خطبة بعنوان: (اسم الله الشافي) بتاريخ: 9-5-1439هـ

الأربعاء 8 جمادى الآخرة 1440هـ 13-2-2019م

 

 

الخطبة الأولى :

إن الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومنْ يضلِلْ فلا هادي لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ.
عبادَ اللهِ: إنَّ الأمراضَ والأسقامَ مِنْ سُنَنِ الحياةِ التي لابدّ منها، ولا انفكاكَ عنها، كتبها اللهُ جلّ جلالُهُ وقدّرها لتُذكِّر الناس بالنعمةِ المنسيةِ على الدوامِ ألا وهي نعمةُ الصحةِ والعافيةِ، ولولا الأمراضُ لما تذكّر أحدٌ افتقارَهُ إلى خالِقِهِ وحاجتَه إليه في كشفِ البلاءِ وتخفيفِ الشدّةِ، واليومَ نقفُ وقفةً مع اسمٍ من أسماءِ الله تعالى وهو اسمُ اللهِ الشافي، قال تعالى على لسانِ نبيِّهِ وخليلِهِ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ : ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 80]. وروى البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ عائشةَ – رضي الله عنها -: أنَّ النبيَّ – صلى الله عليهِ وسلَّمَ – كان إذا عاد مريضًا يقول: (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ البَاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا).

و طلبُ الشفاءِ يكونُ من جميعِ الأمراضِ، وليسَ من ذاكَ المرضِ الذي أصيبَ بهِ المريضُ، فيشملُ شفاءَ الأبدانِ، وشفاءُ الصدورِ من الشُّبَهِ والشهواتِ فيُشرعُ للمسلمِ أنْ يقولَ: “يا شافي اشْفِنِي” فاللهُ – عزّ وجلّ – يشفي من أمراضِ القلوبِ كالغِلِّ، والحسدِ، والشهواتِ، ويشفي من أمراضِ الأبدانِ، ولا يُدعى بِهذا الاسمِ سواهُ.
عبادَ اللهِ: والشافي سبحانهُ هو الذي يرفعُ البأسَ والعِللَ، ويشفي العليلَ بالأسبابِ والأملِ، فقدْ يبرأُ الداءَ مع انعدامِ الدواءِ، وقد يشفَي الداءِ بلزومِ الدواءِ، ويُرتّبُ عليهِ أسبابُ الشفاءِ وكلاهُمَا باعتبارِ قدرةِ اللهِ سواءٌ، فهو الشافي الذي خلقَ أسبابَ الشفاءِ، ورتّبَ النتائِجَ على أسبابِهَا والمعلولاتِ على عِللِهَا، فيشفي بها وبغيرِها، لأنّ حصولَ الشفاءِ عنده يحكُمُه قضاؤُهُ وقدرُه، فالأسبابُ سواءُ ترابَطَ فيها المعلولُ بعلتِهِ أو انفصلَ عنها هي منْ خلقِ اللهِ وتقديرِهِ، ومشيئتِهِ وتدبيرِهِ، والأخذُ بها لازمٌ علينَا مِنْ قِبل الحكيمِ سبحانَهُ لإظهارِ الحكمةِ في الشرائعِ والأحكامِ وتمييزِ الحلالِ من الحرامِ، وظهورِ التوحيدِ وحقائقِ الإسلامِ .
عبادَ اللهِ: ومِن آثارِ الإيمانِ بهذا الاسمِ ما يلي:

أولاً: إخلاصُ اللجوءِ إلى اللهِ والتعلقِ بهِ حالَ المرضِ، لأنَّ الشفاءَ منهُ سبحانهُ وتعالى وحدهُ دونَ ما سِواهُ، وهذا لا يتنافى مع الأخذِ بالأسبابِ كما سبق ولكنّهُ –أيضاً- يمنعُ من التفاتِ القلبِ إلى الأسبابِ ونسيانِ خالقِها والآمِرُبها. فاللهُ تعالى هو الشافِي، ولا شافي إلا هو، ولا شفاءَ إلا شفاؤُه، ولا يرفعُ المرضَ إلا هو، سواءً كان مرضًا بدنيًا أو نفسيًا، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].
ثانيًا: أنّ اللهَ تعالى الشّافِي، لم يُنزِل داءً إلا وأنزلَ له شِفاءً، روى البخاريُّ في صحيحهِ من حديثِ أبي هريرةَ- رضي الله عنهُ -: أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قالَ: (ما أنزلَ اللهُ داءً إلا وأنزلَ لهُ شفاءً) وفي روايةٍ (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا قَدْ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ) رواه أحمد..
ثالثاً: لا ينبغِي إطلاقُ اسمِ (الشافي) إلا على اللهِ، حتى في الرقيةِ الشرعيةِ ولا ينبغي أنْ يتعلّقَ القلبُ بالراقِي، وهذا للأسفِ منتشرٌ في أيامِنَا هذِهِ، فهناكَ من يتعلقونَ بالرقاةِ، أو المستشفياتِ، والأطباءِ، مع أنَّهم مجردُ أسبابٍ يجبُ أنْ يبذلَهَا العبدُ لينالَ الشفاءَ وإلا فالشّافِي هو اللهُ -سبحانَهُ وتعالى-. روى الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ عن أبي رَمثةَ قال: دخلتُ مع أبي على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرأى أبِي الذي بظَهرِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (دعْني أعالِجُ الذي بظَهرِك؛ فإنِّي طبيبٌ، فقال: بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ طَبِيبُهَا الَّذِى خَلَقَهَا ) فالواجبُ علينَا أيُّها الأخوةُ أن يكونَ تعلّقُ قلوبِنَا بالذي أنزلَ الداءَ، ولا يرفعهُ إلا هو.

رابعاً: أنَّ هذا الشفاءَ قد يتأخرُ لِحكمةٍ إلهيةٍ، رفعًا لدرجاتِ المريضِ، وتكفيرًا لسيئاتِهِ: قال تعالى:﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84]. ذكرَ بعضُ المفسرينَ أنهُ لبِثَ في مرضِهِ ثمانيةَ عشرَ عامًا ابتلاءً من اللهِ لنبيِّهِ، وروى الترمذيُّ في سننِهِ من حديثِ جابرٍ – رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ – صلى الله عليهِ وسلّمَ – قال: (يودُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطي أهلُ البلاءِ الثوابَ، لوْ أنّ جلودَهم كانتْ قُرضتْ في الدنيا بالمقاريضِ).

