من مظاهر عقوق الأبناء للآباء – خطبة الجمعة 6-6-1441هـ
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالنا منْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون](آل عمران:102].
عبادَ اللهِ: من أعظمِ النِّعمِ على الأبناءِ أن يكونَ الوالدانِ بين أيديهما أحياءً، فيصبحونَ ويمسونَ وعينُهم تهنأُ برؤيتهِما، ويتلذَّذونَ بصحبتهِما وبِرِّهما، ويَستمتعونَ بإرشادِهما ونصحهِما، ويَفرحونَ بسماعِ دعائهِما، ويَستبشرونَ بوجودِهما في حياتِمِ، فما أطيبَ العيشَ بجوارِ مَنْ أحسنوا إلى أولادهِم، وما أهنأَ الحياةَ مع من تَطيبُ الذكرياتُ بسيرتهِما. ومع هذا الفضلِ والأجرِ في وجودِ الآباءِ في حياةِ الأبناءِ إلا أنَّ البعضَ من أبناءِ المسلميَن -هَداهُم اللهُ – في زمانِنا هذا قد حادُوا عن طريقِ البرِّ، ووَصَلَ بهم الأمرُ إلى تضييعِ حقوقِ الوالدينِ والإساءةِ إليهمَا وعقوقِهمَا، وجحودِ فضلهِما، ورفعِ الصوتِ عليهمَا وسبِّهما وشتمِهمَا، بلْ وَوَصَلَ الأمرُ إلى أشدِّ من ذلكَ وهو الضربُ والتعذيبُ والقتلُ – أسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ -.
عبادَ اللهِ: العقوقُ ذنبٌ عظيمٌ، وكبيرةٌ منْ كبائرِ الذنوبِ، وجريمةٌ لا تُغتفرْ، وعلامةٌ على الخسرانِ المُبينِ، تُوجبُ غضبَ الربِّ جلَّ جلالُه، وتُوصلُ صاحبهَا إلى النَّارِ والعياذُ باللهِ. يقولُ نبينُّا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم:(ألا أُنبِّئكمْ بأكبرِ الكبائرِ؟ قُلنَا: بلى يا رسولَ اللهِ، وذَكرَ منها: (عُقوقُ الوالدينِ)(متفق عليه)، وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (رَغِمَ أنفُ، ثمَّ رغمَ أنفُ، ثمَّ رغمَ أنفُ مَنْ أدركَ أبويهِ عندَ الكبرِ أحدَهما أو كليْهما، فلمْ يَدخلِ الجنَّةَ)(رواه مسلم).
عبادَ اللهِ: وفي هذهِ الخُطبةِ سيكونُ حديثي عن الوالدِ الذي جَحَدَ الولدُ فضلَه، وكثُر فيه مَنْ عقَّه، بلْ وَصَلَ الأمرُ إلى أَنْ يُهينَه، ويَسبَّه، ويَلعنَه، ويُسيءَ إليهِ ويَغتابَه في المجالسِ، ويذكرَه بأسوأِ الصفاتِ بين الناسِ. وأحيانًا يصلُ الأمرُ إلى الضَّربِ، والطَّردِ، والتَّسكينِ في دارِ المسنِّينَ، بلْ هناكَ منْ تَركَ والدَه وَرَحَلَ عنهُ إلى مكانٍ بعيدٍ وحيدًا ضعيفًا يعاني الشيَّبَ والكِبرََ دُونَ أنْ يسألَ عنه أو يزورَه.
وهُنَا يَتساءلُ المرءُ كيفَ يليقُ بالمسلمِ أن يسيءَ إلى مَنْ أحسنَ إليهِ، ويَعقَّ منْ كانَ سببًا في وجودِه بعدَ اللهِ، كيفَ يَستبدلُ وفاَءه بالجفَا، وحنانَه بالشدِّةِ والأذَى، وبالكرمِ بُخْلاً وقترًا، وبالرحمةِ قسوةً وعذابًا وهجْرًا.
