وقفات وتأملات في سورة الكهف

الأثنين 9 شوال 1441هـ 1-6-2020م

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].

عباد الله: سورة الكهف من سور القرآن العظيم التي ورد في فضلها وفي فضل قراءتها أحاديث كثيرة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ)(رواه الحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع)، وقال أيضاً: (مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ)(رواه مسلم). وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رجلٌ يقرأُ سورةَ الكهفِ، وعندَه فرسٌ مربوطٌ بشَطَنَيْنِ، فتغشَّتْه سحابةٌ، فجعلت تدورُ وتدنو، وجعل فرسُه ينفُرُ منها، فلما أصبحَ أتي النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فذكر ذلك لهُ، فقال: (تلك السكينةُ، تنزلت للقرآنِ)(رواه البخاري ومسلم).

وقد روى ابن عباس -رضي الله عنهما- في سبب نزول السُّورة في الحديث الطويل كما نقل ابن كثير عنه حينما سأل كفار قريش أهل الكتاب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منهم أن يسألوه عن ثلاثة أشياء، فقال أخبركم غدا ولم يستثن، فأخَّر الله جل وعلا الجواب عليه حتى ظنوا أنه كاذب، ثم أنزل الله الجواب عليهم، وأخَبَرهم بمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ وَالرَّجُلِ الطَّوَّافِ، وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا)، وعاتب الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم على عدم استثنائه في رد الجواب عليهم.

عباد الله: لقد حوت هذه السورة فوائد نفيسة وتوجيهات ربانية سديدة، ومن ذلك:

  • في قوله تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}، أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وفي هذه الآية عبرة، فإن المأمور بدعوة الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية، مع التوكل على الله في ذلك.
  • اشتمال هذه السورة على قصصٍ عظيمةٍ؛ منها قصة صاحب الجنتين، وقصة موسى عليه الصلاة والسلام مع العبد الصالح، وقصة يأجوج ومأجوج، وقصة ذي القرنين.
  • تحدثت عن سبل النجاة من الفتن، وتقديمها انموذجًا عمليًّا ومثالا واقعيًّا – عن فتية أصحاب الكهف -، لمن أراد سلوك طريق الله المستقيم، ليزداد إيمانه، ويقوى يقينه ويتعلق قلبه بربه، مع أخذه بأسباب النجاة.
  • لجوء هؤلاء الفتية إلى الكهف تاركين وراءهم أهليهم وجميع ما يملكون، فراراً بدينهم إلى مكان ضيق ليس فيه أيٍّ من مقومات الحياة؛ لعلمهم بأن لهم رباً يتولى أمرهم، وهذا فيه توجيه للشباب أن يستغلوا مرحلة شبابهم وقوتهم وفراغهم في تعلم الدين والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يعيشوا تحت ظل الإيمان والعمل والصالح، لا سيّمَا في أوقات الفتَنَ وكثرة الشبهات، وانتشار الفسادَ والانحلالَ وسوء الأخلاق.
  • أهمية العقيدة الصحيحة في حياة المسلم وأنها من أقوى وسائل الثبات، وترسيخه في القلوب، ومن أسباب التواصي بالحق ونشره بين الناس.
  • أن في قصص الصالحين فوائد وعظات تعمل على ثبات القلب، وتسلية النفس، وزيادة الإيمان.
  • حسن الظن بالله تعالى وجميل التوكُّل عليه واليقين بصدق وعده.
  • فيها دلالة على قدرة الله تعالى، وأنه ينبغي على المؤمن التفكر في آيات الله الكونية؛ لأنها مفتاح الإيمان وطريق العلم والوصول إلى رضا الرحمن.
  • فيها بيان لأهمية الدعاء وفضله، وبيان بعض الأدعية التي دعوا بها ربهم.
  • لجوء هؤلاء الفتية إلى ربهم بالدعاء والإنابة واليقين، لعلمهم بأنه نعم المعين ونعم النصير، وأنه القادر على حفظهم وصرف الشرور والأذى عنهم.
  • أن كفار قريش عندما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الغيبيات، وعدهم بإخبارهم ولم يستثن، فأخر الله جل وعلا الجواب عليه لتعليم الأمة بأنه يجب الاستثناء عند كل أمر يقبل على فعله العبد.
  • أن الحكمة في نومهم حفظٌ لقلوبهم من الخوف والاضطراب، وليكون آية بينة لمن يأتي من بعدهم.
  • أن الله عالمٌ بكل شيء، والمراد بقوله {بعثناهم لنعلم} أي علم ظهور ومشاهدة، وإلا فإن الله لا يخفى عليه شيء سبحانه.
  • أن العبد كلما زاد عملاً بعلمه، زاده الله هدىً وعلمًا وثباتًا.
  • مطالبة الفتية قومهم بإتيان الحجَّةِ والبرهان على ما هم عليه من الباطل، ومقتهم لقومهم لأنهم في غاية الجهل والضلال.
  • أهمية اعتزال الناس في الفتن، بالقلب والعمل وإن كان يعيش بين أظهرهم.
  • حفظُ اللهِ للفتية من الأرض بتقليبهم يمينًا وشمالاً، مع قدرته سبحانه أن يحفظهم منها بغير تقليب، ولكنه حكيم أراد أن تجري سنته في الكون، وليربط الأسباب بمسبباتها.
  • تسليط الظالمين على أوليائه لاختبار قوة إيمانهم ومعرفة الصادق من الكاذب.
  • نهي الشريعة عن اتخاذ المساجد على القبور لأنها من وسائل الشرك.
  • الأمر بذكر الله عند النسيان؛ لأنه يزيله ويذكّر العبد بما سها عنه.
  • أن مقامهم في الكهف أكثر من ثلاثة قرون دليل على قدرة الله في إماتتهم وحفظهم من التلف، وإخافة من ينظر إليهم، ثم قدرته على بعثهم.
  • في هذه القصة، دليل على أن من فر بدينه من الفتن، سلمه الله منها. وأن من حرص على العافية عافاه الله، ومن أوى إلى الله، آواه الله، وجعله هداية لغيره، ومن تحمل البلاء في سبيله وابتغاء مرضاته، كان آخر أمره وعاقبته الفوز العظيم.
  • وفيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى.

