).
وكان جوده صلى الله عليه وسلم يجمع أنواع الجود كلها من بذل العلم والنفس والمال لله عز وجل في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق من تعليم جاهلهم وقضاء حوائجهم وإطعام جائعهم وكان جوده يتضاعف في رمضان لشرف وقته ومضاعفة أجره وإعانة العابدين فيه على عبادتهم والجمع بين الصيام وإطعام الطعام، وهما من أسباب دخول الجنة.
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟) قال أبو بكر: أنا، قال: (فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟) قال أبو بكر: أنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)( ).
شعراً:
نعت نفسها الدنيا إلينا فأسمعت
*** ونادت ألا جدوا الرحيل وودعت

وزمت مطايانا إلى برزخ البلى
*** وساقت بنا سوقاً حثيثاً فأسرعت

سلام على أهل القبور أحبني
*** لقد بليت أجسامهم وتقطعت

فما مُوِّتَ الأحياءُ إلا ليبعثوا
*** يقيناً بليت وتُجزى كل نفس بما سعت

وقال آخر
لا تثق بالحياة من بعد قبري
*** كل حي مصيره كمصيري

كنتُ في نعمة وفي خفض عيش
*** فمضى وانقضى كيوم قصير

ثم أفردت في القبور وحيداً
*** وجفاني الصديق فوق القبور

حديث عبد الرحمن بن سمرة
رضي الله عنه
عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في صفة بالمدينة فقال: (إني رأيت البارحة عجباً رأيت رجلاً من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه، ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فطرد الشياطين عنه، ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما دنا من حوض منع وطرد فجاءه صيام رمضان فأسقاه وأرواه ورأيت رجلاً من أمتي فرأيت البنين جلوساً حلقاً حلقاً كلما دنا من حلقة طرد، ومنع فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي، ورأيت رجلاً من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة وهو متحير في ذلك فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور. ورأيت رجلاً من أمتي يتقي وهج النار وشررها فجاءته صدقته فصارت ستراً بينه وبين النار وظلاً على رأسه ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلته لرحمه فقالت: يا معشر المؤمنين إنه كان وصولاً لرحمه فكلموه فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم ورأيت رجلاً من أمتي احتوشته الزبانية فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه وبينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذه بيده فأدخله على الله عز وجل ورأيت رجلاً من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم فجاءه رجاؤه في الله عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلاً من أمتي قد هوى فغي النار فجاءته دمعته التي قد بكاها من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصفة فجاءه حسن ظنه في الله فسكن رعدته ومضى ورأيت رجلاً من أمتي يزحف على الصراط يحبو أحياناً ويتعلق أحياناً فجاءته صلاته علي فأقامته على قدميه وأنقذته ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة ألا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة)( ).
وفي الحديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم مر في معراجه إلى السماء على قوم تضرب رؤوسهم بالصخر فسأل عنهم فقيل له هؤلاء الذين تثاقل رؤوسهم عن الصلاة، ثم مر على قوم عليهم رقاع يسرحون في الضريع ورضف جهنم فسأل عنهم فقيل: إنهم لا يؤدون صدقة أموالهم ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها فسأل عنه فقيل هذا رجل عليه أمانات الناس وهو يريد أن يزيد عليها ومر على قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار كلما قرضت عاد فسأل عنهم فقيل له هؤلاء خطباء الفتنة ومر بواد فيه ريح طيبة وأصوات حسنة فقيل هذه الجنة تقول يا رب ائتني بأهلي وما وعدتني فقد كثر سندسي واستبرقي ومرجاني وفضي ومر بواد فيه أصوات منكرة فقيل هذا صوت جهنم تقول يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي( ).
أرأيتم أيها المؤمنون الفرق بين عمل الصالحات والسيئات أرأيتم عاقبة المؤمنين وعاقبة الجاحدين أرأيتم سعادة الأخيار وشقاوة الأشرار. أرأيتم كيف انقضت حياة هؤلاء وهؤلاء، ولكن الغبن والتفاخر والتكاثر في الآخرة أرأيتم سعادة من أطاع ربه وبر والديه ووصل رحمه وحافظ على فرائضه وأحسن الظن بربه وعطف على إخوانه وساهم في مجالات الخير والإحسان.
أي فرق كبير بين هؤلاء وبين من ضيعوا الصلوات وهجروا بيوت الله وآذوا المسلمين في أعراضهم صباح مساء.
أي نتيجة حصل عليها من وقعوا في محارم الله وحاربوا الله في الدنيا وكأنهم سيعمرون فيها. لقد تحقق وعد الله إنه لا يخلف الميعاد.
[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ]( ).
اللهم يا أكرم من رجي ويا أحق من دعي ويا خير من ابتغي امنن علينا بغفرانك وعاملنا بفضلك وإحسانك واجعلنا من ورثة جناتك. اللهم هب لنا من ما وهبته لعبادك الأخيار وأمن خوفنا بيوم لا تنفع فيه الأعذار برحمتك يا كريم يا غفار. اللهم اجعل الجنات لنا داراً. وامنن علينا بصلاح أولادنا واجعلهم صالحين وأخياراً. اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا استفرجت به فرجت وإذا استنصرت به نصرت أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين( ).

المجلس الثالث عشر
ــــــــــــــــــــــــ

فصل في:
فوائد الصيام.
والصبر الجميل
ــــــــــــــــــ.

