73 – حوار حول طلب العلم

الأربعاء 19 رجب 1445هـ 31-1-2024م

 

73 –  حوار حول طلب العلم pdf

 

 

 

 حوار حول

طلب العلم

 

تأليف

أ.د عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار

 

  

 

بسم الله الرحمن الرحيم

1ـ يلجأ بعض طلاب العلم إلى التركيز على الماجستير والدكتوراه والحصول عليها دون الاهتمام بالعلم الشرعي، فنود منكم كلمة حول هذا الموضوع.

 2ـ هل شهادة الدكتوراه بالعلم الشرعي تجعل صاحبها عالماً بالشرع ومتمكنا منه؟ أم أنها أتاحت لمن يحصل عليها إلى الوصول إلى حد التمكن من العلم الشرعي؟ أرجو التعليق على ذلك.

3ـ ما هي السبل التي تجعل طالب العلم يصل إلى درجة التمكن من العلم والإلمام به؟

4ـ ما مدى الفائدة التي يجنيها الدارس على يد العلماء في المسجد ودروسهم ومحاضراتهم؟

5ـ لابد من الدراسة على يد أحد العلماء والمشائخ لطلب العلم، ألا يمكن أن تكفي قراءة الكتب لطلب العلم دون اللجوء إلى الدراسة على يد العلماء والمشائخ، خصوصاً أن أغلبها قد تم شرحه من قبل على يد المختصين؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ج 1- للإجابة على هذا السؤال فإننا نقول بأن هناك عدة نقاط لابد من التحدث عنها:

النقطة الأولى: هو جانب فضل العلم والتعلم:

مما لاشك فيه أن طلب العلم والتعلم من أفضل العبادات والقربات التي يتقرب بها العبد إلى رب الأرض والسماوات، كيف لا وقد مدح الله أهله بقوله: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[الزُّمَر:9]، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11]، وقال تعالى في معرض إثبات ألوهيته على خلقه، وأنه تعالى هو المستحق للعبادة، وأنه قد شهد لنفسه بذلك، وكذا ملائكته وأهل العلم به، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18].

والآيات التي جاءت في بيان فضل العلم وأهله كثيرة، بل جاءت آيات أخر تحث على الزيادة منه، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]

 فأمره بالزيادة منه لأنه أشرف مطلوب وبه يتعرف العبد على خالقه ومعبوده جل وعلا.

أما الأحاديث التي جاءت في بيان فضل العلم والتعلم والحث على ذلك فهي كثيرة جداً نذكر منها حديثين:

الأول: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)([1]) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)([2]).

النقطة الثانية: في كيفية تحصيل هذا العلم:

فنقول بأن طرق تحصيل العلم في هذا الزمان كثيرة بخلاف الأزمان المتقدمة، فمن طرق تحصيل العلم الجلوس أمام العالم، والأخذ منه، والكتابة عنه، والقراءة عليه، وغير ذلك.

ومن الطرق أيضاً الالتحاق بالمدارس النظامية والجامعات والمعاهد العلمية التي تدرس فيها كتب الشريعة.

ومنها أيضاً: الاستماع إلى المحاضرات والندوات التي تعقد في المساجد أو في الإذاعات، كإذاعة القرآن الكريم، فإن فيها النفع الكثير.

ومنها أيضاً: سماع الأشرطة التي تتناول شروحات معينة لبعض الكتب، أو التي تتناول موضوعاً يهم المستمع ونحوه ذلك، فالغرض أن وسائل طلب العلم في العصر الحديث متعددة ولله الحمد.

النقطة الثالثة: وهي رداً على سؤالكم الخاص بتركيز طلاب العلم بالحصول على رسالة الماجستير أو الدكتوراه دون الاهتمام بالعلم الشرعي فنقول:

بأن تقدم البعض للحصول على الماجستير والدكتوراه في العلوم الشرعية أمر محمود شرعاً، لأنها مسلك من مسالك طلب العلم الذي يؤجر عليه صاحبه إذا صلحت فيه نيته، وحسن فيه قصده، قال الإمام أحمد رحمه الله:(طلب العلم لا يعدله شيء إذا صلحت فيه النية).

وكون البعض يريد أن يحصل على هذه الشهادات من أجل عمل وظيفي، أو من أجل الحصول على عائد مادي، فهذا له نيته وقصده، وإن كانوا هم قلة ولله الحمد، قال صلى الله عليه وسلم: ” إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”([3]).

ولا شك أن من كان هذا هدفه وغاية مطلوبه فإنه على خطر عظيم، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان:23]، وقال أيضاً: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود 15 ، 16]

وقد بوب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه التوحيد باباً فقال: (من الشرك العمل من أجل الدنيا).