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون}[يوسف:111].

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكمْ بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمد صلى الله عليه وآلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعدُ:

فاتَّقوا اللهَ أيها المؤمنون والمؤمنات: واعلمُوا أنَّ من التأملات  والفوائد لهذه السورة المباركة ما يأتي:

  • أن في قصة أصحاب الجنَّة، اعتباراً بحال الذي أنعم الله عليه نعمًا دنيوية، فألهته عن آخرته وأطغته، وعصى الله فيها، أن مآلها الانقطاع والاضمحلال، وأنه وإن تمتع بها قليلا فإنه يُحرمها طويلا.
  • أنه ينبغي على العبد -إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده- أن يضيف النعمة إلى موليها ومسديها، وأن يقول:{ما شاء الله، لا قوة إلا بالله} ليكون شاكرا لله متسببا لبقاء نعمته عليه.
  • لما ضرب الله جل وعلا مثل الدنيا وحالها واضمحلالها وأن الذي فيها نوعان: نوع من زينتها، يتمتع به قليلا ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على الدوام، وهي الباقيات الصالحات.
  • عند نشر كتب الأعمال التي كتبتها الملائكة الكرام؛ تطير لها القلوب، وتعظم من وقعها الكروب، وتكاد لها الصم الصلاب تذوب، ويشفق منها المجرمون.
  • أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، وأن الموافق لأمر الله، يعان ما لا يعان غيره.
  • أن العبد الذي لقيه موسى عليه الصلاة والسلام قيل إنه نبيٌ لأنه فعل ما لا يفعل إلا بالوحي، وقيل إنه عبدٌ صالح، لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم.
  • في هذه السورة تواضع الفاضل للتعلم ممن هو دونه، فإن موسى عليه الصلاة والسلام -بلا شك- أفضل من الخضر.
  • أن عمل الإنسان في مال غيره يجوز، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير ” كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم.
  • أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته، حتى يعتبه، ويعذر منه، كما فعل الخضر مع موسى.
  • كان ذو القرنين انموذجًا للملك العادل الذي يجوب مشارق الأرض ومغاربها لينشر العدل في ربوع المعمورة وينصر المستضعفين ويكف أذى المفسدين والظالمين.
  • مكن الله جل وعلا ذي القرنين في الأرض تمكيناً كاملاً، وملكه ما بين المشرق والمغرب، فعمل من أجل الدين، ونشر العدل في ربوع الأرض.
  • إحاطة الله جل وعلا وهو الملك الحق، العليم الخبير بجميع ما في هذا الكون من أقوام وأمم لا يعلمهم أحداً سواه؛ مهما بلغوا من شأن.
  • في خاتمة رحلة ذي القرنين التقي بقوم لا يكادون يفقهون قولاً؛ لكن الله جل وعلا مكنه من فهمهم وإدراك شكواهم، فاستجاب لهم، وقام ببناء هذا السد العظيم دون أن يأخذ منهم أجراً.
  • بعد أن قام ببناء السد الشاهق أرجع الفضل لربه وحدة فقال:{هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} أي أن ذلك من محض فضله وبركته وتيسيره ورحمته، وهو على قوته وصلابته ليس بخالد ولا منيع أمام إرادة الله وقضائه.

هذا وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى فقدْ أمركم اللهُ بذلكَ فقالَ جلّ مِنْ قائلٍ عليمًا: {إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).          الجمعة: 5/5/1440هـ