67 – منهج أهل السنة والجماعة في معاملة ولاة أمرهم

الأربعاء 19 رجب 1445هـ 31-1-2024م

 

67 –  منهج أهل السنة والجماعة في معاملة ولاة أمرهم pdf

 

 

 

منهج أهل السنة والجماعة

في معاملة ولاة أمرهم

 

تأليف

أ.د/ عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار

 

  

تقديم

معالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان

الحمد لله رب العالمين أمر بالاجتماع والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف.

والصلاة والسلام على نبينا محمد ما من خير إلا دل الأمة عليه وأمرها به وما من شر إلا بينه وحذر منه، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ونجوم الدجى ومن تبعهم بإحسان، وبعد:

فقد اطلعت على الرسالة التي ألفها أخونا الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد الطيار بعنوان (منهج أهل السنة والجماعة في معاملة ولاة أمورهم)، فوجدتها رسالة قيمة مفيدة في موضوعها تدعو الحاجة إلى مثلها لبيان الحق الذي التبس على كثير من الناس في هذه المسألة بسبب دعاة الضلال وأحزاب الفتنة الذين يريدون أن يفرقوا جماعة المسلمين ويوقعوا الشقاق بينهم على نهج فرقة الخوارج التي ابتليت بها الأمة الإسلامية في وقت مبكر وهي مكيدة من شياطين الجن والإنس حتى صار الكلام فيها الآن هو الشغل الشاغل خصوصاً في أوساط الشباب الجاهل فكان لابد من بيان الحق في هذه المسألة.

وإن ما كتبه الشيخ الدكتور عبدالله في هذه الرسالة هو من القيام بهذا الواجب العظيم، فجزاه الله خيرا ونفع بعلمه وبما كتب.

                                                                                          قاله وكتبه:

                                                                          صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

                                                                                       19/ 1/ 1418هـ

  

المقدمة

الحمد لله القائل في محكم التنزيل:{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون}[آل عمران: 105-107].

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، القائل مرغباً ومرهباً، (إن الله يرضى لكم ثلاثاً: يرض لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال) ([1]). وبعد:

فالعلاج لعلل المسلمين وأدوائهم هو الاجتماع على الحق والخير، والانتصار للسنة، ومحاربة البدعة، وقمعها.

والاجتماع المنشود والمأمور به ليس مجرد الاجتماع ولو على أي منهج، بل على منهج واحد، وطريق واحد هو طريق أهل السنة والجماعة طريق السلف الصالح. ولن يتحقق ذلك إلا بنشر العلم المستمد من الكتاب والسنة والصدور عن علماء الأمة الكبار الموثوق بهم. وتاجهم. في هذا الزمن كبار العلماء في بلاد الحرمين الشريفين، لثقة الناس بهم وعلو مكانتهم، وحرصهم على سلوك طريق سلف الأمة في العقائد والعبادات، والمعاملات، والأخلاق وغيرها. وهذا المسلك هو طوق النجاة بإذن الله الأمة الإسلام التي لم تصب – حسب علمي – بعلة أخطر من علة التفرق والاختلاف، وذلك بسبب البعد عن العلماء العاملين وترك منهجهم والصدور عن آراء بعض المتحمسين للإسلام.

الذين يفهمون النصوص فهماً يتفق مع منهجهم ومشربهم. ولذا حصل من التفرق ما الله به عليم واكتوت الأمة بنار الفرقة ولا تزال. وهذا أمر معلوم من دين الإسلام، ولكن في وسط هذا الجو المتهرب هناك طائفة ثابتة على الحق، تأخذ به وتدعو إليه، ولا يزال الحال كذلك حتى تقوم الساعة. وصدق الحبيب المصطفى  ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة) ([2]).

هذه الطائفة هي الطائفة المنصور، الثابتة على الحق، الطالبة لما عند الله. ومن طلب ما عند الله فإنه لا يخيب.

قال محمد بن عبدالله الثقفي: “شهدت خطبة ابن الزبير بالموسم خرج علينا قبل التروية بيوم وهو محرم فلبى بأحسن تلبية سمعتها قط، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد… فإنكم جئتم من آفاق شتى وفوداً إلى الله عز وجل، فحق على الله أن يكرم وفده، فمن كان جاء يطلب ما عند الله فإن طالب الله لا يخيب، فصدقوا قولكم بفعل، فإن ملاك القول الفعل والنية النية، القلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه فإنها أيام تغفر فيها الذنوب”([3]).

نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من هذه الطائفة، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                                                                       كتبه أبو محمد

                                                                         عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار

                                                                      يوم الاثنين: غرة شهر رمضان المبارك

                                                                                      من عام 1416هـ

  

أهمية الدعوة إلى الله

هناك غاية محددة لوجود الجن والإنس تتمثل في أداء مهمة سامية من قام بها فقد حقق غاية وجوده؛ ومن قصَّر فيها باتت حياته فارغة من القصد؛ خاوية من معناها الأصيل.

هذه الغاية المحددة هي عبادة الله وحده كما شرع لعباده أن يعبدوه، ولا تستقيم حياة العبد كلها إلا على ضوء هذه المهمة والغاية. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات: 56، 57، 58].

والدعوة إلى الله عز وجل من أفضل الأعمال، وأقرب القربات، وأوجب الواجبات؛ بعث الله تعالى صفوة خلقه من الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ للقيام بها، ووعد القائمين بها أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً في الدنيا والآخرة، بل إن الله جل وعلا جعلها شعاراً لأتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام.

ولقد كان هؤلاء وهم خيار عباد الله تعالى يهتمون بالدعوة أبلغ الاهتمام؛ ويحرصون على إخراج الناس من الظلمات إلى النور أشد الحرص، وهكذا حال من سلك دربهم من صالحي الأمة ومصلحيها، وهذا الاهتمام الملحوظ يرجع لأسباب منها:

1-أن الله تعالى أعلى منزلة الدعاة؛ حيث يصيرون بها من أحسن الناس قولاً عند خالقهم جل وعلا، قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت: 33].

2-مما يجعل المسلم يحرص على تبليغ الدين إلى الناس دعاء النبي ﷺ لمن بلَّغ قوله إلى غيره حيث يقول: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فبلغَّها؛ فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ([4])، ومعنى نضَّر الله: هذا دعاء له بالنضارة، وهي النعمة والبهجة.

3-الحرص على هداية الناس له فضل عظيم؛ لا سيما إذا هدى الله على يده أحداً، يدل لذلك ما ثبت عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله  ﷺ قال لعلي  رضي الله عنه لما أعطاه الراية يوم خيبر: (أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)([5]).

وقد بيَّن الرسول  ﷺ أن من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله، فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله   ﷺ: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) ([6]).

وأكد في سنته أن مما يتبع الشخص بعد موته وينفعه وهو في قبره العلم الذي يبثه في الناس، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)([7]).

وحينما ننظر إلى سيرة الرسول ﷺ العملية في الجانب الدعوي نجده يدعو في جميع الأماكن، والأزمان، والأحوال فلم يوجه دعوته ﷺ لصنف من الناس دون صنف؛ بل دعا الناس جميعاً من أحبوه ومن أبغضوه، ومن استمع إليه، ومن أعرض عنه، بل يوجه دعوته إلى من آذاه لأن الدعوة تكليف من الله لابد من القيام كسائر التكاليف الشرعية.

ولم يخص ﷺ مكاناً دون غيره للدعوة؛ بل كان يدعو في المسجد، والطريق، والسوق، والحضر، والسفر، بل وحتى في المقبرة، وعلى رأس الجبل لم يترك الدعوة.

وكان ﷺ يستغل المواسم وأماكن تجمع الناس ليكون ذلك أبلغ في دعوته ولتصل أكبر عدد من الناس، واستمر ﷺ في أداء هذه المهمة الجليلة مشمراً عن ساعديه، باذلاً كل ما في وسعه، مستخدماً كل وسيلة متاحة، متحملاً كل أذى في سبيل إبلاغ الدعوة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

وقد امتلأت سيرته وفاضت بالمواقف الدعوية الرائدة التي تتمثل فيه القدوة العملية للدعاة والعلماء والمصلحين، وسبيله في ذلك ومنطلقه، وقاعدته العريضة:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125].

 

مفهوم أهل السنة والجماعة

أهل السنة والجماعة هم المتبعون للسنة في كل شأن، المجتمعون على الهدى، وبهذا يخرج أهل البدع وأصحاب الأهواء لأنهم غير مجتمعين على السنة والهدى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “البدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال أهل السنة والجماعة، كما يقال أهل البدعة والفرقة..”([8]).

وقال أيضاً: “ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول ﷺ باطناً وظاهراً، واتباع وصية رسول الله ﷺ حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ([9]).

ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ ، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد ﷺ على هدي كل أحد، وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة، وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين، والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين..” ([10]).

 

منهج أهل السنة والجماعة

في معاملة ولاة أمرهم

هناك نصوص صحيحة صريحة توجب طاعة ولاة الأمر والمناصحة لهم، وهذه ظاهرة كثيراً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء: الآيتان 58، 59].

قال ابن كثير حول هذه الآيات: “فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ}، أي: اتبعوا كتابه، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، أي: خذوا بسنته، {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، أي: فيما يأمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله”([11]).

وقال العلامة الشوكاني في تفسيره: “لما أمر سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق أمر الناس بطاعتهم ها هنا وطاعة الله عز وجل هي امتثال أوامره ونواهيه وطاعة رسوله هي فيما أمر به ونهى عنه، وأولي الأمر هم الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية، لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية…” ([12]).

وقال العلامة ابن سعدي في تفسيره حول هذه الآية: “ثم أمر الله بطاعته وطاعة رسوله ﷺ، وذلك بامتثال أمرهما الواجب والمستحب واجتناب نهيهما، وأمر بطاعة أولي الأمر وهم الولاة على الناس من الأمراء والحكام والمفتين. فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم طاعة الله، ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”([13]).

1-وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ([14]).

2-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثره عليك) ([15]).

3-وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) ([16]).

4-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطيع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)([17]).

5-وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:(من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ([18]).

6-وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: (من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية) ([19]).

7-وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:(من أهان السلطان أهانه الله)([20]).

8-وعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (الدين النصيحة.. قلنا لمن يا رسول لله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) ([21]).

هذه النصوص الصحيحة الصريحة تفيد بمجموعها وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله، وعدم إثارة الفتن مهما كان الدافع لها، والحرص على الجماعة ولزومها، والنهي عن الفرقة لأن فيها خذلان الأمة وضعفها، وهذا هو منهج سلف الأمة الذي ساروا عليه

وأكدوه فيما نقل عنهم من كلام حول النصوص السابقة، ومن ذلك ما يأتي:

1-قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من الحاجة إلى رأس…” ([22]).

وقال في موضع آخر: “ولهذا روي أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان”([23]).

والتجربة تبين ذلك، ولهذا كان السلف كالفضل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان.

ويقول في موضع آخر: “فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات”([24]).

2-ويقول ابن القيم رحمه الله: “ولزوم جماعتهم هذا أيضاً مما يطهر القلب من الغل والغش فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسره ما يسرهم، وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذمّ لهم..”([25]).

3-وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “.. من نصب شخصاً كائناً من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً”([26]).

وقد علق الشيخ بكر أبو زيد على هذا الكلام بقوله: “.. وهذه حال كثير من الجماعات والأحزاب اليوم، فإنهم ينصبون أشخاصاً قادة لهم فيوالون أولياءهم ويعادون أعداءهم ويطيعونهم في كل ما يفتون لهم دون الرجوع إلى الكتاب والسنة، ودون أن يسألوهم عن أدلتهم فيما يقولون أو يفتون..” ([27]).

إن منهج أهل السنة والجماعة مع ولاة أمرهم منهج وسط عدل، يقوم على أساس الاتباع وعدم الابتداع، والطاعة بالمعروف، وهذا مقتضى الأثر الذي تضافرت حوله النصوص الشرعية التي أشرنا إلى طرف منها سابقاً، وقد أكد ذلك سلف هذه الأمة تطبيقاً عملياً لهذا المنهج.

يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر”([28]).

ويقول: “إياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق”([29]).

ويقول: “اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة”([30]).

ويقول: “إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتؤدة فإنك أن تكون تابعاً في الخير خير من أن تكون رأساً في الشر”([31]).

وسمع الحسن رجلاً يدعو على الحجاج فقال لا تفعل ـ رحمك الله ـ إنكم من أنفسكم أوتيتم إنما نخاف إن عزل الحجاج أو مات أن تليكم القردة والخنازير([32]).

إن وجود الحكام للناس أمر لازم لزوم الماء للحياة، إذ لا سعادة للبشر إلا بهم، ولا عدل قائماً ولا حق ظاهراً إلا بسلطان الحكام، فالناس فوضى بدونهم، ولن يصلح الناس فوضى لا تقام فيهم أحكام الشرع، ولا تطبق عليهم حدود الإسلام ولا تنفذ أنظمته، ولا يأمن الناس على حياتهم، ولا تحقق رفاهية ولا يدفع عدو طامع مع هذه الفوضى، وقد عبر عن هذا المعنى رسولنا محمد بقوله:(إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقي به) ([33]).

ومن أجل ذلك بوأ الله للحكام مكاناً علياً، وأنزلهم منازل كريمة؛ فكانوا ظل الله في الأرض وأحبابه يوم القيامة، وصدق الحبيب المصطفى إذ يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل..) الحديث ([34]).

إن تاريخ العلماء والحكام من سلف الأمة حافل بمواقف الاستبصار ومواطن الذكرى، ومملوء بالدروس النافعة الرائعة، والأمة أحوج ما تكون اليوم إلى الاتعاظ بهذه المواقف والاهتداء بهديها لئلا تتجاذبها رياح الفتن، وتغتالها غوائل الدهر، وتقع في المحذور الذي وقعت فيه فئات من الناس جهلت التاريخ المضيء لأمة الإسلام وما كان عليه علماء الأمة من معاملة صادقة للحكام وحرص على الخير، وما كان عليه الحكام من تقدير للعلماء ورفع لمكانتهم.

وهذه حال أمة الإسلام، وهذا هو هدي سلفنا الصالح، ولذا شعرت الأمة خلال حقب التاريخ بالسعادة والرفاهية والأمن، وتحقق لها من الخير ما بوأها مكانة عالية مرموقة.

وها هي بلاد الحرمين تنهج هذا النهج ـ ولله الحمد والمنة ـ يتولى أمرها حكام مسلمون آمنوا بالله واليوم الآخر، وحافظوا على كتاب الله وسنة رسول الله ، ووقفوا عند حدودهما والتزموا بأحكامهما. حضروا المساجد مع الرعية، وفتحوا لهم الأبواب، يكرمون الزائر، ويحترمون العالم ويجلونه، ويسمعون النصح والإرشاد بكل أدب واحترام وهذا ما جعل هذه البلاد تحذو سلف الأمة في العلاقة بين الحكام والمحكومين عامة وبين الحكام والعلماء خاصة، ولذا لا يوجد في عرف بلاد الحرمين ـ وهو عرف نابع من الإسلام ـ رجال دين ولا رجال دنيا، فكل مسلم هو رجل من رجال الإسلام ومن يعتقد بالإسلام يسمى مسلماً، والمسلمون جميعاً أمام دين الإسلام سواء {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13].

لكن يوجد علماء ربانيون يوجهون الناس يعلمونهم ويدلونهم على الخير، والناس بلا علماءهم جهال تتخطفهم شياطين الإنس والجن من كل حدب وصوب وتعصف بهم الضلالات والأهواء من كل جانب.

ومن هنا كان العلماء من نعم الله تعالى على أهل الأرض؛ فهم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وحجّة الله في أرضه. بهم تمحق الضلالة من الأفكار، وتنقشع غيوم الشك من القلوب والنفوس؛ فهم غيظ الشيطان، وركيزة الإيمان، وقوام الأمة، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بهم في ظلمة الحياة في البر والبحر.

أخي القارئ:

إن ما نعيشه في بلاد الحرمين الشريفين من نعمة الأمن والأمان والسلامة والإسلام مرده إلى تحكيم شرع الله، وما تقوم به هذه البلاد المباركة من جهود خيّرة تعود على المسلمين جميعاً.

ويأتي في طليعة ذلك العناية بالحرمين الشريفين والقيام على شئونهما، وبذل الأموال الطائلة على عمارتهما، وتيسير الوصول إليهما، وتأمين طريق الزائرين لهما في موسم الحج وفي سائر العام.

وهذه نعمة تستوجب الشكر والدعاء لولاة أمرنا بالتوفيق والصلاح والفوز والفلاح والعزة والسعادة في الدنيا والآخرة، وأن يحفظ الله على هذه البلاد نعمة الأمن والإيمان، وأن يزيدها عزاً وتمسكاً بشرعه القويم ووقوفاً في وجه الباطل وأهله والمفسدين في الأرض الذين لا يريدون لهذه البلاد الاستقرار والأمن والطمأنينة، ولكن الله غالب على أمره يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.

قال العلامة أحمد شاكر تعليقاً على حديث (على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره..) الحديث: “.. أما الشرع الإسلامي فقد وضع الأساس السليم والتشريع المحكم بهذا الحديث العظيم، فعلى المرء المسلم أن يطيع من له عليه حق الأمر من المسلمين فيما أحب وفيما كره، وهذا واجب عليه يأثم بتركه سواء أعرف الآمر أنه قصر أم لم يعرف، فإنه ترك واجباً أوجبه الله عليه، وصار ديناً في دينه إذا قصر فيه كان كما لو قصر في الصلاة أو الزكاة أو نحوهما من واجبات الدين التي أوجب الله..” ([35]).