هلْ يُعقلُ هذا أنْ يفعلَ ذلكَ معَ والدِه الذي أحبَّه، وأحسنَ إليهِ في صِغَرِه وكِبَرِه، أَنسيَ فضلَه عليهِ يومَ كانَ يضعُه في أحضانِه يقبِّلهُ ويلاعبُه، أَنسيَ حَنَانَه وعطفَه ورحمتَه عندمَا كانَ يتحمَّلُ الأذى منه وينظرُ إليه نَظرَ المحبةِ والشفقةِ، أَنسيَ مَنْ تعِبَ منْ أجلِ أَنْ يَرتاحَ، ومَنْ سهِرَ مِنْ أجلِ أنْ ينَامَ قريرَ العينِ، ومَنْ بَذلَ مِنْ مَالِه منْ أجلِ أَنْ يَراهُ من أحسنِ النَّاسِ، هلْ هذَا جَزاؤُه منه بعدَ أن ضعفَ جسدُه وَوهَنَ عَظمُه واحتاجَ مَنْ يخدمُه ويَقومُ بشؤونِه.. فَلا حَولَ ولا قوةَ إلا باللهِ.
ماذا يَرجُو منْ هذهِ الدُّنيَا إذَا فَعَلَ هذهِ الجرائمَ العظيمةَ في حقِّهِ، هلْ نسيَ أنْ أمرَه مطاعٌ بإذنِ ربِّه، وحقَّه محفوظٌ بأمرِ خالقِه ورازقِه؟.
فويلٌ لكلِّ عاقٍّ كانَ سببًا في حزنِ والدِه وبكائِه وحسرتِه وشقائِه، وكانَ سببًا في تركِهِ يُعاني الكربَ والمرارةَ منْ عقوقِه وجحودِه؛ ويلٌ لهُ في الدنيا قبلَ لقاءِ ربِّه في الأخرةِ.
واعْلمْ أيُّها العاقُّ لوالدِه، الغافلُ عمَّا يَجبُ عليهِ تجاهَهَ، أنَّ تعاملَكَ معه بهَذا الازدراءِ والإهمالِ، والاحتقارِ والإذلالِ، سوفَ يكونُ ثمرَتَكَ في حياتِكَ، وأنَّه كما تَدينُ تُدانُ.
واعْلمْ يا مَنْ تُقدِّمُ زوجتَكَ وعيالَك، وأصحابَك وخُلانَك، على والدكَ، وتبخلُ عليهِ بأموالكِ وقدْ بَلغتَ مَبلغَ الرجالِ، وعلقَّ عليكَ – بعدَ اللهِ -الآمالَ، وانتظرَ برَّكَ وإحسانَكَ لهُ أنَّ الدنيا لَنْ تدومَ لكَ، وأنَّ كلَّ شيءٍ سوفَ يَذهبُ عنكَ وتُوضعُ في قبرِكَ وحيدَا فتُسألُ عمَّا قدَّمتَ في حقِّهِ، فانظرْ هلْ وفَّيتَ أم لا؟.
ولعلَّ مِنْ أعظمِ مظاهرِ العقوقِ المنتشرةِ اليومَ رفعُ الصوتِ على الوالدينِ، وتضييقُ صدورهِما بالتأخرِ عن الحضورِ للمنزلِ لا سيَّما في الليلِ، وكذَا عدمُ الاستيقاظِ لصلاةِ الفجرِ، ومصاحبةُ الأشرارِ، ومن ذلك عدمُ قضاءِ حاجاتِ الوالدينِ، وعدمُ الاهتمامِ بالدراسةِ. وعلى كلِّ حالٍ فكلُّ ما أدَخَلَ الهمَّ والحَزنَ على الوالدينِ فهو بابٌ من العقوقِ، فليحذَرِ العاقلُ قبلَ أن يندمَ ولا ينفعُ الندمُ.
عبادَ اللهِ: لقدْ حذَّر السلفُ من العقوقِ تحذيرًا شديدًا، ومنْ ذلكَ:
قولُ عُروةَ بنِ الزبيرِ: «مَا برَّ والديهِ منْ أحدَّ النَّظرَ إليهمَا».
وعن عليِّ بنِ طليقٍ، قالَ: سمعتُ ابنَ محيريزَ، يقولُ: «مَنْ مشىَ بين يدي أبيهِ فقدْ عقَّه، إلا أنَّ يمشيَ فيُميطُ لهُ الأذى عن طريقِه، ومَنْ دَعَا أباهُ باسمِه، أو بُكنيتِه فقدْ عقَّه، إلا أنْ يقولَ: يا أبَه».