فوائد الصيام
الحمد لله الذي جعل صيام رمضان جُنة من العذاب وفضله على سائر الشهور وأجزل فيه الأجر للصائمين فجزاهم بغير حساب أضاف الصوم لنفسه فقال الصوم لي وأنا أجزي به، فيا سعادة من صامه وقامه عن إيمان واحتساب جعل شهر رمضان تاجاً على رأس الزمان فيا بشرى لأهل الصبر وحسن مآب، شهر أنزل الله فيه الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب، شهر أعز الله فيه الإسلام يوم بدر وهزم الأحزاب، شهر فتح الله فيه مكة وهزم الشرك فولى على الأعقاب، شهر خص الله فيه الصائمين ومنحهم الدعاء المستجاب.
أحمده سبحانه على كل حال حمد معترف بالتقصير يخشى يوم الحساب وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة صفوة الأحباب وعلى جميع الآل والأتباع والأصحاب.
إخوة الإيمان: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
درسنا لهذه الليلة حول فوائد الصوم وهي كثيرة جداً ولكننا نختصر ونقتصرعلى المهم بمشيئة الله تعالى.
1ـ الصيام رياض للأبرار المتقين للتدرب على وظيفتهم بخلافة الله في الأرض وهو رحمة عظيمة النفع للبدن والروح جميعاً، فيه اجتماع القلب والهم على الله توفير قوى النفس على محبته وطاعته والجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى مهما تنوعت بألقابها وشعاراتها.
2ـ الصيام سبب لزرع تقوى الله في القلوب وكف الجوارح عن المحرمات يؤكد هذا قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
فشرع الصيام لتحصيل التقوى وهي كلمة جامعة لكل خصال الخير ومؤداها أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.
3ـ والصيام يعود المسلم الصبر والتحمل والجلد، لأنه يحمله على ترك محبوباته وشهواته وكبح جماح النفس فيه مشقة عظيمة ولهذا كان في الصوم أنواع الصبر الثلاثة صبر على طاعة الله، وصبر على محارم الله وصبر على أقدار الله. ومتى اجتمعت أدخلت العبد الجنة بإذن الله: [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
4ـ الصيام يساعد المسلم على التغلب على نفسه الأمارة بالسوء فهي دائماً تدعوه لانتهاك المحرمات والإقبال على الشهوات لكن الصوم يفوت عليها الفرصة إذ يكسر حدة الشهوة فيضعف سلطانها.
5ـ الصيام يضعف مجاري الشيطان وبالتالي يضعف تسلطه على المسلم ويبحث عن مركب سهل يحقق من خلاله أهدافه ومآربه، ومتى أطلق المسلم لشهواته العنان تمكن الشيطان منه وأخذ يوجهه لما يريد.
6ـ الصيام يعرف العبد نعمة ربه عليه فمتى أحس بالجوع والعطش عرف قدر النعمة التي يتقلب بها طول العام.
7ـ الصيام يحمل المسلم على الإحسان للفقراء والمساكين والمحاويج فالصائم إذا جاع أحس بحاجة الجائعين طوال العام وإذا عطش أحس بالظامئين خلال العام فيحفزه ذلك للإحسان إليهم والشفقة عليهم.
8ـ الصيام مظهر من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية وعنوان من عناوين تكافلها وترابطها، إمساك في وقت واحد وإفطار في وقت واحد، لا فرق بين أمير ومأمور ولا صغير وكبير ولا شريف ووضيع، وكم بهر مظهر الإفطار الجماعي عقولاً وحيَّر ألباباً فأذعت وانقادت واهتدت بنور الله.
9ـ الصيام يعين على الطاعة ويقرب من الله فكلما عمل المسلم طاعة حفزته لطاعة أخرى وهذا أحد أمارات قبول العمل.
10ـ الصيام يرقق القلب ويجعله يتعلق بالله ويديم ذكره وشكره وكم رأينا
من تنافس الشباب والأحباب في حفظ كتاب الله وبذل الصدقات وزيارة البيت العتيق.
11ـ وفي الصيام صحة عظيمة بجميع معانيها صحة بدنية حسية وصحة روحية معنوية.
ولو استطردنا في فوائد الصيام لطال بنا المقام ويكفي أن نشير هنا إلى أن الصيام علاج لكثير من الأمراض المزمنة حدثني من أثق به قال كان لي جار في مدينة الرياض وكان يشكو من مرض حير الأطباء ولم يجد له علاجاً في الداخل ولا في الخارج وشكايته في البطن يقول وقدر الله عليه فحصل عليه حادث ومات بسببه شخص فلزمته الكفارة فصام شهرين متتابعين وخلالها بدأ يحس بضمور الألم حتى اختفى ثم أجرى تحليلات دقيقة فقرر الأطباء شفاءه تماماً مما كان يشكو وشكوا في علاجه هنا أو هناك ولكنه أخبرهما أنه لم يستعمل دواء قط إلا أنه صام شهرين متتابعين فكانت المفاجأة أن الحكيم العليم لا يشرع شيئاً إلا وفيه حكمة بالغة عقلناها أو لم نعقلها وما أجمل التسليم وألذ الانقياد وأسمى الطاعة.
شعراً:
وضح البيان وأنت في غرر الهوى
*** متشاغل ببطالة وتصابى