وقال مجدد الإسلام وإمام الدعوة السلفية الشيخ محمد بن عبدالوهاب: “.. وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمورا بمعصية الله”([36]).

نعم إن محبة ولاة الأمر والنصح لهم دليل على الصدق والإخلاص، وهذا ديدن العلماء الصادقين الناصحين في كل زمان مع ولاتهم الذين يحكمون بالكتاب والسنة.

ونحن في بلاد الحرمين الشريفين نعيش في ظل الأمن الوارف وتحكيم الشرع المطهر فحق لولاتنا علينا السمع والطاعة والتعاون معهم في كل سبيل فيه الخير والمصلحة لهذه البلاد ومن يعيش على ثراها.

وإذا كانت الأمة مطالبة في كل وقت أن تكون يداً واحدة وأن تتعاون كل فئات المجتمع على الخير والبر فإنها مطالبة في هذا الوقت أكثر لعظم الأخطار المحيطة بها، وصدق الحبيب المصطفى في قوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ـ وشبك بين أصابعه)([37]). وقوله : (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ([38])

إن من تمام شكر النعمة التي نعيش فيها أن نكون يداً واحدة متعاونين على الخير آمرين بالمعروف فاعلين له، ناهين عن المنكر مبتعدين عنه عملاً بقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 2].

ويوم أن تتعاون فئات المجتمع ويصدر الناس عن رأي علمائهم الكبار في الأمور العامة والقضايا المستجدة يتحقق بإذن الله الخير لهذا المجتمع، ويتم التمكين له في الأرض، ونتفيأ ظلال الأمن في ظل الحكم بشرع الله المطهر في هذه البلاد المباركة.

ولكي تتضح هذه النعمة ويعرف قدرها يحسن أن ندير أبصارنا إلى من حولنا من البلاد التي تعصف فيها رياح الفتن، ويسرح فيها الباطل، وتعشعش فيها الجريمة بكل أشكالها، ولا يأمن فيها الفرد على نفسه وماله وعرضه، بل لا يؤدي في كثير من الأحيان عبادته إلا بخفية خشية إيذائه من أهل الشر والضلال، فحمدا لك اللهم على نعمة الإسلام والأمن في الأوطان. وأسأله سبحانه وتعالى أن يديم على هذه البلاد نعمة تحكيم شرع الله، وأن يحفظ لها ولاتها، وأن يزيدهم هدى وصلاحاً، وأن يجمع بهم كلمة المسلمين، وأن يأخذ بأيديهم لما فيه خير هذه البلاد وصلاح رعاياها. كما أسأله سبحانه أن يوفق علماءنا ويسدد على طريق الخير خطاهم، وأن ينفعنا بعلمهم ويجمعنا بهم ووالدينا وأحبابنا في جنات النعيم. 

 

من حقوق ولاة الأمر

السمع والطاعة والولاء أمر المسلمين أصل من أصول العقيدة السلفية؛ إذ بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدين والدنيا معا، وبالافتيات عليهم قولاً أو فعلاً فساد الدين والدنيا.

وقد عُلم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة.

يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: “لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان”، والسمع والطاعة لولي الأمر وحده وليس ذلك لأحد سواه كائناً من كان، فمن نزّل نفسه منزلة ولي الأمر الذي له القدرة والسلطان على سياسة الناس، فدعا جماعة للسمع والطاعة له أو أعطته تلك الجماعة بيعة تسمع وتطيع له بموجبها، وولي الأمر قائم ظاهر فقد حادَّ الله ورسوله وخالف نصوص الشريعة واتبع غير سبيل المؤمنين.

يقول سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: “لا يزال الناس بخير ما عظّموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم”.

ومنهج أهل السنة والجماعة تعظيم أمر السلطان ما دام يعظم أمر الله ويتبع شرعه، وأما حصول الأخطاء والتقصير فهذا لا يسلم منه أحد ولم تسلم منه القرون المفضلة، والذي ينبغي الحذر منه أن يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس.

كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى، وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها.

وكم من المصائب والمآسي التي حصلت لمجتمعات كثيرة بسبب هذا الأمر، ومتى حصل الخلل في المجتمع أوشك أن تضرب الفتنة أطنابها وبالتالي لا يستقيم للمجتمع بنيان ولا يقر له قرار.

وعلى العكس إذا فشت المحبة المتبادلة بين الراعي والرعية، وبين العامة وعلمائهم، وظهر الدعاء لولاة الأمور وللعلماء فإن ذلك من علامات خيرية الأمة وخيرة الأئمة.

وبناء على ذلك فلا يجوز الوقوع في أعراض الأمراء والعلماء والاشتغال بسبهم وذكر معائبهم لأن ذلك خطيئة كبيرة وجريمة شنيعة نهى عنها الشرع المطهر وذمّ فاعلها وهي نواة الخروج على ولاة الأمر الذي هو أصل فساد الدين والدنيا معاً.

ولا شك أن الوسائل لها أحكام المقاصد فكل نص في تحريم الخروج وذمّ أهله دليل على تحريم السب وذمّ فاعله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ([39]).

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله: أي الإسلام أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) ([40]).

نسأل الله جل وعلا أن يعصم ألسنتنا من الوقوع في أعراض الخلق وخصوصاً من له الحق من الولاة والعلماء والأساتذة والأقارب ورجال الحسبة وأهل الفضل والدعوة وغيرهم.

  

العلماء وأثرهم على الناس

العلم من المصالح الضرورية التي تقوم عليها حياة الأمة بمجموعها وآحادها فلا يستقيم نظام الحياة مع الإخلال بها بحيث لو فاتت تلك المصالح الضرورية لآلت حال الأمة إلى الفساد ولحادت عن الطريق الذي أراده لها الشارع، ولذا جاء الحث على العلم والاهتمام به والترغيب في طلبه في نصوص كثيرة متضافرة، قال تعالى:{يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11]، وقال : (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين) (متفق عليه).

ولعل سن الشباب هي خير ما يؤهل فيه الشاب لطلب العلم، وقد يعجز عن إدراك الشيء بعد ما تتقدم به السن لكثرة العوارض والمشاغل، وصدق الحسن رحمه الله إذ يقول: “طلب العلم في الصغر كالنقش على الحجر”.

وقال علقمة رضي الله عنه: “أما ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاسته أو ورقه”.

وأوصى لقمان ابنه قائلا: “يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بالحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل السماء”.

وقال الشاعر:

نعم المؤانس والجليس كتاب  *** تخلو به إن ملَّك الأصحاب
لا مفشياً سراً ولا متكبـراً   *** وتفاد منه حكمة وصـواب

وقال آخر:

واعلم بأن العلم أرفع رتبة   *** وأجل مكتسب وأسنى مفخر
فاسلك سبيل المقتنين له تسد *** إن السيادة تقتنى بالدفتر
والعالم المدعوُّ حبراً إنما   *** سماه باسم الحبر حمل المحبر
وبضمر الأقلام يبلغ أهلها  *** ما ليس يبلغ بالجياد الضمّر

 

وقال ابن الجوزي رحمه الله: “لما كان العلم أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللذات والراحة”.

ولابد من الأدب مع العلماء واحترامهم وبيان محاسنهم؛ فهم الشموع المضيئة، والأعلام الهادية، والأدلاء على الخير. هم بحر الأمة الدافق، وقلبها النابض، وبلسمها الشافي، هم أهل الصلاح والتقى، أهل الطاعة والعبادة.

وما أحقر بعض الأقزام من أهل الأهواء الذين لا يعرفون للعلماء قدرهم، فيغمزونهم، ويلمزونهم، ويتطاولون عليهم، وما علم هؤلاء أنهم يطعنون الأمة في أعز ما تملك، بل في رصيدها الحقيقي وهم العلماء الذين يعتبر تقديرهم واحترامهم والأدب معهم من صميم ولوازم عقيدة المسلم، ونحن مأمورون حال الاختلاف بالالتفاف حول الكتاب والسنة والرجوع إلى العلماء الربانيين الذين ينهلون من معين الوحيين، وكلما ابتعد الشباب عن علمائهم تقاذفتهم الأهواء، وفرقتهم الولاءات والانتماءات، وابتعدوا عن الصراط المستقيم الذي ندعو الله صباح مساء أن يهدينا إليه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 6، 7].

فالواجب علينا معاشر المسلمين تجاه علمائنا وهم تاج علماء الأمة الإسلامية في هذا الزمان أن نصدر عن أقوالهم ولا سيما في قضايا الأمة العامة وما يهمها في أمر دينها ودنياها ولا سيما ونحن نرى مؤامرات الأعداء تحيط بنا من كل حدب وصوب كل همهم تفريق صف الأمة وتوهين قوتها والسعي لإبعاد الشباب عن علماءهم.

وما ضلت أمة أعلت قدر علمائها، وتمسكت بمنهجهم، وجعلتهم في مقدمة الركب يقودون سفينة المجتمع إلى شاطئ السلامة لئلا تعصف بها رياح الأهواء والاختلافات التي مزقت الأمة وأضعفتها، وجعلت ولاءها لغير الله ورسوله والمؤمنين.

ووصيتي لنفسي والناس عامة والشباب خاصة أن يلتزموا بأدب الإسلام في انتقاء أطايب الكلام، واجتناب الجرح والسب، والإيذاء بالغمز والهمز واللمز.

وخير ما يعين على ذلك سلوك طريق العلماء الموثوقين الذين لهم قدم راسخة في العلم وهم في بلاد الحرمين تاج علماء الزمان. فليلزم الشاب غرزهم، وليسلم من طرائق الأهواء، ومزالق الشيطان، ومضلات الفتن، وليبتعد عن الولاء لغير الله ورسوله والمؤمنين.

 

نموذج للتعامل الشرعي

مع الولاة

يعتبر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية أحد الأعلام الذين خلّد الزمان ذكرهم، وأصبح الناس يتتلمذون عليهم على مرِّ العصور وتعاقب الأيام، ذلك أنه اجتمعت لهذا العالم صفات لم تجتمع في أحد من أهل عصره، فهو الذكي الألمعي، وهو الكاتب العبقري، وهو الخطيب المصقع، وهو الباحث المنقب، وهو العالم المطلع الذي درس أقوال السابقين، وقد أنضجها الزمان وصقلتها التجارب وفحصتها الاختبارات، فنفذت بسيرته إلى لبها، وتغلغل في أعماقها، وتعرف أسرارها وفحص الروايات، ووازن بين الآراء المختلفة، وطبقها على عصره مع إدراك للكليات الجامعة، والفروق البديعة، والتقاسيم الدقيقة، وربط للجزئيات، وجمع للأشتات المتفرقة ووضعها في نسق واحد.

لقد كانت لهذا العالم مواقف في غاية الأهمية ملؤها الحزم والشدة في ضوء النصوص الشرعية الثابتة، بيَّض بهذه المواقف وجه الإسلام أمام أعدائه من اليهود والنصارى والتتار والملحدين والزنادقة والجهمية المعطلة والمبتدعة وعباد الموتى وغيرهم، فقد صمد لهؤلاء جميعاً وآتاه الله عن قوة اليقين وشجاعة القلب والنفس وقوة الحجة، أخرسهم وقطع ألسنتهم وسوَّد وجوههم حتى استعانوا عليه بالزور والافتراء والتحريف لقوله، ووصلوا في هذا الجو الجاهل إلى بعض ما أرادوا من حبسه، وهذا أمر معروف مشهور.

لكن بعض المنتسبين للدعوة في زماننا هذا ولغاية في النفوس يحور هذا الأمر ويقول أن سجن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حدث بسبب مخالفته للسلطان وأن موقفه كان سياسياً بحتاً ـ لأن هؤلاء المنتسبين للدعوة يتعلقون في كل شيء يمت للسياسة والمخالفات السياسية ـ لكن المطلع ـ المنصف المتجرد ـ على سيرة شيخ الإسلام يعرف ما حدث لهذا العالم من تسلط الفرق الضالة والمذاهب المنحرفة أهل الأهواء يتبين له بجلاء مواقف الشيخ منهم، ذلك الموقف الصلب المتشدد الذي يقوم على قرع الحجّة بالحجّة وهدم الباطل من أساسه.

والذي يؤكد لنا أن موقفه لم يكن سياسياً إطلاقاً تلك الرسالة التي تقطر أدباً وتفيض محبة ومودة للسلطان الملك الناصر الذي سجن الشيخ، وهذه الرسالة ذكرها تلميذ الشيخ ابن عبد الهادي في ترجمة لشيخه قال فيها: “رسالة الشيخ إلى السلطان الملك الناصر … بسم الله الرحمن الرحيم من الداعي أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين، ومن أيد الله في دولته الدين، وأعز بها عباده المؤمنين، وقمع فيها الكفار والمنافقين والخوارج المارقين، نصره الله ونصر به الإسلام وأصلح له وبه أمور الخاصة والعامة، وأحيا به معالم الإيمان، وأقام به شرائع القرآن، وأذلّ به أهل الكفر والفسوق والعصيان.. سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد: فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأنعم الله على السلطان وعلى المؤمنين في دولته نعماً لم تعهد في القرون الخالية، وجسد الإسلام في أيامه تجديداً بانت فضيلته على الدول الماضية، وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق أفضل الأولين والآخرين الذين أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوس المئين، والله تعالى يوزعه والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة في الدنيا والدين، ويتمها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين. وذلك أن السلطان ـ أتم الله نعمته ـ حصّل للأمة بيمن ولايته وحسن نيته وصحة إسلامه وعقيدته وبركة إيمانه ومعرفته وفضل همته وشجاعته وثمرة تعظيمه للدين وشريعته ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته.. ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين وما كان يقصده الأئمة العادلون من جهاد أعداء الله المارقين عن الدين..” ([41]).

وهي رسالة مطولة تفيض حباً ومودة وولاء للسلطان.

فكيف يكون موقف شيخ الإسلام سياسياً وكيف ينازع ولي الأمر حقه.

وهذه رسالته تكشف الحقيقة وتبين الموقف بجلاء، فهل يعي الغافلون وينتبه المخادعون ونرجو ذلك ونتمناه.

 

هل كان موقف

الإمام أحمد من فتنة القول

بخلق القرآن سياسياً؟

وقف الإمام أحمد رحمه الله طوداً شامخاً زمن الفتنة حينما أُجبر الناس على القول بخلق القرآن، وامتُحن الإمام أحمد بسبب ذلك امتحاناً عظيماً، ولكنه ثبت وصبر محتسباً الأجر من الله.

لقد كان موقف الإمام أحمد موقفاً رائعاً يندر أن يحدث في التاريخ في باب الإصلاح والتجديد والدفاع عن الدين، واستطاع بموقفه المتميز أن يؤثر في عقول الناس وقلوبهم تأثيراً عظيماً، وأن يقف طوداً شامخاً وجبلاً راسياً في وجه هذه التيارات التي تجرف بالرجال وتحرك الجبال.

لقد كانت الأمة بحاجة ماسة إلى شخصية تمحضها النصح والتوجيه والإرشاد، وكان المسلمون في هذه المواقف العصيبة بحاجة إلى إمام يثقون بدينه وأمانته وفقهه يعارض هذه التيارات الفاسدة ويقف في وجهها جاهراً بالحق محتملاً للأذى صابراً على البلاء.

وقد كان ما كان من الإمام أحمد رحمه الله، وهذا أمر معروف مشهور لكن الذي لفت انتباهي أن بعض المنتسبين للدعوة يحور موقف الإمام أحمد من الفتنة ويجعله موقفا سياسياً بحتاً ويقرر ـ حسب نظرته ـ أن سجنه كان لمخالفته السياسة، وهذا والله هضم لموقف الإمام أحمد وتنقيص من قدره لأن موقفه الشرعي المتضمن الدفاع عن الدين أعلى قدراً وأجل مكانة مما جره إليه هؤلاء المنتسبون للدعوة.

ولذا لما قيل للإمام أحمد وهو تحت السياط يعذب: ما تقول في السلطان؟ قال لو كان لي دعوة مستجابة لصرفتها إليه. بل ثبت عنه رحمه الله أنه عفا عن المعتصم ـ رحمه الله ـ فقد حدّث عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال لي أبي وجَّه إليّ الواثق أن أجعل المعتصم في حلٍ من ضربه إياي. فقلت: ما خرجت من داره حتى جعلته في حلٍّ”([42]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “.. ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون ـ لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا به للسلطان..” ([43]).

وقد كان موقف الإمام أحمد متشدداً مع ابن أبي دؤاد، فقد قال إبراهيم الحربي: “أحل أحمد بن حنبل من حضر ضربه وكل من شايع فيه والمعتصم، وقال إلا ابن أبي دؤاد داعية لا حللته”([44]).

وهذا دليل واضح أن موقف الإمام أحمد كان موقفاً عقدياً وليس منازعة للسلطان ولم يكن موقفا سياسياً كما يبدو لبعض الناس حيث وظفوا هذا الموقف لصالح ما يدعون إليه، ولكن هيهات لهم ذلك، فقد نصّ الإمام أحمد على عدم حله لابن أبي دؤاد لأنه داعية يدعو للبدعة ويعلن ذلك، فكأن الإمام أحمد رحمه الله يرى أن ابن أبي دؤاد هو السبب في كل ما حصل للمسلمين من الفتنة، وما حصل له ـ أحمد ـ خصوصاً من المحنة.

فرحم الله الإمام أحمد، فما أحسن هذا النظر الدقيق وذلك التفريق العجيب، وذلك دونما شك نظر العلماء العاملين الحريصين على هداية الناس ودعوتهم للخير.

