31 – الإجابة الصادرة في صحة الصلاة في الطائرة

الأحد 16 رجب 1445هـ 28-1-2024م

31 – الإجابة الصادرة في صحة الصلاة في الطائرة pdf

 

 

 

التعليق على كتاب

الإجابة الصادرة

في صحة الصلاة في الطائرة

 

مؤلف الكتاب

الشيخ العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله –

 

ترجم للمؤلف وقدم للكتاب واعتنى به

وعلق عليه وأضاف إليه بعض المسائل

أ.د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمــــة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى على فترة من الرسل رحمة بالخلق أجمعين.

وبعـــــد:

فقد بين الله تعالى الحكمة من خلقنا في كتابه العزيز فقال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. فقد بينت الآية الكريمة الحكمة الشرعية الدينية من خلق بني آدم وهي تحقيق العبودية لله تعالى، العبودية الشاملة التي لا تقبل التجزئة قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً..}.

ومن كمال لطفه بعباده ورحمته بهم أنه حينما أمرهم بذلك تكفل بخلق ما يعينهم على ما خُلقوا له، فسخر لهم كل ما في الكون تسخيراً تاماً لكي يعبدوه، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ }. الآية.

ومن أعظم ما سخره الله سبحانه وتعالى لعباده هذه المراكب السيارة من خيل وبغال وحمير وغيرها من الصناعات التي أحدثت في هذه العصور كالسفن والطائرات والسيارات ونحوها.

قال تعالى:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(سورة النحل، الآيات: 5 – 8).

فقوله سبحانه وتعالى:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} إشارة منه إلى ما سيحدث في العالم من تغيير في أمور المركوبات.

ونظراً لأن هذه المستجدات التي قام الإنسان باختراعها والتي لم تكن موجودة من قبل فقد يحدث فيها بعض المسائل الهامة التي تتعلق بالصلاة والصيام والحج وغيرها. قام علماء الأمة ببيان ما أشكل على أفراد الأمة من هذه المسائل.

 وضمن من قام بهذه المهمة العلاَّمة المحدث الفقيه المفسر محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله -. فقد ألّف رسالة قيّمة النفع فريدة النوع لم يسبقه إلى تأليفها أحد بخصوص حكم الصلاة في الطائرة.

وقد يسر الله تعالى الاطلاع على هذه الرسالة فقرأتها وعقدت العزم ـ بناء على مشورة بعض المشايخ ـ على إخراجها، وقد قمت بذلك ولله الحمد. وإتماماً للفائدة أضفت بعض المسائل الهامة المتعلقة بركوب الطائرة كالصيام والحج.

والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه إنه سميع قريب مجيب.

                                                                                                                  أبو محمد

                                                                                             أ. د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار

 

ترجمة مؤلف الرسالة([1])

 1- اسمه ونسبه:

هو محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد بن نوح بن محمد بن سيدي أحمد بن المختار من قبيلة (الجكنيين) المشهورة المعروفة التي يرجع نسبها إلى قبيلة (حمير) العربية المشهورة.

2– مولده ونشأته:

وُلِد رحمه الله في عام 1325هـ.

وكان مسقط رأسه – رحمه الله – عند ماء يسمى (تنبه) من القطر المسمى شنقيط التي تسمى الآن دولة موريتانيا الإسلامية.

أما نشأته – رحمه الله – :

فقد نشأ في قبيلة معروفة بالعلم وفروسية القتال فجمعوا بين الحسنيين وهذا كان لـه أثر بالغ في حياة الشيخ رحمه الله فقد طلب العلم على قدم وساق سواء في الحل أو الترحال فجمع بين علوم شتى.

3- طلب العلــم :

لقد كانت همة الشيخ – رحمه الله – في طلب العلم عالية جداً فهو لم يقتصر في طلب العلم على علم فن من الفنون فقط، بل عقد العزم على أن يكون شيخاً في عدد من الفنون ونال مقصوده – رحمه الله – فتجده إماماً في الفقه، وإماماً في الحديث، وإماماً في الأصول، وإماماً في التفسير، وغيرها من العلوم.

4– شيوخه:

تتلمذ الشيخ – رحمه الله – على عدد كثير من العلماء الأجلاء نذكر بعضهم:

  • خالد بن عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم بن نوح وتعلم عليه القرآن.
  • ابن خاله سيدي محمد بن أحمد بن محمد المختار. وتعلم عليه رسم المصحف العثماني وقرأ عليه التجويد.
  • زوجة خاله وقد أخذ عنها الأدب ومبادئ النحو والأنساب والسيرة.
  • الشيخ محمد بن صالح وقد درس عليه قسم العبادات من مختصر خليل في الفقه المالكي.
  • الشيخ محمد بن صالح المشهور بابن أحمد الأفرم وغيرهم الكثير.

5– أعماله ومناصبه :

تولى – رحمه الله – كثيراً من الأعمال والمناصب منها:

  • تولى التدريس والإفتاء في بلاده قبل قدومه إلى المملكة للحج.
  • تولى التدريس في المسجد النبوي في المدينة النبوية بعد استقراره فيها.
  • اختير للتدريس في المعهد العلمي بالرياض عند افتتاحه سنة 1371هـ.
  • تولى التدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة بعد افتتاحها.
  • رُشح عضواً في هيئة كبار العلماء في المملكة.
  • كان عضواً مؤسساً في رابطة العالم الإسلامي.

7– تلاميــذه:

للشيخ تلاميذ كثيرون نذكر منهم أشهرهم:

  • فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام المسجد النبوي ورئيس محاكم المدينة رحمه الله.
  • الشيخ عطية محمد سالم القاضي بمحكمة المدينة وهو من أخص تلاميذه.
  • الشيخ محمد المجذوب.
  • أبناء الشيخ نفسه ومن أبرزهم محمد المختار الأستاذ في قسم أصول الفقه بالجامعة الإسلامية.
  • فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين – رحمه الله -.
  • الشيخ محمد ربيع المدخلي.
  • الشيخ إحسان إلهي ظهير.

8– وفاتــــه :

بعد حياة مديدة حظيت بالتأليف والتدريس والافتاء والبذل والعطاء توفي العلاَّمة الإمام المحقق الشنقيطي – رحمه الله – في ضحى يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة عام ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة (17/12/1393هـ) وكانت وفاته بمكة المكرمة وذلك أثناء رجوعه من الحج ودفن بمقبرة المعلاة بمكة وصلى عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله – .

  

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على نبيه الكريم.

أما بعــــــــد:

فقد طلب منا بعض فضلاء إخواننا أن نقيد لهم حروفاً نظهر بها صحة صلاة من صلى في الطائرة فأجبناهم إلى ذلك، ونذكر إن شاء الله وجه استنباط صحتها من كتاب الله ثم من سُنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثم من كلام العلماء على طريق المناظرة الشرعية([2]) الخالية من لجاج([3]) الجدل، أما القرآن فقد امتن الله فيه على خلقه في مسودة الامتنان([4]) التي هي سورة النحل بهذه المراكب المستحدثة لأنه لما بين أنواع الامتنان فيها وذكر الامتنان بأنواع من المركوبات في قولـه: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} ([5]).

أشار إلى امتنانه بمركوبات لم تخلق ولم يعلمها الموجودون([6]) في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقولـه:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ([7]) مقترناً بجنس المركوبات يدل على أنه من جنس ما يركب ودلالة الاقتران وإن ضعفها بعض الأصوليين كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله:

أما اقتران اللفظ في المشهور ***  فلا يساوى في سوى المذكور([8])

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) من أراد الزيادة في ترجمة المؤلف فليرجع إلى كتاب (منسك الإمام الشنقيطي) للمؤلف والدكتور عبد العزيز الحجيلان.

