بين يدي رمضان

الأربعاء 22 جمادى الآخرة 1440هـ 27-2-2019م

لقد كانت الإنسانية على موعد مع فجر جديد يحمل إليها كل معالم الهدى والنور حين أصطفى الله تبارك وتعالى محمداً خاتم النبيين رسولاً للعالمين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) لقد اصطفى الله لهذا الدين خير رسله بل خير خلقه أجمعين رحمة للمؤمنين ونعمة مسداة للمسلمين.

ولقد جاءت هذه الرسالة في وقت بلغت فيه البشرية سن الرشد العقلي من حيث الفصاحة والبلاغة والبيان واهتزت جنبات مكة وبطاحها لنداء الحق قرآنا يتلى أعجز الفصحاء والبلغاء وتحدى العباقرة الأذكياء جاء كتاباً يقرؤه الصغير والكبير لكنه يحمل في طياته الأسرار والمعجزات ويقف العظماء من أساطين البلاغة إكباراً وإجلالاً بل عجزاً متناهي عن الإتيان بآية مثله وكان التحدي فيه ظاهراً وعلناً منذ نزل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ورمضان هو شهر القرآن شهر الذكر وصدق الله العظيم (إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وننظر اليوم بعد هذه القرون المتتابعة والعصور المتلاحقة منذ أنزل الله هذا القرآن إلى يومنا هذا ووعد الله حق ثابت بحفظ هذا الذكر وتلك معجزة خالدة ثابتة رغم الفتن المظلمة وكثرة النزاع والخلاف ومحاولة أصحاب الأهواء الطعن في هذا الدين وفي الكتاب العزيز لكن هذه المحاولات تحطمت وعجزت وفشلت فشلاً ذريعاً في أشد الأوقات وأصعبها وأحلك الظروف وأقساها عجزت رغم تفرق المسلمين وضعفهم وتسلط أعدائهم لكن الكتاب المعجز بقي خالداً وسيبقى كما أخبر الله جل وعلا (ومن أصدق من الله قيلا) وها نحن نقرأ القرآن كما نزل على المبعوث رحمة للعالمين غضا طرياً تخاطبنا آياته وتوجه إلينا نداءاته وسنسأل عنه قال تعالى (فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكرى لك ولقومك وسوف تسألون) فأين نحن من هذا السؤال أين نحن من هذا الذكر الذي يقوم حياتنا ويرفعنا إلى أن نكون خير أمة أخرجت للناس ولذا اختار الله لنصرة دينه أقواماً لهم تكوين خاص وعندهم من القوة والبأس والمروة والنجدة ما ليس عند غيرهم واختار الأرض التي ينزل فيها هذا الوحي تلك الأرض التي يتوسطها حرم آمن مقدس فاطعم الساكنين حوله من جوع وآمنهم من خوف والقي في قلوبهم حب هذا الدين والكفاح من أجله وفداءه بالنفس والمال والولد ولذا قاموا بهذا الدين ووقفوا عند حدوده وعملوا بأركانه ومنها الصيام الذي يحفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة في آن واحد ويهتف بالمسلم داعياً أن يعيش الإنسان مستجيباً لأصدق الحديث مذعناً لنداء الفطرة موازناً بين متطلبات الجسد وضرورات الروح فلم يكن صياماً متواصلاً لا يطيقه الإنسان بل كان محدوداً بوقت معين وفي قدرة عامة الناس أن يأتوا به والله جل وعلا هو المشرع وهو العليم الحكيم يعلم أن التكليف قد يكون ثقيلاً على بعض الناس ولذا ناسب أن تبدأ الآية بالنداء الحبيب إلى المؤمنين المذكر لهم بأسمى وأعلى ما يتصفون به الإيمان- ثم يمهد تعالى بإخبارهم أن الصوم فريضة قديمة على من سبقهم من الأمم وأن الغاية من فريضته حصول التقوى لهم وكل هذه مرغبات في الصيام ودافعة إليه ولا شك أن في الصيام خير تربية للإنسان على القوة العامة في كل شيء وعلى فضائل الصراحة في القول والإخلاص في العمل وعلى الجد والحزم ورباطة الجأش فهو يعلم الناس كيف يترفعون عن مظاهر الحيوانية التي غاية همها الأكل والشرب وإشباع الغريزة. إنه يربي في المسلمين ملكة الصبر وقوة معنوية على قهر النفس ويعودهم احتمال الشدائد والجلد أمام العقبات ومصاعب الأحداث ومتاعب الحياة ومكاره النفوس فيصفي نفوسهم من علائق الشهوات وأدرانها ويخلصها من الانهماك في متع الدنيا وزخارفها.

والصوم ينمي في النفوس رعاية الأمانة والإخلاص في العمل ولا يراعى فيه غير وجه الله.
إن هذه الآية العظيمة التي جاء فيها فرضية الصوم تشير إلى فوائد كثيرة من أهمها:

1-أن الله نادانا بنداء الكرامة وحق لمن نودي بنداء كريم ولقب شريف أن ينفتح قلبه لمن ناداه ويتهيأ لما يطلب منه ويستجيب غير متحير ولا متأخر بل يسمع ويطيع وهو فرح مسرور.

2-أن هذا اللقب يقتضي حصر التلقي من الله فقط وحسن التصرف في نعمة القيام بواجب ذكره وشكره وتنفيذ أحكامه فالذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله واطمأنوا لما نزل من الحق وأحبوه هم الذين يبادرون في امتثال الأوامر واجتناب النواهي رغبة في الثواب وخوفاً من العقاب.

3-أن المؤمنين حقاً هم جنود الله من البشر وحزبه الحامل لرسالته الحافظ لحدوده ففرض الصوم عليهم تزكية لنفوسهم وتمحيص لإيمانهم وتقوية لإرادتهم لحمل الرسالة فالصيام فيه القوة التي تحصل من اتصال الصائم بربه وتعلقه به وحفظ هذا السر العجيب بينه وبين خالقه سبحانه.

4-الإشارة إلى فرضية الصيام على من قبلنا فيه توطين للنفوس وتشويق لها وتلميح لثقل هذه العبادة التي فيها ترك المرغوبات والمألوفات وقد قيل (إن التكاليف إذا عمت سهلت)

5-قوله تعالى (لعلكم تتقون) فيه تعليل لفرضية الصيام.

ببيان فائدته العظمى وحكمته التي يتفرع عنها كل خير وبركة وهذه التقوى هي التي تجعله يرعى أوامر الله ويحافظ عليها في السر والعلن والصائم جندي صابر على الظمأ والجوع ومتى جد الجسد ودعا داعي الحرب فإنه يتجه إلى المعركة غير خائف ولا متهيب فيقف موقفاً يرضي الله تعالى والصائم كذلك يعرف قيمة الوقت فلا يضيعه سدى لأنه يعلم أنه مسؤول عنه ومحاسب فيقضيه بما يعود عليه وعلى أمته وبلاده بالخير والبركة أسأل الله سبحانه أن يتقبل صيامنا وقيامنا وأن يوفقنا للخير إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا.
أ.د. عبد الله بن محمد الطيار