أحوال بعض الأنام مع إجازة نصف العام – خطبة الجمعة 1-5-1441هـ

الأحد 3 جمادى الأولى 1441هـ 29-12-2019م

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي جَعَلَ عمرَ الإنسانِ زاداً للتقربِ إليهِ بالأعمالِ الصالحاتِ، ولَحظاتِ حياتِه عونًا لهُ للتزودِ لدارِ الخلدِ والبقاءِ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ جَعَلَ الدنيا دارَ عملٍ، وجَعَلَ الآخرةَ دارَ الجزاءِ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ القائلُ في سنتِه: (لا تَزولُ قدمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن خمسٍ: عنْ عُمُرهِ فيمَا أفناهُ، وعنْ شبابِه فيمَا أبلاه، ومالِه من أينَ إكْتَسبَه وفيما أنْفَقَه، وماذا عَمِلَ فيمَا عَلِمْ) صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:

فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ فهي وصيتُهُ جلَّ وعلا لعبادِه المؤمنين:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون](آل عمران:102).

عبادَ اللهِ: المسلمُ يُدركُ حقًّا أنَّ عُمرَهُ في هذِه الدنيا هو رأسُ مالِه الذي يتزوَّدُ منه للدارِ الآخرةِ، وأنَّ هذهِ الدنيا دارُ تكليفٍ وعملٍ وعبورٍ، وليستْ دارُ تشريفٍ وكسلٍ ومُقَامٍ، وصَدَقَ اللهُ العظيمُ:[كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور](آل عمران:185). فمن استغلَ عُمَرَهُ فيما ينفُعه ويقرِّبُه إلى مرضاتِ ربِّهِ فازَ بِرِضَا اللهِ تَعالى ودُخولِ جناتِ النعيمِ، وأما من فرّط وضيّع وسوَّف ونسيَ لقاءَ ربِّهِ، فيتحسرَّ وينَدمُ ويخسرُ الدنيا والآخرةَ، وذلكَ هو الخسرانُ المبينُ.

يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: السَّنةُ شجرةٌ؛ والشهورُ فروعُها؛ والأيامُ أغصانُها؛ والساعاتُ أوراقُهَا؛ والأنفاسُ ثمارُها؛ فَمَنْ كانتْ أنفاسُه في طاعةٍ فثمرةُ شجرتِه طيِّبةٌ، ومَنْ كانتْ في معصيةٍ فثمرتُهُ حَنْظلٌ، وإنَّما يكونُ الجذاذُ يومَ المعادِ، فَعنْد الجذاذِ يَتبيَّن حُلوُ الثمارِ من مُرِّها. انتهى كلامه رحمه الله (الفوائد 164).

عبادَ اللهِ: ونحنُ على أبَوابِ إجازةِ نصفِ العامِ، ومع قُربِ انتهاءِ الاختباراتِ، يَبدأُ الجميعُ في ترتيبِ أوراقهِم من أجلِ الاستمتاعِ بهذهِ الإجازِة القصيرةِ، والترفيهِ عن النفسِ والأولادِ، وذلك يجعلهمْ يَتمتَّعونَ ويأنسونَ، ويخرجونَ عن ضغْطِ الدراسةِ والمذاكرةِ والاختباراتِ؛ والناسُ في ذلكَ ينقسمونَ إلى قسمين:

الأول: مَنْ ينوي السفرَ من أجلِ أداءِ العمرةِ، وزيارةِ مسجدِ الرسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلم بالمدينةِ المنورةِ والصلاةِ فيه، أو السفرَ لبعضِ الأماكنِ الجميلةِ والخلَّابةِ في بلادِنَا، أو السفرَ لزيارةِ أقاربهِ وصلةِ أرحامِه.

أو الخروجَ إلى البرِّيَّة للاستمتاعِ بأجوائِها الجميلةِ، وهوائِها النقيِّ.

أو الجلوس في بيتِه مع أسرتِه لظروفِ عملِه، ويَضعُ برنامجًا مفيدًا لأسرتِه يتخلَّلُه الخروجُ للمتنزهاتِ، والقيامُ ببعضِ الرحلاتِ البرِّيِّةِ القريبةِ، وعملُ المسابقاتِ ووضعُ الجوائزِ التشجيعيةِ عليها، ومن الناسِ من ينوي الاستفادةَ من وقتِه في حضورِ مجالسِ العلمِ، وقراءةِ القرآنِ وحفظه، أو بذلَ وقتهِ ومالِه، للسعي في قضاءِ حوائجِ المسلمين.

أو استغلالَ وقتهِ في ممارسةِ بعضِ الأعمالِ المفيدةِ، كَتَعلمِ مهنةٍ، أو ممارسةِ بعضِ الألعابِ الرياضةِ، ومن الناسِ من يجمعُ بعضَ ذلكَ أو كُلَّه، وهذاُ من توفيقِ اللهِ لبعضِ عبادِه، والجميعُ على أجرٍ وخيرٍ بالنيةِ الصالحةِ الطيبةِ.