ترتاح في حلل المشيب منعماً
*** أأخذت ميثاقاً من الأوصاب

كم ناظر قد راق حسناً ناظراً
*** أبلاه بالآفات شر مصاب

لم يغن عنه جماله وكماله
*** ومقام مُلك في أعز نصاب

وأتاه من حرب المنون مُعاجلُ
*** صعب شديد الوهن غير محاب

فرآى اكتساب يديه ليس بنافع
*** ودعا ذويه فكان غير مجاب

وحواه لحد ضيق متهدم
*** يعلوه كدب جنادل وتراب

فأفق لنفسك والزمان مساعد
*** وأطلع نصيحك ساعياً لصواب

وارجع إلى مولاك حقاً تائباً
*** من قبل أن يعي برد جواب

الصبر الجميل
الصبر ضرورة بشرية وفريضة شرعية تلازم الإنسان في جميع أحواله وتقلباته وهو حبس النفس على طاعة الله وكفها عن المعاصي والرضا بقضاء الله وقدره دون شكوى.
يقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ويقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
ويقول تعالى: [وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
ويقول تعالى: [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)( ).
الصبر ضرورة في هذه الحياة وما فاز فيها وحصل على مطلوبه إلا الصابرون.
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
*** فما انقادت الآمال إلا لصابر

فلولا الصبر لما حصد الزارع بذره ولما جنى الغارس ثمره وهكذا كل ناجح في الدنيا تجد مطيته الصبر.
إني رأيت وفي الأيام تجربة
*** للعبد عاقبة محمودة الأثر

وقـل مــن جَـدَّ فــــي أمر يحاوله
*** واستصحب الصبر إلا فاز

والصابرون لا يدركون مطالبهم بسهولة ويسر ولكنهم يتحملون كل ما يصيبهم ويتخطون كل عقبة في طريقهم.
لا ييأس وإن طالت مطالبه
*** إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
*** ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

وللصبر شروط منها:
1ـ الإخلاص فالصبر المحمود هو ما كان لله سبحانه وتعالى. يقول تعالى: [وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ]( ).
ويقول تعالى: [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً]( ).
2ـ عدم شكوى الله: لا يسوغ للمسلم أن يشكو الله إلى خلقه لأن هذا لا يفيده في شيء لكنه يحرمه الأجر ويخرجه إلى دائرة الوزر:
وصدق الشاعر:
وإذا عرتك مصيبة فاصبر لها
*** صبر الكريم فإنه بك أرحم

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما
*** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

3ـ أن يكون الصبر في أوانه:
الصبر المحمود هو ما كان في محله وقبل فوات وقته، أما إذا فات وقته فلا فائدة فيه.
عن أنس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة عند قبر وهي تبكي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقي الله واصبري) فقالت إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، قال فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأخذها مثل الموت، قال: فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت يا رسول الله لم
أعرفك، فقال صلى الله عليه وسلم: (الصبر عند الصدمة الأولى)( ).
وللصبر مجالات منها:
1ـ الصبر على بلاء الدنيا:
لا أحد يسلم من بلاء الدنيا من فقدان الأحباب وخسران المال وحصول الآلام والأوجاع والأسقام وهذا لا يخلو منه أحد إلا من يشاء الله ويصيب البر والفاجر والمؤمن والكافر والغني والفقير والصغير والكبير وسائر الخلق أجمعين.
وصدق الله: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ).
2ـ الصبر عن شهوات النفس:
الابتلاء كما يكون بالشر يكون بالخير ولهذا ينبغي ألا يطلق المسلم لنفسه العنان لتسرح وتمرح في الشهوات والملاذ تأخذ ما لذ وطاب وتغفل عن الشكر والذكر وتلاوة الكتاب[وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً]( ).
كثير ممن متعهم الله بالصحة والعافية وأغرق النعم عليهم فهم يتقلبون في شهوات نفوسهم كثير منهم ذلك فتنة له أنها نقم وليست بنعم وصدق الله العظيم: [وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى]( ).
3ـ الصبر على طاعة الله:
الطريق إلى الله يحتاج إلى صبر ومجاهدة لأن فيه عوائق على الطريق هم يصيبك أو حاسد يغبطك أو منافق يؤذيك في نفسك أو عرضك، والطاعة تحتاج إلى مصابرة لأن النفس تتفلت وتنفر من القيود وتطلب الأنفلات: [إِلاَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ]( ).
4ـ الصبر في الدعوة إلى الله:
الدعوة إلى الله سبيلها طويل وطريقها شاق تحتاج إلى رجال عزائمهم لا تخور يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر. وهناك صبر عند لقاء العدو وصبر على الزوجة والأولاد وصبر على الأخوة الصادقة وصبر على طلب العلم، وغيرها كثير.
أسأل الله العلي القدير أن يرزقنا الصبر على طاعته والصبر عن معصيته والصبر على أقداره المؤلمة وأسأله تعالى أن يجمعنا ووالدينا وأحبابنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الفائزين برضوانك وتجعل مآلنا إلى جناتك وتعيذنا من عذابك ونيرانك. اللهم ارحم ذلنا يوم قيام الأشهاد وآمن خوفنا من فزع يوم المعاد ووفقنا لما فيه تنجينا في ظلم الألحاد. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلة يوم الدين( ).