فخلاصة القول في هذا الأمر أنه لا مانع من التركيز على رسالة الماجستير والدكتوراه والحصول عليها إذا كان يريد صاحبها التخصص في فن من الفنون الشرعية، كالتخصص في الفقه مثلاً، أو العقيدة، أو العلم بالحديث، أو التفسير، وغير ذلك من العلوم الشرعية، لكن  يستحضر المتخصص في ذلك عظمة وشرف العلم، ويجاهد مع ذلك نيته، فلا يطلب ذلك من أجل عرض من الدنيا، أو رفعة فيها، بل يكون مقصوده طلب العلم لله والدار الآخرة.

النقطة الرابعة: وهي نصيحة أسديها للإخوة الذين حصلوا على رسالة الماجستير أو الدكتوراه فأقول لهم:

ليس التعلم الحق أن تحصل على شهادة عالية تحقق لك المورد المالي، أو تضمن لك العيش الرضي، ثم تطوي هذه الشهادة وتترك المطالعة والاستزادة، بل التعلم الحق أن تستمر في مطالعاتك، وتزداد كل يوم علماً وعملاً، قال بعض السلف: “لا تزال عالماً ما كنت متعلماً، فإذا استغنيت كنت جاهلاً”.

وقال الإمام مالك رحمه الله: “لا ينبغي لأحد يكون عنده العلم أن يترك التعلم”. وقيل لبعضهم: “إلى متى تطلب العلم؟ قال: من المحبرة إلى المقبرة”.

فرحمهم الله، ما أجمل وأنفع أقوالهم.

فنصيحتي أيها المتخصص في علم من العلوم الشرعية أو غيرها من العلوم التي بها نفع للإسلام والمسلمين نصيحتي لك أن تهب اختصاصك كل طاقاتك، وتمنحه جل اهتمامك، وتقبل عليه إقبال المسلم المعتقد أن عمله في دائرة اختصاصه فريضة، ومن ثم يتوجب عليه أن يتقن العلم الذي اختص فيه كل الإتقان، فلا يدخر وسعاً في الإحاطة بكل ما كتب عنه.

ج 2- الذين يحصلون على شهادة الدكتوراه هم على فئتين؛ الفئة الأولى هم قوم عندهم معرفة بجميع العلوم الشرعية، فتراهم عندهم فقه، وعلم بالحديث، وكذا علم بالعقيدة، وعلم باللغة، وغير ذلك من العلوم الشرعية، فهؤلاء وإن تخصصوا في جانب من الجوانب الشرعية إلا أنهم في الحقيقة عالمون بالشرع متمكنين فيه.

الفئة الثانية: هم قوم ليس عندهم إلمام بالعلوم الشرعية سوى التخصص الذي تخصصوا فيه، فتراهم عالمين عارفين به، وقد وصلوا إلى حد التمكن فيه، فهؤلاء في الحقيقة يكونون أهل علم ومعرفة بما تخصوا فيه دون غيره.

ج 3- السبل التي تجعل طالب العلم يصل إلى درجة التمكن من العلم والإلمام به كثيرة منها:

أولاً: تقوى الله تعالى؛

فهي من أعظم الوسائل وأشرفها، قال تعالى في شأنها: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}[البقرة: 282]، فبدونها لا يصل الإنسان إلى مطلوبه.

ثانياً: ملازمة العلماء والمشايخ في المساجد؛

من خلال الدروس والندوات والمحاضرات وفي البيوت من خلال زيارتهم والاستفادة من علمهم.

ثالثاً: القراءة مع الزملاء والأصدقاء وطلاب العلم.

رابعاً: حفظ المتون العلمية التي ألفت في العلوم الشرعية مع دراسة شروح ما حفظه من هذه المتون.

خامساً: كثرة الإطلاع والقراءة الخاصة المرتبة؛ فلا ينتقل مثلاً من كتاب إلى آخر إلا بعد الانتهاء مما في يده

سادساً: إعداد البحوث العلمية؛ التي يتم فيها تحرير المسائل واستخلاص النتائج مما يجعله يستفيد منها.

سابعاً: المحافظة على الأوقات؛ وذلك بحسن ترتيبها والحرص على استغلالها.

ثامناً: الاستماع إلى ما في الأشرطة من محاضرات وندوات ودروس علمية؛ فهذه أيضاً وسيلة معينة على طلب العلم.

فهذه جملة من السبل والوسائل التي تجعل طالب العلم يصل إلى التمكن من العلم والإلمام به.

