خطبة بعنوان (سُنّةُ الابْتِلَاء) بتاريخ 16-2-1429هـ

السبت 4 جمادى الآخرة 1440هـ 9-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، له الأمر والتدبير، والحكمة والتبديل،يبلوا العباد بما شاء من أمره ليعلم الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه [الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا] (الملك)، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل في سنته (أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما عليه من خطيئة)(رواه أحمد، والبخاري، والترمذي، وابن ماجة، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح الجامع)، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله:واعلموا أن التقوى خير زاد للقاء الله، وهي الحصن الحصين من الوقوع في الشبهات والشهوات، وهي سلاح المؤمن عند تعرضه للفتنة والبلاء، قال تعالى:[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)(البقرة).
عباد الله:
إن الله تعالى جعل الدنيا دار ممر وامتحان، وجعل فيها الابتلاء سنة من سننه الربانية الجارية؛ ذلك أن طبيعة الحياة الدنيا، وطبيعة البشر فيها تقتضي ألا يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه، وشدائد تحل بساحته، فكم منا من يُخفق في عمل، ويخيب له أمل، أو يُبتلى بموت حبيب، أو يَمرض له بدن، أو يُفقد منه مالٌ أو ولد، أو يُبتلى في قوة تمسكه بدينه، أو غير ذلك مما تفيض به الحياة الدنيا من ابتلاءات وشدائد وتمحيصات.
وإذا كان هذا البلاءُ سُنةَ اللهِ تعالى في حياة الناس كافة، فإن أصحاب الرسالات خاصة أشدُّ تعرضاً لنكبات الحياة الدنيا ومحنها، فإن رسالة الدعوة التي يحملونها ويدعون إليها تحارب من كل اتجاه، فهم ينادون بالحق فيقاومهم أنصار الباطل، ويهْدون إلى الخير فيعاديهم أنصار الشر، ويأمرون بالمعروف فيخاصمهم أهل المنكر، وبذلك فهم يحيون في دوامة الابتلاءات والمحن، فتلك سُنَّة الله تعالى الذي خلق آدم وإبليس، وإبراهيم والنمرود، وموسى وفرعون، ومحمداً صلى الله عليه وسلم وأبا جهل، قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ](الفرقان).
فهذا هو شأن الأنبياء، وشأن ورثتهم، والسائرين على دربهم، والداعين بدعوتهم، مع الكفار والمنافقين الصادين عن سبيل الله [وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ](البروج).
وكذلك العبد المؤمن في هذه الحياة الدنيا لا يمكَّنُ حتى يبتلى، أي أنه لا ينال مراتب العلو في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد أن يبتلى، قال تعالى[وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ](الأنعام)، فحياته كلها مليئة بالمصائب والابتلاءات، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم مبشراً للمؤمن بما يصيبه (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه) (متفق عليه).
ولهذا لما سَأل رجلٌ الإمام الشافعي فقال له: أيهما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يُبتلى؟ فقال له: لا يمكَّنُ حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ فلما صبروا مكَّنهم، فلا يظن أحدٌ أن يَخْلُصَ من الألمِ أَلْبَتة)(الفوائد لابن القيم).
وقصص ابتلاء الرسل والأنبياء والصالحين في القرآن والسنة كثيرة جداً، نذكر بعضها تذكيراً بسنة الابتلاء، والحكم العظيمة المترتبة عليه.
هذا إبراهيم عليه السلام ابتلي من قومه بالمشقة والعنت، وردوا دعوة التوحيد، بل أرادوا قتله شر قتلة بحرقه بالنار، ولكن الله تعالى حفظه وتولاه، وأخرجه بإذنه سليماً معافىً، وذلك لصبره على أذى قومه، وثباته على الحق الذي أرسل به، فمكَّنه الله تعالى بعد ابتلاء ومحن، وقد ابتلاه ربه في ذبح ابنه إسماعيل، فصدق بوعده، ووفى مع ربه، وعاونه ولده البار، فنال أعلى الدرجات، ورفع ذكره، فما زال اسمه يذكر في كتاب الله تعالى حتى تقوم الساعة ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
وهذا موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد تعرض للبلاء منذ طفولته بوضعه في التابوت، ورميه في اليم، وأخذ الأعداء له، وإخراجه من بلده، وإرادة فرعون قتله، فثبت على طريقه ولم يهتز لما يتعرض له من قبل أعدائه، فأراه الله تعالى من آياته ومعجزاته، وأغرق أعداءه أمام عينه، وأنجاه بفضله ورحمته، وأعزه ونصره بعد أن كان مطارداً خائفاً، وهكذا سنة الله تعالى مع أنبيائه ورسله.
وهذا يونس يلتقمه الحوت وييقى فيه مدة حتى أنجاه الله.
وهذا أيوب يبتلى بالمرض ويصيبه الضر ثم يكشف الله بلواه ويشفيه من مرضه.