([2]) أبدع العلاّمة الشنقيطي – رحمه الله – في منهجه التعليمي حيث سلك طرقاً شتى لإيصال المعلومات إلى طلابه وقد وفق في هذا الباب وطرق مسائل كثيرة بأساليب متنوعة ومنها هذا الأسلوب وهو طريق المناظرة الشرعية الذي انتهى فيه إلى ترجيح الصلاة في الطائرة والرد على المالكية في ذلك الذين يقولون بعدم صحة الصلاة في الطائرة.

([3]) من يكتب لنفع الناس ينبغي أن تخلو كتابته من الجدل الممنوع وإذا تطلب الأمر مناقشة المخالفين في أي مسألة فينبغي الأدب واتباع الأساليب النافعة المفيدة وهذا ما سلكه العلاّمة الشنقيطي – رحمه الله -.

([4]) سميت سورة النحل بسورة الامتنان لأن الله تعالى عدَّدَ فيها نعمه على خلقه التي امتن فيها على خلقه.

([5]) سورة النحل، الآية (8).

([6]) احتج بعض من قصر فهمهم بعدم وجود الدليل على السيارات والطائرات والقاطرات والمركبات الفضائية وغيرها مما سخره الله للناس. فرد عليهم من أنار الله بصائرهم بهذه الآية {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، فهي تشمل سائر المراكب الموجودة وغيرها مما لم يكتشفه البشر بعد.

([7]) سورة النحل، الآية: (8).

([8])  فتح الودود بشرح مرامي السعود (ص 168). قال صاحب فتح الودود عند شرحه لهذا البيت: يعني أن القران بين لفظ الجملتين أو المفردين أو الجمل أو المفردات بالعطف لا يوجب التسوية بينهما في غير الحكم المذكور وأما الحكم المذكور فتجب التسوية بينهما فيه هذا هو المشهور وعليه الجمهور خلافاً لبعض المالكية والمزني وابن يوسف في قولهم أن القران بين الجملتين أو المفردين بالعطف يوجب التسوية بينهما في الحكم المذكور كالمذكور وينبني على الخلاف قوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فعلى الأول لا تستوي العمرة مع الحج في الوجوب ابتداء لأنه حكم غير مذكور بناءً على أن القران بين اللفظين بالعطف لا يقتضي التسوية بينهما في غير الحكم المذكور وتستوي معه في وجوب الاتمام لأنه مذكور وعلى الثاني تستوي العمرة معه في الوجوب ابتداء في وجوب الإتمام بناءً على أن القران بين اللفظين يقتضي التسوية بينهما في الحكم المذكور وغيره.

 

قال المؤلف في تفسير هذه الآيات:

قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يخلق ما لا يعلم المخاطبون وقت نزولها، وأنهم من ذلك الذي يخلقه لتعبيره عنه بالموصول ولم يصرح هنا بشيء منه، ولكن قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية، كالطائرات، والقطارات، والسيارات.

ويؤيد ذلك إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في الحديث الصحيح قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) ومحل الشاهد من هذا الحديث قولـه صلى الله عليه وسلم: (ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها) فإنه قسم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه ستترك الإبل فلا يسعى عليها، وهذا مشاهد الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة.

فقد صححها([9]) جماعة من المحققين ولا سيما في هذا الموضع الذي دلت فيه قرائن المشاهدة([10]) على صحة دلالة الاقتران فيه ونعني بدلالة الاقتران هنا دلالة اقتران {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ([11]) بجنس ما يركب([12]) وإذا حققت أن الله امتن في سورة الامتنان ([13]). على الخلق بوجود هذه المراكب التي من جملتها الطائرة فاعلم أن ركوبها جائز لأن الله لا يمتن بمحرم([14]) وإذا كان جائزاً ودخل وقت الصلاة فيها فقد دل الكتاب والسُنة والإجماع على أن الله لا يكلف الإنسان إلا طاقته لقوله: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ([15]) ، وقولـه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ([16]) ، وقولـه ﷺ: (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم)([17]) فإذا صلى الإنسان فيها فقد فعل طاقته ولم يؤمر إلا بطاقته([18]وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حدوث هذه المركوبات لقولـه كما ثبت في صحيح مسلم ولتتركن القلاص([19]) فلا يسعين عليها([20]) وأما الدليل من السنة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر أنه سُئل عن الصلاة في السفينة فقال (صلِّ فيها قائماً إلا أن تخاف الغرق)([21]) أخرجه الدار قطني والحاكم على شرط الصحيحين مع أن القرآن دل بدلالة الإشارة([22]) على صحة  الصلاة في السفينة حيث امتن بركوبها {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} ([23])

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([9])  المقصود دلالة الاقتران التي أشار إلى ضعفها سابقاً.

([10]) قرائن المشاهدة هي ما يشاهده العَالِمُ عند القول في حكم ما فهي دليل قوي يستأنس به على صحة دلالة الاقتران وقد شاهد الشيخ – رحمه الله  تعالى – ذلك بنفسه كما ذكر ذلك الشيخ محمد عطية سالم تلميذه – رحمهما الله – حيث قال أنه ممن سافر مع الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – إلى بلد أفريقية بالطائرة وقد طلع الفجر وهم بالطريق فأذن بعضهم ثم تقدم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله فصلى بهم فلما انتهى من صلاته سألته عن هذه الصلاة فقال هذه أحسن صلاة صليتها ثم قال نحن كنا نعبد الله في الأرض والآن نحن نعبده في السماء.

([11]) سورة النحل، الآية: (8): قاله المؤلف رحمه الله في تفسير هذه الآية.

([12]) أي بجنس ما ذكره الله تعالى في نفس الآية.

([13])  سورة الامتنان هي سورة النحل كما ذكرناه سابقاً.

([14]) إن من نعم الله على عباده أن دل عقولهم إلى معرفة هذه الصناعات الحديثة التي هي في الأصل نعمة من نعمه على خلقه فهذه السفن والطائرات والسيارات وغيرها كلها من فضل الله على خلقه فسبحان من قال في كتابه {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} غير أنه انطمست قلوب وأعين المنحرفين عن منهج سلف الأمة حينما نقول لهم إنه يجب الرجوع إلى منهج السلف والعودة إلى ما كان عليه سلف الأمة قالوا يريدوننا أن نرجع إلى العصور المظلمة ويقولون بأنها عصور التخلف والرجعية وقد قرأت لبعض المتأثرين بهذا الفكر رسالة يتهجم فيها على من يدعوا الناس إلى التمسك بآثار السلف ثم يقول إننا في عصر التكنولوجيا والتقدم وقد صعد الناس إلى القمر وهؤلاء يدعوننا إلى السلف ولم يفرق المسكين بين قولنا الرجوع إلى منهج السلف في العبادات وغيرها وبين أن ديننا يدعو إلى التقدم والرقي والازدهار ويحث على ذلك بل وجعل الأجر والمثوبة لمن قام بذلك فالإسلام  لا يحرم الصناعات الحديثة من سيارات وطائرات وسفن وقطارات وغيرها فهذه كلها من نعم الله على عباده فينبغي أن نفرق بين الأمرين:  

الأول: الدعوة إلى الرجوع إلى ما كان عليه سلف الأمة من عبوديتهم لله تعالى وبالأخص في أمور العقيدة.

ثانياً : أننا حينما نقول بالرجوع إلى منهج السلف نقول بأنه لا تعارض بين الأخذ بالأمور المباحة التي جاءت الشريعة بإقرارها كركوب السيارات والطائرات وغيرها من الوسائل الحديثة وبين ما ذكرناه في الأمر الأول.