خامساً: العلمُ بأنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى قدْ يؤخِّرُ عنِ العبدِ شفاءَ البدنِ لأجلِ شفاءِ الروحِ، فيُقدّرُ المرضَ لتنقيةِ المؤمنِ وتزكيتِهِ وتمحيصِهِ، ومصداقُ ذلكَ قولُ النبيِّ – صلى الله عليه وسلَّم – (ما منْ مرضٍ أو وجعٍ يصيبُ المؤمنَ إلا كانَ كفارةً لذنبِهِ، حتى الشّوْكَةَ يُشَاكَهَا، أو النكبةَ يُنْكَبُهَا –أي المصيبة -) رواه أحمد وأصلُهُ في الصحيحينِ، وهذا ممّا لا شكّ فيهِ يُورثُ الرِّضا بأقدارِ اللهِ .
سادساً: عدمُ اليأسِ من تأخّرِ البَرءِ إيماناً جازماً بأنَّ قضاءَ اللهِ للعبدِ خيرٌ من قضاءِ العبدِ لنفسهِ، وتسليةُ النفسِ بتذكّرِ أحوالَ أنبياءِ اللهِ تعالى الذينَ ألمّتْ بهمُ الأمراضُ والأوجاعُ فلم يُقابلوهَا إلا بالصبرِ واحتسابُ الأجرِ.
عبادَ اللهِ: لقدْ أمرِ اللهُ عزّ وجلّ بالأخذِ بالأسبابِ وحثّ عليها سبحانهُ وتعالى، وأمرَ رسولَهُ -صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ- بذلك فلا يجوزُ للمؤمنِ أنْ يُعطِّلَ الأسبابَ، بل لا يكونُ متوكلاً على الحقيقةِ إلا بتعاطي الأسبابِ. .ومن الأسبابِ التي جعلها اللهُ شفاءً للأمراضِ عموماً أي أمراضِ القلوبِ وأمراضِ الأبدان: الدعاء: قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وعنِ ابنِ عباسٍ – رضي الله عنهُ – قالَ: قالَ النبيُ – صلى الله عليه وسلم -: (منْ عادَ مريضًا لمْ يَحضُرْ أجلهُ فقالَ عندهُ سبعَ مرارٍ: أسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أنْ يشفيكَ إلا عافاهُ اللهُ منْ ذلكَ المرضِ) رواه أبو داود
• ومنها القرآنُ العظيمُ: قال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82]، وقالَ تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]. وقالَ تعالى:﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت: 44]، وكانَ النبيّ- صلى الله عليه وسلم – (ينْفُثُ على نفسِهِ في مرضِهِ الذي قُبِضَ فيهِ بالمعوذاتِ).
بَاركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإياكمْ بما فيهِ منَ الآياتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكمْ إنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي بيّنَ الطرِيقَ وأوضحَ المحجّةَ، و أرسلَ رُسُلَهُ مبشّرينَ ومنذرينَ لئلا يكونَ على اللهِ الحجة، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الذي كساهُ مِنْ حِللِ النّبوةِ والرسالةِ مهابةً وبهجةً صلى الله وسلمَ وباركَ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ والتابعينَ لهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ أمّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ أيّها المؤمنونَ والمؤمناتِ واعلموا أنَّ مِنْ جملةِ الأسبابِ التي جعلها اللهُ شفاءً للأمراضِ الرقيةَ وهي بابٌ شرعيٌّ منْ أبوابِ الشفاءِ الفعّالةِ، حتى كانَ بعضُ السلفِ الصالحِ يستغنونَ بها عنْ غيرِها منْ أنواعِ العلاجِ الحسّي، وثبتتْ الأحاديثُ في كونها سبباً لعلاجِ الأمراضِ الحسيّةِ كلدغةِ العقربِ والحُمَّى وغيرِ ذلك.
• ومنْ جملةِ الأسبابِ أيضًا العسلُ: قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 68، 69].
• ومنها الحبّةُ السوداءُ: روى البخاريّ ومسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ – رضي الله عنه -: أنَّ النبيّ – صلى الله عليهِ وسلّمَ – قالَ:(في الحبةِ السوداءِ شفاءٌ منْ كلِّ داءٍ إلا السّام”، قال ابنُ شهابٍ: “والسّامُ الموتُ)
• ومنها الحجامةُ: روى البخاريّ في صحيحهِ من حديثِ ابنِ عباسٍ – رضي الله عنهما – أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلمِ – قال:(الشفاءُ في ثلاثةٍ: في شرطةِ محجمٍ، أو شربةِ عسلٍ، أو كيةٍ بنارٍ، وأنا أنهي أمتي عن الكي)
• ومنها ماءُ زمزم: روى ابنُ ماجةَ في سننهِ من حديثِ جابرٍ- رضيَ اللهُ عنهُ – أنّ النبيّ – صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ – قالَ: (ماءُ زمزمَ لما شُرِبَ لهُ)، قالَ ابنُ القيّمِ رحمهُ اللهُ : (وقدْ جربتُ أنا وغيري منَ الاستشفاءِ بماءِ زمزمَ أموراً عجيبةً واستشفيتُ بهِ منْ عدّةِ أمراضٍ فبرأتُ بإذنِ اللهِ)، وكانَ ابنُ عباسٍ إذا شربَ ماءُ زمزمَ قالَ: (اللهمَّ إني أسألكَ علمًا نافعًا، ورِزقًا واسِعًا، وشِفاءً منْ كلِّ داءٍ) مصنّف عبد الرزاق.
هذا وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى فقدْ أمركمُ اللهُ بذلكَ فقالَ جلّ منْ قائلٍ عليماً: :﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ (الأحزاب:٥٦).
الجمعة 9-5-1439 هـ