 

مفهوم النصيحة

وأثرها على الفرد والجماعة

عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) ([45]).

كرر النبي هذه الكلمات اهتماماً للمقام وإرشاد للأمة أن يعلموا حق العلم أن الدين كله ـ من ظاهره وباطنه ـ منحصر في النصيحة وهي القيام التام بهذه الحقوق الخمسة التي تشمل القيام بحقوق الله وحقوق رسوله وحقوق جميع المسلمين على اختلاف أحوالهم وطبقاتهم، فشمل ذلك الدين كله ولم يبق منه شيء إلا دخل في هذا الكلام الجامع المحيط.

فطوبى للناصحين ما أعظم توفيقهم، وما أهدى طريقهم، لا تجد الناصح إلا مشتغلاً بغرض يؤديه وفي جهاد نفسه عن محارم ربه ونواهيه، وفي دعوة غيره إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة وفي التخلق بالأخلاق الجميلة والآداب المستحسنة، إن رأى من أخيه خيراً أذاعه ونشره، وإن اطلع منه على عيب كتمه وستره، وليس من الإنصاف وفسحة الصدر رفض المشورة إن خالفت هواه بدعوى أن الآخرين في صدورهم شيء نحوه كما لا يحق للمستشار أن يسيء الظن إن رفضت مشورته.

شاور سواك إذا نابتك نائبه   ***   يوماً وإن كنت من أهل المشورات

ولا ينبغي أن تكون المناصحة للأفراد علانية أمام الملأ لئلا تؤدى إلى مفسدة أعظم، ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: “المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير، وكان يقال: “من أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيره”([46]).

وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه ويحبون أن يكون سراً فيما بين الآمر والمأمور، فإن هذا من علامات النصح، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها، فشتان بين من قصده النصيحة وبين من مقصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوى العقول الصحيحة.

قال الخطابي حول هذا الحديث في معالم السنن: “من النصيحة لله سبحانه: صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته، والنصيحة لكتابه: الإيمان به والعمل بما فيه، والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه، والنصيحة لأئمة المسلمين: أن يطيعهم في الحق وأن لا يرى الخروج عليهم بالسيف إذا جاروا، والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم”([47]).

وقال محمد بن نصر المروزي رحمه الله في تعظيم قدر الصلاة: “قال بعض أهل العلم: جماع تفسير النصيحة: هي عناية القلب للمنصوح له كائناً من كان، وهي على وجهين: أحدهما فرض، والآخر نافلة، فالنصيحة المفترضة لله هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض ومجانبة ما حرم، وأما النصيحة التي هي نافلة فهي إيثار محبته على محبة نفسه وذلك أن يعرض له أمران: أحدهما لنفسه والآخر لربه، فيبدأ بما كان لربه ويؤخر ما كان لنفسه”. فهذه جملة تفسير النصيحة لله الفرض منه، وكذلك تفسير النافلة إلى أن قال: “وأما النصيحة لكتابه: فشدة حبه وتعظيم قدره، إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، وشدة العناية في تدبره، والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه أو يقوم به له بعد ما يفهمه…. وأما النصيحة للرسول في حياته فبذل المجهود في طاعته ونصرته ومعاونته وبذل المال إذا أراد والمسارعة إلى محبته. وأما بعد وفاته فالعناية بطلب سنته والبحث عن أخلاقه وآدابه وتعظيم أمره ولزوم القيام به.

وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم وحب اجتماع الأمة عليهم وكراهة اختراق الأمة عليهم والدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل والبغض لمن رأى الخروج عليهم وحب إعزازهم في طاعة الله عز وجل. وأما النصيحة للمسلمين: فإن يحب لهم ما يحب لنفسه ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم وإن ضره ذلك في دنياه”([48]).

وقال أبو عمر بن الصلاح: “.. فالنصيحة لله تعالى: توحيده ووصفه بصفات الكمال والجلال وتنزيهه عما يضادها ويخالفها، وتجنب معاصيه، والقيام بطاعته، ومحابه بوصف الإخلاص والحب فيه، والبغض فيه.

والنصيحة لكتابه: الإيمان به وتعظيمه وتنزيهه وتلاوته حق تلاوته، والوقوف مع أوامره ونواهيه، وتفهم علومه وأمثاله، وتدبر آياته والدعاء إليه، وذبّ تحريف الغالين وطعن الملحدين عنه.

والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم به وتنبيههم في رفق ولطف ومجانبة الوثوب عليهم والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك.

والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم والذب عنهم، ومجانبة الغش والحسد لهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه وما شابه ذلك”([49]).

وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: “وقد أخبر النبي أن الدين النصيحة، فهذا يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل عليه السلام وسمى ذلك كله ديناً، فإن النصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها وهو مقام الإحسان فلا يكمل النصح لله بدون ذلك..”([50]).

وقال ابن سعدى: “..أما النصيحة لله فهي القيام بحقه وعبوديته التامة، وعبوديته تعم ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان كلها وأعمال القلوب والجوارح وأقوال اللسان من الفروض والنوافل وفعل المقدور منها، ونية القيام بما يعجز عنه..

وأما النصيحة لكتاب الله: فهي الإقبال بالكلية على تلاوته وتدبره وتعلم معانيه وتعليمها والتخلق بأخلاقه وآدابه، والعمل بأحكامه واجتناب نواهيه والدعوة إلى ذلك.

وأما النصيحة للرسول محمد فهو: الإيمان الكامل به وتعظيمه وتوقيره وتقديم محبته واتباعه على الخلق كلهم، وتحقيق ذلك وتصديقه باتباعه ظاهراً وباطناً في العقائد والأخلاق والأعمال، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ}[آل عمران:31]، والحرص على تعلم سنته وتعليمها واستخراج معانيها وفوائدها الجليلة وهي شقيقة الكتاب.

وأما النصيحة لأئمة المسلمين وهم ولاتهم: فهؤلاء لما كانت مهماتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم وذلك باعتقاد إمامتهم والاعتراف بولايتهم ووجوب طاعتهم بالمعروف وعدم الخروج عليهم وحث الرعية على طاعتهم ولزوم أمرهم الذي لا يخالف أمر الله ورسوله وبذل ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم كل أحد بحسب حاله، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم واجتناب سبهم والقدح فيهم، وإشاعة مثالبهم فإن في ذلك شراً وضرراً وفساداً كبيراً فمن نصيحتهم الحذر والتحذير من ذلك. وعلى من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سراً لا علناً بلطف وبعبارة تليق بالمقام، ويحصل بها المقصود فإن هذا مطلوب في حق كل أحد وبالأخص ولاة الأمر، فإن تنبيههم على هذا الوجه فيه خير كثير وذلك علامة الصدق والإخلاص.

واحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس فتقول لهم إني نصحتهم وقلت وقلت، فإن هذا عنوان الرياء وعلامة ضعف الإخلاص وفيه أضرار أخرى معروفة، وأما النصيحة لعامة المسلمين فقد وضحها النبي e بقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)”.

وذلك بمحبة الخير لهم والسعي في إيصاله إليهم بحسب الإمكان وكراهية الشر والمكروه لهم، والسعي في دفع ذلك ودفع أسبابه، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، ونصحهم في أمور دينهم ودنياهم، وكل ما تحب أن يفعلوه معك من الإحسان فافعله، معهم، ومعاونتهم على البر والتقوى، ومساعدتهم على كل ما يحتاجونه، فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه المسلم. وهذه الأمور كلها بحسب القدرة..” ([51]).

وقال شيخنا الشيخ محمد العثيمين: “.. أما النصيحة لله فهي: الإخلاص له وصدق القصد في طلب مرضاته بأن يكون الإنسان عبداً لله حقيقة راضياً بقضائه، قانعاً بعطائه، ممتثلاً لأوامره، مجتنباً لنواهيه، مخلصاً له في ذلك كله، لا يقصد به رياء ولا سمعة.

وأما النصيحة لكتاب الله فهي: تلاوته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره والذب عنه، وحمايته من تحريف المبطلين، وزيغ الملحدين، واعتقاد أنه كلام رب العالمين تكلم به وألقاه على جبريل فنزل به على قلب النبي .

وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فهو صدق الولاء لهم وإرشادهم لما فيه خير الأمة في دينها ودنياها، ومساعدتهم في إقامة ذلك، والسمع والطاعة لأوامرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله واعتقاد أنهم أئمة متبوعون لما أمروا به لأن ضد ذلك هو الغش والعناد لأوامرهم والتفرق والفوضى التي لا نهاية لها ولأنه لو جاز لكل واحد أن يركب رأسه وأن يعتز برأيه ويعتقد أنه هو المسدد للصواب وهو الذي لا يدانيه أحد لزم من ذلك الفوضى والتفرق والتشتيت.

وأما النصيحة لعامة المسلمين فهي: أن تحب لهم ما تحب لنفسك وأن تفتح لهم أبواب الخير، وتحثهم عليها، وتغلق دونهم أبواب الشر وتحذرهم منها، وأن تبادل المؤمنين المودة والإخاء. وان تنشر محاسنهم وتستر مساوئهم، وتنصر ظالمهم ومظلومهم، تنصر ظالمهم بمنعه من الظلم، وتنصر مظلومهم بدفع الظلم عنه. فمتى قام المجتمع على هذه الأسس النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم عاش عيشة راضية حميدة ومات ميتة حق سعيدة..” ([52]).

هذه النقول الموثقة من العلماء الأعلام تبين أهمية النصيحة وكيفيتها واختلافها من شخص لآخر حسب الظروف والملابسات والأحوال والأشخاص فما يناسب الأمير والعالم غير ما يناسب عامة الناس، وما يناسب القريب والصديق يختلف عما يناسب غيرهما، وما يناسب الصغير خلاف ما يناسب الكبير، وما يناسب من تكرر منه الأذى والمنكر يختلف تماماً عن الشخص الذي يحدث منه لأول مرة … هكذا ومن أهم ذلك وأعظمه قدراً وأكثره نفعاً أن يناصح ولاة الأمر سراً فيما يحدث منهم ولا ينبغي أن يكون ذلك من على المنابر وفي مجامع الناس، لما في ذلك من إثارة للعامة وإشعال للفتنة، وهذا مسلك خاطئ ومخالف لما كان عليه العالمون مع ولاة الأمر في كل زمان ومكان يحكم فيه بالإسلام، وسبيل المؤمنين في ذلك جمع قلوب الناس على ولاة الأمر والدعاء لهم بالخير والصلاح، وهذا منهج أهل السنة والجماعة القيام بالمناصحة لكن بضوابطها الشرعية، وحسب مقتضيات الأحوال وما يناسب الأشخاص، فيحذر الناصح من المنكرات عموماً دون تخصيص فاعل كالتحذير من الزنى عموماً، ومن الربا عموماً، ومن الظلم عموماً، ونحو ذلك.  

يقول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز: “وليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة ومن في حكمهم من العلماء ومن له مسؤولية وذكر ذلك في المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى والتشرد وإثارة العامة، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين الولاة والكتابة إليهم أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون بهم حتى يوجهوا إلى الخير. وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل، فينكر الزنى وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلانا يفعلها لا حاكم ولا غير حاكم..” ([53]).

ويقول في موضع آخر: “.. فالواجب على الغيورين لله وعلى دعاة الهدى أن يلتزموا بحدود الشرع، وأن يناصحوا من ولاهم الله الأمور بالكلام الطيب والحكمة والأسلوب الحسن، حتى يكثر الخير ويقل الشر، وحتى يكثر الدعاة إلى الله، وحتى ينشطوا في دعوتهم بالتي هي أحسن لا بالعنف والشدة، ويناصحوا من ولاهم الله الأمر بشتى الطرق الطيبة السليمة مع الدعاء للحاكم في ظهر الغيب أن الله يهديه ويوفقه ويعينه على الخير..” ([54]).

أما التشويش وإثارة البلبلة على المنابر والتشهير بالناس وتحجيم الأمور والمبالغة فيها وتهويلها والنقد العلني فليس ذلك من منهج أهل السنة لأن هذا المسلك يوغر الصدور ويثير العامة ويجعلهم يتحدثون في أمور لا علاقة لهم بها، وكم جنت هذه الطريقة العقيمة على الناس لأنهم يخرجون من المسجد دون فائدة اللهم إلا إثارة العواطف التي لا فائدة من ورائها وإنما تضر البلاد والعباد.

وإن بلادنا ـ بلاد الحرمين الشريفين ـ مرت بتجارب من هذا القبيل حيث كثر في فترة ماضية من يشوشون ويثيرون العوام والشباب دون وعي بالمخاطر التي يؤدى إليها ذلك الأسلوب فحصل من المشاكل والعقبات ما الله به عليم، ولا أدل على ذلك من جنوح بعض الشباب وتجنيهم على العلماء الصادقين وترديدهم كلام الأعداء الحاقدين الذين يريدون ببلادنا شراً.

إن أسلوب المناصحة الشرعي يؤدي ثمرته عاجلاً وعلى العكس الأسلوب الأهوج الأعوج يبذر بذرة الشر التي تتنامى حتى تكبر فتفسد على المجتمع أمنه وطمأنينته.

ومن أمثلة ذلك ما يصدر من النشرات التي تروج الكذب وتتهم الأبرياء ولم يسلم من شرها وزيفها حتى العلماء العاملون وولاة الأمر المخلصون.

فحرى بك أخي القارئ أن تنهج الأسلوب الأمثل، وأن تكون عامل بناء وإصلاح، وألا تنساق خلف الناعقين والداعين لهدم المجتمع بأساليب ما كره خبيثة.

 

الحزبية خنجر مسموم

طعنت به أمة الإسلام

بعث الله تعالى رسوله محمد من جزيرة العرب إلى الأنس والجن عامة ينذرهم عن الشرك ويدعوهم إلى التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة وترك الشرك وأهله والبراءة من الشرك وأهله، والولاء للتوحيد وأهله.

وقد مكث النبي عشر سنين يثبت العقيدة في نفوس أصحابه حتى قويت جذورها واشتد أصلها، وبعد ذلك عُرج به إلى السماء وفُرضت الصلوات الخمس، ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة، ولما استقر بها أُر ببقية الشرائع من الزكاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وغيرها من شرائع الإسلام.

وعاش المجتمع المدني في أمن وطمأنينة بعد أن أنعم الله عليهم بفضله بالألفة والاجتماع بعد اجتماع القلوب على إخلاص الدين لله ومتابعة رسوله ، وهذا هو منطلق الإسلام ومبنى جماعة المسلمين ومنهج النبي المصطفى التربية على العقيدة وتصديق ذلك بالعمل، وبهذا الأمر أصبح الصحابة سادة العالم، ثم لا يزال الأمر كذلك حتى بدأت الفرق والأحزاب تنخر في جسم الأمة وتمزقها متخذة كل وسيلة لهدم كيان الأمة المتماسك المبني على عقيدة الإسلام والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين. وقد أخبر عن ذلك الصادق المصدوق بقوله: (إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)، وفي رواية قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي) ([55]).

وهكذا يؤكد أن الاختلاف واقع لا محالة، وأن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة، ذلك أن المختلفين المفترقين خالفوا هدي رسول الله وابتعدوا عن سنته واتبعوا غير سبيل المؤمنين، وصاروا شيعا وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون.

واتبع كل فريق وحزب ما في قلوبهم من الهوى المخالف لهدى الرسول فحلَّ ما حلَّ بالمسلمين من الكوارث والنكبات التي سببها البعد عن الاعتصام بالكتاب والسنة وسلوك طريق غير طريق المؤمنين وسبيل غير سبيلهم، وكلٌ يغني على ليلاه، وكلٌ يظن أنه يدعو إلى الخير، لكن ميزان الدعوة في الإسلام الذي يعرف به صواب منهاج الدعوة وخطؤه في أي زمان أو مكان وعلى أي حال ستلخص في الآتي:

1) مطابقة سبيل رسول الله في إبلاغ رسالة ربه.

2) أن يكون الداعي إلى الله على بصيرة بما يدعو إليه، أي على علم من كتاب الله وسنة رسوله وما عليه سلف الأمة.

3) أن تقوم الدعوة إلى الله على الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.

4) التزام الداعي إلى الله بما يدعو إليه ليقرن القول بالعمل، ويكون قدوة لمن يدعوهم. وعلى قدر القرب من هذا الميزان والبعد عنه يكون التوفيق والسداد للداعي في كل زمان ومكان، وعلى كل حال، وهذا من حيث الجملة.

أما بلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومتنزل الرسالة ومهوى أفئدة المسلمين فلها شأن آخر لأن الله ميّزها بميزات ليست لغيرها منها:

1ـ وجود البيت العتيق فيها قبلة للمسلمين في صلاتهم ومحط رحالهم، في حجهم وعمرتهم.

2ـ انطلاق رسالة التوحيد منها إلى الثقلين في كل زمان ومكان، فمنها بعث خاتم الأنبياء والمرسلين، ومنها انطلقت جحافل الإيمان تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

3- الحكم بتطهيرها من الشرك وأهله حتى لا يجتمع فيها دينان.

وها هي بلاد الحرمين الشريفين تتميز على بلاد الدنيا بميزات ظاهرة للعيان ومنها:

1ـ قيام دولتها على الدعوة إلى التوحيد ونبذ ما سواه.

2ـ تحكيم شرع الله وإقامة حدوده.

3ـ شعارها في رايتها الشهادتان، وهذه الراية ترتفع خفاقة حتى ولو نكست الرايات لموت عظيم أو كبير لم تنكس مهما كانت الظروف.