([15]) سورة البقرة، الآية : (286).

([16])  سورة التغابن، الآية: (16).

([17]) رواه البخاري (13/219) – ومسلم (1337).

([18])  هذه القاعدة أي قاعدة (لا تكليف إلا بالاستطاعة) أو لا تكليف إلا بمقدور قاعدة عظيمة تدل على تيسير الله لعباده بل وتدل بلا ريب على سماحة هذه الشريعة التي مبناها على الرحمة بالخلق وهذه القاعدة تضمنت أمرين:

الأول: أن الواجب يتعلق بالاستطاعة فلا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة فالضرورة تقدر بقدرها فإذا اندفعت الضرورة وجب الانكفاف.

الثاني: أن كل من عجز عن شيء من شروط الصلاة أو أركانها أو واجباتها فإنها تسقط عنه ويصلي على حسب ما يقدر عليه مما يلزم فيها وكذا الصوم من عجز عنه عجزاً مستمراً لكبر أو لمرض لا يرجى برؤه أفطر وكفر عن كل يوم إطعام مسكين ومن عجز عن الصيام لمرض يرجى برؤه أو لسفر أفطر وقضى وهكذا سائر العبادات الواجبة. فلله الحمد على ذلك. فالذين يقولون بعدم جواز الصلاة في الطائرة هم في الحقيقة يضيِّعون ما وسَّعه الله على عباده فنسأل الله تعالى العلم النافع والعمل الصالح.

([19])  قال النووي رحمه الله في شرحه لمسلم (2/192). القلاص بكسر القاف وهي جمع قلوص بفتحها وهي من الإبل كالفتاة من النساء والحدث من الرجال ومعناه أن يزهد فيها ولا يرغب في اقتنائها لكثرة الأموال وقلة الآمال وعدم الحاجة والعلم بقرب الساعة.

([20])  الحديث رواه مسلم رقم (243) كتاب الإيمان باب نزول عيسى ابن مريم حكماً بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومسند أحمد (2/494) بلفظ (وليتركن).

([21]) رواه الحاكم (1/275) وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه ورواه الدار قطني في باب صفة الصلاة في السفر والجمع بين الصلاتين من غير عذر وصفة الصلاة في السفينة (1/395) – أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/155) باب القيام بالفريضة وإن كان في السفينة مع القدرة والحديث صححه العلامة الألباني رحمه الله في صفة الصلاة ص59.

([22]) دلالة الإشارة. قال المؤلف رحمه الله في مذكرة أصول الفقه (ص236) وإيضاح دلالة الإشارة: أنها دلالة اللفظ على معنى ليس مقصوداً باللفظ، ولكنه لازم للمقصود فكأنه مقصود بالتبع لا بالأصل.

([23]) سورة البقرة، الآية: (164).

 

ومعلوم أنه لا يتيسر النزول بالساحل عند كل صلاة فالصلاة فيها صحيحة قطعاً وإذا دل الكتاب والسُنة والإجماع على صحة الصلاة في سفينة البحر([24]) فاعلم أنها لا يوجد بينها وبين الطائرة فرق لـه أثر في الحكم([25]) لأن كلاً منهما سفينة متحركة ماشية يصح عليها الإتيان بجميع أركان الصلاة من قيام وسجود وركوع واعتدال وغير ذلك بل هو بالطائرة أسهل([26]) لأنها أخف حركة من السفينة وكل منهما تمشي على جرم لأن الهواء جرم بإجماع المحققين من نظار المسلمين والفلاسفة وتحقق صحة ذلك إذا نفخت قربة مثلاً فإن الرائي يظنها مملوءة من الماء ولو كان الهواء غير جرم لما شغل الفراغ بـملء الأوعية المنفوخة وبين الهواء والماء مناسبات كثيرة حتى أن أحدهما لينتقل من عنصره إلى عنصر الآخر ألا ترى أن الماء إذا بلغ مائة درجة من درجات الحرارة تبخر فصار هواء فانتقل من عنصر الماء إلى عنصر الهواء وإذا لم يكن بينهما فارق لـه تأثير في الحكم فاعلم أن عامة العلماء ماعدا قوماً من أتباع داود الظاهري على أن المسألة المنطوق بها والمسألة المسكوت عنها إن لم يكن بينهما فارق له أثر في الحكم فإن المسكوت عنها تدخل في حكم المنطوق بها([27]) وهو الدليل المعروف عند الأصوليين بالإلحاق بنفي الفارق وهو نوع من تنقيح المناط([28]) وسماه الشافعي القياس في معنى الأصل قال في مراقي السعود:

قياس معنى الأصل عنهم حقق  **  لما دعى الجمع بنفي الفارق([29])

وقال أيضاً في مسالك العلة في الكلام على تنقيح المناط:

فمنه ما كان بإلغا الفارق  **  وما بغير من دليل رائق([30])

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([24]) بناء على ما تقدم: فإن الصلاة في السفينة جائزة عند الأئمة الأربعة وأنه يصلي فيها قائماً إلا إذا كان لا يستطيع القيام فليصل قاعداً. فإذا نقل الإجماع على صحة الصلاة في السفينة فما هو وجه الفرق بينها وبين الطائرة وكل ما توهم البعض من توهمات توجب كون الطائرة تختلف عن السفينة كلها توهمات عارية عن الصحة كما سيذكر ذلك المؤلف، مع العلم أنه ليس كل المالكية يقولون بعدم صحة الصلاة في الطائرة بل هناك من قال بجوازها.

([25]) قال الألباني رحمه الله في صفة الصلاة (ص79).

(فائدة) وحكم الصلاة في الطائرة كالصلاة في السفينة، أن يصلي قائماً إن استطاع وإلا صلى جالساً إيماءً بركوع وسجود كما تقدم. قلت: وسنذكر إن شاء الله كيفية الصلاة في الطائرة  في بعض المسائل في هذه الرسالة.

([26]) أما الطائرة فإنها لا تقف إلا في المطار المعد لهبوطها ومن ثم إذا كانت المسافة بعيدة وخيف فوت الوقت فإنه يصلي فيها، ولا تؤخر الصلاة عن وقتها وهذا أمر ممكن وليس فيه مشقة وقد لاحظنا ذلك من واقع التجربة ولله الحمد. ولكن لو كانت الفجوات التي بين المقاعد وعند الأبواب لا تتسع لجميع الركاب فمن الممكن أن يصلوا جماعة بقدر العدد الذي تتسع لـه الفجوات ثم تليها جماعة أخرى وهكذا لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. انظر في ذلك فتوى اللجنة الدائمة في صحة الصلاة في الطائرة (8/120) وفتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله (3/178-179) وفتوى الشيخ محمد الصالح العثيمين  (في مجموع فتاوى الشيخ رحمه الله (12/493).

([27]) هذه المسألة أي الحاق المسكوت عنه بالمنطوق هي واحدة من أعظم مسائل أصول الفقه. فيجب التنبه لها. قال مؤلف هذه الرسالة رحمه الله في مذكرة أصول الفقه ص249. إذا علمت ذلك فاعلم أن التحقيق أن نفي الفارق أربعة أقسام لأن نفيه إما أن يكون قطعياً أو مظنوناً وفي كل منهما إما أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق أو مساوياً له.

فالمجموع أربعة :

الأول : هو ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق مع القطع بنفي الفارق. كإلحاق أربعة عدول بالعدلين في قبول الشهادة كقولــه تعالى:{ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ }، وكإلحاق الضرب في التأفيف في الحرمة كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}.

