الرضا جنة القلب ونعيمه.

الأثنين 19 جمادى الآخرة 1442هـ 1-2-2021م

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ فاطرِ الأكوانِ وباريْها، ومُسيِّرِ الأفلاكِ ومُجْريْها، وخالقِ الدَّوابِ ومُحصِيْها، ومُقسِّمِ الأرزاقِ ومُعْطِيْها، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ المستحقُّ للثناءِ والمجدِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلِه وصحبِه إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}[الحشر:18].

أيُّها المؤمنونَ: الرضَا بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه عبادةٌ عظيمةٌ جليلةٌ، وخُلقٌ كريمٌ، وصفةٌ من صفاتِ المؤمنينَ، ولازمٌ من لوازمِ الإيمانِ واليقينِ، وهو جنَّةُ الدُّنيَا، ومُستراحُ المقَرَّبينَ، وأعلى مقاماتِ العارفينَ، وثمرةٌ من ثمراتِ محبةِ الرَّبِّ الكريمِ.

والرضَا سرورُ القلبِ بُمرِّ القضاءِ، وارتفاعُ الجزعِ فيمَا قَدَّر اللهُ بِه وَحَكَمَ، لعلمِ العبدِ أنَّ كلَّ شيءٍ يَجْري بتقديرِه ومشيئتِه، وكلَّما زادَ عِلْمُ العبدِ باللهِ زادَ رضاهُ عن اللهِ، وكلمَّا قلَّ عِلْمُه قلَّ رضَاهُ، قالَ اللهُ تعَالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير* لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور}[الحديد:22، 23].

وعنْ جابرٍ رضيَ اللهُ عنْه قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (لاَ يؤمنُ عبدٌ حتّى يؤمِنَ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ؛ حتّى يعلمَ أنَّ ما أصابَهُ لم يَكن ليخطئَهُ، وأنَّ ما أخطأَهُ لم يَكن ليصيبَهُ)(رواه الترمذي (2144)، وقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لِكُلِّ شيءٍ حقيقةٌ وما بلغَ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتّى يعلَمَ أنَّ ما أَصابَهُ لم يكنْ لِيُخْطِئَهُ وما أخْطَأَهُ لم يكن لِيُصِيبَهُ)(رواه أحمد (27490)، فإن فاتَ العبدُ ما كانَ يظنُّه نافعًا له، أو ابتُليَ بما فيه عُسْرٌ له بَعْدَ بذلِ وُسْعِه، فلا يَنْدمُ ولا يَتحسَّرُ، بلْ يُسلِّمُ ويكونُ راضيًا بما قدَّره اللهُ عليه، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (احرِص على ما ينفعُكَ واستعِنْ باللَّهِ ولا تعجزنَّ وإن أصابَك شيءٌ فلا تقُلْ: لو أنِّي فعَلتُ لَكانَ كذا وَكذا ولَكن قُلْ: قدَّرَ اللَّهُ وما شاءَ فعلَ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشَّيطانِ)(رواه مسلم (2664).

وذَكَرَ الفيروز آبادي في كتابِه بصائرِ ذوي التمييزِ (3/82) قال: قيلَ ليحيى بنِ معاذِ رحمه اللهُ: متى يَبْلغُ العبدُ مقامَ الرضَا؟ قالَ: إذَا أقامَ نَفسَه على أربعةِ أُصولٍ فيمَا يُعامِلُ به ربَّه، فيقولُ: إنْ أعطيتني قَبلتُ، وإنْ منعتني رَضيتُ، وإنْ تركتني عَبدتُ، وإنْ دعوتني أَجبتُ)، وكَتَبَ عُمرُ بنُ الخطابِ إلى أبي موسى رضي اللهُ عنهما (أما بعدُ: فإنَّ الخيرَ كلَّه في الرضَا، فإنْ استطعتَ أَنْ تَرضى وإلَّا فاصْبرْ)، وقالَ ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه: (اليقينُ ألا تُرْضِيَ النَّاسَ بسَخَطِ الله، ولا تَحْسِدُ أحدًا على رِزقِ اللهِ، ولا تَلَمْ أحدًا على ما لمْ يُؤتِكَ اللهُ، فإنَّ الرزقَ لا يسوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، ولا يَردُّه كَرَاهةُ كارهٍ، فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى بقِسْطه وعِلْمِه وحِكْمتِه جَعَلَ الرَّوحَ والفَرَحَ في اليقينِ والرِّضى.

عبادَ اللهِ: ومِنَ الأسبابِ المُعينةِ على تحصيلِ صفةِ الرِّضَا ما يلي:

1ـ الإيمانُ الجازمُ واليقينُ الصادقُ بأنَّ اللهَ تعالى كَتَبَ مقاديرَ كلِّ شيءٍ، وأنَّ كلَّ شيءٍ في هذا الكونِ يسيرُ بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه.

2ـ عِلْمُ العبدِ بأنَّ الدُّنيا متاعَها قليلٌ وهيض إلى فناءٍ، وأنَّ ما يأخذُه منهَا إنَّما هو بلاغٌ إلى حينٍ، فلا يفرْحُ بِغنىً، ولا يَحْزنُ لفقرٍ، ولا يَسْخطُ لمرضٍ، ولا يتَضجَّر لمصيبةٍ أو بلاءٍ، فدوامُ الحالِ من المحالِ.

