خطبة بعنوان: (بداية عام هجري جديد) بتاريخ 5-1-1435هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
الحمد لله {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، واعلموا أنها حق له على عباده، يعمرون بها أوقاتهم، ويستعملون فيها أبدانهم، ويقضون فيها أعمارهم،{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}(الطلاق: 5)
عباد الله: الليل والنهار آيتان عظيمتان جعلهما الله جل وعلا مطيتين تقربان كل بعيد وتبليان كل جديد، وتأتيان بكل موعود. وهو سبحانه وتعالى جعل الليالي والأيام والشهور والأعوام مواقيت للأعمال، ومقادير للآجال، فهي تنقضي جميعاً مهما كثرت وتمضي سريعاً مهما بلغت، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38)، والذي أوجدها باقٍ لا يزول، ودائم لا يحول.
ومن ظن أن الله جل وعلا خلق هذا الكون بلا حكمة فقد افترى عليه كذباً، قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ }(ص: 27)، وقال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} (الأنبياء:16). ومن اعتقد أن هذه البشرية التي خلقها الله جل وعلا خُلقت عبثًا ولهوًا فقد افترى إثما عظيماً، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}(المؤمنون:115).
عباد الله: إن من أعظم النعم التي امتن الله بها علينا نعمة الإسلام، فقد أرسل الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ليخرج البشرية من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن ظلمات الشرك إلى نور التوحيد والإيمان.
وقد كانت البشريةُ في ذلك الوقت تعيش في جاهلية وشرك وجهْل وكفر تحتاج معها إلى هُدى الإسلام ونوره، فأرسلَ الله عزَّ وجلَّ نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بدعوة الإسلام دِين الحَنِيفيَّة السَّمحاء، داعيًا إلى توحيدِ الله عزَّ وجلَّ، وهادمًا للأصنام، وموجهاً إلى مكارمِ الأخلاق؛ والعفافِ والطُّهر، والخُلُق الكريم، والاستقامة، وصِلة الأرحام وحُسْن الجوار، والكفِّ عن المظالِم والمحارم لكي يرقَى بالإنسانُ إلى أعْلى المنازل، وينال السعادة الأبدية في دار النعيمِ المقيم.
إنَّ أخلاق هذا النَّبي الكريم صلى الله عليه وسلم وسَجَاياه قد أثرت على العرب أشد التأثير، وما كان يبهرهم مِن معجزات علمه، وحِلْمه، وصَبْره، واحتماله، وتَوَاضعه، وإِيثاره، وصِدْقه، وإِخْلاصه أكثر ممَّا كان يبهرهم مِن معجزات تسبيح الحَصَى وانشقاق القَمَر، ومَشْي الشَّجر، ولين الحجر؛ فَلَولا صفاته النَّفسيَّة، وغرائزه، وكَمَالاته بعد توفيق الله وعونه ما نَهَضَت له الخَوَارق بكل ما يريده، ولا تركت له المعجزات في نفوس العَرَب ذلك الأثر الذي تَرَكَته؛ مصداقاً لقول الله تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107).
وقد كان صَلَّى الله عَلَيه وَسَلَّم شُجاع القَلْب، فلم يهب أن يدعوَ إلى التَّوحيد قومًا مُشركينَ يعلم أنَّهم غِلاظ جفاة، شَرسون، يغضبون لدينهم غضبَهم لأعراضهم، ويُحبُّون آلِهَتهم حبَّهم لأبنائهم ولكنه كان على ثقةٍ من نَجاح دَعْوَته.
وكان صلى الله عليه وسلم حليمًا سَمح الأخلاق؛ فلم يُزْعِجه أنْ كان قومه يؤذونه، ويزدرونه، وينفرون منه، ويضعون التُّراب على رأسه، ويُلْقُونَ على ظهره أمعاء الشَّاة، وسلى الجَزور، وهو في صلاته؛ بل كان يقول:(اللهُمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلَمونَ)(رواه البخاري ومسلم).
وكان صلى الله عليه وسلم واسعَ الأمل، كبير الهمَّة، صلب النَّفس، لبث في قومه ثلاث عشرة سنة؛ يدعو إلى الله فلا يلبي دعوته إلاَّ الرَّجل بعد الرَّجل، فلم يبلغ المَلَل من نفسه، ولم يخلص اليأس إلى قلبه.
وما زالَ هذا شأنه حتَّى عَلمَ أنَّ مَكَّة لن تكونَ مبعث الدَّعوة، ولا مطلع تلك الشمس المشرقَة، فهَاجَرَ إلى المدينة؛ وانتَقَلَ الإسلام بانتقاله منَ السُّكون إلى الحَرَكَة، ومن طَور الخفاء إلى طَور الظُّهور؛ لذلك كانت الهجرة مبدأ تاريخ الإسلام؛ لأنَّها أكبر مظهر من مَظَاهره.