4ـ خلو أرضها ـ ولله الحمد والمنة ـ من التماثيل والأوثان والأضرحة والمقامات التي تنتشر في سائر بلاد المسلمين، ولكن الله حمى هذه البلاد منها لأنها قامت على التوحيد الخالص.

5ـ خلو المساجد في هذه البلاد المباركة من البدع التي تعج بها المساجد في كثير من الأصقاع الإسلامية.

6ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعار معلن تفخر به هذه البلاد، وقد وضعت له الأنظمة واللوائح وتصرف من أجله الملايين في كل عام.

7- الأذان للصلاة شعار يرفع يومياً وتلزم المؤسسات بإغلاق المحلات التجارية، ويحاسب من يخالف هذه التعليمات كائناً من كان.

8- فرض الحجاب الشرعي على النساء ومحاسبة من يخالف ذلك.

9- فصل الرجال عن النساء في قاعات الدراسة، ومنع الاختلاط في المنتديات، والجامعات، والمؤسسات الخاصة والعامة.

10- لا تمنح جنسية هذه البلاد إلا لمسلم، وهذا أمر تفخر به هذه البلاد تنفيذاً لوصية المعصوم : (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما) ([56]).

قال القاضي عياض: “.. وجدير بمواطن عمرت بالوحي والتنزيل وتردد بها جبريل وميكائيل وعرجت منها الملائكة والروح وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر مدارس وآيات ومساجد وصلوات ومشاهد الفضائل والخيرات ومعاهد البراهين والمعجزات ومناسك الدين ومشاعر المسلمين، ومواقف سيد المرسلين ومتبوأ خاتم النبيين حيث انفجرت وأين فاض عبابها، ومواطن طويت فيها الرسالة وأول أرض مس جلد المصطفى تراثها أن تعظم عرصاتها وتنسَّم نفحاتها..” ([57]).

وقال ابن القيم : “.. فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده وأحبها إليها ومختاره من البلاد، لما جعل عرصاتها مناسك لعباده، فرض عليهم قصدها وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام وأسم به في كتابه العزيز في موضعين منه، فقال تعالى:{وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِين}[التين: 3]، وقال تعالى:{لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد}[البلد: 1].

وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها والطواف بالبيت الذي فيها غيرها، وليس عل وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني..” ([58]).

هذه حال بلاد الحرمين ولله الحمد والمنة، والمتأمل لحال كثير من البلاد الإسلامية التي عصفت بها رياح الفتن والاختلافات ودخلها التفرق وتغلغلت بها الحزبيات والجماعات يرى العجب، لقد وصل الحال بالمسلمين نتيجة لتعدد الجماعات والأحزاب والفرق والطوائف إلى أن تعدى بعضهم على بعض بالتهم والإشاعات الكاذبة والسباب حتى اعتدى بعضهم على بعض، والعجيب الغريب أن هؤلاء الذين وقف بعضهم في طريق بعض وآذى بعضهم بعضا يدعى كل منهم أن همهم الأول تجميع الصفوف ووحدة المسلمين، ونحن نقول كيف تجتمع الصفوف ويتحد المسلمين بواسطة جماعات وطوائف وأحزاب متفرقة كل طرف منها يحاول بكل وسيلة أن يثبت أنه على الحق وغيره على الباطل، كل ما كان يؤدي لخدمة حزبه وجماعته ويسارع إليه ويشجع عليه، ومن وقف في طريق حزبه أو خالفه يبذل الغالي والنفيس للتخلص منه. أما الموازين الشرعية عند هؤلاء فهي غائبة، فالقرب منهم والبعد والحب والكره كل ذلك منوط بالانضمام معهم والانخراط في حزبهم، وكان الأجدر بهؤلاء أن يتحدوا على السنة لأنها أساس الاتحاد وأصل جمع الصفوف وسفينة النجاة. نعم لأن السنة أمارة الوحدة، والبدعة أمارة الفرقة.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله:” البدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال أهل السنة والجماعة كما يقال أهل البدعة والفرقة”([59]).

ويقول الشيخ بكر أبو زيد: “جزيرة العرب هي بارقة الأمل للمسلمين في نشر عقيدة التوحيد لأنها موئل جماعة المسلمين الأول، وهي السور الحافظ حول الحرمين الشريفين، فينبغي أن تكون كذلك أبداً يسمح لها بحال بقيام أي نشاط عقدي أو دعوي – مهما كان – تحت مظلة الإسلام مخالفاً منهاج النبوة الذي قامت به جماعة المسلمين الأولى صحابة رسول الله وجدد وأعلى مناره الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى.

فالجماعة واحدة جماعة المسلمين تحت علم التوحيد على منهاج النبوة لا تتوازعهم الفرق والأهواء ولا الجماعات والأحزاب..” ([60]).

ويقول في موضع آخر: ” هذه الجماعات متعددة، بل الجماعة في نفسها متعددة إلى جماعات غالباً، والتعدد دليل على الاختلاف، وتعدد التعدد دليل على ضراوة الخلاف، والاختلاف نتيجة حتمية لاضطراب الأصول التي تنفرد بها كل جماعة وتدعو إليها، وتقييم جماعتها عليها، وهذا يناقض قاعدة الشرع المطردة من أن الحق واحد لا يتعدد، وكل واحدة تقيم حرب التشكيك بما لدى الأخرى مدعية أن ما لديها هو الحق وما لدى الأخرى هو الباطل كلاً أو بعضاً”([61]).

ويقول عبدالرحمن عبدالخالق: “.. ولكن ما يحز في القلب أن يرى المسلم – في أيامنا هنه – أن هم جماعات الدعوة إلى الله تبارك وتعالى – إلا من رحم الله منهم – قد انصرف إلى هدم بعضهم البعض، وأنهم ينفقون من أوقاتهم وأعمالهم في هذا الهدم أكثر مما ينفقون في البناء..” ([62]).

وقال ابن القيم: “.. وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إلى الله…” ([63]).

وقال محمد البشير الإبراهيمي: “.. أوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نجم بالشر ناجمها، وهجم – يفتك بالخير والعلم – هاجمها، وسجم على الوطن بالملح الأجاج ساجمها، أن هذه الأحزاب كالميزاب جمع الماء كدراً وفرقه هدراً، فلا الزلال جمع ولا الأرض نفع..” ([64]).

وقد سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز عن الفرق والجماعات والجمعيات فأجاب إجابة ضافية نجتزىء منها: “.. ومما لا شك فيه أن كثرة الفرق والجماعات في المجتمع الإسلامي مما يحرص عليه الشيطان أولاً وأعداء الإسلام من الإنس ثانياً، لأن اتفاق كلمة المسلمين ووحدتهم وإدراك الخطر الذي يهددهم ويستهدف عقيدتهم يجعلهم ينشطون لمكافحة ذلك والعمل في صف واحد من أجل مصلحة المسلمين ودرء الخطر عن دينهم وبلادهم وإخوانه، وهذا مسلك لا يرضاه الأعداء من الإنس والجن، فلذا هم يحرصون على تفريق كلمة المسلمين، وتشتيت شملهم وبذر أسباب العداوة بينهم، نسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وأن يزيل من مجتمعهم كل فتنة وضلالة إنه ولي ذلك والقادر عليه”([65]).

وسئل العلامة الشيخ صالح الفوزان عن الجماعات وتفرقها فأجاب إجابة ضافية نجتزئ منها: “.. فهذه الجماعات وهذا التفرق الحاصل على الساحة اليوم لا يقره دين الإسلام بل ينهى عنه أشد النهي، ويأمر بالاجتماع على عقيدة التوحيد وعلى منهج الإسلام جماعة واحدة وأمة واحدة، كما أمرنا الله عز وجل بذلك، والتفرق وتعدد الجماعات إنما هو من كيد شيطان الجن والإنس لهذه الأمة، فما زال الكفار والمنافين من قديم الزمان يدسون الدسائس لتفريق الأمة..” ([66]).

“.. وعليه فإذا انعقدت فرقة أو جماعة أو حزب إسلامي تحت شعار معين مستحدث يعقد عليه الولاء والبراء. وإذا انعقدت ملتزمة بعضاً مما أمر الله به دون بعض، وإذا انعقدت لا توالي إلا من انتظم في سلكها دون من سواهم. وإذا انعقدت في بلد أهله على منهاج النبوة التي درج عليها السلف الصالح أهل السنة والجماعة مخالفة في أمر كلي أو جزئي أو رسم. فكل هذه عقود محرمة لا تجوز لما فيها من البغي بغير الحق وهضم لجوانب في الإسلام، وميل عن طريق النبي في الدعوة وشذوذ عن الأصل جماعة المسلمين، وإيذان بتفرقهم وتشتيت لشملهم وكسر لوحدتهم..” ([67]).

“.. فيا طالب بارك الله فيك وفي علمك اطلب العلم وادع إلى الله تعالى على طريق السلف، ولا تكن خراجاً ولاجاً في الجماعات فتخرج من السعة إلى القوالب الضيقة، فالإسلام كله لك جادة ومنهاجاً، والمسلمون جميعهم هم الجماعة وأن يد الله مع الجماعة ولا حزبية في الإسلام..” ([68]).

والمتأمل في حال الأمة الإسلامية اليوم يرى أن البدن الإسلامي مثخن بمحنة الأحزاب حيث لا يرضاها لبوساً ولا يهضمها، فهو بها يعايش علة انتحار داخلي في الأمة لأنها قضت على حرية الرأي والإبداع في الأمة، وقد تساقطت الفرق في الماضي الواحدة تلو الأخرى، ومن نهج نهجها سيقتفي أثرها في السقوط مهما كانت جذور حزبيته ضاربة في الأرض لأن هذه سنة الله في خلقه.

والحزبية كانت وما تزال حجاباً عن معرفة الحق لداء التعصب المقيت الذي يلازمها، وهي كذلك من أسباب ضعف الغيرة على التوحيد الخالص ودليلنا على ذلك سكوت بعض الحزبيين عن أخطاء جوهرية في المعتقد لتأليف القلوب بزعمهم وساء ما يزعمون.

والحزبية كذلك سبب للفرقة التي هي من أقوى المعاول التي حطمت بها الأمة ولا تزال. فالحزبيون لا يهمهم إلا أنفسهم ومن على شاكلتهم، وأما غيرهم فمهما كان صلاحه وتقاه فهو عقبة في طريقهم. والحزبيون لا يرون الدعاء لولي الأمر، وهذا من جهلهم وفاحش غلطهم.

سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله عن من يمتنع عن الدعاء لولي الأمر فأجاب: “هذا من جهله وعدم بصيرته؛ الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات ومن أفضل الطاعات ومن النصيحة لله ولعباده، والنبي لما قيل له أن دوساً عصت فقال:(اللهم أهد دوسا وأت بهم).

يدعو للناس بالخير والسلطان أول من يدعى له لأن صلاحه صلاح للأمة، فالدعاء له من أهم الدعاء. ومن أهم النصح أن يوفق للحق وأن يعان عليه وأن يصلح الله له البطانة، وأن يكفيه الله شر نفسه وشر جلساء السوء، فالدعاء له بأسباب التوفيق والهداية وبصلاح القلب والعمل من أهم المهمات، ومن أفضل القربات”.

ويقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين: “أشهد الله تعالى على ما أقول وأشهدكم أيضا أنني لا أعلم أن في الأرض اليوم من يطبق من شريعة الله ما يطبقه هذا الوطن ، أعني المملكة العربية السعودية، وهذا بلا شك من نعمة الله علينا، فلنكن محافظين على ما نحن عليه اليوم، بل ولنكن مستزيدين من شريعة الله عز وجل أكثر مما نحن عليه اليوم لأنني لا أدعي الكمال وأننا في القمة بالنسبة لتطبيق شريعة الله..”، إلى أن يقول: “.. إننا في هذه البلاد نعيش نعمة بعد فقر، وأمنا بعد خوف، وعلما بعد جهل، وعزاً بعد ذل. بفضل التمسك بهذا الدين مما أوغر صدور الحاقدين، وأقلق مضاجعهم، يتمنون زوال ما نحن فيه، ويجدون من بيننا وللأسف من يستعملونه لهدم هذا الكيان الشامخ بنشر أباطيل وتحسين شرهم للناس. {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ}، ولقد عجبت لما ذكر من أحد الجهلة هداه الله ورده إلى صوابه يصور النشرات التي ترد من خارج البلاد التي لا تخلو من الكيد والكذب ويطلب توزيعها من بعض الشباب، ويشحذ هممهم بأن يحتسبوا الأجر على الله. سبحان الله هل انقلبت المفاهيم؟ هل يطلب رضى الله في معصيته؟ هل التقرب إلى الله يحصل بنشر الفتن وزرع الفرقة بين المسلمين وولاة أمورهم معاذ الله أن يكون كذلك”.

وقال: “لقد انتشر في الآونة الأخيرة نشرات تأتي من خارج هذه البلاد وربما تكتب في داخل البلاد فيها سب ولاة الأمور، والقدح فيهم، وليس فيها ذكر أي خصلة من خصال الخير التي يقومون بها، وهذه بلا شك من الغيبة. وإذا كانت من الغيبة فإن قراءتها حرام وكذلك تداولها حرام، ولا يجوز لأحد أن يتداولها ولا أن ينشرها بين الناس، وعلى من رآها أن يمزقها أو يحرقها لأن هذه تسبب الفتن، وتسبب الشر..” ([69]).

أخي القارئ:

إن الذين يمتنعون عن الدعاء لولاة الأمور ويجتهدون في بذر الفرقة والخلاف بين عامة الناس وولاة أمورهم بنشر الكذب والزور وتضخيم بعض الأمور فوق حجمها وتوزيع المنشورات في كل مكان هم الحزبيون الذين أقلقهم ما تعيش فيه هذه البلاد من أمن وطمأنينة وتلاحم بين قيادتها وشعبها ولكن الله حافظ دينه وناصر كلمته ومعز سلطانه ولو كره الحاقدون.

إن ولاة الأمر في هذه البلاد ـ بلاد الحرمين الشريفين ـ حين يأخذون على أيدي بعض السفهاء والحاقدين، ويحاسبونهم كل حسب جرمه وخطئه، وينفذون فيهم شرع الله عن طريق المحاكم الشرعية إنما يستجيبون لتوجيه العلماء ودعوتهم للأخذ على أيدي العابثين والمتربصين بهذه البلاد الدوائر، أما أن يترك الحبل على الغارب.

ويتغلغل إلينا الحزبيون وأصحاب الولاءات فهذا ما لا ترضاه هذه البلاد قيادة وعلماء وشعباً لأن الجميع عاهدوا الله على تحكيم شرعه وبايعوا ولي الأمر على ذلك.

وستبقى هذه البلاد بمشيئة الله قوية بإيمانها، متمسكة بشرع الله، يتعاون فيها ولاة الأمر والعلماء وسائر أفراد الشعب على الضرب بيد من حديد على من تسول له نفسه تعكير الصفو أو تمزيق الصف أو بذر الخلاف والفرقة، والله غالب على أمره ولو كره المجرمون.

 

تفرق الأمة .. أسبابه وعلاجـه

المتأمل في حال أمة الإسلام ـ في عصرنا الحاضر ـ يلحظ أن  أمراضها قد تعددت وتشعبت وشملت جوانب كثيرة من شؤون الدين والدنيا، ومع ذلك فالأمة ما زالت ـ ولله الحمد على قيد الحياة، ولم تصب منها تلك العلل والأدواء مقتلاً وصدق الله العظيم في قوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 96]. وقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال: الآية 33].

ولعل من أخطر الأمراض التي أصيبت بها أمة الإسلام مرض الاختلاف والتفرق، ذلك المرض الذي شمل مناحي الحياة كلها في كل حقل وكل مصر وكل مجتمع حتى خيم شبحه الأسود على نفوس الناس، فتلبد الجو بغيوم أوهام أمطرت وابلها على القلوب المجدبة فأنبتت لفيفاً من الأقوام المتصارعة المتدابرة وكأن كل ما لدى الأمة من أوامر ونواه وتعاليم يحثها على الاختلاف، ويرعب بالتدابر والتناحر([70]).

والإسلام حذر الأمة أشد التحذير من الفرقة والاختلاف، وندد باختلاف الأمة بأساليب مختلفة وردت بها النصوص من الكتاب والسنة.

ولعل وحدة الأمة تعتبر القضية الثانية بعد التوحيد التي عالجتها مبادئ الإسلام وكانت حريصة كل الحرص على وحدة الصف وائتلاف القلوب وتضافر الجهود وتساند المساعي.

ولذا ضرب لنا كتاب الله أمثلة كثيرة عن اختلاف الأمم السابقة، وبيَّن في بعض الأحيان سبب هذا الاختلاف، قال تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 105]. وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[الأنعام: 159]. وقال تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ}[البينة: 4].

وقد دلت هذه الآيات على أمرين جامعين:

أولهما: أن الاختلاف في الأمم السابقة كان مع وجود العلم بينهم وليس في حالة فقرهم كما قال تعالى:{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ}.

الثاني: هو تحذير الله سبحانه وتعالى للمسلمين من عدم التفرق مثلما تفرق الذين من قبلنا. كما قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ}. ورغم ذلك الأمر الشرعي الإلهي بعدم التفرق والاختلاف، فقد جاء الأمر القدري التكويني بخلاف ذلك. ومن هذه النصوص الكثيرة:

1ـ ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: (تفرق اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، وفي بعض الروايات (كلها في النار إلا وحدة) ([71]).

2ـ ما رواه سعد بن أبي وقاص أن رسول الله أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً ثم انصرف إلينا، فقال: (سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالفرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها) ([72]).

