خطبة بعنوان: (صلاح القلب وفساده) 21-2-1431هـ.

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وأصلحوا فساد قلوبكم فصلاح القلوب صلاح للأبدان وعنوان على النجاة والفوز برضا الرحمن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ)(رواه البخاري ومسلم).
القلب هو مدار الحياة، وموطن الإيمان، ومأوى المعتقد، جرم صغير لكنه هو الإنسان نفسه، والجسم غلاف له يتحرك بأمره ويعمل تحت توجيهه.
لقد كان من دعاء رسول الهدى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دَيْنِكَ)(رواه النسائي، وغيره)، وللعرب حكمة تكتب بماء العين: (إن المرء بأصغريه قلبه ولسانه).

القلب أيها المؤمنون محل التفكير، يقرأ ما في الكون من صنع الخالق، فيتأمل دلائل العظمة، ومواطن الإبداع، فيرسل ذلك للجوارح ومنها اللسان لتنطق تسبيحاً وتهليلاً وتخضع لربها ركوعاً وسجوداً.
سبحان من خلق هذا المخلوق الصغير إن استنار بنور الهدى وأشرقت جوانبه بالإيمان فاض على الجوارح شفقة ومحبة ولطفاً وصدقاً وبراً، وعلى العكس إذا أظلم وفسد قسا حتى يكون أشدَّ من الحجارة، فتظلم جوانحه وتفيض على الجوارح سُوءاً وفساداً وظلماً وجبروتاً وهنا يُسف حتى يكون بمنزلة أدنى من البهائم، وصدق الرسول المجتبى صلى الله عليه وسلم: (وإذا فسدت فسد الجسد كله).
عباد الله هناك قلوب مطمئنة هادية مهدية، يشرق فيها الإيمان فتأنس بذكر الله وتنعم بالطاعة، فهي بين ذكر وذكر وطاعة وعبادة، وصدق الله العظيم: [أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] (الرعد الآية 28).

وعلى العكس هناك قلوب قاسية مظلمة لا تنتفع بالموعظة ولا تؤثر فيها النصيحة، وصدق الله العظيم: [ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً] (البقرة الآية 74).
بل إن هناك قلوباً أظلمت فعميت عن الحق، فهي تترنح بالكفر والنفاق أضلها العمى عن الحق، كما قال تعالى: [فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج الآية 46).
إخوتي في الله لقد حسم رسول الله صلى الله عليه وسلم القلوب من حيث الموقف من الذنوب والمعاصي فقال: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَىُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)(رواه مسلم).

وقال صلى الله عليه وسلم في تقسيم القلوب: (القلوب أربعة قلب أجردُ فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)(رواه أحمد).
هذه هي قلوب الناس: قلب سليم، وقلب ميت، وقلب مريض، وعلاج أمراض القلوب قد يكون بالأدوية الطبيعية، ومنها مالا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية.
فسبحان من خلق الناس تتشابه صورهم وأشكالهم لكن تختلف قلوبهم وتتنافر، ويكون بينها أبعد ما بين المشرق والمغرب، فقلب يرتفع إلى القمة، وقلب يهبط إلى القاع قلب ينعم بالإيمان والطاعة، وقلب يهوي في مراتع الفسق والشهوة.