الثاني: هو ما كان المسكوت عنه فيه مساوياً للمنطوق مع القطع بنفي الفارق. كإلحاق إحراق مال اليتيم وإغراقه بأكله في الحرمة. وكإلحاق صب الماء بالبول فيه.

الثالث: هو ما كان المسكوت عنه فيه أولى مع نفي الفارق بالظن الغالب كإلحاق شهادة الكافر بشهادة الفاسق في الرد المنصوص عليه بقوله تعالى:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}. وكإلحاق العمياء بالعوراء في منع التضحية.

الرابع: هو ما كان المسكوت عنه فيه مساوياً للمنطوق مع كون نفي الفارق مظنوناً لا مقطوعاً. كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق المنصوص عليه في العبد.

([28]) قوله: (وهو نوع من تنقيح المناط). هو أن يضيف الشارع الحكم إلى سببه فيقترن به أوصاف لا مدخل لها بالإضافة فيجب حذفها عن الاعتبار ليتسع الحكم. مثاله قولـه صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال: هلكت يا رسول الله… الحديث. فكونه أعرابياً لا أثر لـه فيلحق به التركي والعجمي لعلمنا أن مناط الحكم وقوع مكلف لا وقوع أعرابي إذ التكليف تعم الشخص على ما مضى (روضة الناظرين 3/803-804). 

قولـه: وسماه الشافعي القياس في معنى الأصل: أي سمى مفهوم الموافقة بالقياس في معنى الأصل وقد اختلف في ذلك. فذهب الجمهور إلى أنَّ هذا نوع من المفهوم وذهب الشافعي إلى أنه قياس وذهب آخرون إلى أنه مجاز من إطلاق البعض وإرادة الكل.

(29)  متن مراقي السعود (ص 151) وانظره أيضاً في فتح الودود شرح مراقي السعود (349).

(30)  مراقي السعود (ص 139) فتح الودود (ص 320).

 

فإلحاق ضرب الوالدين بالتأفيــف في قولـه: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}([31]) وإلحاق شهادة أربع عدول بالعدلين فـي قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ([32])، وإلحاق وزن الجبل بمثقال الذرة في قولـه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ([33])، وإلحاق إحراق مال اليتيم وإغراقه بأكله في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} ([34]) الآية وإلحاق البول في إناء وصبه في الماء الراكد المنهي عنه([35]).

وإلحاق التضحية بالعمياء بالتضحية بالعوراء المنهي عن التضحية([36]) بها، وإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق في قولـه صلى الله عليه وسلم : (من أعتق شركاً لـه في عبد) ([37]).

وإلحاق حكم القاضي في حالة الجوع والعطش والحقن والحقب والسرور والحزن ونحو ذلك من كل ما يشوش بالغضب المنصوص عليه في حديث أبي بكرة المتفق عليه لا يقضين حكَمٌ بين اثنين وهو غضبان([38]) ونحو ذلك مما هو كثير جرى كله إلحاقاً بنفي الفارق([39]).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(31) سورة الإسراء، الآية: (23).

([32]) سورة الطلاق، الآية: (2).

([33]) سورة الزلزلة، الآية: (8). 

([34]) سورة النساء، الآية: (10).

([35]) لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه). مختصر صحيح البخاري للزبيدي: باب لا يبولن في الماء الدائم رقم (177) ص59.

([36]) لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع لا تجوز في الضحايا العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكبيرة لا تنقى) صحيح النسائي للألباني برقم (4073 – 4074) وصحيح ابن ماجة رقم (2545).

([37]) رواه البخاري: كتاب / العتق، باب/ إذا أعتق عبداً بين اثنين وأنه بين الشركاء برقم (2522) وراه مسلم، كتاب العتق برقم (150).

([38]) رواه البخاري: كتاب/ الأحكام باب/ هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان برقم (7158)، ومسلم : كتاب/ الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان برقم (1717) بلفظ (لا يحكم أحد).

([39])  أي نفي الفارق بين الحكم المسكوت عنه والمنطوق به كما بيناه آنفاً.

 

واعلم أن إلغاء الفارق يقول به من لا يقول بالقياس([40]) وهو في حكم النص عند جماهير من العلماء([41]) ومما يدل عليه أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى لا يقول بالقياس في الكفارة([42]) وقد قال فيها بالإلحاق بنفي الفارق وذلك في الأعرابي الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم يضرب صدره وينتف شعره ويقول هلكت وأهلكت واقعت أهلي في نهار رمضان فقال لـه النبي صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة([43]) فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على كفارة صوم رمضان في خصوص الجماع ولم يتكلم على الشرب والأكل فيه عمداً فحكم مالك وأبو حنيفة بإلغاء الفارق وألحقا الأكل والشرب عمداً المسكوت عنهما بالجماع المنصوص عليه في وجوب الكفارة فقالا بوجوبها في الأكل والشرب عمداً([44])

وأما ما وعدنا به من كلام العلماء عن طريق المناظرة الشرعية([45]) فإنا نقول أولاً إن من ادعى بطلان الصلاة في الطائرة فهو الذي عليه بيان دليل البطلان  ومدعي الصحة معه الأصل لأنها صلاة لم يختل منها ركن ولا شرط وأركان الصلاة وشروطها معروفة ولا يختل بالصلاة في الطائرة منها شيء([46]) ولا دليل على بطلانها فيها من كتاب ولا سُنة ولا إجماع ولا كلام عن أحد من أصحاب المذاهب([47]) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([40])  ذهب الظاهرية إلى عدم إثبات القياس وعدم حجيته وهذا قول مخالف لعامة الفقهاء والمتكلمين حيث جاءت نصوص الشريعة بإثباته.

انظر أدلته والرد على منكريه في كتاب (روضة الناظر لابن قدامة (3/806- 830).

([41])  قوله وهو في حكم النص أي إلغاء الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق به.

([42]) قال ابن قدامة رحمه الله في روضة الناظر (3/926). ويجري القياس في الكفارات والحدود وهو قول الشافعية وأنكره الحنفية لأن الكفارات والحدود وضعت لتكفير المأثم والزجر والردع عن المعاصي والقدر الذي يحصل ذلك به من غير زيادة أمر استأثر الله بعلمه. وكذلك الحكم بمقدار معلوم في (الصلاة) (والزكاة) (والمياه) لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى فلم يجر الإقدام عليه بالقياس ولأن الحد يدرأ بالشبهة والقياس لا يخلو من الشبهة. انتهى المراد والصحيح القول بالقياس في الكفارات بخلاف ما قاله الأحناف.

([43])  أخرجه البخاري (3/29)، مسلم (2/781)، أبو داود (2/783) ورواه أحمد بنحو هذا اللفظ في مسند أبي هريرة (2/516) برقم (10699).

([44]) قال في بدائع الصنائع: بعد ذكره كلام الشافعي في عدم وجوب الكفارة على من أكل أو شرب عمداً (2/98-99). ولنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أفطر في رمضان متعمداً فعليه  ما على المظاهر) وعلى المظاهر الكفارة بنص الكتاب فكذا على المفطر متعمداً، ولنا أيضاً الاستدلال بالمواقعة والقياس عليها أما الاستدلال بها فهو أن الكفارة في المواقعة، وجبت لكونها إفساداً لصوم رمضان من غير عذر ولا سفر على ما نطق به الحديث والأكل والشرب إفساد لصوم رمضان متعمداً بغير عذر ولا سفر فكان إيجاب الكفارة هناك إيجاباً ههنا دلالة إلى أن قال وعلى هذه الطريقة يمنع عدم جواز إيجاب الكفارة بالقياس لأن الدلائل المقتضية لكون القياس حجة لا يفصل بين الكفارة وغيرها). والصحيح ولا شك عدم وجوب الكفارة على من أكل أو شرب متعمداً مع ثبوت الإثم العظيم عليه لانتهاكه حرمة هذا الشهر  وما عليه إلا التوبة عن هذا الفعل ووجوب قضاء هذا اليوم. ولذا قال صاحب المغني (4/466). ولنا أنه أفطر بغير جماع فلم توجب الكفارة كبلع الحصاة والتراب أو كالردة عند مالك، ولأنه لا نص في إيجاب الكفارة بهذا ولا إجماع ولا يصح قياسه على الجماع لأن الحاجة إلى الزجر عنه  والحكم في التعدي به آكد، ولهذا يجب به الحدُّ إذا كان محرماً، ويختص بإفساد الحج دون سائر المحظورات ووجوب البدنة، ولأنه في الغالب يفسد صوم اثنين بخلاف غيره.

