خطبة بعنوان: (المبادرة بأداء فريضة الحج) بتاريخ: 16 / 11 /1437هـ

الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1440هـ 12-2-2019م

 

 

الخطبة الأولى :
إنّ الحمد للّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبد الله ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. أَما بعد:

فإِنَّ أَصدق الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار.

عباد الله: إنَّ الله جل وعلا فرض فرائضَ فلا تضيِّعوها، وسنَّ سننًا فلا تتركوها، فرض على عباده الحجَّ فريضةً من أكبر وأعظم الفرائض، تلك الرِّحلة الفريدة في عالَم الأسفار والرحلات، ينتقل المسلم فيها برُوحه وبدنه وقلبه إلى البلَد الأمين لمناجاةِ ربِّ العالمين.

فما أرْوعها من رحلة! وما أعظَمَه من منظرٍ يأخذ الألباب! فهل شممتَ عبيرًا أزْكى من غُبار المُحْرمين؟!

وهل رأيت لباسًا قطّ أجْمل من لباس الحجَّاج والمعتمرين؟! هل رأيت رؤوسًا أعزَّ وأكرَم من رؤوس المحلّقين والمقصّرين؟! وهل مرَّ بك ركبٌ أشرف مِن ركب الطَّائفين؟!

وهل سمعْتَ نظمًا أرْوع وأعْذب من تلبية الملبِّين، وأنين التَّائبين، وتأوُّه الخاشعين، ومناجاة المنكسِرين؟!

أيها المؤمنون والمؤمنات: لقد دخلنا في النصف الأخير من شهر ذي القعدة، وهو أول الأشهر الحرم المتتابعات، التي قال الله جل وعلا فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}[التوبة:36].

فالأشهر الحرم هي أربعة: رجبٌ وذو القَعدة وذو الحجة ومحرم.

وسبب تحريم هذه الأشهر الأربعة لأجل التمكن من الحج والعمرة، فحُرِّم شهر ذي الحجة لوقوع الحج فيه، وحُرِّم معه شهر ذي القعدة للسير فيه إلى الحج، وشهر المحرم للرجوع فيه من الحج حتى يأمن الحاج على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه، وحُرِّم شهر رجب للاعتمار فيه في وسط السنة، فيعتمر فيه من كان قريبًا من مكة.

عباد الله: الحاج يعود من ذنوبه كيومَ ولدته أُمه، كما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) (متفق عليه).

والحج أفضل الجهاد، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: (لا، لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور)(رواه البخاري).
“والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ” (متفق عليه).

والحج يجب على الفور على كلِّ مسلم عاقلٍ، بالغٍ حرٍّ مُستطيع للحج، يَملك الزاد والراحلة، والمرأة يكون لها المحرم ولا تكون محادة.

فيا مَن أنعَم الله عليه بالصحة والعافية، ورغد العيش وأَمْن الطريق، وتوفُّر وسائل السفر المريحة الآمنة بادِر رعاك الله إلى حجِّ بيت الله الحرام، وأدِّ فرضك قبل أن يحجَّ عنك غيرك، إن اخترَمك المنون قبل الحجِّ الواجب، وأن تحجَّ بنفسك خيرٌ لك من أن يتصدَّق عليك أحدُ من أقاربك بالحجِّ نيابةً عنك، فكم من مسلمٍ حبَسه جسده المريض عن الحج، واُضُطرَّ إلى استنابة غيره في حجِّ الفريضة. هذا مع تيسُّر السُّبل، وسهولة السفر، وقصر المدَّة، ألم يكن آباؤنا وأجدادنا يقضون أكثر من شهر في سفر الحج ذهابًا وإيابًا على ظهور الإبل ؟

ولنتأمل الحجاج الذين يأتون من أَقاصي الأَرضِ شَرقًا وغربًا وبعضهم يبقى سنواتٍ وهو يجمع ماله درهمًا درهمًا وفلسًا فلسًا، يقتطعها من قوته وقوت أَهله وأَبنائه حتى يجمع ما يعينه على أَداء هذه ِالفريضة العظيمة.

إن بعض الناس ربما ضرب الأرض طولاً وعرضاً ولم يدع مكاناً جميلاً في هذه الأرض إلا سافر إليه، بل أحيانا يسافر إلى بلاد بعيدة، ويوفر لهذه الأسفار ما يكفيها من أموال بطرقٍ عجيبة ولكنه في نفس الوقت لم يفكر في أداء فريضة الحج، لقد سمعنا عن أبناء الخمسين والستين والسبعين أولئك الذين لم يؤدوا فريضة الحج.