المجلس الرابع عشر
ـــــــــــــــــــــــــ

فصل في:
حق المسلم على أخيه.
والصيام عن اللغو والرفث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حق المسلم على أخيه
الحمد لله الذي زحزح همم الأولياء عن السكون إلى العاجلة. وشرح صدور السعداء لإيثار الآجلة، المتفرد بالكمال والكبرياء والجلال والبقاء والعز الذي لا نفاد له، استوى على العرش من غير تكييف وقهر، وعلم ما كان وما يكون من الخافي وما ظهر ونفذت أقداره في الخلائق فكل نفس لما قدر لها عاملة القلوب تعرفه بصنعته والرقاب خاضعة لعزته والعقول في تكييف عظمته حائرة ذاهلة صفاته ثابتة وتخيلات المشبهين باطلة.
الملك الكريم الغفور الرحيم الذي يغفر لمن استغفر ويجبر من انكسر، ويقيل من استقاله ويجيب سائله، العفو الذي يستر الزلات ويقيل العثرات وينادي في كل ليلة ليجيب الدعوات ويغفر السيئات ويتوب على من تاب من قبيح الجنايات.
أحمده سبحانه على ما أسبغ علينا من نعمه الشاملة وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إخوة الإيمان:
يتجدد اللقاء في هذه الليلة حول حق المسلم على أخيه ذلك الأمر الذي كادت مشاغل الحياة وتعقيداتها أن تجهز على الكثير منه إلا ما رحم ربك.
فلنستمع أيها الأحباب ولنبادر إلى العمل لعل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست)، قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: (إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه)( ).
هذه الحقوق الستة من قام بها في حق المسلمين كان قيامه بغيرها أولى وحصل له أداء هذه الواجبات والحقوق التي فيها الخير الكثير والأجر العظيم من الله تعالى.
الأولى:
إذا لقيته فسلم عليه، فإن السلام تحية المسلمين وأتم هذه التحية وأكملها السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهو دعاء للمسلم عليه بالسلامة والرحمة والبركة، والسلام اسم من أسماء الله الحسنى، والسلام من محاسن الإسلام ومن حق المسلم على أخيه المسلم، وابتداؤه سنة عند اللقاء على من عرفت ومن لم تعرف، من صغير وكبير وغني وفقير وشريف ووضيع وهو يتضمن تواضع المسلم وأنه لا يتكبر على أحد، فمن بدأ الناس بالسلام فقد برئ من الكبر، وأولى الناس بالله من بدأهم بالسلام وأبخل الناس الذي يبخل بالسلام، وإفشاء السلام من أسباب المحبة والألفة بين المسلمين الموجبة للإيمان الذي يوجب دخوال الجنة والنجاة من النار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)( ).
وعلى المسلم عليه رد السلام بمثله أو بأحسن منه. قال تعالى: [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا]( ).
وهذه التحية في الدنيا والآخرة: [تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ]( )، [لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً]( ).
الثانية:
ومن حق أخيك المسلم عليك إذا دعاك فأجبه أي دعاك لدعوة طعام أو
شراب فأجبر خاطر أخيك الذي أكرمك بالدعوة وأجبه لذلك إلا أن يكون لك
عذر شرعي.
وهنا نهمس في آذان إخواننا المسلمين ونقول ينبغي ألا توقعوا إخوانكم في الحرج وذلك في دعوات الزواج فكثير من الناس يرسل دعوة الزواج لمن عرف ومن لم يعرف، ثم تصل دعوة الزواج وقد يكون عند الشخص غيرها فيجد المسلم حرجاً في عدم إجابة الدعوة ولو كانت الدعوة عبر الهاتف قبل البطاقة وأخذ موافقة المدعو سلفاً لكان أفضل وإذا لم يتيسر ذلك فليضع المسلم في حسابه أن هذه البطاقة لا تعني وجوب إجابة الدعوة لنرفع عن أنفسنا الحرج المرفوع شرعاً، ومتى تعارف الناس على ذلك أصبح ذلك عرفاً طيباً يعملون به والله المستعان.
الثالثة:
ومن حق أخيك المسلم عليك إذا استنصحك فانصح له أي إذا استشارك في عمل من الأعمال هل يعمله أم لا فانصح له بما تحب لنفسك، فإن كان العمل نافعاً من كل وجه فحثه على فعله، وإن كان مضراً فحذره منه، وإن احتوى على نفع وضر فاشرح له ذلك ووازن بين المنافع والمضار والمصالح والمفاسد، وكذلك إذا استشارك في عمل من الأعمال أو في اختيار زوجة أو صلاحية زوج أو مناسبة وظيفة ـ ما ـ أو العمل في مدينة ـ ما ـ فكل ذلك يجب عليك أن تمحضه النصيحة وألا تستعجل في إبداء الرأي لئلا توقع أخاك في ورطة هو في غنى عنها.
ثم لينتبه الناصح أن هناك أموراً ينبغي التشجيع عليها وعدم ثني المستشير عنها كمن جاء يستشيرك وقد سمى ولده أو بنته باسم لا شبهة فيه أو كمن جاء يستشيرك وقد اشترى نوعاً من السيارات أو كاد يصدر قراره في وظيفة ما فإذا كانت هذه الأمور لا ضرر فيها فشجعه عليها ولو كان غيرها قد يكون أكثر نفعاً منها، لأن ما سيترتب على ذلك من المفاسد أكثر مما سيتحقق من المصالح بسبب مشورتك والله أعلم. وصدق الحبيب المصطفى (الدين
النصيحة قالها ثلاثاً. . .)الحديث( ).
الرابعة:
ومن حق أخيك المسلم عليك إذا عطس فحمد الله فشمته وذلك أن العطاس نعمه من الله بخروج هذه الريح المحتقنة في أجزاء بدن الإنسان يسر الله لها منفذاً تخرج منه فيستريح العاطس فشرع له أن يحمد الله على هذه النعمة وشرع لأخيه المسلم أن يقول له يرحمك الله وأمره أن يجيبه يهديكم الله ويصلح بالكم فمن لم يحمد الله لم يستحق التشميت، ولا يلومن إلا نفسه، فهو الذي فوت على نفسه النعمتين نعمة الحمد لله ونعمة دعاء أخيه المرتب على الحمد وسمى الدعاء للعاطس بالرحمة تشميت لأنه دعاء له بما يزيل عنه شماتة الأعداء وهي فرحهم بما يصيبه.
الخامسة:
من حق المسلم عليك إذا مرض فعده فإن عيادة المريض وزيارته من حقوق المسلم وخصوصاً من له حق عليه متأكد كالقريب والجار والنسيب والصاحب وهي من أفضل الأعمال الصالحة ومن أخاه المسلم لم يزل يخوض في الرحمة، فإذا جلس عنده غمرته الرحمة ومن عاده في أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي ومن عاده آخر النهار صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وينبغي للزائر أن يشرح خاطر المريض بالبشارة بالعافية والدعاء له بالشقى ويذكره التوبة والإنابة إلى الله والإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار ويأمره بالوصية النافعة ولا يطيل عنده الجلوس إلا إذا طلب منه المريض ذلك فلكل مقام مقال.
السادسة:
من حق المسلم على المسلم اتباع جنازته إذا مات فإن من تبع الجنازة حتى يصلي عليها فله قراط من الأجر، فإن تبعها حتى تدفن فله قيراطان كل قيراط مثل الجبل العظيم واتباع الجنازة فيه حق لله وحق للميت وحق لأقاربه الأحياء.
شعراً:
وما ذاك إلا غيرة أن ينالها
*** سوى كفوها والرب بالخلق أعلم