ج 4- لاشك أن المسجد هو نقطة الانطلاقة الكبرى في طلب العلم من عهد النبوة والرسالة إلى وقتنا هذا، ولذلك كانت الدراسة فيه أنفع من غيره، فأنت ترى أن مستوى العلم في الوقت الحاضر يقل عن مستواه في الوقت السابق، وهذا ليس على سبيل التعميم على جميع الناس بأن مستواهم العلمي ضعيف، لأنه يوجد ولله الحمد أناس ممتازون في علمهم وعملهم.

لكن الدراسة في المسجد على يد العلماء فيها فوائد عظيمة جداً، فانظر على سبيل المثال علماؤنا رحمهم الله كالشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وغيرهم ممن درسوا في المساجد على يد مشايخهم، وانظر إلى العلم الذي حصلوه من الدراسة في المسجد فتراهم في جميع العلوم قد تمكنوا فيها، إذاً فالدراسة في المسجد لها نفع عظيم، وفوائد كثيرة لا يمكن حصرها.

وإذا قلنا بأن الدراسة في المسجد هي الأصل، وأن فوائدها عظيمة كثيرة، فليس معنى ذلك أننا نقلل من شأن الدراسة المنهجية النظامية، فلاشك أن فيها النفع وهو أيضاً عظيم كما ذكرنا سابقاً.

ومن أعظم الدلائل على ذلك ما تطالعنا به هذه الدراسة النظامية من طلاب أذكياء ودعاة على علم وبصيرة بهذا الدين، يعملون في ساحة الدعوة إلى الله تعالى.

أما ما يدعيه بعض الشباب أن الدراسة المنهجية النظامية قليلة البركة، وأنها مضيعة للوقت فهذا خطأ، والواقع قد دل على خطأ من يقول هذه المقالة.

والخلاصة في ذلك أن الجمع بين التحصيل الشخصي من خلال قراءة الكتب والقراءة على يد المشايخ والعلماء في المساجد الجمع بينها وبين الدراسة المنهجية من أنفع وأحسن ما يكون.

ج 5- أقول وبالله التوفيق: إن الناس في هذه المسألة، أعني مسألة تلقي العلم من أفواه العلماء يكونون فيها على طرفين، فمنهم من يقول لابد من الدراسة على يد العلماء والمشايخ لطالب العلم، ولعلكم أنتم تقولون بذلك، وهذا ما فهمته من خلال سؤالكم.

والطرف الآخر يقول: بأن طلب العلم في قراءة الكتب فقط ولا يتعلق ذلك بالعلماء، فالكتب موجودة ومشروحة، ولا حاجة لي إلى الذهاب إلى المشايخ وغيرهم.

والصواب في هذه المسألة أن كلا الطريقين صحيحان، أعني التلقي من الكتب، والتلقي من أفواه العلماء، لكن لابد من شرط أساسي في هذين الأمرين وهو سلامة عقيدة من الشيخ والمؤلف، أي أن المؤلف يكون موثوقاً في عقيدته، وفي علمه، وأمانته وكذلك الشيخ لابد أن يكون موثوقاً في عقيدته وعلمه وأمانته، لكن تلقي العلم من أفواه العلماء يتميز بثلاثة أمور:

الأول: أنه أضبط وأيسر وأسرع، أضبط من جهة تحرير المسائل، وأيسر من جهة عرض المشروح، فالعالم يأتي لطلابه بأمثلة كثيرة لكي ييسر لهما لمطلوب شرحه، وأسرع من جهة أن طالب العلم لا يحتاج إلى البحث والتنقيب في بعض المسائل لأن شيخه حررها وأعطاه إياها جاهزة، مع بيان الراجح وغير ذلك، ولهذا كان التلقي على يد العلماء والمشايخ أيسر وأضبط وأسرع.

ثم إن القراءة على الشيخ مع تلقي العلم منه حماية لطالب العلم من الوقوع في الخطأ، ولذا قال بعض السلف: “من كان دليله كتابه فخطأه أكثر من صوابه”، ومن هنا نصح السلف من عدم تلقي العلم ممن جعله شيخه كتابه، فقال: “لا تطلب العلم ممن جعل الصحيفة شيخه”، لكن إذا لم يكن هناك عالم يتلقى طالب العلم من فيه فليقرأ الكتب بالشرط المذكور سابقاً، أعني أن يكون المؤلف موثوقاً بعلمه وأمانته وعقيدته، هذا هو الأفضل والأضبط.

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) رواه البخاري (71) كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين. ومسلم (1037) كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة.

([2]) رواه مسلم ،كتاب الذكر والدعاء ،باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن/برقم (2699) .

([3]) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (1)، ومسلم، كتاب الإمارة: باب قوله: «إنما الأعمال بالنيات»، رقم (1907) عن عمر بن الخطاب.