مع قصة يوسف عليه السلام في القرآن (2) – خطبة الجمعة 4-7-1441هـ

الثلاثاء 8 رجب 1441هـ 3-3-2020م

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، مالكِ يومِ الدينِ، والعاقبةُ للمتقينَ ولا عدوانَ إلا علَى الظالمينَ؛ وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه النبيُّ الأمينُ، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأزواجِه وأتباعِه إلى يومِ الدينِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعدُ:

فأوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى اللهِ جلَّ وعلا، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون](آل عمران:102).

أيُّها المؤمنونَ: وإكمالاً لما ذكرناه في جمعةٍ ماضيةٍ عن قصةِ يوسفَ عليهِ السلامُ، أقولُ وباللهِ التوفيقُ:

ولمَّا قرَّر يوسفُ بأنْ يأخذَ أخاه إليه أَمَرَ غلمانَه بوضعِ صواعِه في رحلِ أخيهِ، وبَدَأَ إخوةُ يوسفَ بالتهيؤِ للرحيلِ، ومعهمْ أخوهُم. [ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ] فقالَ إخوةُ يوسفَ [مَّاذَا تَفْقِدُونَ]، قالُوا [نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ] ولمنْ جاءَ بِه مكافأةٌ. فَأنْكَرَ إخوةُ يوسفَ السرقةَ، وبَدَأَ بتفتيشِ رحالِ إخوتِه ثمَّ انتهى برحلِ أخيهِ الصغيرِ، فأخرجوا منه الصواعَ، وهنَا أَمَرَ يوسفُ بأخذِ أخيهِ عبدًا فما كانَ منهمْ إلا أَنْ قالوا [إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ]، ولكنَّهم تذكَّروا عهدَ أبيهِم بالمحافظةِ على أخيهِم وردِّه إليهِ، وحاولوا استرحامَ يوسفَ بقولِهم [إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ]، ولكنَّ يوسفَ أصرَّ على أخذِه.

عبادَ اللهِ: ثمَّ قالَ كبيرُ إخوةِ يوسفَ لَنْ أبرحَ مصرًا إلا أَنْ يأذنَ لي أبي أو يقضيَ اللهُ بحكمِ في ذلكَ، فلمَّا رَجَعُوا إلى يعقوبَ وأخبروهُ بسرقةِ أخيهِم، قالَ لهمْ [بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]، [قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]، وهنا طلبَ منهمْ أبوهمْ أنْ يرجعوا ويبحثُوا عنْ يوسفَ وأخيِه، وألا يَيْأسُوا من روحِ اللهِ. ولمَّا استأذَنُوا في الدخولِ على يوسفَ رَجَوهُ أنْ يتصدقَ عليهمْ، فكانَ ردَّه الصَّاعقُ لهم [قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ* قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ]، وَدَعَى يوسفُ ربَّه أَْ يغفرَ لهمْ، ثم خَلَعَ قَميصَهُ وطَلَبَ منهم أَنْ يُلقوهُ على وجهِ أبيهِ يعقوبَ ليرجعَ إليه بصرُه.

ولمَّا وصلتْ القافلةُ، وألقى البشيرُ قميصَ يوسفَ على وجهِ أبيِه يعقوبَ ارتدَّ بصيرًا. فاعترفَ الأخوةُ بخطئِهم، وطَلَبُوا منهُ أَنْ يستغفرَ لهم عمَّا بَدَرَ منهم تجاهَ يُوسفَ.

وهكذا جمعَ اللهُ تعالى يوسفَ بوالدِه وإخوتِه بعدَ سنواتٍ من المحنِ والابتلاءِ، [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم]، ثمَّ خَتَمَ يوسفُ تأويلَ رؤياهُ بالثناءِ على اللهِ [رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ].

فاعتبروا عبادَ اللهِ مِنْ هذهِ القصةِ، واعلموا أَنَّ اللهَ جَلَّ وعلا لا يُضيِّعُ عبادَه الصالحينَ أبدًا..

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما سمعتمْ فاسْتَغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:

فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ تقواه هي طريقُ النجاةِ.

أيُّها المؤمنونَ: ومن المعاني الجميلةِ التي ينبغِي للمسلمِ أنْ يتأمَّلها ويقفَ عندهَا في هذهِ السورةِ العظيمةِ ما يلي:

*  أنَّ هذهِ السورةَ بدأتْ برؤيا وانتهتْ بتفسيرِها.

* وأنَّ محبةَ يعقوبَ ليوسفَ كانتْ سببًا في حسدِ إخوتِه لهُ ومكرهِم به.

* وأنَّ قميصَ يوسفَ اتَّخذهُ إخوتُه أداةَ براءةٍ لهم فدلَّ على خيانتهِم.

* وأنَّ حاجةَ القافلةِ للماءِ كانتْ سببًا في إخراجٍ يوسفَ منَ الجُبِّ.

* وأنَّ الجبَّ الذي أُسْقطَ فيهِ يوسفُ كانَ سببًا في وصولِه لقصر العزيز.

* وأنَّ الله تعالى جَعَلَ حرمانَ عزيزِ مصرَ من الأولادِ سببًا في أَنْ يتبنَّاه.

* وأنَّ يوسفَ بَعْدَ تنعَّمِه في قصرِ العزيزِ أَعْقَبه ذلكَ دخولَ السجنِ.

* وأنَّ تفسيرَ يوسفَ لرؤيَا صاحبيهِ في السجنِ كانتْ سببًا في دلالةِ الملكِ عليهِ.

* وأنَّ رؤيَا الملكِ وتفسيرِها كانَ سببًا في وصوله لوزارة مصر والقيام عليها.

* وأن صواع الملك كان سببًا في احتفاظِ يوسفَ بأخيهِ.

* وأنَّ قميصَ يوسفَ كانَ أداةَ بشارٍة لوالدِه يعقوبَ، وسببًا في ردِّ بصرِه.

* وأنَّ اللهَ تعالى امتنَّ على يُوسفَ ووالديهِ وإخوتِه أَنْ يَجْتمعُوا في مكانٍ واحدٍ بعدَ سنواتٍ طوالٍ عانَى فيها يوسفُ المحنَّ والابتلاءاتِ، وأصابَ والدَه يعقوبَ الحزنُ وفقدُ البصرِ.

* وأنَّ على المؤمنِ ألَّا ييأسَ منْ روحِ اللهِ في جميعِ شؤونِه وأحوالِه، وأنْ يقوِّىَ جانبَ اليقينِ وحسنِ الظنِّ في تدبيرِ اللهِ تعَالى لهُ والتسليمِ لقضائِه وقدرهِ.

* وأنَّهُ يجبُ على المسلمِ أنْ يشكرَ نعمةَ اللهِ عليهِ إذَا فرجَ اللهُ عنه بلاءَه.

واعلموا عبادَ اللهِ أنَّ هذهِ السورةَ نزلتْ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وفي أشدِّ أوقاتِ محنتِهِ بوفاةِ زوجتِه خديجةَ، وعمِّه أبي طالبٍ ولذا سمِّيَ هذا العامُ بعامِ الحزنِ، ولقدْ ذكرَ العلماءُ أنَّ هذهِ السورةَ ما قرأهَا محزونٌ إلا سُرِّيَ عنهُ.

فاتُّقوا اللهَ والزموا أمرَه واجتنبوا نهيَه تفوزُوا برضاهِ وجنَّتِهِ.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].                                                                                         

4-7-1441هـ