([45]) المناظرة الشرعية عرَّفها المؤلف رحمه الله في أول رسالته بأنها الخالية من لجاج الجدل ونضيف إلى ذلك بأننا نقول بأن المناظرة الشرعية لابد أن يكون مبناها على حسن القصد أي صلاح النية وذلك بأن لا يكون في نفس أحد المناظرين شيء من عرض الدنيا الزائل ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) رواه أبو داود برقم (3664)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار) رواه ابن ماجة وحسنه الألباني برقم (207). فلابد من المناظرة أن تكون خالصة لوجه الله.

ثانياً: أن تكون لبيان الحق مقروناً بالدليل الشرعي من كتاب أو سنة أو إجماع ونحوه.

ثالثاً: أن تكون خالية من السب والقدح والشتم وغيرها من الألفاظ التي لا تنبغي. لأنه الأصل أي الأصل صحة الصلاة  في الطائرة فمن قال بعدم الصحة فعليه الدليل كما سيوضحه المؤلف رحمه الله.

([46])  كما بينا ذلك سابقاً من أن قرائن المشاهدة دلت على أن الصلاة في الطائرة يقوم بها المصلي بجميع أركانها ولا يختل منها شيء.

([47]) هذا هو الصحيح فلا دليل من الأدلة المعتبرة على بطلان الصلاة في الطائرة بل لم يأت قول من الأئمة على عدم جواز الصلاة في الطائرة بخلاف ما جاء عن بعض المالكية القائلين بعدم الجواز كما ذكرنا ذلك سابقاً بناء على أمور سيذكرها المؤلف  إن شاء الله، وسيقوم بالرد عليها.

 

ونقول ثانياً إنا إذا أردنا تحقيق هذه المسألة المنطبق على جزئياتها أفرغناها في قالب الدليل العظيم المعروف عند الأصوليين بالسبر أي الاختبار والتقسيم([48]) وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل وعند الجدليين بالترديد والتقسيم فنقوِّم أوصاف الراكب في الطائرة التي يتوهم أنها سبب لبطلان صلاته فيها يحصرها التقسيم الصحيح([49]) في هذه الأقسام الخمسة:

الأول: أنها غير متصلة بالأرض([50]).

الثاني: أنها غير ساكنة([51]).

الثالث: أنها ترفعه عن مسامتة القبلة فيكون غير مستقبل والقبلة شرط في الصلاة([52]).

الرابع: عدم القدرة على إكمال الأركان لحركتها واضطرابها([53]).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([48]) السبر: هو نوع من مسالك العلة ومعناه كما ذكر المؤلف الاختبار وطريقة التعامل مع هذه القاعدة العظيمة هو حصر الأوصاف التي تكون في المحل وذلك من جميع الجهات، وهذا يعبر عنه بالتقسيم ثم يتم القيام بإبطال ما ليس صالحاً للتعليل بإحدى طرق الأبطال ثم يتعين الوصف الباقي وهو المعبر عنه بالسبر وهذا ما اتبعه الشيخ رحمه الله فقد بين الأمور التي من خلالها يتوهم بطلان الصلاة في الطائرة ثم قام ببيان بطلانها مما سيوضحه رحمه الله.

([49]) هذا هو المطلوب أي أنه ينبغي إذا تردد عند طالب العلم حكم ما بين الصحة وعدمها فإنه يحيط بهذا الشيء إحاطة تامة ثم يقوم بالرد عليه من خلال معرفته بطرق الاستدلال فهذه قاعدة عظيمة النفع أي قاعدة (السبر والتقسيم) كما ذكر ذلك المؤلف رحمه الله.

([50]) هذا التعليل فاسد الاعتبار لأن أرض المصلي هي موضع سجوده وركوعه وغير ذلك مما هو من تمام الصلاة أرأيت لو أن إنساناً صلى على سقف بيت ألم يكن قد صلى على الأرض وقد أجمع العلماء على صحة صلاة من صلى على السقف فلا حجة لمن  جعل هذا شرطاً من شروط بطلان الصلاة في الطائرة.

([51]) أما كونها غير ساكنة فمراد أهل العلم بالسكون هو سكون المصلي لا المصلى فيه إذ لو كان سكون المصلى فيه شرطاً لما صحت الصلاة في السفينة مثلا ولا الراحلة والسيارة وبإجماع أهل العلم على صحة الصلاة في السفينة وما ذكر مع أنها غير ساكنة في سيرها فتعين بطلان هذا الاستدلال كما سيذكره المؤلف.

([52])  معنى قولـه : (ترفعه عن مسامتة القبلة) أي مقابلة سمتها أي ذات بنائها وهذا الشرط الذي يتوهم بعدم صحة الصلاة في الطائرة أي اشتراط مسامتته للقبلة.

صلاة من كان على مكان مرتفع مثلا أعلى من القبلة وهذا لم يقل به أحد ولو قال أحد  بصحته لم تصح عندئذ صلاة من صلى في الدور الثاني والثالث من الحرم المكي أو صلى في الأدوار العليا من مسكنه وهذا لم يقل به عاقل فتبين فساد هذا التعليل. فعلى من كان بعيداً عن الكعبة أن يجتهد في جعل وجهه إلى جهة الكعبة ولا يلزمه الاجتهاد في مسامتتها كما ذكر ذلك المؤلف رحمه الله.

([53]) ذكرنا فيما سبق أن قرائن المشاهدة دلت على خلاف ما يتوهم القائلون بعدم صحة الصلاة في الطائرة من أن المصلي لا يمكنه الإتيان بأركانها وذلك لحركتها واضطرابها، بل كل من صلى فيها يقول بخلاف ما يتوهم المتوهمون من عدم إكمال الأركان وغيره كما ذكرنا ذلك سابقاً فالحاصل أن هذا التوهم مردود فلا يلتفت إليه.

 

الخامس: عدم معرفة جهة القبلة([54]) ولا وصف غير هذه الأوصاف الخمسة إلا الأوصاف الطردية التي لا أثر لها في الأحكام فإذا حققت هذا التقسيم فاعلم أن السبر الصحيح يدل على أن هذه الأقسام ليس واحد منها يبطل الصلاة([55]) أما كونها غير متصلة بالأرض فلا يبطل الصلاة لأن أرض المصلي هي موضع صلاته إذا كان يمكنه الركوع والسجود وسائر الأركان وقد أجمع جميع العلماء على صحة الصلاة فوق السقف مع أن موضع المصلي المماس لأعضائه منه غير متصل بالأرض([56])، وفي الدسوقي عند قول خليل ورفع قوم ما يسجد عليه ما نصه: وأما السجود غير المتصل بالأرض كسرير معلق فلا خلاف في عدم صحته كما مر أي والحال أنه غير واقف في ذلك السرير وإلا صحت كالصلاة في المحمل أ.هـ([57]) منه بلفظه فترى هذا العالم المحقق صرح بأنه لو قام في سرير معلق بين السماء والأرض فصلى فيه أن صلاته صحيحة([58]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([54]) لا شك أن استقبال القبلة شرط للصلاة ولكن هب أن رجلاً دخل وقت الصلاة عليه وهو في مكان بعيد عن موطنه، فهذا لا يخلو أمره من ثلاثة أمور:

الأول: إما أن يكون عالماً باتجاه القبلة وذلك من معرفته بجهة الشرق والغرب فعندئذ يمكنه تحديد القبلة مثلاً.