أيها المؤمنون: ومما ينبغي التذكير به أنه لا يحل لزوجٍ أَن يمنع زوجته من أَداء فرضها، ولا لوالدٍ أَن يمنع ولده من أَداء فرضه؛ شحًّا بِه، أَو خوفًا عليه؛ أما إذا كان الزوج محتاجا لزوجته أو الوالد محتاجا لولده.

إِن الشفقة الحقيقية هي في الخوف على الأَولاد من عقوبة الله بِتركهم فرائضه سبحانه، بل الواجب على الزوج أَن يأمر زوجته بِالحج، ويحثها عليه؛ لأَنه أَمر بِالطاعة، وإِن رافقها إِلى الحج، أَو دفع نفقة حجها وحج محرماً معها كان ذلِك إِحسانًا لعشرتها، وعونًا على أَداء فرضها، وقد أمر صلى الله عليه وسلم الرجل الذي اكتتِب في الغزوِ وامرأَته حاجة بِأَن يترك الغزو فقال: «ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

وكذلك ينبغي السماح لمن تحت يدهِ من العمالة لتمكينهم من أداء فريضة الحج ولا يتعذرُ بحجة أن العمل يتعطل أو أن المكفول جديد، ولا بد أن يمضي عدداً من السنوات حتى يأذن له بالحج، فربما سافر العامل وضاعت عليه فرصة الحج.

عباد الله: وعلى من نوى الحج أَن يستعد له مبكرًا بِاختيار حملته، واستخراج تصريحه، وتعلم أَحكامه؛ فإِن كثيرًا من النَّاس يفوتهم قضاء فرضهم في كل عام بسبب تأَخرهم في الاستعداد للحج، فإِذا أَغلقت الحملات تسجيلها، وامتلأَت بحجاجها، تعلل بأَنه لم يجد حملة يحج معها، وهذا دأْبه كل عام، ويظن أَن هذا عذر صحيح، والتفريط منه لا من غيره!.

ومن كانت نفسه يا عباد الله تتوق إلى الحج، وتتلهف إلى بيته العتيق، وأداء هذا الركن العظيم فحال دون ذلك عجز مالي أو ضعف صحي أو مانع أمني، فليبشر بالخير فإن نيته عند الله بلغت ما بلغت.

قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97)}[آل عمران].

اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد للَّـه حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأَشهد أَن لا إِله إِلا الله وحده لا شَريك له، وأَشهد أَن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وعلى آله وأَصحابِه ومن اهتدى بهداهم إِلى يوم الدِّين.

أَمَّا بعد: فاتقوا الله رحمكم الله، {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [البقرة:223].

عباد الله: إن الله جل وعلا بنى الشرائع على التيسير، ولا يرضى الله لعباده المشقة والعنت، وصدق الله العظيم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6].

ومن تيسير الله جل وعلا على الناس أن عَذَرَ من لم يقدر على أداء الحج، فجعل الاستطاعة على الحج في البدن والمال شرطاً لأداء الحج .

ومن تيسيره سبحانه وتعالى أنه لما خلق المرأة ضعيفة، لم يفرض الحج عليها إلا إذا توفر لها محرم يرافقها في حجها.

ومِنَ الاستطاعة أن يجد المرء نفقَةَ حجه في مكان آمن مهيأ للعبادة، ومستوفٍ للخدمات، يجد فيه الحاج الراحة والطمأنينة والسكينة؛ أما مزاحمة الناس، وافتراش الطرقات، وسدُّ منافذ الخدمات، ففيه عَنَتٌ ومشَقَّةٌ وإيذاءٌ، قد يكون سببًا في لحوق الإثم بالحاج، وتفويت كثير من الأجور.

واحذر أيها المسلم من الكذب والتحايل والحج من دون تصريح لما في ذلك من المخالفة والوقوع في الإثم.

فيا من لم تحج، استعدَّ من الآن، واعزم ولا تتوان، وتوكل على الله ولا تعجز، فإِنَّ الأَمر ليس بِالهوى المُتبع، أَو الرغبات النفسية، والقناعات الشَّخصِيَّةِ، وَإِنمَا هُوَ رُكنٌ مِن أَركَانِ الدِّينِ وَاجبٌ.

اللهم يسر الحج لضيوفك، وأعنهم على أداء فرضهم، واحفظهم، وتقبل منهم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفق ولاة أمر المسلمين للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك ووفق ولاة أمرنا خاصة للخير، اللهم خذ بأيديهم لما فيه الخير البلاد والعباد………….

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:٥٦].

الجمعة: 16 / 11 /1437هـ