خطبة بعنوان: (وجوب لزوم الجماعة وحرمة الدماء المعصومة)بتاريخ 14-1-1436هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران: الآية 102).
عباد الله: الاجتماع في الإسلام وجوده فرض لازم، وفقده فقد للهوية الإسلامية، بل إن الإسلام لا يوجد إلا بالمجتمع المسلم، ولا وجود للمجتمع إلا بالجماعة، ولا وجود للجماعة إلا بالإمامة، ولا وجود للإمامة إلا بالطاعة.
وجماعة المسلمين هم الذين يجتمعون على الاستمساك بالكتاب والسنة، ويؤثرون كلام الله تعالى على كلام كل أحد، ويقدمون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، فالتمسك بالكتاب والسنة، وعقد الجماعة، والوفاء بعهدها، وعدم نقضه يقود إلى الإتلاف والاجتماع وحصول القوة وثبات المجتمع المسلم، ولذلك فقد حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مفارقة الجماعة، والخروج عن الطاعة، وجاء الوعيد الشديد على ذلك مهما كانت الأسباب والمبررات والوسائل والغايات.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: “والصواب: أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة”.
وقال الشاطبي رحمه الله:” وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة”.
وقال ابن عبد البر رحمه الله عن المقصود بالجماعة الواردة في الأحاديث:”الجماعة على إمام يسمع له ويطاع”.
ويدل على ذلك ويؤيده ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه:(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)(رواه أبو داود).
ولزوم جماعة المسلمين واجب شرعي دلَّ عليه الكتاب والسنة والعقل، قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لكتاب صحيح مسلم فيما ورد من الأحاديث الصحيحة الدالة دلالة قاطعة على هذا الحكم:”باب وجوب لزوم جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال”.
عباد الله: ومن الأدلة الصريحة من كتاب الله تعالى على وجوب لزوم الجماعة وعدم الخروج عنها: قول الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: 102، 103).
وقوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}(النساء:115).
وقوله تعالى:{.. وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}(الشورى: 31، 32).
فهذه الآيات دليل ظاهر ونص قاطع وحجة ثابتة على وجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولزوم جماعة المسلمين والاجتماع عليها والرجوع إليها، وفي هذه الآيات نهي صريح عن الاختلاف والنزاع والشقاق والتناحر، ووجوب السير على سبيل المؤمنين واتخاذه منهجا وما عداه من السبل فهي تؤدي إلى الشر والفتنة والفرقة وتنتهي بأصحابها إلى النار .
وفيها أيضاً التحذير من الافتراق في الدين والخروج عن جماعة المسلمين وأن هذا المسلك هو طريق المشركين فهم الذين يتفرقون ويتحزبون ويتحولون إلى جماعات تتناحر فيما بينها وتتقاتل، يلعن بعضها بعضاً ظلماً وعدواناً، كما يحصل في شريعة الغاب حيث يأكل القوي الضعيف .
ومن السنة أيضاً: ما رواه البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: “كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا؟ قَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه، فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية»(رواه البخاري).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيع فإنه يموت ميتة جاهلية) (رواه مسلم).
وعن عرفجة بن شريح الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان)(رواه مسلم).
عباد الله: إن ما نعيشه في بلاد الحرمين الشريفين ـ المملكة العربية السعودية ـ من نعمة الأمن والأمان والسلامة والإسلام مرده إلى تحكيم شرع الله، وما تقوم به هذه البلاد المباركة من جهود خيّرة تعود على المسلمين جميعاً ويأتي في طليعة ذلك بعد تحكيم الشريعة العناية بالحرمين الشريفين والقيام على شئونهما، وبذل الأموال الطائلة على عمارتهما، وتيسير الوصول إليهما، وتأمين طريق الزائرين لهما في موسم الحج وفي سائر العام، وهذه نعمة تستوجب الشكر والدعاء لولاة أمرنا بالتوفيق والصلاح والفوز والفلاح والعزة والسعادة في الدنيا والآخرة، وأن يحفظ الله على هذه البلاد نعمة الأمن والإيمان، وأن يزيدها عزاً وتمسكاً بشرعه القويم ووقوفاً في وجه الباطل وأهله والمفسدين في الأرض الذين لا يريدون لهذه البلاد الاستقرار والأمن والطمأنينة، والله غالب على أمره يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }(آل عمران: 103).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن ما وقع في محافظة الأحساء من اعتداء على أناس أبرياء، وقتلهم، وكذا الاعتداء على رجال الأمن أمر محرم لا يقره دين الإسلام، فهذا العمل اعتداء على حرمة بلاد المسلمين وترويع للآمنين، وفيه قتلٌ للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام، وهذا العمل الشنيع لا شك أنه من الإفساد في الأرض، وفيه إتلافٌ للأموال المعصومة. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(النساء: 93)، وقال صلى الله عليه وسلم:(اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا يا رسول الله وما هن ؟ قال (الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات)(رواه البخاري).
وهؤلاء الذين يقومون بهذا العمل الشنيع قد وقعوا فيما وقع فيه الخوارج الذين سبقوهم، ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يخرج في هذه الأمة ـ ولم يقل: منها ـ قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم ـ أو: حناجرهم ـ يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)(رواه البخاري، ومسلم).
وقال عنهم أيضاً:(سيخرج قوم في آخر الزمان، حُدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة)(رواه البخاري، ومسلم)
وإني في هذا المقام أقول لكل من تأثر بهذا الفكر أو انساق وراء بعض الشعارات دون بصيرة أو علم وخصوصاً ممن وقعوا في كبائر الذنوب، بقتلهم الأنفس المؤمنة المعصومة الراكعة الساجدة، ماذا يقولون لربهم عندما يقفون بين يدي الله يوم العرض عليه، فيسألهم لم قتلتم إخوانكم؟ فماذا يكون الرد؟ أيقولون لأنهم مؤمنون، لأنهم رجال أمن، الأمر جد خطير والجرم عظيم.
ألم يسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة حينما قتل هذا المشرك الذي كان يقاتله بعد أن قال لا إله إلا الله، (قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله).
فيا من تورط في هذا الفكر قناعة أو تعاطفاً اتقوا الله تعالى في أنفسكم، وأهليكم، وبلدكم، وعودوا إلى رشدكم، وأرجعوا إلى ربكم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم.
أسأل الله جل وعلا أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمرنا وعلمائنا واجتماع كلمتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا بسوء اللهم رد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه وافضحه في جوف بيته.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:٥٦).

الجمعة: 14-1-1436هـ