3ـ اعْتِقادُ العبدِ بأنَّ اللهَ سبحانَه جَعَلَ بِحكْمتِهِ التَّفاوتَ بينَ النَّاسِ في الأرزاقِ، فلا يَعترضُ على قسمةِ اللهِ لهُ، فإنَّ من العبادِ مَنْ لا يَصلحُ إيمانُه إلا بالغنى، ولو أَفْقَرهُ لَفَسدَ حالُه، ومنْهم مَنْ لا يُصْلِحُ إيمانَه إلا الفقرُ ولو أَغْنَاهُ لَفَسدَ حالُه، ومِنْهم من لا يُصْلِحُ إيمانَه إلا الصحةُ ولو أَسْقَمهُ لفَسَدَ حالُه، ومِنْهمْ مَنْ لا يُصْلِحُ إيمانَه إلا السقمُ، ولو عَافَاهُ لفَسَدَ حالُه، فسبحانَ مَنْ يُقَدِّرُ الأمورَ بحكمتِه وتدبيرِه ولطفِه.

4ـ أَنْ ينظرَ المرءُ إلى مَنْ هو دونَه في أمورِ الدُّنيَا: يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إذا نَظَرَ أحَدُكُمْ إلى مَن فُضِّلَ عليه في المالِ والْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إلى مَن هو أسْفَلَ منه مِمَّنْ فُضِّلَ عليه)(البخاري(6490) مسلم(2963)، وفي روايةٍ لمسلمٍ: (انْظُروا إلى مَن هو أَسْفَلَ مِنكم، ولا تَنْظُروا إلى مَن هو فَوْقَكم؛ فإنَّه أَجْدَرُ أنْ لا تَزْدَروا نِعْمَةَ اللهِ، قال أَبو مُعاوِيَةَ: عَليكم).

5ـ عِلْمُ العبدِ بأنَّ الفَقْرَ والغنى إنَّما هُو ابتلاءٌ وامتحانٌ، فالفقيرُ مُمْتَحنٌ بفقرِه وحاجتِه والغنيُّ مُمْتحَنٌ بغناه وثروتِه، وكلٌّ منهمَا موقوفٌ ومسؤولٌ بينَ يديْ اللهِ عزَّ وجلَّ.

6ـ الاطلاعُ على أحوالِ السلفِ ودراسةُ سيرتِهم، فإنَّ ذلكَ يُقوِّي يقينَ المسلمِ ورضاهُ عن أقدارِ اللهِ كلِّها.

7ـ لزومُ الدعاءِ بِطَلبِ القناعةِ والرِّضَا مِنَ اللهِ، فإنَّ الدُّعاءَ سلاحُ المؤمنِ في كلِّ حالٍ من أحوالِه، وما دامَ أنَّ قلبَه دائمُ التَّعلُّقِ برََبِّه فلنْ يَخِيْبَ أبدًا، وسوفَ يُرضِيْه اللهُ.

8ـ الحرْصُ على طاعةِ اللهِ والبُعدِ عَنْ معصيتِه، فإنَّ الطَّاعةَ تُقوِّي جانبَ الرِّضَا عَنِ اللهِ، والمعصيةُ عَكْسَ ذلكَ.

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون}[البقرة:156، 157].

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:  

فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ بعضَ العبادِ لا تسمعُ منهُم غيرَ الشَّكايةِ مِنْ أحوالِهم على كثرةِ نعمِ اللهِ التي تَتْرى عليهم، ولو نظروا إلى غيرِهم من أهلِ البلاءِ لحمِدوا اللهَ على نعمائِه وضرائِه، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (من أصبحَ منكُم آمِنًا في سِربِه مُعافًى في جسَدِه عندَه قوتُ يومِه فَكأنَّما حيزت لهُ الدُّنيا)(رواه الترمذي (2346) وابن ماجه (4141)، وحسنه الألباني في الصحيحة (2318).

عِبادَ الله: ومِنْ ثمراتِ الرِّضَا وفوائدِه العظيمةِ ما يلي:

أولاً: تحصيلُ حلاوةِ الإيمانِ: فقدَ قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَن رَضِيَ باللَّهِ رَبًّا، وبالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ رَسولًا)(رواه مسلم (34).

ثانيًا: تحقيقُ الغنى في الرِّضَا والقناعةِ: قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:(اتَّقِ المحارمَ تكن أعبدَ الناسِ، وارْضَ بما قسم اللهُ لك تكن أغنى الناسِ)(رواه أحمد (8081) والترمذي(2305) وحسنه الألباني في الصحيحة (930).

ثالثًا: أنَّ الرِّضَا سبيلٌ لمغفرةِ الذُنوبِ: فعنِ سعدِ بنِ أبي وقاصٍ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قالَ: (مَن قالَ حِينَ يَسْمَعُ المُؤَذِّنَ أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، رَضِيتُ باللَّهِ رَبًّا وبِمُحَمَّدٍ رَسولًا، وبالإسْلامِ دِينًا، غُفِرَ له ذَنْبُهُ)(رواه مسلم(386).

رابعًا: نيلُ رضَا اللهِ ودخولُ الجنَّةِ: فَمَنْ رضيَ عن اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه وأرضَاه، قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى يقولُ لأهْلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنَّةِ؟ فيَقولونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْكَ، فيَقولُ: هلْ رَضِيتُمْ؟ فيَقولونَ: وما لنا لا نَرْضى وقدْ أعْطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِ أحَدًا مِن خَلْقِكَ، فيَقولُ: أنا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِن ذلكَ، قالوا: يا رَبِّ، وأَيُّ شيءٍ أفْضَلُ مِن ذلكَ؟ فيَقولُ: أُحِلُّ علَيْكُم رِضْوانِي، فلا أسْخَطُ علَيْكُم بَعْدَهُ أبَدًا)(رواه البخاري (6549). أسألُ اللهَ الكريمَ من فضلِه.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].

الجمعة:   16 / 6 / 1442هـ