الثاني: إما أن يسأل عنها ولا شك أن أهل الخطوط الجوية عندهم خبرة بذلك وهو معروف لدى من ركب الطائرة.

الثالث: إما أن يكون غير عالم بجهة الشرق والغرب أي لا يعرف اتجاه القبلة وكذلك قبطان الطائرة لا يعرف فعليه أن يجتهد في تعيين القبلة ثم يصلي ولا حرج عليه.

فلا يمكنه بأي حال أن يؤخر الصلاة عن وقتها لعدم علمه باتجاه القبلة.

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (8/121) ما نصه:

إذا حان وقت الصلاة في الطائرة أو السفينة وجب على من فيها من المسلمين أن يصلي الصلاة الحاضرة على حسب حاله وقدرته فإن وجد ماء وجب عليه التطهر به وإن لم يجد ماء أو وجده وعجز عن استعماله يتيمم إن وجد تراباً أو نحوه، فإن لم يجد ماء ولا تراباً ولا ما يقوم مقام التراب سقط عنه ذلك وصلى على حسب حاله لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) وعليه أن يتوجه للقبلة ويدور مع الطائرة أين دارت في صلاة الفرض حسب الطاقة، أما النافلة فيصلي على جهة سير الطائرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر يصلي النافلة على راحلته حيث كان وجـــهه، ومما جـــاء عنهـــا أيضاً في فتـــوى رقـــم (1375) أما كونه يصلي أين توجهت المذكورات أم لابد من التوجه إلى القبلة دوماً واستمراراً أو ابتداء فقط فهذا يرجع إلى تمكنه فإذا كان يمكنه استقبال القبلة في جميع الصلاة وجب فعل ذلك لأنه شرط في صحة الصلاة الفريضة في السفر والحضر، وإذا كان لا يمكنه في جميعها فليتق الله ما استطاع.

([55]) بدء المؤلف رحمه الله في الرد على توهمات من قال بعدم صحة الصلاة في الطائرة.

([56])  بل إذا صلى على دابته بركوع وسجود وقيام ونحوه فصلاته صحيحة ولا شك أن الطائرة دابة. ففي شرح الصغير على أقرب المسالك لمذهب مالك (1/416) ما نصه: (ولا يصح فرض) إلخ: قال الشارح: محل البطلان إذا كان يصلي على الدابة بالإيـماء أو ركوع  وسجود وهو يقدر على القيام وأما لو صلى على الدابة قائماً بركوع وسجود مستقبلاً للقبلة أو عاجزاً عن القيام كانت صحيحة على المعتمد كما تقدم عن سند وكما يأتي في مسألة المريض.

([57]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/253).

([58]) والطائرة لا شك أنها تشبه ذلك تماماً لأنها محمل.

 

وأن المحذور هو ما لو صلى في الأرض وسجد على السرير المعلق لأنه يكون إيماء في الصلاة بلا عذر وهو مبطل لعدم السجود وهو ركن([59]) وأما كونها غير ساكنة فلا يبطل لإجماع العلماء على صحة الصلاة في سفينة الماء([60]) وهي تضطرب فوق جبال الموج فلو كانت الحركة مبطلة لبطلت في السفينة وأما كونها ترفعه عن مسامتة القبلة فلا يبطلها لإجماع العلماء أن من صلى فوق أبي قبيس([61])  فصلاته صحيحة وهو مرتفع عن مسامتة الكعبة ارتفاعاً كثيراً([62]) بيناً مع أن جماهير العلماء على أن الغائب عن مكة يجعل وجهه إلى جهة الكعبة ولا يلزمه الاجتهاد في مسامتتها([63]) كمــ:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ــا دل عليه قولـه ([64]) والـمراد بالشطر الجهة ومنه قول الشاعر:

أقـول لأم ذنبـاع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم

أي جهتهم قال في المختصر وإلا فالأظهر جهتها اجتهاداً([65])

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([59])  قال في الشرح الصغير على أقرب المسالك لمذهب مالك  (1/434) قولـه (سجود): عرفه بعضهم بأنه مس الأرض أو ما اتصل بها من ثابت بالجبهة) أ. هـ واحترز بقولـه: أو ما اتصل بها من نحو السرير المعلق في جبل مثلاً. وبقوله (من ثابت) عن الفراش المنفـوش جداً ودخل في الثابت السرير من خشب مثلا لا من شريط. نعم أجازه بعضهم للمريض. وظاهر قوله: أو ما اتصل بها وإن علا عن سطح ركبتيه فيشمل السجود على المفتاح والسبحة ولو اتصلت به والمحفظة ولكن الأكمل خلافه هذا هو الأظهر إلى أن قال: وحده الشافعي بارتفاع الأسافل وانحدار الأعالي قالوا ولابد من التحامل وهو أن يأتي رأسه على ما سجد عليه حتى لا يعد حاملا لها فلا يكفي الإمساس بمجرد الملاصقة وليس معنى التحامل شد الجبهة على الأرض حتى يؤثر فيها كما يفعله الجهلة (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) الخشوع والخضوع

([60]) للحديث المتقدم بل الناظر للطائرة يجدها أنها أسكن في حركتها من السفينة وذلك لكثرة تلاطم السفينة بالأمواج.

([61]) جبل أبي قبيس.

([62]) قال في الشرح الصغير (1/407). من في حكمها من يمكنه المسامتة كما في جبل أبي قبيس فيستقبلها بجميع بدنه حتى لو خرج منه عضو لم تصح صلاته.

([63]) كما ذكرنا ذلك سابقاً قال في الشرح الصغير (1/409) والحاصل أن من بعد عن مكة لم يقل أحد أن الله أوجب عليه مقابلة الكعبة لأن في ذلك تكليفاً بما لا يطاق وإنما في المسألة قولان الأول لابن رشد يجتهد في الجهة وهو الذي مشى عليه المصنف.

والثاني يجتهد في استقبال السمت والمراد أن يقدر المقابلة والمحاذاة وإن لم يكن في الواقع كذلك وهو مذهب الشافعي.

([64]) سورة البقرة، الآية: (150).

([65])  حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/224).

وقوله في حاشية الدسوقي: وإلا فالأظهر جهتها اجتهاداً. أي يستقبل الجهة بالاجتهاد وهذا هو الأظهر عنده وعند ابن رشد فلا يشترط سمتها بخلاف اشتراط ابن القصار لـه فعنده يقدر للمصلي المقابلة والمحاذاة لها وهذا لا شك تكليف بما لا يطاق فالصحيح ما ذهب إليه الدسوقي وغيره من عدم اشتراط المسامتة.