وإن حجبت عنا بكل كريهة
*** وحفت بما يؤذي النفوس ويؤلم

فلله ما في حشوها من مسرة
*** وأصناف لذات بها يتنعم

ولله برد العيش بين خيامها
*** وروضاتها والثغر في الروض يبسم
ولله واديها الذي هو موعد
*** المزيد لوفد الحب لو كنت منهم

بذيالك الوادي يهيم صبابة
*** محب يرى أن الصبابة مغنم

ولله أفراح المحبين عندما
*** يخاطبهم من فوقهم ويسلم

ولله أبصار ترى الله جهرة
*** فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم

فيا نظرة أهدت إلى الوجد نضرة
*** أمن بعدها يسلو المحب المتيم( ).

الصيام عن اللغو والرفث
ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أيها المسلم أحداً وجهل عليك فليكن جوابك القاطع إني صائم إني صائم.
ما أروعه من جواب تنخلع له القلوب المتعلقة بالله، تحصل الأذية والسباب ويكون الجواب بالإمساك عن الكلام إن الإمساك بزمام اللسان أشد وأخطر من الإمساك بزمام المعدة ولهذا يموت الفتى من عثرة بلسانه والعبادة كالكوكب الوضاء منظر بهي يهدي الحائرين ويرشد التائهين ولكن لماذا لا نتذوق حلاوة العبادة.
نعم كثير من النفوس لا تميل إلى الاستقامة على السير قدماً في الطريق المنير وكثير من الأعين لا تحس أن ترى الضوء وتختفي إذا سطع النور وشأنها شأن الخفافيش التي لا تستطيع الحركة إلا في الظلام. ترى ما أثر الصوم في نفوس هؤلاء ما أثره في نفوس مريضة وأفئدة عليلة وأعين لا ترى وقلوب لا تهتدي وصدق الله العظيم:[وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ]( ).
هذه النفوس تحتاج أول ما تحتاج إلى الإيمان حتى تعرف معالم الطريق ولا خير في عمل مع الجحود هباء وخسران وصدق الله العظيم: [مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ]( ).
إن العمل بدون إيمان كبناء على غير أساس على شفا جرف هار كهشيم تذروه الرياح تجد منهم الصائم في النهار ومع صومه يلغ في أعراض الناس ويذكي نار الحسد بينهم بل ويعاقر الجريمة في وضح النهار لا جريمة الأكل والشرب ولكن الترتيب لجلسات الليل ومواعيده أهكذا يصوم المسلمون؟
تأمل أخي المسلم الصوم مع هؤلاء وتأمله مع نفوس عرفته وقلوب أدركته تجد الفرق شاسعاً والبون واسعاً وتدرك حقيقة الصوم إلا من الممسك عن الشهوة وقول الزور وصدق الحبيب المصطفى: (الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها)( ).
إن الحياة لا بد فيها من عزيمة صادقة تصدع غوائل الهوى وتردع هواجس الشر وتبطش بالهوى الكذوب وتنطلق بالإنسان إلى حيث العلو والسمو وأي عزيمة أصدق بل أي نظام أحكم من أن ترى المؤمن يمسك زمام نفسه من أن تذل لشهوة، أو تنجرف في تيار الهوى الضال أو تنجرف عن أمانة الكلمة وصدق اللسان وصفاء الجنان، وأي نفس أكرم من النفس المتجهة إلى خالقها الممسكة عن هواها تقرباً إلى الله. إلا ما أروع التسليم في الصوم حين يجوع الصائم ويظمأ وأسباب الغذاء والري أمامه ميسرة لولا طاعة الله وخشيته والرغبة في الثواب والرهبة من العقاب وشتان شتان ما بين صوم تمليه العادة، وصوم تسري فيه روح العبادة، وشتان شتان ما بين صوم يتعدى فيه الصائم حدوده وصوم يلتزم فيه حدوده ذاك سببه مداراة الناس، وهذا دافعه مراقبة رب الناس، ذاك لا يهذب نفساً ولا يعصم لساناً ولا يربي خلقاً.
هذا ينتج الفضائل كلها ويرفع النفس إلى عليين.
ذاك صوم يطلق فيه العنان للسان ينهش أعراض الناس ويفسد فيما بينهم ويأكل لحومهم.
وهذا صوم ينطلق فيه اللسان على سجيته مهللاً مسبحاً ذاكراً حامداً مصلياً داعياً فلا تسمع إلا أنين المستغفرين وحنين المذنبين ورنين المناجين فاتقوا الله يا من تصومون عن الأكل والشرب والجماع وتفطرون على لحوم الناس وأعراضهم اتقوا الله فالحساب عسير ويوم الحشر طويل والعرق سيلجمكم إلى الآذان، ويومذاك لا ينفع نفساً إلا ما علمت وقدمت ذلك يوم التغابن.
اللهم أنت المدعو بكل لسان والمقصود في كل آن نسألك فأنت المعروف بالإحسان ألا تردنا خائبين ولا من عطاياك مفلسين ولا عن بابك مطرودين وآمنا من فزع يوم الدين. اللهم اعصمنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن وعافنا في الدارين من المحن فها نحن ببابك واقفون وإليك متوجهون ولثوابك متعرضون ولفضلك طالبون فألحقنا بالصالحين واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين( ).

