وأفوض أمري إلى الله – خطبة الجمعة 4- 3- 1441هـ
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالنا منْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عبادَ الله: إنَّ تفويض الأمرِ للهِ جلَّ وعَلا صفةٌ عظيمةٌ من صفاتِ أهلِ الإيمانِ، ودليلٌ على قوةِ اليقينِ وحُسنِ الظنِّ بالواحدِ الديانِ، وهو روحُ التوكلِ ولبّهُ وحقيقتهُ، وهو إلقاءُ العبدِ أمورَه كلَّها إلى اللهِ، وإنزالُها به طلباً واختياراً، لا كُرْهاً واضطراراً.
والمتأملُ في قصةِ مؤمنِ آلِ فرعونَ معَ قومِهِ لمّا دعاهمْ إلى طاعةِ موسَى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والاستجابةِ لدعوتِهِ، ولمْ يلْقَ منهمْ سِوى الاستكبارِ والإعراضِ، بلْ وتعدَّى الأمرُ إلى تخويفِهِ وإيذائِهِ، فمَا كانَ منهُ إلّا أنَّهُ قالَ مستسلمًا لقضاءِ اللهِ وقدرِهِ، بعدَ أنْ أدّى مَا عليهِ طلبًا لهدايةِ قومِهِ:{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}[غافر: 44، 45].
قال السعديُّ رحمهُ اللهُ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ}، أيْ: ألجأُ إليهِ وأعتصمُ، وأُلقِي أمورِي كلِّها لديهِ، وأتوكَّلُ عليهِ في مصالِحِي ودفعِ الضررِ الذي يصيبُني منكم أوْ مِنْ غيرِكُم. {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} يعلمُ أحوالَهم ومَا يستحقونَ، يعلمُ حالِي وضعفِي فيمنعُني منكمْ ويكفيني شرَّكم، ويعلمُ أحوالَكم فَلا تتصرفونَ إلّا بإرادتِهِ ومشيئتِهِ فإنْ سلَّطَكُمْ عَلَيَّ، فبحكمةٍ منهُ تعالى، وعن إرادتِهِ ومشيئتِهِ صدَرَ ذلِكَ.
عبادَ اللهِ: والمؤمنُ عندمَا يقولُ هذا الدعاءَ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ}، يخرجُ منْ حولِهِ وقوَّتِهِ، إلى حولِ ربِّهِ وقوَّتِهِ، فيكفيهِ اللهُ تعالى شرَّ مَنْ ظَلَمَهُ، وَيَأْخُذُ لَهُ حقَّهُ مِنْهُ، ويجعلُ لهُ مِنْ أَمْرِهِ فَرَجًا ومخرجًا. ومَا أجملَ أنْ يجعلهَا المسلمُ سجيتَهُ، وأنْ يلجأَ إلى ربِّهِ، ويسأَلَهُ مَا شَاءَ مِنْ أُمُورِ دينِهِ ودُنْيَاهُ، ويَطْلُبَ إِعَانَتَهُ وتَوْفِيقَهُ، وأنْ يُفَوِّضَ أَمْرَهُ لَهُ. وَالْأَجْمَلُ منْ ذلكَ أنْ يستسلمَ العبدُ ظاهرًا وباطنًا إلى مولاهُ وخالقِهِ، ويقفُ بينَ يديهِ وقفةَ العبدِ الضعيفِ المنكسرِ، ويوكِّلَه في تدبيرِ جميعِ شؤونِهِ، ويرضى بقضائِهِ وقدرِهِ.
عبادَ اللهِ: لقدْ ذكرَ اللهُ جلَّ وعَلا موقفَ المسلمينَ في سورةِ الأحزابِ عندمَا اجتمعَ المشركونَ واليهودُ والمنافقونَ عليهمْ منْ أجلِ القضاءِ على الإسلامِ وأهلِهِ، فقالَ جَلَّ وعَلا:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
قال الطبريُّ رحمهُ اللهُ في تفسيرِهِ: ولمَّا عاينَ المؤمنونَ باللهِ ورسولِهِ جماعاتِ الكفّارِ قالُوا -تسليمًا منهمْ لأمرِ اللهِ، وإيقانًا منهمْ بأنَّ ذلكَ إنجازُ وعدِهِ لهمْ، الذي وعدهُمْ بقولهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب}[البقرة:214]، {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب:22]، فأحسنَ اللهُ الثناءَ عليهمْ بذلكَ من يقينِهِمْ، وتسليمِهِمْ لأمرِهِ، فقالَ: ومَا زادَهُم اجتماعُ الأحزابِ عليهمْ إلّا إيمانًا باللهِ وتسليمًا لقضائِهِ وأمرِهِ، ورَزَقَهُمْ بهِ النَّصرَ والظَّفرَ على الأعداءِ.
