مقال بعنوان: ورحل شيخنا الزاهد العابد بتاريخ 15-7-1442هـ

السبت 15 رجب 1442هـ 27-2-2021م

كتب الله الفناء على جميع الخلائق، قال الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام) الرحمن (26-27)، وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) آل عمران (185).

الموت حقيقة تواجه كل حي، فلا يستطيع لها ردًّا ولا دفعًا، ولا يملك أحد أن يقدّم حياله شيئًا؛ لأنها آجال مضروبة، وأنفاس معدودة، وأعمار مكتوبة، وأرزاق محسوبة، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.

لقد ودّعنا عصر يوم الخميس 13-7-1442هـ شيخنا الزاهد العابد الذاكر الشاكر: أبا سليمان عبدالله بن سليمان القطيبان  – رحمه الله رحمة واسعة-وأرجو أن يكون كما قيل:

ورعًا زاهدًا تقيًّا نقيًّا                 طاهر الثوب قد سما أن يعابا.

وقد عرفته محبًّا للعلم وأهله، مجتهدًا في باب الوعظ والتوجيه، لا يجلس في مجلس إلا ويتحف الجالسين بمواعظه الهادفة بأسلوبه السهل الواضح، وينثر الفوائد في طرح يجعل المتلقي يتقبلها ويفيد بها غيره.

وقد بدأت علاقتي به حينما افتتح مع عدد من المحتسبين دار العلم في الزلفي بدعم وتوجيه من سماحة الشيخ/ عبدالله بن حميد-رحمه الله- لتكون مقرًّا لمدارسة العلم والتوجيه، وكنت وقتها طالبًا في المعهد العلمي في المتوسط، وأحضر بعد المغرب لسماع القراءة، وقد يطلب مني أحيانًا أن أقرأ من الكتاب ويعلق أحد المشايخ الموجودين.

وقد توثقت علاقتي معه –رحمه الله- أثناء تحضيري لرسالة الماجستير والدكتوراة إذ كان معظم وقتي في المكتبة العامة بالزلفي، وكان يرتادها كثيرًا، ثم انتقل إليها، وكان المسؤول عنها في ذلك الوقت الرجل الصالح/ أبا عبدالله راشد الرومي –رحمه الله-.

وقد أكرماني كثيرًا في تيسير الاطلاع على الكتب، وإعارتها، وتهيئة الجو داخل المكتبة.

ومما يتميز به أبو سليمان –رحمه الله- كثرة الذكر، فلا يفتر لسانه عن الذكر حتى وهو يحدث صاحبه، بل وهو يلقي موعظته، يكثر من ذكر الله، فيؤثر على من حوله، وتجدهم يذكرون الله اقتداءً به أثناء حديثه.

وأيضًا سلامة صدره، فهو حبيب محبوب، أليف مألوف، أجمع كل من عرفه على محبته، يشفق على العاصي، ويوجه المذنب، ويأخذ بيد المخطئ بأسلوب مرغوب ليس فيه تنفير ولا تقريع؛ ولذا يصفه أحد الفضلاء بقوله: (أبو سليمان يتمنى أن يدخل الناس كلهم الجنة) وما ذلك إلا لسلامة صدره، ومحبته الخير للناس.

وعرفت أبا سليمان في تواضعه، ولذا مجالسه عامرة مع الكبار والصغار والمتعلمين وغيرهم، فمثله كما قيل:

زان المجالس محفوفًا برفقته       يسدي النصائح عن علم ويلقيها

ومن الأدلة على عظيم تواضعه حرصه على السؤال عن كل ما يشكل عليه في معاملاته وعلاقاته، ولا سيما في الأمور المالية والعلاقة مع الآخرين، فكثيرًا ما يطرح الأسئلة في المجالس التي تجمعني به عن هذا الأمر، وأحيانًا يحضر عندي في المكتبة ويعرض عليّ ما يشكل بأدب وتواضع جم، مع أنه شيخي الذي وجّهني وسددني كما أشرت آنفًا.

وقد عرفته –رحمه الله- عالمًا صادقًا يتصف بصفات العلماء من الإخلاص والأمانة والزهد والتواضع والحلم، والصبر والرفق واللين.

والعلماء الصادقون هم الذين يحسنون للآخرين ويحيون القلوب بعلمهم وتذكيرهم ومواعظهم، فما يقدمونه لقلوب الناس وأبدانهم كالطعام والشراب والصحة والعافية.

وموت العلماء مصيبة، وأي مصيبة، ولكن ليس للمرء إلا الصبر على حد قول القائل:

عليك بالصبر إن نابتك نائبة      من الزمان ولا تركن إلى الجزع.

وإن تعرضت الدنيا بزينتها        فالصبر عنها دليل الخير والورع

وإن مما خفف المصاب ما رأيناه ولمسناه  من دعوات الناس وتأثرهم ومحبتهم عندما سمعوا بموته، وقد ظهر ذلك جليًّا على من حضروا جنازته، وهذه شهادة له رحمه الله، والناس شهود الله في أرضه.

أسأل الله أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يرفع درجاته، وأن يعلي منزلته، وأ، يجمعه بوالديه وأزواجه وذريته وأحفادهم ومن يحبهم ومن يحبونه في الفردوس الأعلى من الجنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.