3ـ ما رواه ثوبان قال: قال رسول الله: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ـ أو قال من بين أقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبى بعضهم بعضاً) ([73]).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعليقاً على هذه الأحاديث:

“وهذا المعنى محفوظ عن النبي من غير وجه يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعها في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو منه من شاء الله له السلامة”، كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رجلاً قرأ آية فانطلقت به إلى النبي فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية وقال: (كلا كما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) ([74]) ([75]).

وبناء على ما سبق يجب أن يكون هدف كل داع إلى الله الاتحاد والألفة، واجتماع القلوب والبعد عن الاختلاف والفرقة وكل ما يمزق الأمة ويضعفها ويؤدي إلى فساد ذات البين، لكن هذا الائتلاف المطلوب والوحدة المنشودة يجب أن تكون مبنية على كتاب الله وسنة رسوله إذ فيها النجاة من الهلكة والبعد عن تسلط الأعداء والتخلص من تخطيطهم ومؤامراتهم، كما يجب أن يدرك المسلمون أن من أهم الفرائض وأفضل الطاعات الحفاظ على أخوة الإسلام ووحدة الصفوف ونبذ كل ما يسيء إلى وحدة الأمة أو يضعف من عراها.

ونحن بهذه الوحدة المنشودة تقوى على التصدي لكل العقبات التي تقف في طريق الأمة، ويكفي ذلك أن رسول أهدر دم المفرق للجماعة.

إن أمة الإسلام تتداعى عليها الأمم من كل حدب وصوب، المؤمنين تريد أن تطفئ جذوة الإيمان من نفوس المؤمنين، وأخوة الدين ووحدة القلوب بين المسلمين تحتل مرتبة عالية في الدين لأنها شقيقة التوحيد، ولكن هذه الوحدة لا بد أن تكون مبنية على العقيدة الصحيحة البعيدة عن كل ما يخدش صفاءها ونقاءها.

أما أولئك الذين يبنون وحدتهم على شيء من التساهل في أمور شرعية كثيرة أو الاستهانة بمحرمات معلومة فهؤلاء مآل وحدتهم إلى الانهيار لأن أٍساسها غير متين، ولعل ما حدث خلال العقود المتأخرة في جسم الأمة الإسلامية من علل وأدواء كان سببها الرئيسي تعصب الحزبيات المقيتة والانتماء لغير الله ورسوله، والولاء لفئات أو جماعات ترفع شعارات براقة لكنها من الداخل جوفاء وسرعان ما يضيع المنتمون إليها ويجدون بينهم وبين الآخرين هوة سحيقة بسبب التعصب والولاء لغير المؤمنين.

وهذا الشرخ الذي حدث في الأمة فرقها بعد اجتماع، وشتت شملها بعد الوحدة، وأوهنها بعد القوة، ومكَّن الأعداء من النيل منها كل حسب مقصده ومشربه وهؤلاء الحزبيون يظنون أنهم يخدمون الأمة ويحققون لها الخير على حين أنهم يوجهون الطعنات إلى قلبها النابض فيضعفوه، وجسمها الصحيح فيمرضوه ولكن الله حافظ دينه، ومعل كلمته مهما كان تخطيط الماكرين وكيد الكائدين([76])، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

يقول الشيخ صالح الفوزان: “.. ثم إننا نرى هذه الجماعات المنتسبة للدعوة كثيرة، وهذه الجماعات مختلفة فيما بينها، فكل جماعة تخطط لنفسها خطة غير خطة الجماعة الأخرى وتنتهج منهجاً غير منهجها، وهذه نتيجة حتمية لمخالفة منهج الرسول ، فإن منهج الرسول واحد لا انقسام فيه ولا اختلاف عليه. كما قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي}[يوسف: 108]. فأتباع الرسول على هذه السبيل الواحدة لا يختلفون، وإنما يختلف من خالف هذه السبيل كما قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]”.

ويقول الشيخ محمد أبو شقرة: “..وزاد من البلاء الذي أرجف الأرض من تحت أقدام المسلمين تفرقهم إلى جماعات وفئات كل جماعة ترفع شعاراً تريد أن يحمله الناس كلهم معها، وكل فئة تخطط لنفسها خطة تأبى على غيرها أن تنازعها إياها، وتدفع الحماسة كل عشرة التقوا على فكرة ما أن يكون لهم خطة وشعار، يريدون أن يكون لهم ما للجماعات والفئات الأخرى، ويكاد أن يحدث هذا كل يوم..”([77]).

وكما أن العقيدة توقيفية، فكذلك المنهج الذي ينبغي أن يسير عليه المسلم توقيفي لا يجوز الزيادة عليه ولا النقصان منه، ولا يجوز استبداله بمنهج مغاير لما كان عليه رسول الله وأصحابه الكرام، ومن لم يسعه ما وسع الرسول والصحابة الكرام فلا وسَّع الله عليه في الدنيا والآخرة، وهذا المنهج بينه القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهو من الثوابت التي لا تتغير ولا تتبدل على مرّ الأيام وكرّ الدهور، وهذا المنهج هو الذي تركنا عليه رسول الله ، وهو ملزم لكل مسلم، ولا يسمع مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخر مخالفته بحال من الأحوال.

ومن الأدلة على ذلك ما يأتي:

قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}[الأحزاب: 36].

وقال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ َيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[النساء: 56].

وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء: 59].

وقال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}[النور: 51].

وقال تعالى:{وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا..}[الحشر: 7].

وقال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء: 115].

وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: 153].

وقال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103].

وقال تعالى:{.. وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[الروم: 31، 32].

فالنهي والتحذير من التفرقة والاختلاف يدلان على وجوب التمسك والالتزام بالمنهج الذي تركنا عليه رسول الله ، والآيات في ذلك كثيرة ذكرنا طرفاً منها فقط، أما الأحاديث فنذكر منها ما يأتي:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : (دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ([78]).

وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)([79]).

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في حديثه المشهور: (افترقت اليهود… وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، قيل: ما الواحدة؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي اليوم) ([80]).

وهذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على أمور كثيرة منها:

1) أن الاختلاف والتفرق كائن في هذه الأمة كما كان كائناً في الأمم السابقة، وصدق الله العظيم:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود: 118، 119]. وقد أراد الله ذلك إرادة كونية قدرية.

2) نهى الله ورسوله عن التفرق والاختلاف وجاء التحذير منه في نصوص صريحة ذكرنا بعضها من باب التمثيل.

3) وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف هذه الأمة.

4) أن هناك منهجاً واحداً يجب اتباعه وهو ما كان عليه الرسول وأصحابه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ..}[الأنعام: 153].

5) أن التفرق والاختلاف مذموم كله ويستثنى من ذلك اختلاف التنوع في الفروع.

6) أن هذا المنهج هو سبيل المؤمنين ومن لم يتبعه واتبع غيره من السبل فقد سلك غير سبيل المؤمنين وهو من المتوعدين بقوله تعالى:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء: 115].

وقال العلامة القرطبي رحمه الله حول قوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ..} “فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان نبيه محمد e وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا، ومن يخرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار”([81]).

وقد وصف الإمام أحمد رحمه الله السالكين لهذا الطريق المستقيم والمتساقطين حوله السالكين للطرق المعوجة الملتوية، فقال في رده على الزنادقة والجهمية: “الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى. فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالبين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتنة المضلين”([82]).

 

التكفير

أسبابه، وأخطاره، أضراره، آثاره

طلب العلم واجب على كل مسلم وذلك بالقدر الذي يتعلم به أمور دينه من عبادات ومعاملات وسلوك وغيرها، وقد أكد الله هذا الأمر في كتابه، وأكده رسوله فيما صح من سنته، قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43].

وهذه الآية بعمومها فيها مدح أهل العلم، وأنه يجب الرجوع إليهم في جميع الحوادث، وسؤالهم ليخرج الناس من التبعية. وفي ضمنها تزكية لأهل العلم وتعديل لهم لأنهم الذين يوجهون المجتمع ويمنعونه ـ بإذن الله ـ من الغرق في الضلالات والجهل.

وقال : (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ([83])، وقال : (إنما شفاء العي السؤال) ([84]).

وهذا الحديث يؤكد ما دلت عليه الآية من أن طلب العلم فيه الشفاء من الجهل، وأنه يجب على الجاهل سؤال العلماء ليعبد الله على بصيرة، وإذا نكص الجاهل عن هذا المنهج أو رأى في نفسه الكفاءة والقدرة فإن ذلك بدء الانحراف عن الجادة، لأن الجهل من أعظم أسباب الفرقة، وهو الذي وهو الذي يحرف صاحبه عن الطريق الصحيح، ويأخذه بيده لطرق ملتوية معوجة، فيسير خلف كل ناعق ويتبع كل صاحب بدعة إذ لا حصانة عنده ولا بصيرة بالطريق الشرعي.

ومن أعظم البدع وأخطرها على الفرد والمجتمع بدعة التكفير التي نخرت في جسم الأمة الإسلامية منذ العصور الأولى إلى يومنا هذا، والبدعة في أصلها ما استحدث بعد النبي من الأهواء والأعمال، فكل ما أحدث على خلاف بالحق المبين عن رسول الله ، وجُعل ديناً قويماً وصراطاً مستقيماً، فهو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

ولهذا حثَّ صحابة رسول الله على لزوم السنة وحذروا من البدعة ونفروا منها غاية التنفير، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: “خط لنا رسول الله خط ثم قال: (هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: (هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) ثم تلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: الآية 153].

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ” اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم “.

وظاهرة التكفير مزلق خطير وقع فيه البعض جهلاً منهم أو محاكاة لأصحاب الأهواء الذين اندسوا في صفوف الأمة وأظهروا أنهم من أهل الصلاح والعلم والدعوة وهم في حقيقة الأمر من أهل البدعة.

وتبدأ هذه الظاهرة في الشخص نفسه حين يشدد على نفسه، ويحرمها من الطيبات التي أباحها الشارع سبحانه وتعالى، وقد نهى الباري جل وعلا الإنسان أن يشدد على نفسه، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة: الآية 77].

كما نهى رسول الله عن ذلك بقوله: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية…ما كتبناها عليهم) ([85]).

وقد نهى الله المؤمنين عن تحريم الطيبات فقال:{لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة: 81].

وقد أنكر الله على من حرم زينة الله التي جعلها لعباده، يقول تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[الأعراف: 32].

ولعل من أخطر المصائب التي ابتلي بها المجتمع المسلم مسألة التكفير والتساهل فيه، وإصدار الأحكام على الآخرين دون دليل وبرهان يعتمد عليه من يصدر الحكم، وإنما الجهل والتسرع والتأثر بمناهج فكرية بعيدة عن المنهج المستقيم الذي سار عليه السلف الصالح من هذه الأمة ومن تبعهم ممن سار على دربهم إلى يومنا هذا.

إن الحكم على شخص ـ ما ـ بالكفر حكم خطير وجريرة عظيمة لها أثارها الوخيمة، فلا يجوز لمسلمٍ يقدم عليه أو ينساق خلف من يصدرون الأحكام وكأن حظيرة الإسلام ملك لهم يدخلون فيها من شاءوا ويخرجون منها من شاءوا.

إن إصدار حكم الكفر على شخص معين معناه ردة هذا الشخص وخروجه من ربقة الإسلام وزوال أهليته عن من تحته وطلاق زوجته منه وعدم إرثه، وهذه أمور من العظائم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. عن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله قال: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما) ([86]).

وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: (من دعا رجلاً للكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه)([87]).

وهذا وعيد عظيم لمن كفّر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي فتنة عظيمة وقع فيها أقوال بتأويلات باطلة تدل على جهلهم وعدم فهمهم للنصوص الشرعية.

لقد ظهر في حقل الدعوة الإسلامية في العصور المتأخرة نوع من الشباب أصيبوا بردة فعل خطيرة فصدرت منهم أقوال وأحكام على الآخرين تدل على خلل عقدي، وشرخ سلوكي، وسطحية في التفكير، وعشوائية في التصرفات، وهؤلاء النابتة معظم تصرفاتهم فردية، وهم حسب ظني ـ يريدون جني الثمرة قبل نضجها، لكن متى سبرت حالهم وجدتهم لا علم لهم بكتاب الله ولا سنة رسول الله ولا بسيرة سلف الأمة ومسلكهم في الدعوة إلى الله.

بل يقف هؤلاء على بعض النصوص ويفهمونها فهماً خاصاً ويتمسكون به ويرفض غيره مهما كان محل اتفاق بين علماء الأمة في سلفها وخلفها، ولذا ترتب على هذا الجهل الفكري أمور خطيرة من أهمها:

التساهل في التفكير وإطلاقه على الولاة والعلماء، بل وعلى سائر الناس لا لشيء إلا لمخالفتهم لهم في المنهج.

ومنها استخدام أسلوب القوة والتخريب والتدمير ومصادرة الأموال والممتلكات بحجة أن أفراد المجتمع كفار والكافر حلال الدم والمال ـ وساء ما يزعمون وهذا المسلك سعد به الأعداء وتلقوه بكل فرح وسرور، بل وغذوه ونموه وأحيوه في نفوس الشباب وأثنت وسائل أعلامهم على هذا المنهج وهذه النوعية لأنهم يرون أن هؤلاء الشباب أفتك في مجتمعاتهم من أي سلاح، وقد تحقق للأعداء ما أرادوا حين بدأ هؤلاء الشباب ينخرون في مجتمعاتهم ترويعاً وتخريباً وتقتيلاً، والمصيبة أنهم ينطلقون ـ حسب فهمهم ـ من منطلقات شرعية وأنى لهم ذلك، فالإسلام يحرم ترويع المؤمنين ويشدد في تحريم أموالهم وأرواحهم وأعراضهم، وقد أعلن هذا الأمر رسولنا في حجة الوداع أمام الملأ فقال: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.. ألا هل بلغت اللهم فاشهد) ([88]).

وقد أكد علماء الإسلام سلفاً وخلفاً على خطورة فتنة التكفير، وأنه لا يجوز لأي مسلم أن يخرج أحداً من الإسلام إلا إذا ثبت أنه ارتكب ما يخرجه من الإسلام وأقيمت الحجة عليه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “من أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية…. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي..”([89]).

 

الإرهاب

المملكة العربية السعودية مهد الإسلام، ومهبط الوحي، وبها الكعبة المشرفة قبلة المسلمين، وبها المسجد النبوي الذي يقصده المسلمون من كل مكان.

هذه البلاد المباركة ترعى شرع الله، وتعتني بكتابه حفظاً وطباعة.

ومناهجها الدراسية تهتم بالإصلاح الشامل للعقل والعواطف والوجدان، وتحقيق التربية الجادة من كل الجوانب.

وهذه البلاد أيضاً ترعى الخير وتحث عليه، وتمد يدها لكل مسلم محتا توجيها ودعماً.

كل هذه الأفعال أقضت مضاجع الأعداء فراحوا يبحثون عن الوسائل للتشكيك في هذه البلاد، ووصمها بأنها تغذي الإرهاب، وتفرخ أفراده.

ولذا اتهموا هذه البلاد ـ المملكة العربية السعودية ـ بتهم كثيرة، وما علم هؤلاء وأذنابهم أن هذه البلاد هي البلد الأول الذي حارب الظلم والعنف والطغيان منذ فجر  الإسلام إلى اليوم، فالإرهاب لا يتفق مع الدين، ولا مع الأخلاق، ولا مع النخوة والمروءة والشهامة، وكل هذه الأمور تنطلق من هذه البلاد المباركة، فهي مهد الخير ومنبع الأخلاق الإسلامية، وبلاد النخوة والمروءة والشهامة.

ولكن هناك سؤال يطرح نفسه لماذا تسلط مجموعة من شبابنا على القيام بزعزعة أمن بلادهم، وتصديق الأعداء فيما يقولون، وهنا نقول إن الأعداء أنفسهم هم الذين سخروا هؤلاء الشباب من حيث يشعرون  أو من حيث لا يشعرون للقيام بهذه الأفعال المشينة، وأصبح هؤلاء الشباب مثل الدمي يتحركون حسب التوجيه، ويأخذ بعضهم توجيها البعض دون نظر أو تمحيص.

لقد قرأنا وسمعنا من مقابلة بعضهم في السجون أنهم يقولون وصلنا إلى حد أننا لو وقف أحد والدينا أو أقاربنا في وجهنا لقتلناه.

إذاً هذا هو غسل الدماغ، وحقن الفكر الوافد وذلك بتزيين أفكار التكفير والتفجير، ووصف المجتمع بأنه متخاذل، وأنه مداهن، وأنه يخدم الأعداء، ولذا أصبح إطلاق الكلمات الخطيرة سهلاً عليهم، فيصفون الناس بالفسق، والضلال، والكفر، والطغيان، حتى من خالفهم ممن كان معهم يوصف بهذه الصفات.

إن المسؤولية عظيمة، والأمر خطير، ونحتاج إلى جهود مكثفة لتطهير مجتمعنا من هذه الأفكار، وهنا نؤكد مسؤولية البيت، والمسجد، والمدرسة، والجامعة، ووسائل الاتصال المسموعة والمرئية والمقروءة.

إنها مسؤولية الآباء، والأمهات، والمعلمين، والمعلمات، والعلماء، وأئمة المساجد، وخطباء الجوامع، ورجال الفكر، وأرباب القلم.