لقد لَقيَ صلَّى الله عليه وسَلَّم في هجرته عناءً كثيرًا، وَمَشَقَّةً عظمى؛ فقد كان قومه يكرهون مهاجرته لا ضِنًّا به؛ بلْ مَخَافة أن يَجدَ في دار هِجْرته منَ الأعوان والأنصار ما لم يَجِد بينهم، فوَضَعوا عليه العيون والجواسيس؛ فخَرَجَ من بينهم ليلة الهجرة متَنَكِّرًا بعد ما ترك في فراشه ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه تضليلاً لهم عنِ اللحاق به.
ومشى هو وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه يَتَسَلَّقان الصخور، وَيَتَسَرَّبان في الأغوار والكهوف، ويلوذان بأكناف الشعاب والهِضاب حتَّى انقَطَعَ عنهما الطلب، وتَمَّ لهما ما أرادَا بفَضل الله ثم بفضل الصَّبر والثَّبات على الحق.
إنَّ حياة النَّبي صَلَّى الله عليه وَسَلَّم أعظم مثال يجب أن يحتذيَه المسلمونَ للوصول إلى التَّخَلُّق بأشرف الأخلاق، والتَّحَلِّي بأكرم الخصال، وأعظم مدرسة يجب أن يَتَعَلَّموا فيها كيف يكون الصِّدق في القول، والإخلاص في العمل، والثَّبات على الرَّأي وسيلة إلى النَّجاح، وكيف يكون الجِهاد في سبيل الحق سببًا في عُلُوِّه على الباطل.
لقد كانت حياة نَبينا صلى الله عليه وسلم حياة شريفة مملوءةٌ بالجد والعمل، والبر والثَّبات، والحب والرَّحمة، والحكمة والسِّياسة، والشَّرَف الحقيقي، والإنسانيَّة الكاملة.
إن هجرته صلى الله عليه وسلم وفِراره بعقيدته، توضِّح لنا كيف جاهَد هو وأصحابه الذين أخلصوا نفوسهم لله، في سبيل إعزاز هذا الدين وإعلاء كلمته، وإزهاق الباطل ودحر أهله، وفي ذلك أسوة لنا جميعاً للتمسك بهذا الدين، ونصرته وإعلاء شأنه ونشره بين العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}(الفتح: 28).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، فمن أحسن فله الحسنى وزيادة، ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه.
عباد الله: ونحن في فاتحة شهور هذا العام الجديد عام 1435هـ؛ وهو شهر الله المحرَّم، وهو من أعظم شهور الله جلَّ وعلا، وقد نصر الله فيه موسى وقومه على فرعون وملئه، والأعمال الصَّالحة فيه لها فضلٌ عظيمٌ، لا سيَّما الصِّيام؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضيَ الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أفضل الصِّيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصَّلاة بعد الفريضة صلاة اللَّيل)(رواه مسلم).
وأفضل صيام أيام هذا الشَّهر يوم عاشوراء، فعن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما قال: “قدم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء؛ فقال لهم:(ما هذا اليوم الذي تصومونه؟). قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا؛ فنحن نصومه. فقال:(نحنُ أحقُّ بموسى منكم)؛ فصامه وأمر بصيامه”(رواه البخاري ومسلم)
وعن أبي قَتادة رضيَ الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سُئل عن صيام يوم عاشوراء؛ فقال:(أحتسبُ على الله أن يكفِّر السَّنة التي قبله)(رواه مسلم).
وقد عزم صلى الله عليه وسلم على أن يصوم يومًا قبله مخالفةً لأهل الكتاب؛ فقال صلى الله عليه وسلم:(لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التَّاسع)(رواه مسلم)
فيستحبُّ للمسلم أن يصوم ذلك اليوم اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وطلبًا لثواب الله، كما يستحب أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده؛ مخالفةً لليهود، وعملاً بما استقرَّت عليه السنَّة الشريفة.
وعلى ذلك فمن أراد أن يصوم في هذا العام 1435هـ التاسع والعاشر فعليه أن يصوم يوم الأربعاء والخميس، ومن أراد أن يصوم يوماً واحداً فيصوم يوم الخميس، ومن أراد صيام ثلاثة أيام فيصوم معها الجمعة، وكل ذلك جائز ولله الحمد، بل أن بعض أهل العلم جعل الصيام على أربع مراتب:
الأولى: صيام ثلاثة أيام، والثانية: صيام يومين التاسع والعاشر، والثالثة: صيام يومين العاشر والحادي عشر، والرابعة: صيام يوم واحد فقط وهو العاشر. أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 5-1-1435هـ