أيها المؤمنون قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء. فاحرصوا على سلامة قلوبكم وطهارتها وعفتها، فمن وجد كل شيء وفقد قلبه فقد خسر كل شيء، ومن خسر كل شيء ووجد قلبه فما خسر شيئاً، فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وكل إنسان حسب قلبه، فالسعادة راحة القلب والشقاوة تعب القلب، ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية: (ماذا يفعل بي أعدائي أنا جنتي وبستاني في صدري).
القلب أيها المؤمنون محل النظر وموطن الرضا وليس الجسد والصورة، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)(رواه مسلم). وصدق الله العظيم: [يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ *إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] (الشعراء الآية88، 89).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما سمعتم من الآيات والذكر الحكيم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي خلق الخلق من تراب وأكرمهم بالعقل وفضلهم على سائر المخلوقات، وأشهد ألا إله إلا الله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ألطفُ الناس قلباً وأصدقهم لساناً صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن العقل مناط التفكير والتدبر والتذكر، والقلب محل الإيمان والمحبة والخشوع والخشية، وأعمال القلوب هي آكد شعب الإيمان، وصلاح سائر الأعمال، منوط بصلاح القلب، فأعمال القلب هي الأصل وأعمال الجوارح تبع، يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: (مبدأ التكاليف كلها ومصدرُها القلب وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب).
إن زكاة القلوب تحصل بأمور منها الصدقة فهي تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار، ومنها ترك الفواحش والآثام فإذا تخلص القلب منها تمحض للعمل الصالح، وتزكية القلب تعود على صاحبها فهو الذي يجني ثمرتها في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: [وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] (فاطر الآية 18).

أيها المؤمنون ولصحة القلب وسلامته علامات كثيرة أذكر منها:
1) ألا يًفْتُر عن ذكر ربه ولا يسأم من طاعته ولا يأنس بغيره.
2) أنه إذا فات ورده وجد لفواته ألماً أعظم مما يجده الحريص على المال إذا
فقد شيئاً منه.
3) أنه يشتاق إلى الطاعة كما يشتاق الجائع إلى الطعام والعطشان إلى الشراب.
4) أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه في أمور الدنيا ووجد في صلاته راحته ونعيمه وقرَّت بها عينُه وسر بها قلبه.
5) أن همه كله في الله لا لشيء آخر من حظوظ الدنيا ومتاعها.
6) أنه يشح بوقته فلا يضيَّع منه شيئاً ويكون أحرص عليه من حرص أصحاب الأموال على أموالهم.
7) أنه يهتم بتصحيح عمله وطلب قبوله أكثر من اهتمامه بالعمل نفسه.
8) ولعل العلامة الظاهرة الواضحة على صحة القلب وسلامته أن يكون همه لله وحبه لله وعمله كله وجميع أفكاره وهواجسه في محاب الله ومراضيه، فهنيئاً لمن يحمل قلباً نقياً صافياً سليماً من الدغل والحقد والحسد والضغينة والبغضاء يجمع الحسنات كما يجمع أصحاب الأموال أموالهم فلا تسمع من صاحب هذا القلب إلا خيراً دعوة صالحة وكلمة هادية وتوجيهاً كريماً.
اللهم أصلح قلوبنا وطهرها من الحقد والحسد وزكها أنت خير من زكها أنت وليها ومولاها. اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن دعوة لا يستجاب لها.
عباد الله أكثروا من الصلاة والسلام على رسولكم محمد بن عبد الله في هذا اليوم المبارك وغيره فالصلاة عليه عنوان على محبته صلى الله عليه وسلم.
اللهم صلي على عبدك ورسولك نبينا محمد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.

اللهم وفق ولاة أمرنا لكل خير، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم اربط على قلوب جنودنا البواسل وأمدهم بعونك وتوفيقك.
اللهم سدد رميهم ووحد صفهم وألق الرعب في قلوب أعدائهم.
اللهم رد كيد المعتدين إلى نحورهم، اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا أو أراد ولاة أمرنا أو أراد علماءنا بسوء اللهم فأشغله بنفسه ورد كيده إلى نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
اللهم قوِّ عزائم جند الإسلام الذين يدافعون عن الدين والمقدسات والأعراض والبلاد والحرمات،اللهم احفظ من كان منهم في الجو، ومن كان في البحر، ومن كان في الأرض.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وبلادنا وقيادتنا واجتماعنا يا ذا الجلال والإكرام. [ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسن وقنا عذاب النار]
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً مغيثا سحاً طبقاً مجللاً نافع غير ضار، تسقي به العباد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](النحل: الآية 90). ـ وأقم الصلاة ـــ.

الجمعة: 21-2-1431هـ