لابد أن يبين الجميع للشباب أن هذه الأعمال الإجرامية لا يقرها الدين، ويوضحوا للجيل أن ترويع الآمنين وإخافتهم أمر محرم لأي سبب كان فكيف إذا كان الأمر قتلاً، وتفجيراً، وتدميراً، لابد من بيان الأمر وتجليته، وبيان بعض المصطلحات التي لبَّس الأعداء فيها على الشباب، وأهم هذه المصطلحات ـ كلمة الجهاد ـ التي ظلمها هؤلاء الشباب، وفهموها فهماً أعوجا، وزعموا أن ما يقومون به من أعمال التفجير، والتدمير يعتبر جهاداً، والجهاد الحقيقي هو أن تلقى عدوك الكافر المحارب في ساحات القتال عندما يعتدي على وطنك، وعرضك، ويدمر ممتلكات، ويقتل الأبرياء من أبناء أمتك ودينك، أما التفجير بين المسلمين والمستأمنين، وترويع الآمنين فهذا تخريب وإفساد ومحاداة لله ورسوله، وصدق الله العظيم:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

إن من أفضل الوسائل التي نحمي بها شبابنا من هذه الشرور أن نحرص على تنقية الوسط الذي يعيشون فيه من المعاصي والمفاسد، والانحرافات، وتطهيرها من الرذائل والانحلال والفجور، وإقامة المجتمع على البرِّ والتقى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتمسك بالأخلاق الكريمة.

وهنا يشعر الفرد أنه يعيش في مجتمع يهمه سلامته واستقراره، وأن ما يمس هذا المجتمع يمس هذا الفرد من خلال إطلاع هؤلاء على النصوص الكثيرة في هذا الباب، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..}[آل عمران: 103].

وقال : (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله).

وذكر في الحديث القدسي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).

وجاء في الحديث عنه أنه قال:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

وقال : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)، ثم شبك بين أصابعه.

كل هذا أيها المؤمنون ينمي في شبابنا الحرص على مصلحة المجتمع، وعدم إفزاعهم، وإلقاء الرعب في أوساطهم من خلال أي عمل إجرامي يقوم به أي فرد من هذا المجتمع لأنه يدرك أنه يضر نفسه، ويضر أقرب الناس إليه، وهنا لا يمكن أن يقدم على ذلك إذا كان عنده مسحة من عقل أو وعي أو دين.

وهنا متى تربى شبابنا على أسس ومبادئ الإسلام ووجدوا المحصن الجيد، وتحقق لهم التوازن في تربيتهم عقلياً وروحياً واجتماعياً فلن يستطيع أحد أن يغرر بهم مهماً كانت الأعذار والمبررات، وهنا بحول الله يكون شبابنا جنوداً مخلصين يدافعون عن الدين والعرض والأمة والبلاد، ويدفعون كيد الأعداء إلى نحورهم في كل الميادين، ويومذاك يفرح المؤمنون بنصر الله،  والله ينصر من يشاء.

أسأل الله بمنه وكرمه أن يرد كيد الأعداء إلى نحورهم..

 

عظائم التفجير ومخاطره

هذه البلاد المباركة ـ المملكة العربية السعودية ـ بلاد الحرمين الشريفين، منطلق الرسالة، ومأرز الإيمان، ومعقل الدعوة كانت وما زالت ولن تزال بحول الله تنطلق منها جحافل الخير تحمل النور والخير والهداية للبشرية جمعاء، فهي المؤهلة لهذا العمل العظيم، فكتاب الله تنزل في أراضيها، والرسول بعث من بطاحها، والحرَمَانِ هما قلبها النابض.

لكنها ـ كغيرها ـ ابتليت بالحقد والحسد، وقد أخذت نصيباً وافراً من الكيد والمكر من قبل الأعداء لأنهم يريدون لها أن تقف في وسط الطريق أذهلهم تماسكها، وخنقهم أمنها، وأقلق مضاجعهم الخير المتدفق منها، فاجتهدوا في التأثير عليها عبر قنوات فاسدة، وأفكار مضللة، وشبهات واهية يحاول الأعداء تضليل أبناء هذه البلاد بتفريق الصف وخلخلة البناء، وقد وجدوا من يعينهم ويخدمهم دون وعي، أو بصيرة، أو إدراك لمخاطر الأمور.

هذه التفجيرات الخطيرة التي وقعت في جنح الظلام تروع الآمنين، وتسفك الدماء الطاهرة من المسلمين، تعتدي على الحرمات والممتلكات، نساء وأطفال وعجزة وعجائز لا ذنب لهم إطلاقاً.

ماذا سيقول الفاعلون إذا وقفوا أمام ربهم وجاء من قتلوه تثعب جراحهم يخاصمونهم، هل سيحتجون بشبهة واهية أو فكر مضلل دخيل.

كيف تتضافر جهودنا جميعاً إذا حُكم على شخص بالقصاص ونتعاون لإعتاقه مع أنه أقدم على القتل، كل ذلك حرصاً على حياة نفس معصومة، وهؤلاء يقتلون العشرات دون ذنب أو جريرة.

أليس قتل المسلم من أعظم الذنوب التي يقابل بها العبد ربه يوم القيامة {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93].

رسولنا حذر من الظلم وأعلن في حجة الوداع ميثاقاً عجزت المنظمات والهيئات أن تصل إلى ما يدانيه: (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.. اللهم هل بلغت؟ قالها: ثلاثاً).

ها نحن إذا اعتدى شخص أو أشخاص على سرقة مال من بيت أو محل تجاري نعاقبه بقطع اليد رادعاً وزاجراً له، وهذا من الرحمة به لأن هذا هو الجزاء المناسب له.

إن أمننا في بلادنا المباركة أصبح مضرب المثل وهذا ما جعل جهات كثيرة تظهر مكرها وكيدها لخلخلة هذا الأمن الضارب في هذه البلاد، لكن هؤلاء لا يعلمون المصدر الحقيقي لهذا الأمن ولذا مهما خططوا ومكروا فلن يصلوا إلى مرادهم.

إن مصدر الأمن في بلادنا هو التمسك بشرع الله ولذا مهما حاول الأعداء الكيد والتآمر فلن يصلوا إلى مطلوبهم ما دامت هذه البلاد تتمسك بشرع الله المطهر ومن ذلك:

1- في هذه التفجيرات هتك لحرمات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة؛ هتك لحرمة الأمن والاستقرار، واعتداء على حياة الآمنين في مساكنهم ومعاشهم، بل هتك لمصالح الناس التي لابد لهم منها.

2- هذا العمل يتضمن أنواعاً من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة مثل: الغدر، والخيانة، والبغي، والعدوان.

ولعلاج مثل هذه الظواهر في المجتمع يلزم كل مسلم قادر أن يدلي بدلوه بالحوار الهادئ الرزين من العالم والداعية، وبالمتابعة الجادة والحراسة الواعية من قبل رجال الأمن ورجال الحسبة، والتوجيه الصادق من قبل المعلمين والخطباء وأئمة المساجد، والقدوة الصالحة من قبل الآباء والأمهات والمتابعة الدقيقة لأبنائهم وجلسائهم في حلِّهم وترحالهم.

أسأل الله بمنه وكرمه أن يحمي بلادنا، وأن يحفظ عليها أمنها وأمانها، وأن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار وما يخطط له الكفار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 

أسباب الانحراف عند الشباب

بعض الأجسام يكون مصاباً بداء خطير دون أن يظهر شيء من أعراضه تراها فتظنها في خير وعافية. ثم فجأة يصاب بمضاعفات حادة فيتداعى ذلك الجسم الذي ظاهره الصحة والعافية، وهنا يهرع الأطباء إلى التشخيص الداء لمحاولة إنقاذ ذلك الجسم المتداعي، ولكن دون جدوى. ولو كان الأمر عند بدايته لأمكن في قليل من الجهد والوقت إدراك الداء وتشخيصه ووصف العلاج الناجع له بإذن الله.

والفرق كبير جداً بين حالة ـ العلاج ـ والوقاية ـ لأننا في حالة العلاج نطبب جسماً مريضاً يتصارع فيه المرض والدواء وأيهما غلب كانت له النهاية.

وأما في حالة الوقاية فإننا نحصن جسماً سليماً صحيحاً فنمنحه قوة إلى قوته فيبقى قوياً متماسكاً إذ لا يمكن أن يغلب ضعف قوتين بإذن الله.

إن الشباب رصيد الأمة الذي تواجه به مسئولية المستقبل وأمة تفرط في حسن تربية شبابها تقدم على مستقبلها بغير رصيد، فجدير بنا أن يبذل كل ما في وسعنا لتحقيق الإصلاح المنشود، وليبدأ البيت المسلم بإعداد بنيه ليكونوا أمناء على مستقبل أمتهم، ويعودوا بالخير على وطنهم الذي بذل لهم الكثير ويردوا شيئاً من الجميل الذي خصتهم به قيادتهم وولاة أمرهم حيث وفروا كافات الإمكانيات ويسروا سبل الحياة الكريمة الهادئة لجميع فئات المواطنين.

إن أبرز أسباب انحراف الشباب ترجع إلى ما يأتي:

البيت، الشارع، المدرسة، الإعلام، التبرج، الاختلاط، الفكر المنكوس، الدعوة على غير بصيرة حسب المناهج الحزبية والانتماءات غير الشرعية والولاءات لغير الله ورسوله والمؤمنين.

ويصاحب هذه الأمور كلها الفراغ القاتل الذي يمر به الفتيان والفتيات؛ فالبيت هو التربة التي ينبت فيها الطفل ويضرب بجذوره في أعماقها، ويرى فيه كل دنياه ساعة يفتح عينيه لأول مرة على مسرح الحياة، فوالده هما كل شيء في حياته.

فالطفل الذي ينشأ بين أبوين صالحين يأتمران بأمر الله وينتهيان بنهيه يشب مثلهما تقياً صالحاً يراهما يصليان فيصلي مثلهما ويصومان فيصوم.

وترى البنت أمها تستتر عند خروجها خارج البيت وتغطي وجهها وتلبس جلبابها فتفعل مثلها، وهكذا.

إن كل طفل يخرج إلى الحياة يحمل معه خصائص الطبع الذي كان مسيطراً على جو البيت، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

فالولد سر أبيه والبنت سر أمها وورائه سلوك الآباء والأمهات عند الأبناء والبنات من الحقائق المسلم بها، وعلى هذا فإن أي تفكير في إصلاح الناشئة يجب أن يبدأ من البيئة الداخلية ـ البيت ـ والمسئولية هنا تقع على الآباء والأمهات وصدق القائل:

وينشأ ناشئ الفتيان منا    ***   على ما كان عوَّده أبوه

والخلاصة: أن البيت هو التربة التي يمتص الناشئة منها كل خصائصهم ومقوماتهم، فليتق الله فيهم أبواهم. 

ومن أسباب انحراف الناشئة ـ الشارع ـ: فهو من المزالق الخطيرة لأنه غير متجانس، فالناس يلتقون فيه من كل نوع صغار وكبار، رجال ونساء، فتيان وفتيات، عامة وخاصة، قد لا يعرف بعضهم بعضاً لا يربطهم إلا الرؤية العابرة التي قد تكون أول مرة وآخر مرة، كل يسعى لمطلبه ومبتغاه، حوائجهم متعددة يسعون في تحصيلها سعياً حثيثاً.

هذه البيئة ـ الشارع ـ أخطر على الناشئة من كل شيء لأنه يخلو من التجانس والتآلف والنظام والانضباط.

والخلاصة: أن الشارع أولى النوافذ التي يرى منها الناشئة مسرح الحياة بعد البيت، فينبغي أن نوليه كل العناية والرعاية والاهتمام.

والمدرسة لها شأن كبير في حياة الناشئة إذ هي تستبد بمرحلة طويلة وخصبة من سني حياتهم إذ يقضون فيها أعواماً طويلة كفيلة بأن تربيهم تربية جادة علمياً وثقافياً وخلقياً واجتماعياً ووطنياً ليكونوا عناصر صالحة لأداء رسالتهم في الحياة والقيام بواجبهم والوفاء لأمتهم وولاة أمرهم والدفاع عن مقدساتهم.

والخلاصة: أن المدرسة تصنع العلم وتصقل العقل وتنمي العقيدة وتلقن الناشئة خصائص الأمة ومقومات حياتها، فينبغي أن تكون المدارس مرآة صدق وسبيل نجاة، وأن يكون الأساتذة والمعلمات فيها خير قدوة للفتيان والفتيات.

ومن أسباب انحراف الناشئة:

الجفاء والبعد بين الشباب وبين كبار السن من أهليهم وغيرهم: وهذا الأمر يجعل الشباب حيارى يسيرون خلف كل ناعق ويستمر نفورهم من أهليهم ويقعون ضحايا لأصحاب الشر الذين لا يريدون لهم خيرا.

وعلاج هذا الأمر بإزالة الجفوة والتقارب بين أهل الرأي والحكمة من الكبار وأصحاب الفتوة والنشاط من الصغار، ويكون الجميع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

ومن الأسباب أيضاً: الاتصال بقوم منحرفين ومصاحبتهم سواء كان انحرافهم في فكرهم أو سلوكهم وما أكثر هذا النوع في وقتنا الحاضر بحيث يزينون للناشئة أفكارهم ويصبغونها بصبغة الخير وحب الإصلاح وهم أبعد الناس عن الخير لا يريدون للناشئة ولا لبلادهم إلا الشر والفساد ـ عياذاً بالله ـ.

وعلاج هذا الأمر أن يختار الشاب لصحبته من كان ذا خير وصلاح وعقل من أجل أن يكتسب من خيره وصلاحه وعقله ويبتعد عن أهل الشر والفساد أو الذين يتلبسون بلباس الخير من أصحاب الأفكار الشاذة والدعوات المضللة، وهذان الصنفان يمثلان طرفي المشكلة المفرطين. والمفرِّطين، والوسط هو الخير، وصدق من قال:

أَبْلُ الرجال إذا أردت إخاءهم  ***   وتوسَّمن أمورهم وتفقدِ

فإذا ظفرت بذي اللبابة والتقى  ***  فيه اليدين قرير عين فاشددِ

ومن الأسباب: قراءة بعض الكتب الهدامة: من رسائل هابطة وصحف ماجنة ومجلات خليعة تفد إلينا من الخارج والكثير منها يشكك المرء في دينه وعقيدته ويجره إلى هاوية التفسخ والأخلاق.

وعلاج هذا الأمر بأن يبتعد عن قراءة مثل هذه الكتب ويستبدلها بكتب تغرس في قلبه محبة الله ومحبة رسوله ومحبة ولاة الأمر والعلماء والأخيار والصالحين.

ومنها: السفر إلى الخارج: بعض الآباء يتهاون في سفر أبنائه للخارج وهم في سن المراهقة ولذا يعودون وقد تأثروا كثيراً بما في هذه البلاد من تيارات فاسدة وولع بالجريمة وتهاون بفرائض الله وجرأة على المخدرات وغيرها، فيصبح هذا الشاب لبنة فاسدة لا ينفع نفسه ولا أسرته ولا بلاده بل يعيق هؤلاء، وكم من الشباب رجعوا وقد حملوا أمراضاً خطيرة وأفكاراً شاذة فهل يعي الآباء هذا الخطر العظيم فيمنعوا أبناءهم من السفر خارج البلاد إلا لحاجة ملحة ويكون معهم من يسددهم ويقوم اعوجاجهم.

ومنها: النزاع والشقاق بين الآباء والأمهات أو قل المشاكل الأسرية: فإذا دب الخلاف بين الزوجين على أمر من الأمور فيحسن أن يكون النقاش بعيداً عن الأولاد لأن اختلاف الوالدين في وجهات النظر أمام الأولاد له آثار عكسية إذ يبحثون عن جو أكثر هدوءً من جو البيت الذي يعج بالمشكلات وكذلك إذا وقع الطلاق ذلك أن الأب سيعيش في جهة والأم في جهة أخرى والأولاد هم الضحية، فإن تبعوا الأب وجدوا معاملة سيئة من زوجته الجديدة وهذا في الأعم الأغلب، وإن تبعوا الأم وجدوا معاملة سيئة من زوجها الجديد وهذا الأعم الأغلب.

ولذا يبحثون عن جو فيه هدوء وعدم أذية وغالباً ما يلجئون لأصدقاء السوء الذين يدفعونهم لأشكال الجريمة ويستخدمونهم أدوات يحققون من خلالها ثراءً محرماً عن طريق السرقة والفواحش والمخدرات وغير ذلك من أشكال الجريمة.

ويلحق بذلك غياب أحد الوالدين أو أحدهما مدة طويلة عن الأولاد مهما كانت مبررات هذا الغياب لأن له آثاراً سلبية على حياتهم.

وكذلك قسوة الوالدين أو أحدهما وخصوصاً الأب في معاملة أولاده فكل ذلك يدفعهم للجريمة بكل أشكالها ومن ثم ينتهي بهم الأمر إلى السجن وهم في سن لا يميزون خلالها بين النافع والضار بل يعيشون تحت مؤثرات وضغوط نفسية حادة.

وعلاج ذلك كله: بأن يخيم جو المحبة والصفاء والوئام على الأسرة، وإذا حصل فيها خلل أو شرخ فيعالج بعيداً عن نظر الأولاد، وكذلك إذا تأزمت الأمور ولم يكن إلا الطلاق علاجاً فينبغي مراعاة مسألة الأولاد والعناية بهم وألا يؤثر تفرق الوالدين عليهم سلباً وعلى رجال التعليم وأصحاب الأقلام ووسائل الإعلام مسئولية كبيرة في توجيه الناشئة والأخذ بأيديهم لخدمة دينهم ووطنهم ومليكهم.

وكذلك خطباء المساجد يقع عليهم مسئولية كبيرة لأنهم يخاطبون الأولاد والوالدين في وقت واحد فليتقوا الله في المسلمين وليعالجوا ما يحتاج الناس إليه.

