خطبة بعنوان: (آثر تدبر القرآن) 12-5-1430هـ.

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] وأشهد أن لا إله إلا الله جعل القرآن معجزة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الذي أوتي القرآن ومثله معه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ].

عباد الله : لقد نزل القرآن يتحدى الإنس والجن في وقت قد بلغت العرب مبلغاً عظيماً من الفصاحة والبلاغة والبيان وصدق الله العظيم :[ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً]، بل تحداهم القرآن أن يأتوا بعشر سور بل بسورة واحدة فعجزوا رغم ما بلغوا من الفصاحة والبلاغة والقوة في البيان وقد جاء في الحديث أن جبير بن مطعم بن عدي رضي الله عنه قال قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: (في وفد أسارى بدر) فسمعته يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ الآية [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ]، كاد قلبي أن يطير.

عباد الله: لقد أثَّر القرآن على عباد النصارى كما قال الله تعالى: [وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ].

وهكذا الجن الذين استمعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن كما قال تعالى: [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً] وقال تعالى: [وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ].

إن القرآن العظيم يؤثر في القلوب القاسية ويتغلغل إلى النفوس اللاهية يحرك فيها مكامن الاتعاظ والاعتبار كيف لا وهذا القرآن لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً قال تعالى: [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ]، وقال تعالى: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا].

قال بعض التابعين تأملت في قول الله تعالى: [مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ] فبذلت ما أملك من الدنيا لوجه الله ليكون ذخراً لي عنده فما عند الله باق وما عندنا ينفذ، وتأملت في قول الله تعالى: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] فاخترت التقوى وأعرضت هما يرى فيه الناس عزَّهم وشرفهم من مظاهر الدنيا [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ]، وتأملت في قول الله تعالى: [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] فعلمت أن القسمة كانت من الله في الأزل فلم أحسد ولم أحقد ورضيت بقسمة الله تعالى، وتأملت في قول الله تعالى: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا] فعلمت أن رزقي على الله وقد ضمنه فلم يشغلني طلب الرزق عن عبادته وقطعت طمعي فيما سواه، وتأملت في قوله تعالى: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه] وقوله تعالى: [وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً] فعلمت أنه لا يدخل مع الإنسان في قبره إلا عمله فإن كان صالحاً فهو سراج له يؤانسه في قبره ولا يتركه وحيداً فاتخذت العمل الصالح محبوباً لا يفارقني شأن من يحبه الناس ويطمعون في نفعه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي جعل القرآن عظة وعبرة يتزود منه الصالحون ويتلوه الخاشعون ويتذكر به الغافلون وأشهد أن لا إله إلا الله أحيا بالقرآن قلوباً فكانت تحيي ليلها قراءة وركوعاً وسجوداً وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أفضل من تلا القرآن وعلمه وتعلمه صلى الله عليه وسلم أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن أثر القرآن امتد إلى الجمادات والحيوانات والملائكة في السماوات فلقد قربت من أسيد بن حضير وهو يقرأ حتى جالت فرسه من رؤية الملائكة وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (تلك الملائكة دنت لصوتك ولو أنك قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم).

عباد الله: وها هو الفضيل بن عياض التقي العابد يتأثر بالقرآن ويعلن توبته وكان يقطع الطريق على الناس وقد عشق جارية وذات ليلة كان يرتقي الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] فلما سمعها قال بلى يا رب فرجع وترك الجارية فآواه الليل إلى خربة فإذا فيها مسافرون فقالوا نرحل في ليلتنا وقال بعضهم نخشى من الفضيل فإنه يقطع الطريق في هذا المكان والفضيل يسمع كلامهم فقال أنا أسعى في الليل بالمعاصي وقوم يخافونني ما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع وأتوب اللهم إني تبت إليك وتاب توبة صادقة وأصبح من كبار العباد رحمه الله رحمة واسعة وهكذا القرآن يحول هذه القلوب العاصية إلى قلوب خاشعة عابدة، وصدق الله العظيم [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ].

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين اللهم، صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك ووفق ولاة أمرنا خاصة لكل خير، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير وتدلهم عليه اللهم، اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين،[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ].

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأقم الصلاة.
الجمعة: 12-5-1430هـ