وأمَّا القسمُ الآخرُ: فهمْ الذين لا يهتمّونَ إلا بأنفسِهم وشهواتِهم، فيسافرونَ ويمرحونَ في كلِّ جهةٍ سواءٌ كانتْ قريبةً أمْ بعيدةً، ويتْركُونَ أهلهم وأولادهم، ويحمِّلونَ مسؤوليةَ البيتِ للنساءِ، وربَّما سَافَروا إلى أماكنَ لا ترضي اللهَ تعالى. ومنهم مَنْ يَسهرُ أكثرَ الليلِ، وينامُ أغلبَ النَّهارِ، فَيضيِّعُ حقَّ اللهِ منْ الصلواتِ المفروضةِ، وحقَّ الأهلِ والعيالِ. ومنهم منْ يُضيِّعُ غَالبَ وقتِه في الجلوسِ أمامَ شاشاتِ الجوالاتِ وأجهزةِ الألعابِ، والقنواتِ الفضائيةِ. ومنهم منْ يجمعُ ذلكَ كلَّهُ؛ فيخسرُ عُمرَهُ، ووَقتَه، وفراغَه في غيرِ منفعةٍ دينيةٍ أو دنيويةٍ.

عبادَ اللهِ: علينا أَنْ نَستفيدَ من هذهِ الإجازةِ، وأَنْ نستغلَّها في الطاعةِ والعبادةِ، وأَنْ نملأَها خيرًا؛ فهي نعمةٌ عظيمةٌ منْ نعمِ اللهِ تعالى علينَا، قال صلى اللهُ عليهِ وسلمَ (نعمتانِ مغبونٌ فيهمَا كثيرٌ منْ النَّاسِ: الصحةُ والفراغُ)(رواه البخاري). وقد أَمرَ اللهُ جلَّ جلاله نبيِّنا محمداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم استغلالِ الفراغِ، قالَ تعالى:[فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ](الشرح: 7، 8]).

وقال صلى اللهُ عليه وسلم:(اغتنمْ خمساً قبلَ خمسٍ)، وذكرَ منهَا:(وفراغَكَ قبلَ شُغلِكَ) (رواه أحمد وغيره). قال بَكْرُ المزنيُّ: “ما مرَّ يومٌ أخرجهُ اللهُ تعالى إلى أهلِ الدنيا إلا يُنـادي: ابنَ آدم! اغتنمنِي، لعلَّهُ لا يومَ لكَ بعدي.. ولا ليلةً إلا تُنادِي: ابنَ آدمَ اغتنمْني، لعلَّه لا ليلةَ لكَ بعدي”.

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور](المُلك:1، 2).

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكمْ بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمد صلى الله عليه وآلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعدُ:

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهَ: واعلموا أنّ السلفَ رحمهم اللهُ كانوا حريصينَ على الاهتمامِ بعمارةِ أوقاتِهم بما ينفعُ.

فهذا ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه يقولُ: ما ندِمتْ على شيءٍ نَدَمِي على يومٍ غربتْ شمسُه، نَقَصَ فيه أجلي، ولم يزددْ فيه عَمَلي” واعجباه!

وقال أبو الدرداء رضي اللهُ عنه: ابنْ آدم! إنَّما أنتَ أيامٌ، فكلَّما ذهبَ يومٌ ذهَبَ بعضُك.

وقال يحي بنُ معاذ: الليلُ طويلٌ فلا تقصّرهُ بمنامِك، والنهارُ نقيٌّ فلا تُدَنِّسهُ بآثامِك. وقال بعضُ السلفِ: كيفَ يفرحُ بالدُّنيا مَنْ يومُه يَهدمُ شهرُه، وشهرُه يَهدمُ سنتَه، وسَنتُه تهدمُ عمرَهُ. كيفَ يفرحُ من يقودُه عمرُه إلى أجلِه، وتقودُه حياتُه إلى موتِه. وقال الحسنُ: أدركتُ أقواماً كان أحدُهم أشحَّ على عمرهِ منه على درهمِهِ. نداءُ الليالي والأيامِ.

وعن مالكِ بن دينارٍ: إنَّ هذا الليلَ والنهارَ خزانتانِ، فانظروا ما تضعونَ فيهما.

وكانَ يقولُ: اعْملُوا لِلِّيلِ لما خُلقَ له، واعْملُوا لِلنَّهارِ لما خُلقَ له.

ونصيحتي لأولياءِ الأمورِ بالحرصِ على أولادِهم من الفراغِ، والصحبةِ السيئةِ، فهما من أخطرِ ما يكونُ عليهم، وكذلكَ عدمُ تركهِم فريسةً للأجهزةِ الذَّكيةِ لفتراتٍ طويلةٍ، فهي تدمِّرُ العقلَ وتُضْعِفُه، وتؤثِّرُ على الجسمِ وتوهنُه، وتضيِّعُ العمرَ وتُهلكهُ. فانتبهوا باركَ اللهُ فيكمْ، وكُونُوا أشدَّ حرصًا على أوقاتِكم أكثرَ من حرصِكمْ على أموالِكم.

هذا وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى فقدْ أمركم اللهُ بذلكَ فقالَ جلّ مِنْ قائلٍ عليمًا: [إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [الأحزاب:٥٦].

الجمعة: 1441/5/1هـ