المجلس الخامس عشر
ــــــــــــــــــــــــــ

فصل في:
فصل في قيام الليل.
وأوصاف أهل الجنة.
ــــــــــــــــــــــــــــ

قيام الليل
الحمد لله الذي أصبحت له الوجوه ذليلة عانية وحذرته النفوس مجدة ومتوانية. ووعظ من آثر الدنيا الحقيرة الفانية على الدار الشريفة الباقية وشوق إلى الجنة قطوفها دانية وأعدها لأهل الهمم العالية، الحامدون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وأولئك هم الصادقون الذين أحيوا ليلهم بالقيام، ونهارهم بالصيام فعاشوا في هذه الدار غرباء، وهم في الحقيقة وحدهم السعداء، هجروا لذيذ المنام وصلوا خاشعين والناس نيام. فلله درهم وهم يكسبون العبرات، والله درهم وهم يرفعون رصيدهم من الحسنات وأولئك هم الرابحون يوم البعث والنشور.
أحبتي في الله ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بعد
حديثنا هذه الليلة حول قيام رمضان، فضل الليل وعدد ركعاتها وما أحدثه الناس من محدثات فيها ليست على هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار. فنقول:
صلاة القيام هي صلاة التراويح التي يؤديها المسلمون في رمضان وهي ضريبة الوفاء لهذا الشهر العظيم لأنها معلم من معالمه وشارة من شاراته يسعى المسلمون إليها خفافاً ليصلوها في المساجد جماعة فتكتظ بهم بيوت الله وتغمره بهجة وفرحة ويسودها جمال وأنس وتتألق المآذن الشم بالضياء وتزدان حلقات العلم بالخلص الأتقياء وترتفع أصوات القراء وتتلاحم صفوف التراويح بالمتقين الأتقياء وكأنما هذه الصلاة تنشيط للجسم الصائم طول النهار بعد فطور قد يؤدي إلى فتور، وقد ورد في فضل صلاة الليل نصوص كثيرة نجتزئ منها قوله تعالى: [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً]( ).
وقال: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ]( ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)( )، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام) ( ).
وصلاة الليل في رمضان لها فضيلة ومزية على غيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)( )، ومعنى قوله إيماناً. أي إيماناً بالله وبما أعده من الثواب للقائمين ومعنى قوله احتساباً أي طلباً لثواب الله لم يحمله على ذلك رياء ولا سمعة ولا طلب مال ولا جاه وقيام رمضان شامل للصلاة في أول الليل وآخره وعلى هذا فالتراويح من قيام رمضان فينبغي الحرص عليها والاعتناء بها والاهتمام بأدائها على الوجه الصحيح واحتساب الأجر والثواب من الله عليها وما هي إلا ليال معدودة ينتهزها المؤمن العاقل قبل فواتها وإنما سميت تراويح لأن الناس كانوا يطيلونها جداً فكلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلاً.
وتشرع جماعة لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة في جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: (أما فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها) فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك( ).
فلما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار ربه استقرت الشريعة وزالت الخشية وبقيت
مشروعية صلاتها جماعة قائمة لزوال العلة لأن العلة تدور مع المعلول
وجوداً وعدماً.
وأحيا هذه السنة الخلفية الراشد عمر بن الخطاب، كما أخبر بذلك عبدالرحمن بن عبد القارئ، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، وكان الناس يقومون أوله( ).
شــعــراً:
ولله كم من خيرة إن تبسمت
*** أضاء لها نور من الفجر أعظم

فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت
*** ويا لذة الأسماع حين تكلم