 

الشيخ محمد بن عبد الوهاب

والدعوة إلى التوحيد

الدعوة إلى الله هي سبيل الرسول وأتباعه، وقد نوّه الله عن ذلك بقوله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

والدعوة إلى الله مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم جميعاً لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن النار إلى الجنة.

وقد بدأ رسل الله جميعاً دعوتهم بالأهم فالأهم؛ فدعوا إلى إصلاح العقيدة بالأمر بإخلاص العبادة لله والنهي عن الشرك ثم الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الواجبات وترك المحرمات.

والمتأمل في سيرة وطريقة خاتم الرسل محمد في الدعوة يرى أنه مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك قبل أن يأمرهم بالصلاة والزكاة والصوم والحج، وقبل أن ينهاهم عن الزنا والربا والسرقة وقتل النفس بغير حق.

وهذا المنهج الواضح هو الذي سار عليه أئمة الدعوة في بلاد الحرمين الشريفين وعلى رأسهم الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- حيث ركز على التوحيد وتصحيح العقيدة لأن غيره من حقوقه ومكملاته تابع له.

لقد تجرد الشيخ رحمه الله للدعوة إلى الله على بصيرة، وجاهد في رد الناس إلى ما كان عليه أهل السنة والجماعة من إفراد الله بالعبادة وترك التعلق بغير الله، والاعتقاد فيما دونه متبعاً في ذلك سنّة رسول الله ، وكان من تمام توفيقه وتأييده أن قيض الله له من الأمراء من ينصره ويعينه ويقف معه، إذ عرفوا صدقه وحرصه على الإسلام وتصحيح عقيدة الناس بنص الوحي وحد السيف، فمن نفع معه الدعوة بالحكمة واللين واقتنع بالحجة فذاك، ومن عاند وجحد ووقف أمام زحف عقيدة التوحيد استعمل معه حد السيف إذ لا علاج له إلا بالقوة، وصدق الله:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}[الأنفال:60].

وقد استمرت الحال على ذلك في بلاد الحرمين أئمة يدعون الناس إلى الهدى والرشاد ويصححون عقائدهم وحكام يساندونهم ويدافعون عنهم بكل قوة فحصل من الخير والفضل والأمن والأمان في هذه البلاد ما يعلم مداه إلا الله.

وحّد الله أهلها بعد الفرقة، وأطعمهم بعد الجوع، وآمنهم بعد الخوف، وتحولت الدويلات الصغيرة الكثيرة المتناحرة في الجزيرة إلى دولة واحدة مترامية الأطراف مميزة في دينها ودنياها، وأصبحت هذه البلاد مناراً للعلم والمعرفة ومقصداً لطالب الأمن والمال ممن لا يجد ذلك في بلاده.

يقول الشيخ سعد الحصين: “…واستخلف الله عباده الموحدين في أرض الحرمين الشريفين كما استخلف الذين من قبلهم ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونه لا يشركون به شيئاً، وفتح الله لهم خزائن الأرض فجمع لهم خير الدنيا إلى خير الدين، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ورزقهم من ثمرات الأرض كلها لعلهم يشكرون. وسيبقى الأمر كذلك بإذن الله ما حفظوا عهدهم مع الله – ثبتهم الله على ذلك – وعادت الدعوة إلى الله على بصيرة تنطلق من جزيرة العرب إلى مشارق الأرض ومغاربها بتوظيف الدعاة وتأسيس معاهد العلم الشرعي ونشر كتبه. وأنتجت بفضل الله أئمة يهدون بأمر الله ويدعون إلى سبيله على النهج الذي ارتضاه لرسله” ([90]).

إن من الحقائق الثابتة التي لا تقبل الجدل أنه متى صحّت العقيدة صلحت أعمال المسلمين لأن العقيدة الصحيحة تحمل المسلم على الأعمال الصالحة وتوجهه إلى الخير وتمنعه من الشر فتكون أفعاله حميدة وأخلاقه حسنة وتعامله حسب الشرع المطهر أخذاً وعطاءً لأن المسلم متى شهد أن لا إله إلا الله شهادة مبنية على علم ويقين ومعرفة لمدلولها وفهم لمعناها توجه إلى الأعمال الصالحة لأن الشهادة ليست مجرد لفظ باللسان بل هي عنوان للاعتقاد والعمل ولا تنفع صاحبها إلا إذا قام بمقتضاها فأدى أركان الإسلام وأركان الإيمان وما يتبع ذلك من سائر الواجبات وتشريعات الإسلام وآدابه وأحكامه.

يقول العلامة الشنقيطي:”.. والحاصل أن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي راية – لا إله إلا الله – ألا ترى أن هذه الرابطة التي تجمع المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضا عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف..”.

إلى أن قال: “.. وبالجملة فلا خلاف بين المسلمين أن الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض وتربط بين أهل الأرض والسماء هي رابطة – لا إلاه إلا الله – فلا يجوز البتة النداء برابطة غيرها..” ([91]).

وهذه الرابطة هي التي بنى عليها أئمة الدعوة منهاج دعوتهم المتصل بدعوة الأنبياء والرسل سليمة من الأهواء والأوهام والانحراف، مبرأة من مظاهر الشرك وتبعات الغلو، تنشر التوحيد النقي وتقدمه للناس بعد أن كدّر صفوه كثير من الشوائب في شتى ديار الإسلام. وقد قيض الله هذه الدعوة المباركة في هذه البلاد – مأرز الإيمان ومهوى أفئدة المسلمين- لتكون المنطلق للدعوة الصافية النقية ثابتة على الحق رغم عوادي المعتدين وكيد الكائدين.

يقول الشيخ بكر أبو زيد:”.. وفي هذا إشارة وإيماء إلى أن كل فتنة عمياء صماء تجتاح بلاد الإسلام تتحطم على صخرة هذه الجزيرة، وإذا كانت فتنة الدجال هي أعظم فتنة من لدن نوح عليه السلام إلى قيام الساعة، ويكون تحطيمها على يد رجل مؤمن من هذه الجزيرة فإن كل فتنة دونها ستتحطم على يد أبناء هذه الجزيرة بإذن الله”([92]).

وهذه الجزيرة في العالم الإسلامي – بمثابة – مركز القلب في الجسم الإنساني الذي إذا عاش وقوى وأدى رسالته في الجهاز الجسمي والنظام الحيوي الصحي عاش الجسم وقوي، وإذا دبّ الوهن إلى هذا القلب أو اعتقل وتخلى عن وظيفته ودوره أسرع إليه الموت واستولت عليه الأمراض والعلل وعجز الأطباء الحاذقون من إعادة الحياة إليه بالطرق الصناعية([93]).

إن الدعوة إلى التوحيد هي دعوة الرسل جميعاً من أولهم إلى آخرهم على اختلاف في الأساليب والأمكنة والأزمنة والوسائل. أما المطلب فواحد ذكره الله في قوله:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيب}[الشورى: 13].

تلك هي دعوة الأنبياء جميعاً وعلى رأسهم أولو العزم منهم الأنبياء الذين يبلغ تعدادهم أربعة وعشرين ألفاً يسيرون في دعوتهم في منهج واحد، وينطلقون من منطلق واحد هو التوحيد أعظم القضايا والمبادئ التي حملوها إلى الإنسانية جميعاً في جميع أجيالهم ومختلف بيئاتهم وبلدانهم وأزمانهم.

وها هو نوح عليه الصلاة والسلام يدعو قومه دعوة جادة إلى توحيد الله وعبادته وحده في جهد دائب، ما ترك وسيلة تمكنه إلا استخدامها لإقناعهم بدعوته سراً وجهاراً وترغيباً وترهيباً ووعيداً واحتجاجاً واستدلالاً بالأدلة العقلية والحسية من واقع أنفسهم وحياتهم، ومما بين أيديهم من السماء والأرض وما فيهما من آيات وعبر ومثله خاتم الأنبياء وسيدهم محمد   وآله وصحيه وسلم، حيث بدأ بما بدأ به كل الأنبياء وانطلق من حيث انطلقوا بدعواتهم من عقيدة التوحيد والدعوة إلى هذا المبدأ الأسمى والمطلب الأعلى طيلة العهد المكي من رسالته ثلاثة عشر عاماً لا يكل ولا يمل، صابراً على كل ألوان الأذى في سبيل نشر المبدأ فلم يفرض عليه من التشريعات وأركان الإسلام إلا الصلاة في السنة العاشرة من البعثة([94]).

يقول الشيخ أحمد بن حجر: “.. ولا زالت الدعوة تزداد نفوذاً وقوة وانتشاراً ما كرت الليالي والأيام ورد الله كيد الأعداء في نحورهم وعاملهم بنقيض قصدهم فانتشرت دعوة الشيخ في سائر الأقطار وعرف كثير من الناس صحتها وحقيقتها، وأنها لا تخرج عن نطاق الكتاب والسنة، فاعتنقها كثيرون وألف جمع من المعتنقين لها كتباً في تأييدها والدفاع عنها..” ([95]).

وقد بارك الله في هذه الدعوة، وكان لها من الآثار الإيجابية ما جعل الكثيرين يحسدون أئمتها ويضيقون عليهم ولكن الله قيض لهم آل سعود فاجتمعت القوة والحكمة والسلطان والعلم، وانتشرت بفضل الله الدعوة الصادقة الخالصة من شوائب الشرك.

ولعل من أبرز آثار هذه الدعوة المباركة ما يلي:

1) قضت هذه الدعوة المباركة قضاء تاماً على ما كان شائعاً في هذه البلاد من الخرافات وتعظيم القبور والنذر لها والاعتقاد في بعض الأشجار، وأحيت معالم الشريعة بعد اندثارها.

2) أعادت هذه الدعوة الذين انضموا تحت لوائها إلى التوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية كما أعادتهم إلى الكتاب والسنة المطهرة وتحكيما في كل الأمور.

3) نشرت هذه الدعوة المذهب الحنبلي –مدرسة الأثر- وهي المدرسة التي تعني بالسنة وتستند عليها في أقوالها.

ويكفي أن إمام هذا المذهب هو إمام أهل السنة والجماعة في زمانه ولا تزال هذه المدرسة ترتفع معالمها في جزيرة العرب دون تعصب أو استخفاف بالآخرين، بل الرائد لأهلها الدليل الصحيح متى وجدوه فهم أسعد الناس به ولله الحمد والمنة.

4) وحدت هذه الدعوة أتباعها بعد أن كانوا متفرقين لا تجمعهم رابطة ولا يجمعهم حكم شرعي.. وقد وفق إمام الدعوة المجدد لجمع المدعوين تحت رابطة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فخضوع لها وأصبحوا تحت سلطان واحد يسوسهم بكتاب الله وسنة رسوله .

5) نشرت هذه الدعة علوم الشريعة من التفسير والحديث والتوحيد والفقه والسير والتواريخ وما يحتاج إليه من علوم العربية بعد أن كان الجهل يخيم على هؤلاء ويضرب أطنابه في ديارهم وقد ظهرت آثار الدعوة جلية في هذا الجانب فانتشرت العلوم والمعارف وفتحت المدارس والجامعات وأصبحت بلاد هذه الدعوة مصدراً للإشعاع ومنطقاً للمعرفة. ألا ترى أنها خرجت فطاحلة العلماء الذين كان لهم الأثر الأكبر في النهضة العلمية المعاصرة؟.

6) استتب الأمن ورفرفت أعلامه في بلاد الحرمين بفضل الله ثم بفضل هذه الدعوة المباركة والقائمين عليها فأصبح المسلم يقطع المسافات الطويلة لا يخاف إلا الله يحمل ما له معه بعد أن كان النهب والسلب والقتل والخوف مضرب المثل في هذه البلاد فانقلبت الحال ولله الحمد وأصبحت مضرب المثل في الأمن ورغد العيش والاستقرار في شتى مناحي الحياة.

7) انبثق من هذه الدعوة دولة الكتاب والسنة والتوحيد الخالص، دولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ بقيت المملكة العربية السعودية في العصر الحاضر شامة في جبين العالم تتمتع بالعدل والأمن والسلام فينتشر العلم فيها ويصل لكل مواطن ومقيم كما يصل إليه الماء والهواء دون عناء أو تعب أو خسارة مادية أو معنوية وهذا الفضل من الله، والله ذو الفضل العظيم.

يقول الشيخ أحمد بن حجر: “.. دولة نشرت العدل والأمن والسلام، دولة عززت مركز العلم وقامت بنشره بين جميع أفراد الرعية وكل من يفد إليها، دولة تمثل الصدر الأول والسلف الصالح في أحكامها وهيمنتها على الأخلاق وتحكيمها للكتاب والسنة، دولة تسهر على مصالح الرعية وتعمل لرفاهية الشعب ومحاربة الفقر، وتسهر على راحة الحجاج وبذل جميع الوسائل لرفاهيتهم وتذليل جميع العقبات أمامهم. وبالجملة فهي أحسن الدول العربية في تحكيم الشرع ونشر الأمن والعدل والعلم ومحاربة أهل البدع والضلال والأخذ على أيدي السفهاء والعابثين بالأخلاق والمنتهكين الحرمات….. أيدها الله ووفقها للخير والنفع العام”([96]) انتهى كلامه.

 

الخاتمة

بعد نهاية هذا البحث يطيب لي أن أدون بعض النتائج التي انتهيت إليها من خلاله وبسطت غالبها خلال صفحاته السابقة فأقول.

أولاً: الدعوة إلى الله عز وجل من أفضل الأعمال وأقرب القربات وأوجب الواجبات بعث الله تعالى صفوة خلقه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام للقيام بها ووعد القائمين بها أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً في الدنيا والآخرة.

ثانياً: أهل السنة والجماعة هم المتبعون للسنة في كل شأن المجتمعون على الهدى وبهذا يخرج أهل البدع وأصحاب الأهواء لأنهم غير مجتمعين على السنة والهدى.

ثالثاً: منهج أهل السنة والجماعة المناصحة للعام والخاص كل حسب مكانته ومنزلته مع مراعاة الظروف والملابسات وأسلوب المناصحة الشرعي يؤدي ثمرته عاجلاً وعلى العكس الأسلوب الأهوج الأعوج يبذر بذرة الشر التي تتنامى حتى تكبر فتفسد على المجتمع أمنه وطمأنينته وأسلوب التشويش والإثارة وذكر الأخطاء على المنابر أسلوب غير شرعي لأنه تعبير وليس بنصيحة وكم من شخص نصح بالسر فأثمر ذلك استجابة فورية والعكس صحيح فكم من أشخاص عنف عليهم في أسلوب المناصحة وحجمت أخطاؤهم وأعلنت على الناس فأحدث ذلك ردة فعل عندهم وزادهم ذلك صلفاً وعناداً فلم يستجيبوا وهنا يبوء هذا الناصح بإثمهم.

والنصيحة إذا كانت للعلماء أو لولاة الأمر فينبغي أن تأخذ طابع السرية التامة لأن هؤلاء لهم ولاية على الناس ولهم مكانة عظيمة في قلوبهم فإذا تمت مناصحتهم علانية وأعلنت هفواتهم فإن ذلك يقلل من مكانتهم في أعين الناس وبالتالي تقل هيبتهم ويقل احترام العلم الذي يحملونه فلينتبه لهذا المزلق الخطير.

رابعاً: من أخطر الأمراض التي أصيبت بها أمة الإسلام مرض الاختلاف والتفرق ذلك المرص الذي شمل مناحي الحياة كلها في كل حقل وكل مصر وكل مجتمع حتى خيم شبحه الأسود على نفوس الناس وأصبح المثيرون لا يعبئون بالنصوص الشرعية التي تدعو لتوحيد الصف وجمع الشمل بل كل يغني على ليلاه ويزعم أن الحق بجانبه وأن غيره مهما كان على الحق فهو مخطئ وهذا ما أثلج صدور الأعداء إذ ظعنوا الأمة بسلام منها وهذا السلام هو أمضى الأسلحة وأفتكها فإنا لله وإنا إليه راجعون.

خامساً: ثبتت النصوص الصحيحة الصريحة التي تفيد وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله وعدم إثارة الفتن مهما كان الدافع لها والحرص على الجماعة ولزومها والنهي عن الفرقة لأن فيها خذلان الأمة وضعفها وهذا هو منهج سلف الأمة الذي ساروا عليه وأكدوه فيما نقل عنهم فمن كان في رقبته بيعة لولي الأمر وجب عليه أن يحافظ عليها وأن يؤدي حقوقها وأن يشكر الله جل وعلا الذي أنعم عليه بنعمة الإسلام وتحكيم شرع الله في هذه البلاد المباركة فكم من المسلمين حرموا هذه النعمة العظيمة في بلادهم وأصبحوا ينظرون لبلاد الحرمين – بلاد الحرمين – على أنها المثل الذي يحتذى في هذا الجانب وهذا من فضل الله ومنته على بلادنا فنحمده ونشكره على هذه النعمة ونسأل المزيد من فضله.

سادساً: عاش المجتمع المدني في أمن وطمأنينة بعد أن أنعم الله عليهم بفضله بالألفة والاجتماع وسارت الأمور على هذه النحو أمن في الأوطان وتحكيم لشريعة الرحمن ولكن أعداء الإسلام لم يهدأ لهم بال وهم يرون المسلمين على هذه الحال فحاولوا بكل وسيلة أن يقضوا على وحدة الأمة وكان من أخبث وسائلهم بث الفرق والأحزاب التي بدأت تنخر في جوف الأمة وتمزقها متخذة كل وسيلة متاحة لهدم كيان الأمة المتماسك المبني على عقيدة الإسلام والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين والمتأمل في حال الأمة الإسلامية اليوم يرى أن البدن الإسلامي مثخن بمحنة الأحزاب التي فرقت الشمل وأضعفت البنان الكبير ولكن سنة الله في خلقه جارية فقد تساقطت الفرق في الماضي الواحدة تلو الأخرى ومن نهج نهجها سيقتفي أثرها في السقوط بمشيئة الله مهما كانت جذور حزبيته ضاربة في الأرض.