عبادَ اللهِ: وهكَذا فعلتْ هاجرُ زوجُ إبراهيمَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا تركَهَا وابنَهَا في فلاةِ مكةَ، وولَّى ظهرَهُ عنهمَا وتركهمَا في هذا المكانِ القفرِ، لا بشرَ ولا ماءَ ولا زرعَ حيثُ قامتْ إليهِ مخاطبةً لهُ: يَا إبراهيمُ: أينَ تذهبُ وتدعُنَا هَا هُنَا، وليسَ معنَا مَا يكفينَا؟!، فلمْ يُجِبْهَا إبراهيمُ، فقالتْ لَهُ: آللهُ أمرَكَ بِهَذَا؟، قَالَ: نَعَم، قالتْ: إذنْ لَا يُضَيِّعُنَا اللهُ، وهكَذا فوَّضَتْ أمرَهَا للهِ، فجعلَ لهَا ولابنِهَا منْ كلِّ ضيقٍ فرجًا ومخرجًا.
وكانَ نبيُّنَا صلّى اللهُ عليهِ و سلّمَ أكثرَ الناسِ وأصدَقهمْ في تفويضِ أمرِهِ إلى اللهِ، بلْ إنَّ ذلكَ كانَ مِنْ سجيَّتِهِ وخُلقِهِ، وكانَ دائمًا يُكْثِرُ مِنْ دُعَاءِ ربِّهِ ومولَاهُ:(اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِى إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ)(رواه البخاري ومسلم).
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم}[آل عمران:173، 174].
بَاركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلّى اللهُ عليهِ وعلَى آلهِ وصحبهِ أجمعينَ. أمَّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أيُّهَا المؤمنونَ، واعلموا أنَّ تفويضَ الأمرِ للرّبِّ جلَّ وعَلا وحُسنَ التَّوكلِ عليهِ في جميعِ الأمورِ مندوحةٌ عظيمةٌ لمنْ كانَ في قلبِهِ إيمانٌ ويقينٌ، فهوَ سبحانَهُ الأعلمُ بحالِ عبدِهِ وحاجتِهِ، ومَا ينفعُهُ وما يضرُّهُ، وعلى قدرِ تعلِّقِ قلبِ العبدِ بربِّهِ وحُسنِ ظنِّهِ بهِ ينالُ الخيرَ كلَّهُ، فعنْ أبى هريرةَ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بيَّ وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي)(رواه مسلم). واعلمُوا عبادَ اللهِ أنَّ أكثرَ مشاكلِنَا في حياتِنَا لا تُحَلُّ إلا بتفويضِ الأمرِ للهِ والتَّسليمِ لحكمهِ، وعدمِ الاعتمادِ على ذكائِنَا القاصرِ وآرائِنا الضعيفةِ في حلِّها، بلْ إنَّ الواجبَ علينَا أنْ نرضَى بقضائِهِ، وأنْ نصبرَ على بلائِهِ، وأنْ نشكرَهُ على نعمائِهِ، وأنْ نفوِّضَ إليهِ أمرَنَا، ونثقُ بمَا عندَهُ، ونتَّهِمُ مَا عِنْدَنَا.
عبادَ اللهِ: إنَّ تفويضِ الأمرِ للهِ تعالَى، ليسَ عجزًا مِنَ العبدِ، ولا ضعفًا ولا وهنًا، إنَّما هوَ دليلٌ على قوةِ يقينِهِ وحسنِ ظنِّهِ بربِّهِ جلَّ جلالُهُ، وهوَ أمرٌ مطلوبٌ في جميعِ أمورِ حياتِهِ الدينيةِ والدنيويةِ. أسألُ اللهَ تعالَى أنْ يُعَلِّقَ قلوبنَا بِهِ، وأنْ يُعِيننَا عَلى تفويضِ أمورِنَا إليهِ، وأنْ يكتبَ لنَا ولكم الخيرَ حيثمَا كُنَّا.
هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمدِ بن عبدِ اللهِ فقد أَمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:٥٦].
الجمعة: 4-3 – 1440هـ