ويا خجلة الغصن الرطيب إذا اثنت
*** ويا خجلة الفجرين حين تبسم

فإن كنت ذا قلب عليل بحبها
*** فلم يبق إلا وصلها لك مرهم

ولاسيما في لثمها عند ضمها
*** وقد صار منها تحت جيدك معصم

يراها إذا أبدت له حسن وجهها
*** يلذ به قبل الوصال وينعم

تفكه فيها العين عند اجتلائها
*** فواكه شتى طلعها ليس يعدم

أوصاف أهل الجنة
قال الله تعالى: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]( ).
فأخبر سبحانه وتعالى أنه أعد الجنة للمتقين دون غيرهم ثم ذكر أوصاف المتقين فذكر بذلهم للإحسان في حالة العسر واليسر والشدة والرخاء فإن من الناس من يبذل في حال اليسر والرخاء ولا يبذل في حال العسر والشدة ثم ذكر كف أذاهم عن الناس بحبس الغيظ بالكظم وحبس الانتقام بالعفو، ثم ذكر حالهم بينهم وبين ربهم في ذنوبهم، وأنها إذا صدرت منهم قابلوهم بذكر الله والتوبة والاستغفار وترك الإصرار فهذا حالهم مع الله وذاك حالهم مع خلقه.
وقال تعالى: [َالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
فوصفهم بإقامة حقه ظاهراً وباطناً وبأداء حق عباده.
ووصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: (. . وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال. .)( ).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (مر بجنازة فأثنى عليها خيراً فقال نبي الله وجبت وجبت وجبت ومر بجنازة فأثنى عليها شراً فقال وجبت وجبت وجبت، فقال عمر فداك أبي وأمي، مر بجنازة فأثنى عليها خيراً فقلت وجبت وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثنى عليها شراً فقلت وجبت وجبت وجبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار وأنتم شهداء الله في الأرض. .)( ).
قال ابن القيم رحمه الله: . . . وبالجملة فأهل الجنة أربعة أصناف ذكرهم الله سبحانه وتعالى في قوله: [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً]( ).
نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه( ).
وأكثر أهل الجنة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يدل لذلك ما رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبرنا ثم قال: أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: إني لأرجو أن تكون شطر أهل الجنة وسأخبركم عن ذلك ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود أو كشعرة سوداء في ثور أبيض)( ).
ويدخل ثلة من أمة محمد الجنة بغير حساب ولا عقاب. يدل لذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعله منهم) فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال: (سبقك بها عكاشة)( ).
وقد ورد وصفهم في الحديث الآخر: (. . فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما الذي تخوضون فيه) فأخبروه فقال: (هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)( ).
وأول من يدخل الجنة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدل لذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن السابقون الأولون يوم القيامة بيد أنهم أتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم)( ).
يقول ابن القيم رحمه الله: فهذه الأمة أسبق الأمم خروجاً من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان عفي الموقف وأسبقهم إلى ظل العرش وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم وأسبقهم إلى الجواز على الصراط وأسبقهم إلى دخول الجنة فالجنة محرمة على الأنبياء حتى يدخلها محمد صلى الله عليه وسلم ومحرمة على الأمم حتى تدخلها أمته)( ).
اللهم يا حبيب التائبين ويا أنيس المنقطعين ويا من حنت إليه قلوب الصادقين اجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين اللهم آمن خوفنا يوم البعث والنشور وآنس وحشتنا في القبور ويسر لنا يا ربنا جميع الأمور.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأحبابنا ولمشايخنا وأزواجنا وإخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم( ).

المجلس السادس عشر
ــــــــــــــــــــــــــــ

فصل في:
قيام الليل.
وأوصاف أزواج أهل الجنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قيام الليل

الحمد لله الذي كون الأشياء وأحكمها خلقاً، وفتق السماوات والأرض وكانتا رتقاً، وقسم بحكمته العباد فأسعد وأشقى، وجعل للسعادة أسباباً فسلكها من كان أتقى، ونظر بعين البصيرة إلى العواقب فاختار ما كان أبقى، أحمده وما أقضي له الحمد حقاً وأشكره ولم يزل للشكر مستحقاً. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له مالك الرقاب كلها رقاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكمل البشر خلقاً وخَلقاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأحقهم الصديق الحائز فضائل الأتباع سبقاً، وعلى عمر العادل فما يحابي خلقاً، وعلى عثمان الذي استسلم للشهادة وما توقى، وعلى علي بائع ما يفنى ومشتري ما يبقى، وعلى جميع الصحب الناصرين لدين الله حقاً وسلم تسليماً.
إخــــواني:
مر معنا طرف مما يتعلق بصلاة الليل من حيث فضلها ومشروعيتها وفي هذه الليلة سيكون الحديث حول عدد ركعاتها وعلى الوتر ثم نذكر طرفاً من الأخطاء الشائعة عند بعض الأئمة هداهم الله وردنا وإياهم إلى الصواب رداً جميلاً فنقول وعلى الله نتوكل:
اختلف أهل العلم اختلافاً واسعاً في عدد ركعات صلاة التراويح وقد أفاض العلامة ابن حجر في ذكر الأقوال في كتابه الكبير فتح الباري ومن هذه الأقوال:
1ـ قيل أنها إحدى عشرة ركعة.
2ـ وقيل إحدى وعشرون ركعة.
3ـ وقيل ثلاث وعشرون ركعة.
4ـ وقيل تسع وثلاثون ركعة.
5ـ وقيل إحدى وأربعون ركعة.
6ـ وقيل سبع وأربعون ركعة.
7ـ وقيل تسع وأربعون ركعة.
8ـ وقيل أربع وثلاثون ركعة غير الوتر.
10ـ وقيل ست عشرة ركعة غير الوتر.
11ـ وقيل تسع وعشرون ركعة( ).
وأرجح هذه الأقوال والله أعلم أنها إحدى وعشرين ركعة أو ثلاث عشرة ركعة.
يدل لذلك ما روته عائشة رضي الله عنها أنها سئلت كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة( ).
وما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة يعني من الليل( ).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (. . له أن يصلي عشرين ركعة كما هو المشهور عن مذهب أحمد والشافعي وله أن يصلي ستاً وثلاثين كما هو مالك وله أن يصلي إحدى وعشرة ركعة وثلاث عشرة ركعة وكل حسن فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام وقصره)( ).
وكثير من أئمة المساجد يصلون التراويح وهم لا يطمئنون في القيام ولا في الركوع ولا في السجود والطمأنينة ركن من أركان الصلاة لا تصح بدونه والمقصود الأعظم من الصلاة حضور القلب واتعاظه بما يسمع من كلام الله وتدبره له هذا لا يتأتى بالعجلة المذمومة ولهذا نقول كلما قلت الركعات واطمأن فيها الإمام وحقق أركان الصلاة وواجباتها وسننها فذلك أولى من تكثير الركعات مع تضييع لب الصلاة وأساسها.
فينبغي للأئمة أن يتقوا الله فيمن خلفهم فهم أمانة مسئولون عنهم يوم القيامة فليحسنوا الصلاة ويؤدوها على وجهها المشروع لئلا يتضرر الكبير والمريض والعاجز بالسرعة المفرطة وهنا نقول لإخواننا الذين ينصرفون قبل فراغ الإمام من الصلاة لقد فاتكم خير كثير إذ المتابع للإمام حتى ينصرف يكتب له أجر قيام ليلة كاملة وهذا فضل من الله، ونقول لأخواتنا المؤمنات إن صلاتكن في بيوتكن أفضل وإذا رغبتن في حضور الصلاة مع الجماعة فعليكن بالستر والعفاف والحشمة التامة واحذرن من الزينة والطيب لئلا تقعن في المعصية وائتن ساعيات للخير.
وعليكن بتسوية الصفوف والاعتناء بها والإنصاف أثناء قراءة الإمام شيئاً من المواعظ وتذكرن أن حضوركن للمسجد القصد منه أداء العبادة فقط وليس تبادل الأحاديث مع هذه وتلك.
أيها الأخوات المؤمنات احرصن بارك الله فيكن على عدم إحضار الأطفال الصغار الذي يزعجون المصلين وقد يسيئون لبيوت الله من حيث لا يشعرون.
شعراً:
وجنات عدن زخرفت ثم أزلفت
*** لقوم على التقوى دواماً تبتلوا