سابعاً: أحيا الله بالإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله الدعوة إلى التوحيد حيث ركز في دعوته على تصحيح عقيدة الناس وردهم إلى التوحيد حيث ركز في دعوته على تصحيح عقيدة الناس وردهم إلى التوحيد الخالص لأن غيره من واجبات الدين من حقوقه ومكملاته وتابع له. لقد تجرد الشيخ رحمه الله للدعوة إلى الله على بصيرة وجاهد في رد الناس إلى ما كان عليه أهل السنة والجماعة من إفراد الله بالعبادة وترك التعلق بغير الله والاعتقاد فيما دونه متبعاً في ذلك سنة رسول الله وكان من تمام توفيقه وتأييده أن قيض الله له من الأمراء من ينصره ويعينه ويقف معه ولذا تعاهد مع الأمير محمد بن سعود على نصرة شرع الله وتحكيمه في الأرض مهما كلفهم ذلك من تضحيات وقد تحقق لهم ما أرادوا فأظهر الله دينه وأعلا شريعته وقد استمرت الحال على ذلك في هذه البلاد المباركة أئمة يدعون الناس إلى الهدى والرشاد ويصححون عقائدهم وحكام يساعدونهم ويدافعون عنهم بكل قوة فحصل من الخير والفضل والأمن والأمان في هذه الديار ما لا يعلم مداه إلا الله وأصبحت على حال لا يوجد له نظير في سائر أقطار الدنيا ولله الحمد والمنة.

وحد الله أهلها بعد الفرقة وأطعمهم بعد الجوع وأمنهم بعد الخوف وتحولت الدويلات الصغيرة الكثيرة المتناحرة في هذه الجزيرة إلى دولة واحدة مترامية الأطراف متميزة في دينها ودنياها.

ثامناً: المملكة العربية السعودية هي البلد الوحيد في الدنيا الذي يعلن شرع الله ويفاخر في ذلك في كل المحافل الدولية بل إن نظام هذه البلاد لا يسمح بما يتعارض مع شريعة الله. وبلاد الحرمين هي البلد الوحيد الذي يطبق الحدود الشرعية رغم ما واجه هذه البلاد من الصيحات واتهامها بالرجعية والتخلف والهمجية ولكن ولاة الأمر عاهدوا الله أن يعلنوا شرعه ويحكموه في أرضه وهكذا تمت البيعة على ذلك في هذه البلاد المباركة ولذا فلا يجوز شرعاً أن تواجد في هذه البلاد أحزاب سياسية أو حزبيات دينية يكون ولاؤها لغير ولاة الأمر لأن في أعناق المسلمين بيعة شرعية لا يجوز المساس بها أو عمل ما يناقضها وقيام هذه الأحزاب أو تلك الحزبيات أو الجماعات التي تعطي ولاءها للأعداء خارج هذه البلاد كل ذلك يناقض ما في رقبة المسلم من البيعة الشرعية لولي الأمر.

وبناء على هذه القاعدة العامة فلولي الأمر أن ينظم أمور الناس وشئونهم وليس لأحد أن يفتات عليه في هذا المجال وبالتالي فلو منع ولي الأمر أحداً من الخطابة أو الوعظ أو التدريس فإن من حقه ذلك ما دام يرى في ذلك المصلحة للشخص وللمسلمين أو يغلب جانباً على جانب ولقد سمعت من شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله – وهو كما هو معلوم من كبار علماء هذه البلاد – قوله: لو منعني ولي الأمر لامتنعت ولما تكلمت في درس أو في لقاء وهذا هو الفقه الشرعي لطاعة ولاة الأمر.

تاسعاً: بعض الناس يهتم بكثرة الأتباع أكثر من اهتمامه بنوعية المطروح وكيفية الطرح ولذا تجد هؤلاء يجاملون أتباعهم بل ويخادعونهم أحياناً بالتمويه وذلك عن طريق الألفاظ المجملة والعبارات المحتملة وتأويل بعض النصوص لمسايرة الواقع الذي يعيشون فيه وأكبر دليل على ذلك أنهم يتغاضون عن أخطاء الآخرين ويقبلونها منهم ويعتبرون ذلك ضمن المرحلية في الدعوة بل إن بعض هؤلاء يسكت عن المنكر العلني بحجة التأليف والتقريب زعموا – وساء ما يزعمون – ولذا لا غرابة أن يكثر الأتباع من الغوغائيين والرعاع الذين يتبعون كل ناعق ويسيرون خلف كل بارق والعبرة بالمنهج الصحيح وإن قل الأتباع وأصحاب الحق وإن كانوا قليلاً ما هم إلا أن معهم الحق وهو غالب وصدق الله العظيم:{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون}[الصافات: 173]، وهؤلاء هم أصحاب الصراط المستقيم والمنهج القويم وصدق الله تعالى إذ يقول: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين}[الفاتحة: 6، 7]. {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}[آل عمران:85].

عاشراً: وقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله طوداً شامخاً زمن الفتنة حينما أجبر الناس على القول بخلق القرآن. وامتحن الإمام أحمد بسبب ذلك امتحاناً عظيماً ولكنه ثبت وصبر واحتسب الأجر من الله. والبعض يحور موقف الإمام أحمد من الفتنة ويجعله سياسياً بحتاً وهذا هضم لموقف الإمام وتنقيص من قدره فموقفه الشرعي أعلا قدراً. ولذا لما قيل للإمام أحمد: ما تقول في السلطان قال: لو كان لي دعوة مستجابة لصرفتها إليه.

وثبت عنه رحمه الله أنه عفا عن المعتصم. حتى قيل أن الإمام أحمد بن حنبل أحلَّ كل من ضربه وشايع فيه وكذلك المعتصم إلا ابن أبي دؤاد حيث يقول الإمام: إلا ابن أبي دؤاد لا حللته فإنه داعية.

ويقصد الإمام أحمد بذلك أن ابن دؤاد داعية للبدعة وأنه السبب في كل ما حدث للمسلمين في هذه الفتنة. وبذا يتضح أن موقفه من الفتنة كان موقفاً شرعياً يريد منه الدفاع عن كتاب الله عز وجل.

أحد عشر: يعتبر شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية أحد الأعلام الذين خلد الزمان ذكرهم وأصبح الناس يتتلمذون عليهم على مر العصور لما اجتمع في هذا العالم من صفات لم تجتمع في غيره من أهل عصره فهو الذكي الألمعي وهو الكاتب العبقري وهو الخطيب المصقع والباحث المنقب الذي درس أقوال السابقين وفحص الروايات بين الآراء المختلفة وطبقها على عصره مع إدراك للكليات الجامعة والفروق البديعية والتقاسيم الدقيقة وربط للجزئيات وجمع للأشتات المتفرقة ووضعها في نسق واحد. وأبلى بلاءً حسناً في الذب عن شريعة الله ومقارعة أهل الزيغ والضلال من الفرق الضالة فلما عجزوا عن قرع الحجة بالحجة تعرضوا له يصنوف الأذى والسب ووشوا به إلى السلطان في وقته فكان أن سجن عدة مرات وهذا معروف مشهور لكن البعض يحوز هذا الأمر ويقول: إنه سجن لمخالفته للسلطان وأن موقفه هذا كان موقفاً سياسياً. علماً أن شيخ الإسلام أرسل رسالة إلى الملك الناصر الذي سجنه رسالة تفيض حباً ومودة وولاءً للسلطان وهذه الرسالة تكشف الحقيقة وتبين الموقف بجلاء وأن موقفه لم يكن سياسياً إطلاقاً.

اثنا عشر: يدعي البعض أنهم هم العلماء وأنهم وحدهم هم الذين يجب أن تصدر عنهم الفتوى والآراء والمشورة لإلمامهم بواقع الناس وبيئتهم الأحكام والفتاوى من القرآن والسنة بأنهم لا يفهمون. كيف ذلك وهم قوارب النجاة لهذه الأمة وهم الذين يبينون للناس الحلال والحرام والحق والباطل والطيب والخبيث والصواب والخطأ.

وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين حين واجهتهم بعض المعضلات والمستجدات ردوا الأمر لصحابة رسول الله فهم أعلم الناس في هذا الوقت وكان الصحابة هم المرجع في علاج ما يشكل من المسائل مثل مسألة القدر بعد ما خاض فيها من خاض وبما خاض وصدق الله تعالى إذ يقولك {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا }[النساء: 83].

فهل يفيق هؤلاء الشباب ويلتفون حول العلماء يستقون منهم الحكمة ويتعلمون منهم العلم الصحيح المستمد من الكتاب والسنة.

ثلاثة عشر: يقول الله تعالى:{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ..}[الأنعام:153].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم”، وظاهرة التكفير مزلق خطير وقع فيه البعض جهلاً منهم أو محاكاة لأصحاب الأهواء الذين اندسوا في صفوف الأمة وأظهروا أنهم من أهل الصلاح والعلم والدعوة وهم في حقيقة الأمر من أهل البدعة.

إن إصدار حكم الكفر على شخص معين معناه ردة هذا الشخص وخروجه من ربقة الإسلام وزوال أهليته وطلاق زوجته منه وعدم إرثه وهذه من الأمور العظام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما) ([97]).

أربعة عشر: العلم من المصالح الضرورية التي تقوم عليها حياة الأمة بمجموعها وآحادها فلا يستقيم نظام الحياة مع الإخلال بها.

وسن الشباب هي خير ما يؤهل الشاب لطلب العلم، وصدق الحسن إذ يقول: “طلب العلم في الصغر كالنقش على الحجر”.

وقد جاء الحث على العلم والاهتمام به والترغيب في طلبه في نصوص كثيرة متضافرة. قال تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11]، وقال : (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين) (متفق عليه).

ومن أهم ما يجب أن يتحلى به طالب العلم: الأدب مع العلماء واحترامهم، وبيان محاسنهم، فهم الشموع المضيئة، والأعلام الهادية، والأدلاء على الخير، وهم بحر الأمة الدافق، وقلبها النابض، وبلسمها الشافي، وهم أهل الصلاح والتقى، وهم أهل الطاعة والعبادة، وهؤلاء هم العلماء الأثبات الموثوقون الذين لهم قدم راسخة في العلم.

 

الفهرس

الموضوع

تقديم معالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
المقدمة
أهمية الدعوة إلى الله
مفهوم أهل السنة والجماعة
منهج أهل السنة والجماعة في معاملة ولاة أمرهم
من حقوق ولاة الأمر
العلماء وأثرهم على الناس
نموذج للتعامل الشرعي مع الولاة
هل كان موقف الأمام أحمد من فتنة القول بخلق القرآن سياسياً؟
مفهوم النصيحة وأثرها على الفرد والجماعة
الحزبية خنجر مسموم طعنت به أمة الإسلام
تفرق الأمة.. أسبابه وعلاجه
التكفير.. أسبابه، أخطاره، أضراره، آثاره
الإرهاب
عظائم التفجير ومخاطره
أسباب الانحراف عند الشباب
الشيخ محمد بن عبدالوهاب والدعوة إلى التوحيد
الخاتمة
فهرس الموضوعات:

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])  رواه مسلم من حديث أبي هريرة (2/1340) برقم (1715).

([2])  رواه البخاري ومسلم .

([3])  رواه الطبراني.

([4]) رواه ابن ماجه وهو صحيح. انظر: صحيح سنن ابن ماجه (1/45).

([5]) رواه البخاري في كتاب المغازي (7/476) برقم (4210).

([6]) رواه مسلم في كتاب الإمام (3/1506) رقم (1893).

([7]) رواه مسلم في الوصية (3/1255) برقم (1631).

([8]) الاستقامة (1/42).

([9]) رواه أبو داود برقم (4657)، والترمذي برقم (2678)، وقال: حسن صحيح.

([10]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3/157).

([11]) تفسير ابن كثير (1/518).

([12]) فتح القدير (1/481).

([13]) فتح الكريم المنان (2/89).

([14]) رواه البخاري (13/109)، ومسلم (12/226) .

([15]) رواه مسلم (12/224).

([16]) رواه البخاري (13/108)، ومسلم (12/225).

([17]) رواه البخاري (13/99)، ومسلم (12/223).

([18]) رواه مسلم (12/240).

([19]) رواه البخاري (13/5)، ومسلم (12/240).

([20]) رواه أحمد (5/42)، والترمذي (2225)، وقال: حديث حسن .

([21]) رواه مسلم (2/37).

([22]) السياسة الشرعية (ص184).

([23]) السياسة الشرعية (ص185).

([24]) السياسة الشرعية (ص186).

([25]) مفتاح دار السعادة (1/72).

([26]) الفتاوى الكبرى (2/239، 240).

([27]) حكم الانتماء (ص121).

([28]) رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (1/86).

([29]) رواه ابن بطة في الإبانة (1/321).

([30]) رواه ابن بطة في الإبانة (1/324).

([31]) رواه ابن بطة في الإبانة (1/328).

([32]) آداب الحسن البصري لابن الجوزي (ص119).

([33]) رواه البخاري ومسلم، صحيح البخاري (2/116)، وصحيح مسلم (1/715).

([34]) رواه البخاري ومسلم، صحيح البخاري (4/60)، وصحيح مسلم، الإمارة (43).

([35]) السمع والطاعة (ص5، 6).

([36]) الشيخ محمد بن عبدالوهاب لأحمد بن حجر آل بو طامي (47).

([37]) رواه البخاري (3/98)، مسلم (8/20).

([38]) رواه البخاري (7/77)، ومسلم (8/20).

([39]) رواه البخاري (10/445-531)، فتح، ومسلم (1/68).

([40]) رواه البخاري (1/54)، فتح، ومسلم (1/65).

([41]) العقود الدّرية (ص182، 183).

([42])  مناقب أحمد بن حنبل، (ص344).

([43]) السياسة الشرعية (185).

([44])  مناقب أحمد بن حنبل (ص345).

([45]) رواه مسلم (1/37).

([46]) الفرق بين النصيحة والتعبير لابن رجب (ص39).

([47])  معالم السنن للخطابي (7/247).

([48]) تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي (2/693، 694).

([49]) جامع العلوم والحكم (1/193، 194).

([50]) جامع العلوم والحكم (1/193، 194).

([51]) المجموعة الكاملة (1/398).

([52]) حقوق الراعي والرعية مجموعة خطب للشيخ محمد بن صالح العثيمين (ص6_8).

([53]) من فتوى للشيخ مطبوعة ضمن رسالة، حقوق الراعي والرعية (ص27).

([54]) مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري (ص27، 28).

([55]) رواه أبو داود برقم (4597)، والترمذي برقم (2640) وقال: صحيح.

([56]) رواه مسلم (3/1388- 1767).

([57]) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (2/132).

([58]) زاد المعاد (1/47، 48).

([59]) الاستقامة (1/42).

([60]) خصائص جزيرة العرب (ص85، 86).

([61]) حكم الانتماء (ص142).

([62]) الشورى في ظل انظام الحكم الإسلامي (ص33).

([63]) التفسير القيم (ص14، 15).

([64]) عيون البصائر (2/292).

([65]) مجموعة فتاوى ومقالات متنوعة (5/204).

([66]) مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري (ص45).

([67]) حكم الانتماء (ص63).

([68]) حكم الانتماء (ص109).

([69]) خطبة الجمعة بتاريخ: 15/6/1415هـ.

([70]) آداب الخلاف في الإسلام (ص8).

([71]) رواه أبو داود في السنة برقم (4596)، والترمذي في الإيمان برقم (2642)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في الفتن مختصراً برقم (3991)، والحاكم برقم (1/6)، وصححه على شرط مسلم، ورده الذهبي.  

([72]) رواه مسلم في الفتن (2890) .

([73]) رواه مسلم في الفتن (2889).

([74]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/122/123).

([75]) الحديث رواه البخاري برقم (2410)، فتح الباري (5/70).

([76]) تقديم لكتاب منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، فيه الحكمة والعقل (ص12).

([77])  تقديم لكتاب الدعوة إلى الله بين التجمع الحزبي والتعاون الشرعي.

([78]) رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2678) وقال حسن صحيح.

([79]) رواه البخاري (4/422) ومسلم (7/91).

([80]) رواه أبو داود (4597)، والترمذي (2640) وقال صحيح.

([81]) تفسير القرطبي (7/137).

([82])  أعلام الموقعين لابن القيم (1/9).

([83]) صحيح الترمذي (1/44).

([84]) صحيح سنن أبي داود (1/9).

([85]) رواه أبو داود (3784).

([86]) رواه البخاري (8/32)، ومسلم (1/79).

([87]) رواه البخاري (8/18)، ومسلم (1/79).

([88]) رواه مسلم (4/39).

([89])  مجموع فتاوى ابن تيمية (3/151).

([90])  حقيقة الدعوة إلى الله (ص51، 52).

([91]) أضواء البيان (3/447، 448).

([92]) خصائص جزيرة العرب (ص74).

([93])  كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب للندوي (ص3-5).

([94])  منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل (ص43، 52، 72).

([95]) الشيخ محمد عبدالوهاب (ص65) بتصرف يسير.

([96]) الشيخ محمد عبد لوهاب (ص101، 102).

([97])  رواه البخاري. انظر: صحيح البخاري، كتاب العلم (10)، رواه مسلم. انظر: صحيح مسلم، كتاب الإمارة (3/175).