 

وإذا كانت الجهة كافية فمن في الطائرة مستقبل للجهة بلا شك وأما عدم القدرة على الإتيان بالأركان منتفٍ بل أهلها قادرون على جميع أركان الصلاة وقد صلينا فيها مراراً نسجد ونركع ونقوم ونجلس ونطمئن من غير تعسر شيء من ذلك([66]) وأما معرفة القبلة فهي متيسرة لشدة علم أهلها بالخطوط الجوية([67]) فظهر بالتقسيم الصحيح عدم بطلان الصلاة فيها([68]) وقد تقرر في علم الأصول في مبحث السبر والتقسيم أن السبر والتقسيم إذا كانا قطعيين فالحكم قطعي وإذا كانا ظنيين فالحكم ظني([69]) كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله:

وهو قطعي إذا ما نـميا للقطع والظن سواه وعيا([70])

ولا يمكن أحد أن يزيد وصفاً غير الأوصاف التي بينا إلا وصفاً طردياً لا أثر لـه في الحكم وإبداء المعترض وصفاً زائداً على أوصاف المستدل بالسبر بتأثير ذلك الوصف الزائد كما هو مقرر في الأصول وأشار له صاحب مراقي السعود بقوله:

إن يبد وصف زائد معترض  **   وفي له دون البيان الغرض([71])

والشاهد منه في قولـه دون البيان أي أما مع البيان فلا يقدح الوصف الزائد في سبر المستدل هذا ما ظهر والعلم عند الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([66]) وعلى ذلك توهم البعض من أنه لا يمكن للمصلي أن يقوم بتأدية أركان الصلاة على الوجه الذي جاءت به نصوص الشرع مدفوع بقرائن المشاهدة كما وضحنا ذلك سابقاً.

([67]) تقدم الكلام على ذلك.

([68]) وعلى ذلك فمن أخر الصلاة في الطائرة عن وقتها فإنه يأثم بذلك لعدم صحة قول من يقول بعدم جواز الصلاة في الطائرة.

([69])  قال العلامة الشنقيطي في رسالته مذكرة أصول الفقه: (ص259).

تنبيهان:

الأول: اعلم أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم ينقسم عند الأصوليين إلى قطعي وظني، فالقطعي هو ما كان فيه حصر الأوصاف وإبطال الباطل منها قطعيين، والظني منه ما هو إذا كانا ظنيين أو أحدهما ظنياً.

الثاني: اعلم أن المعترض إذا أبدى وصفاً زائداً على الأوصاف التي حصرها المستدل بأن السبر يبطل لبطلان أحد ركنيه وهو الحصر ومـحل هذا مالم يبين المستدل أن الوصف الزائد الذي أبداه المعترض طردي لا دخل له في التعليل فإنه يكون وجوده وعدمه سواء فيستقيم حصر المستدل بالسبر ولا يبطل دليله.

([70]) متن مراقي السعود (ص129) وفتح الودود في شرح مراقي السعود ص292.

([71]) متن مراقي السعود (ص129) فتح الودود ص293 قال في فتح الودود عند شرحه لهذا البيت.

والمعنى أن المعترض إذا أبدى وصفاً زائداً على العدد الذي ذكر المستدل أن أوصاف محل الحكم منحصرة فيه وفي أي حصل بإبدائه لذلك الوصف الزائد الغرض أي غرض المعترض وهو ثبوت الاعتراض ولا يكلف ببيان صلاحية ما أبداه للتعليل. انتهى.

وبناء على ذلك إذا جاء المعترض أي القائل بعدم جواز الصلاة في الطائرة بتوهمات أخرى غير ما ذكر نظر إليها هل هي واضحة البيان في الاستدلال بها أم هي أوصاف طردية فإن كانت أوصافاً طردية لا علاقة لها بالحكم ولا يلتفت إليها وإن كانت أوصافاً واضحة الدلالة فلابد من إثبات الردود عليها لإبطالها والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

بعض الـمسائل الـمتعلقة

بركوب الطائرة في

الصلاة  ـ الصوم ـ الحج

 

 المسألة الأولى: في كيفية الصلاة بالطائرة.

إذا ثبتت صحة الصلاة في الطائرة فما هي كيفية الصلاة فيها؟

أقول: مما لا شك فيه أنه إذا صلى الإنسان في الطائرة ونحوها فإن الواجب عليه أن يصلي قائماً ويركع ويسجد إن استطاع ذلك فإن ذلك لازم في حقه في الفريضة وإن لم يستطع صلى على حسب حاله وأتى بما يقدر عليه من ذلك. فإذا كان مثلاً يستطيع أن يجلس لكن لا يستطيع أن يسجد فعليه أن يجلس وأن يوميء بالسجود لقولـه تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وإن كان يمكنه القيام فإنه يصلي في مكانه قائماً بدون اعتماد على شيء وإلا يمسك بالكرسي الذي أمامه لكن يوميء بالركوع قدر ما يمكن.

والخلاصة في ذلك أنه إن كان يستطيع أن يصلي بقيام وبركوع تامين فهذا واجب في حقه.

وإن لم يمكنه ذلك أومأ بالركوع قائماً وأومأ بالسجود جالساً.

المسألة الثانية: في حكم صلاة الجماعة في الطائرة.

هل تصلي الفريضة جماعة أم فرادى؟

لا شك في وجوب صلاة الجماعة في الحضر والسفر للأدلة من الكتاب والسُنة الواردة في ذلك فالسفر ليس عذراً لترك الجماعة في الصلاة ولكن المسافر في الطائرة له أحوال.

الأولى : أن يكون بجانبه أي في الكرسي الذي بجانبه مسلم يريد الصلاة فهنا تجب في حقهم صلاة الجماعة بالصفة التي بيناها سابقاً.

الثـانية : أن يكون بينه وبين من يريد الصلاة أماكن بعيدة فإن أمكنهم الاجتماع لزمتهم الجماعة وإلا فلا لكونهم من أهل الأعذار في تركها ولقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.

المسألة الثالثة: هل تجوز الصلاة بالطائرة جالساً مع القدرة على الوقوف خجلاً؟

الجواب:  لا يجوز أن يصلي قاعداً في الطائرة ولا غيرها إذا كان يقـدر على القيام لعموم قولـه تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، وحديث عمران بن حصين المخرج في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـه (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) زاد النسائي بإسناد صحيح (فإن لم تستطع فمستلقيا)([72]).

المسألة الرابعة: المسافر بالطائرة هل يجوز لـه أن يصلي في الوقت أم يجوز تأخيرها إلى ما بعد الوقت؟

الجواب: إذا كان المسافر بالطائرة تبدأ رحلته بعد دخول وقت الظهر مثلاً أو بعد المغرب فإنه يجمع بين الظهر والعصر أو المغرب والعشاء جمع تقديم قبل الركوب. وإن كانت الرحلة تبدأ قبل دخول وقت الصلاة الأولى أي قبل دخول صلاة الظهر أو المغرب فإنه ينوي جمع التأخير ويصليها إذا نزل ولو كان نزولـه في آخر وقت الصلاة الثانية أي العصر أو العشاء وأما إن كانت الرحلة تستمر إلى ما بعد خروج وقت الصلاة الثانية فإن الواجب عليه عندئذ الصلاة في الطائرة في المكان المناسب على حسب حاله.

المسألة الخامسة: إذا كان أمام الـمصلي امرأة فما الحكم؟

نقول:  المرأة لها حالتان في هذه المسألة:

الأولى: أن تمر بين يدي المصلي فهل تبطل، محل خلاف بين أهل العلم والصواب أنها لا تبطل الصلاة وإنـما ينقص أجرها.

الثانية: أن تكون جالسة أي غير مارة بين يديه وإنما جالسة على الكرسي الذي أمامه فهنا لا بأس بذلك والصلاة صحيحة.

المسألة السادسة: في مسافة القصر والجمع داخل الـمطارات للمسافر والعائد.

هذه المسألة لها حالتان:

الأولى: أن تكون المطارات داخل المدينة كمطار الرياض القديم ومطار المدينة النبوية فهنا يجب على قاصد السفر إذا كان من نفس البلد إتمام الصلاة لكونه لم يخرج من بلده.