بها كل ما تهوى النفوس وتشتهي
*** وقرة عين ليس عنها تحول

ملابسهم فيها حرير وسندس
*** واستبرق لا يعتريه التحلل

وأزواجهم حور حسان كواعب
*** على مثل شكل الشمس أو هن أشكل
ومأكولهم من كل ما يشتهونه
*** ومن سلسبيل شربهم يتسلل

يطاف عليهم بالذي يشتهونه
*** إذا أكلوا نوعاً بآخر بدلوا

بها كل أنواع الفواكه كلها
*** وسكانها مهما تمنوه يحصل

بأسباب تقوى الله والعمل الذي
*** أحبوا إلى جنات عدن توصلوا

أوصاف أزواج أهل الجنة
قال الله تعالى: [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
فتأمل أخي المسلم جلالة المبشر ومنزلته وعظمته وصدقه وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة وقدر ما بشرك به وضمنه لك على أسهل شيء عليك وأيسره. وقد جمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه.
والأزواج جمع زوج وهو الأفصح والمطهرة من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر وكل أذى يكون من نساء الدنيا فطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة وطهر لسانها من الفحش والبذاء مطهر طرفها من أن تطمح إلى غير زوجها وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع قيده يعني سوطه من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو طلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينها ريحاً ولأضاءت ما بينها ولنصيفها على رأسها خير الدنيا وما فيها)( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء ولكل امرئ منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة
أعزب)( ).
وقد ذكر المفسرون في معنى قوله تعالى: [إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ]( )، قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار والعذارى عن الاهتمام بأهل النار ومصيرهم. وذكر ابن القيم عن سعيد بن جبير قال: (إن شهوته لتجري في جسده سبعين عاماً يجد اللذة ولا يلحقهم بذلك جناية فيحتاجون إلى التطهير ولا ضعف ولا انحلال قوة بل وطؤهم وطء التلذذ ونعيم لا آفة فيه بوجه من الوجوه) وأكمل الناس فيه أصونهم لنفسه في هذه الدار عن الحرام فكما أن من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير لم يلبسه في الآخرة، ومن أكل في صحاف الذهب والفضة في الدنيا لم يأكل فيها في الآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها بهم في الدنيا ولكم في الآخرة) فمن استوفى طيباته ولذاته في هذه الدار حرمها هناك، ولهذا نص سبحانه على من أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا وكان الصحابة رضي الله عنهم يخافون من ذلك أشد الخوف.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم فيقولون لهم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً)( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرؤا إن شئتم: [فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ) ( ).
وعن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم منه)( ).
وعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن موسى سأل ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة فقال رجل يجيء بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا فيقول رب رضيت فيقول: لك ذلك ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت رب قال فأعلاهم منزلة أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر)( ).
اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم وبوجهك الأكرم أن ترزقنا الجنة وتعيذنا من النار فإنك أنت المعروف بالإحسان والصفح عن الأوزار اللهم اجعل في قلوبنا نوراً نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وحرزك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي بالإعراض عن طاعتك إلهنا لا تفرق جمعنا إلا بذنب مغفور وعمل صالح مبرور وسامحنا فأنت العزيز الغفور، واغفر لنا ولوالدينا وأحبابنا ومن له حق علينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين( ).