وعن مجاهدٍ، قالَ: «لا ينبغيْ للولدِ أن يَدفعَ يدَ والدِه عنهُ إذَا ضَرَبَه، قالَ: ومنْ شدَّ النظرَ إلى والديهِ فلمْ يبرَّهما، ومنْ أدَخَلَ عليهمَا حُزنًا فقد عقَّهما».
وعن يزيدِ بن أبي حبيبٍ، قالَ: «إيجابُ الحجَّةِ على الوالدِ عقوقٌ».
وعن الحُسينِ بنِ أحمدَ الضَّبْعي، قال: سمعتُ أبي، قالَ: سمعتُ فرْقدًا، قالَ: «قرأتُ في بعضِ الكتبِ: ما بَرَّ ولدٌ مدََّ بَصرَه إلى والديهِ، وأنَّ النظرَ إليهمَا عبادةٌ، ولا ينبغي للولدِ أنْ يمشيَ بينَ يديَّ والديهِ ولا يتكلَّمُ إذا شهدا، ولا يمشيَ عن يمينِهما ولا عن يسارِهما، إلا أنْ يدعوانِه فيجيبَهمَا، أو يأمرانِه فيطيعَهمَا».
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا] [الإسراء:23، 24] باركَ اللهُ لي ولكم في القرءانِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ لهُ على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أن لَا إِلَهَ إلّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ تعظيمًا لشأنِهِ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ وإخوانِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أيُّها الشبابُ والفتياتُ؛ واعلموا أنَّ العاقٍّ لوالدِه تُصيبُه العُقوبةُ في الدُّنيا قبلَ الآخرةِ، وأنَّه مُتوعَّدٌ بالحرمانِ من دخولِ الجنَّةِ، وهو محرومٌ من نظرِ اللهِ إليهِ يومَ القيامةِ، ومنْ لَعَن والديْهِ أو أحدَهما أو كانَ سببًا في لعنِهمَا كانَ عاقًّا لهما واستحقَّ بذلكَ لعنةَ اللهِ؛ يقولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ والديهِ) (رواه مسلم)، ويقولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (إنَّ من أكبرِ الكبائرِ أن يَلْعَنَ الرَّجُلُ والديهِ، قيلَ: يا رسولَ اللهِ كيفَ يَلعنُ الرَّجُلُ والديهِ؟. قالَ: يَلْعَنُ أبا الرَّجُلِ فيَلْعَنُ أباهُ، ويَلْعَنُ أُمَّهُ فيَلْعَنُ أُمَّهُ)(رواه أبو داود وصححه الألباني).
أيُّها الأبناءُ والبناتُ: انتبهوا واحذْرُوا منْ العقوقِ فواللهِ إنَّ أثرَه يكونُ في الدُّنيا قبلَ الآخرةِ، واعلموا أنَّه كمَا تدينُ تُدانُ، فاتقوا الله في آبائِكم، فإنَّ حقَّهم عظيمٌ ومقامَهم كبيرٌ، ومنْ برَّهم وأحسنَ إليهِم فازَ بالأجرِ العظيمِ، ومَنْ عقَّهم وأساءَ لهُم باءَ بالخسرانِ والعذابِ المهينِ.
واعلموا أنَّ الحياةَ دينٌ ووفاءٌ، وسلفٌ وجزاءٌ؛ فَمَنْ برَّ والدَه برَّه بنُوه، ومن عقَّ والدَه عقَّهُ بنُوه وهَجرُوه وقَطعُوه، قالَ رسولُ اللِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (بَرُّوا آباءَكم تَبرَّكم أبناؤكم)(رواه الحاكم والطبراني)، فهنيئاً للواصلِ البارِّ رضَا والدِه عنه ودُعاءَه له وثناءَه عليه.
اللهم اغفرْ لوالدينا كما ربَّونا صغاراً، الَّلهم أَسْبِغْ على الأحياءِ منهمْ لباسَ الصحةِ والعافيةِ وأعنْهم على العملِ الصالحِ، واغفرْ الَّلهم لمنْ ماتَ منهُم، ونوِّر لهم قبورَهم ووسِّع لهم فيها، وارفعْ درجاتِهم، واجمعنَا بهمْ في جنَّاتِ النَّعيمِ يا أرحمَ الراحمينَ.
هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمد بن عبد الله فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 6-5-1441هـ