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عندما أرسله الله تعالى لقومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الباطل إلى الحق، ولكنهم عتوا وتجبروا واستكبروا عن قبول الحق، فوقفوا له بالمرصاد يريدون أن يتخلصوا منه ومن دعوته، فآذوه، وأدموه، وضربوه، وألقوا على ظهره سلى الجزور، فصبر وصابر، واعتمد على ربه في نصرته، ولازم دعوة قومه، حتى عرضوا عليه أن يعلوا من شأنه بينهم، أو يعطوه من أموالهم ما شاء، وغير ذلك من العروض المغرية، ولكنه أبى، ولزم صراط ربه.
وأيضاً عندما تشاوروا في أمره من أجل التخلص منه ومن دعوته، فألقى الشيطان اللعين عليهم رأيه بالاجتماع على قتله، ولكن الله تعالى هو ولي الصالحين، وهو الذي يدافع عنهم، وهو الذي يصد أذى المبطلين الحاقدين، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ](الأنفال)، فأخرجه الله تعالى من بين أيديهم سالماً معافى، وأيضاً عند خروجهم في إثره يريدونه حياً أو ميتاً، وبعد وصولهم إلى مكان اختبائه في الغار ومعه صاحبه، ظن صاحبه أنهم مدركون، ولكن ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وتوكله على ربه أزاح الغم والكرب عن قلب صاحبه، فقال له قولة المتيقن بنصر ربه وحفظه وتوفيقه، [لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا]، [فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا]، ، فصرفهم الله عنه بفضله وعونه. وأرادوا أيضاً إطفاء نور دعوته، والقضاء على أنصاره وذلك بالتجمع عليه مع اليهود والمنافقين، إلا أن الله تعالى صرفهم عنه، وأعزه وأعلى شأنه، وجعل ذكره في الأولين والآخرين حتى يقوم الناس لرب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ](البقرة). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله الحكيم في شأنه، العظيم في تدبيره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صبر على بلاء ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الابتلاء سنة الله تعالى في خلقه، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ](الأنبياء)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يبتليهم بالخير والشر، وبالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، وبالهدى والضلال).
فالعباد يتقلبون بين فتنتين، فتنة الخير وفتنة الشر، وهذا كله من باب الابتلاء والاختبار، لينظر سبحانه وتعالى إلى صبر عباده وشكرهم، وليعلم الصادق من الكاذب. قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ](العنكبوت).
البلاء فيه تمحيص واختبار لمن لزم الجادة، وأراد الوصول إلى الجنة، فهي سُنَّة كونية مقدرة على العباد إلى يوم الميعاد، فلا مرد لها، ولا سبيل لإيقافها، فالناس فيها قسمان؛ قسم صبروا ورضوا بقضاء الله وقدره، ففازوا بالحسنيين، وقسم قنطوا ويأسوا فخسروا الدنيا والآخرة.
لذا وجب على المسلم الذي يبتلى في دينه، أو نفسه، أو ولده، أو ماله، أو غير ذلك من أنواع الابتلاءات أن يصبر نفسه، وأن يرضى بقضاء الله وقدره، وأن يحمد الله تعالى على تدبيره.
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره له كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)(رواه مسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وفي ولده حتى يلقى الله يوم القيامة وما عليه من خطيئة)(رواه الترمذي، وصححه الألباني في الصحيحة).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ابتلى الله عبداً ببلاءٍ وهو على طريقة يكرهها إلا جعل الله ذلك البلاء له كفارةً وطهوراً ما لم يُنْزِل ما أصابه من البلاء بغير الله أو يدعو غير الله في كشفه) (رواه ابن ابي الدنيا، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً وأراد أن يصافيه صب عليه البلاء صباً، وثجه عليه ثجاً، فإذا دعا العبد قال يا رباه، قال الله: لبيك عبدي لا تسألني شيئاً إلا أعطيتك إما أن أعجله لك وإما أن أدخره لك)(ضعفه الألباني في ضعيف الجامع).
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض)(رواه الترمذي، وابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
فوصيتي لأهل البلاء أن يتواصوا بالصبر على ما ابتلاهم الله به من أمور الدنيا والآخرة، وليعلموا أن الصبر على البلاء مفتاح خير لهم يوصلهم بفضل الله تعالى إلى جنته ورضوانه.
وليعلم كل مبتلى أن الله تعالى هو الذي قدر البلاء على عباده ليرى منهم التسليم بقضائه، وصدق التوجه إليه في رد بلائه، وهذا يحتاج إلى إيمان ويقين، فبدون الإيمان واليقين لا يمكن أن يصبر العبد على ما يعتريه من محن وابتلاءات.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى حول هذا الموضوع (نداء إلى أهل البلاء). أسأل الله جل وعلا أن يمنَّ علينا جميعاً بالعفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.