الثانية: أن تكون المطارات خارج المدينة كمطار الملك خالد الدولي بالرياض ومطار القصيم مثلاً فهنا للمسافر القصر والجمع لأنه باشر السفر حتى ولو كان من نفس البلد.

المسألة السابعة: في اقتداء الـمقيم بالـمسافر والعكس:

إذا كان الإمام مسافراً والمأموم مقيماً فهنا يجب في حقه الإتمام.

أما إذا كان الإمام مقيماً والمسافر مؤتماً أتم المسافر.

لقولـه صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به) رواه البخاري ومسلم.

ولأن ابن عباس رضي الله عنهما حينما سُئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين ومع الإمام أربعاً فقال تلك هي السُنة. رواه أحمد وصححه الألباني.

أما إذا ائتم بمن يشك فيه هل هو مسافر أم مقيم فهنا إن كان الإمام بعلامة ظاهرة تدل على كونه مقيماً صلى أربعاً.

مثال ذلك: رأى الإمام كونه شرطياً مثلاً فالغالب أنه مقيم فهنا ينوي الصلاة أربعاً. وإن كان يبدو عليه علامة السفر كأن يكون معه حقيبة مثلاً فهنا ينويها اثنتين.

أما إن شك ولم يتبين لـه فإنه ينوي أربعاً لأن من شرط القصر أن ينويه بنية جازمة لا مع التردد.

المسألة الثامنة: في حكم الصيام في السفر:

جاءت نصوص الكتاب والسُنة في إباحة الفطر للمسافر ووجوب القضاء بقدر الأيام التي أفطرها. ولكن هل الأفضل الصيام أو الفطر في السفر وإذا غلب على ظنه أن سفره بالطائرة ليس فيه مشقة فما هو الأفضل في حقه.

نقول: (الأفضل للمسافر فعل الأسهل عليه من الصيام أو الفطر فإن تساويا فالصوم أفضل لأنه أسرع في إبراء ذمته وأنشط له إذا صام مع الناس ويدرك فضيلة الزمن وكذلك إذا غلب على ظنه أن سفره بالطائرة ليس فيه مشقة عليه فالأولى في حقه الصيام لما ذكرناه أما كون البعض يلزمون الناس بالصيام إذا سافروا بالطائرة لأن علة جواز الفطر منعدمة فهذا غير صحيح لأن العلة هنا هي السفر فما دام كونه مسافراً فيباح له الفطر([73]).

المسألة التاسعة: راكب الطائرة متى يفطر؟

الصائم إذا كان في الطائرة واطلع بواسطة الساعة وبالتليفون على إفطار البلد القريب منه فهل لـه الإفطار؟ علماً بأنه يرى الشمس بسبب ارتفاع الطائرة أم لا؟ ثم كيف الحكم إذا أفطر بالبلد ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس؟

إذا كان الصائم في الطائرة واطلع بواسطة الساعة والتليفون على افطار البلد القريبة منه وهو يرى الشمس بسبب ارتفاع الطائرة فليس لـه أن يفطر لأن الله تعالى قال:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، وهذه الغاية لم تتحقق في حقه ما دام يرى الشمس.

أما إذا أفطر بالبلد بعد انتهاء السفر في حقه فأقلعت الطائرة ثم رأى الشمس فإنه يستمر مفطراً لأن حكمه حكم البلد التي أقلع منها وقد انتهى النهار وهو فيها([74]).

ما هو وقت الإفطار في رمضان أثناء الطيران؟ إذا كان الشخص بالطائرة في نهار رمضان وهو صائم ويريد الاستمرار بصيامه إلى الليل فإنه لا يجوز أن يفطر إلا عند غروب الشمس بالنسبة للركاب([75]).

المسألة العاشرة: في الإحرام بالطائرة:

من أراد الحج والعمرة بالطائرة فالمشروع في حقه الاغتسال والتطيب ولبس ملابس الإحرام في الطائرة إذا لم يكن في ذلك مشقة عليه أما إذا كان فيه مشقة فله أن يغتسل في بيته ويلبس الإزار والرداء إن شاء حتى إذا بقي على الميقات شيء قليل أحرم بما يريد من حج أو عمرة وليس في ذلك مشقة وإذا كان لا يعرف الميقات فالواجب عليه أن يسأل قائد الطائرة أو أحد مساعديه أو المضيفين الـمهم أنه يسأل، أما التساهل الذي نراه ونسمع عنه من بعض المسافرين من عدم عقد نية الإحرام وتأخيرها عن الميقات المحدد لهم فهذا كله لا يجوز فالذي ينبغي عليهم كما ذكرنا الاستعداد للإحرام من بلدهم ولبس ثياب الإحرام قبل صعود الطائرة أو بعده مباشرة ثم يأتي بالنية قبل الميقات لأن هذا هو الأحوط في حقهم هذا عند عدم المعرفة بالميقات أما إذا كان معروفاً لديهم أو ينبه إليه من قبل قائد الطائرة فإن المشروع في حقه نية الإحرام عند محاذاة الميقات كما ذكرنا ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([72]) فتاوى اللجنة الدائمة (8/126).

([73]) انظر كتاب المؤلف الصيام ص 84 – 87.

([74]) فتاوى اللجنة الدائمة (10/136 – 137).

([75])  المرجع السابق (10/137).

 

فهرس الموضوعات

الموضوع الصفحة
المقدمة
ترجمة مؤلف الرسالة
اسمه ونسبه
مولده ونشأته
طلبه للعلم     
شيوخه
أعماله ومناصبه
تلاميذه  
وفاته
موضوع الرسالة
سبب تأليف الرسالة
كلامه على دلالة الاقتران
جواز ركوب الطائرة
دليل الكتاب والسنة في ذلك
صحة الصلاة في السفينة
نفي الفارق بين الطائرة والسفينة
المسألة المنطوق بها والمسكوت عنها
معنى تنقيح المناط
ذكر أمثلـة من الكتاب والسُنة في بيان المسكوت عنه والمنطوق به
قول أبي حنيفة في القياس
من أدعى بطـــلان الصلاة في الطائرة عليه الاتيان بدليل البطلان
دليل السبر والتقسيم
توهمات من قال ببطلان الصلاة في الطائرة      
الإجابة على هذه التوهمات
كونها غير متصلة بالأرض والإجابة على ذلك
ذكر كلام الدسوقي
كونها غير ساكنة والإجابة عليه
كونها ترفعه عن غير مسامتة القبلة والإجابة على ذلك
الاجتهاد في اتجاه القبلة دون الاجتهاد إلى مسامتتها
توهم عــــدم القـــدرة على الاتيان بالأركان والإجابة على ذلك
توهم عدم معرفة القبلة والإجابة على ذلك
بعض الـمسائل الـمتعلقة بركوب الطائرة
المسألة الأولى: في كيفية الصلاة فيها
المسألة الثانية: في حكم صلاة الجماعة فيها
المسألة الثالثة: هل تجوز الصلاة بالطائرة جالساً مع القدرة على الوقوف خجلاً 
المسألة الرابعة: المسافر بالطائرة هل يجوز لـه أن يصلي في الوقت أم يجوز تأخيرها إلى ما بعد الوقت
المسألة الخامسة: إذا كان أمام المصلي امرأة فما الحكم
المسألة السادسة: في مسافة القصر والجمع داخل المطارات للمسافر والعائد
المسألة السابعة: في اقتداء المقيم بالمسافر والعكس
المسألة الثامنة: في حكم الصيام في السفر
المسألة التاسعة: راكب الطائرة متى يفطر؟
المسألة العاشرة: في الإحرام بالطائرة
فهرس الرسالة