الدين النصيحة – خطبة الجمعة 7 – 11 – 1439هـ
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ ربِّ العالمين، أرْسَلَ أَنْبِيائَهُ ورُسُلَه مُبَشِّرينَ وَمُنذِرين، وَهُدَاةً نَاصِحين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: الآية 102).
عباد الله: الإنسانُ في هذه الدنيا ضعيفٌ بطبعِه، يعتريه النقصُ والخللُ، وتمرُّ عليه أمورٌ في حياتِه يحتاجُ فيها إلى من يُعلَِّمه، ويَنصحه إلى سلوكِ طريقِ الحقِّ والصوابِ، ويأخذُ بيدهِ إلى مرضاتِ ربِّ الأربابِ، وهذا من بابِ المحبةِ وإرادةِ الخيرِ لهُ، ولأهميةِ ذلكَ في حياةِ المسلمِ، جَعلهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الدِّين، فقَالَ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قُلْنَا لِمَنْ، قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)(رواه مسلم).
وهي سببٌ منْ أسبابِ نجاةِ المجتمعِ، والحفاظِ على تماسكهِ من المنكراتِ ورذائلِ الأخلاقِ. قال ابنُ الأثيرِ: ” النَّصِيحَةُ: كَلِمَةٌ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ، هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ”، وقال أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: “النَّصِيحَةُ: كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا حِيَازَةُ الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ”.
والأصلُ في النصيحةِ الوجوبُ لقوله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(سورة المائدة، الآية: 2)، وقولِه صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ أَوْ قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)( رواه مسلم)، وقد أجمع المسلمون على أنَّ النصيحة من الدين، وأنها مشروعة وينبغي إظهارها بين الناس.
وقد كان من أخصِّ صفاتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه مُذكِّرٌ ناصحٌ، قال تعالى:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر}[الغاشية: 21]. قال عليٌّ رضي الله عنه: “كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُنا فيُذكِّرُنا بأيامِ اللهِ”.
وكان ابن مسعودٍ رضي الله عنه يقولُ: “أتخوَّلُكم بالموعظةِ كما كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بها”. وقال جريرٌ رضي الله عنه: “بايَعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فاشتَرطَ عليَّ النصحَ لكلِّ مسلمٍ”. قال الإمامُ الذهبيُّ رحمه الله: “من لم ينصَح لله وللأئمّة وللعامّة كان ناقصَ الدين”.
عباد الله: وللنصيحةِ آدابٌ وشروطٌ، ومن ذلك: أن تكونَ خالصةً للهِ، وهدفُها إرضاؤه سبحانه وحده، وألا تكونَ النصيحةُ بناءً على شبهةٍ أو ظنٍّ لم يتثبتْ منه، وأن يبتعدَ فيها عن التجريحِ والتأنيبِ وإيذاءِ المشاعرِ، وأن تكونَ في الوقتِ والمكانِ المناسِبَين،ْ وأن يُلتَزمُ فيها بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ والرفقِ واللينِ.
وكذَا على المنصوحِ ألا يتكبرَ عندَ سماعِ النصيحةِ، وألا يصِّر على باطلهِ، وأن يأخذهَا ممنْ يثقُ في دينهِ وعقلهِ، وأن يتقبلهَا بصدرٍ رحبٍ، وأن يُطبقهَا في حياتِه، وأن يَشكرَ الناصحَ عليهَا.
والنصيحةُ -كما ورد في الحديث -تكون للِه ولرسولهِ ولكتابهِ ولأئمةِ المسلمينَ وعامتهم.
فالنصيحةُ لله هي توحيدِه، وتعظيمِه وإجلالِه، ووصفِه بمَا هو لهُ أهلٌ، والخضوعُ له ظاهراً وباطناً، والرغبةُ في محابهِ بفعلِ طاعتهِ، والرهبةِ من مساخطهِ بتركِ معصيتهِ.
والنصيحةُ لكتابه: هي تعلّمهِ وتعليمهِ وإقامةِ حروفهِ، وتَفهمُّ معانيهِ وحفظُ حدودهِ، والعملُ بما فيهِ وذبِّ تحريفِ المبطلينَ عنَّه.
والنصيحةُ لرسولهِ: هي محبتُه وتعظيمُه ونصرتُه، والاقتداءُ به، وإحياءُ سنتهِ والعملُ بها. والنصيحةُ لائمةِ المسلمينَ: إعانتهُم على الخيرِ، ونصحهُم، وسدُ خلتهِم، وجمعُ الكلمةِ عليهِم، وردُّ القلوبِ النافرةِ إليهِم، ودفعهُم عن الظلمِ بالتي هي أحسنُ.
والنصيحةُ لعامةِ المسلمينَ محبةُ الخيرِ لهُم، والشفقةُ عليهم، والسعيُ فيما يَعودُ بالنفعِ عليهم، وتعليمُهم، وكفُّ الأذى عنهُم.
عباد الله: إنّ النصيحةَ هي شعارُ المجتمعِ المسلمِ وبها يصلُح، وعن طريقِها تُجلبُ الأُلفةُ والمحبةُ والمودةُ والتراحُم، وهي دالّةٌ على صفاءِ السّريرةِ بين المسلمينَ، قال الفضيلُ رحمهُ اللهُ: “ما أدرَك عندَنا مَنْ أدرَك بكثرةِ الصلاةِ والصيامِ، وإنما أدرَك عندَنا بسخاءِ الأنفسِ وسلامةِ الصدورِ والنصحِ للأمّةِ، وأنصحُ الناسِ لكَ من خافَ اللهَ فيكَ”.
وكانَ السلفُ رحمهم الله يحبُّون من يُبصِّرهم بعيُوبهم، قال مِسعَرُ بن كِدام رحمه اللهُ: “رحِم الله من أهدَى إليَّ عُيوبي في سرٍّ بيني وبينه”. وليس هناك أحدٌ أبداً في غنى عن التذكيرِ، فإن كانَ المنصوحُ ذَا خيرٍ عمَّ خيرُهُ. أشارَ عمرُ رضي الله عليه وسلم على أبي بكرٍ رضي الله عنه بجمعِ القرآنِ، فجمَعَه فانتفعتْ الأمةُ برأيهِ.
وقال رجلٌ في مجلسٍ فيه الإمامُ البخاريُّ: لو جَمعتُم كتابًا مختصرًا لسنَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال البخاري: فوقَعَ ذلكَ في قلبِي، فأخذتُ في جمعِ الصحيحِ. فكان كتابُ صحيحِ البخاريِ غُرَّةً في جبينِ الزّمانِ.
قال الحسنُ البصريُ رحمه اللهُ: “مَا زال للهِ نُصحاءُ ينصَحونَ للهِ في عبادِه، وينصحونَ لعبادِ اللهِ في حقِّ اللهِ، ويعمَلونَ للهِ في الأرضِ بالنّصيحةِ، أولئك خُلفاءُ اللهِ في الأرضِ”.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(النحل:125).
باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيمِ، ونفعنِي وإياكُم بمَا فيهِ منْ الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما سمعتمْ فاستغفِرُوا اللهَ يغفرِ لي ولكُم إنهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتهُ كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنَّ التناصحَ بين المسلمينَ من أهمِّ الواجباتِ، وأنَّ المجتمعَ المسلمَ بحاجةٍ إلى نصحاءَ مخلصينَ يعيشونَ واقعَ المسلمينَ، ويكونونَ لبعضهِم كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضًا، وتركُ التناصحِ بين المسلمينَ طامَّةٌ كُبرى، ومصيبةٌ عُظمى.
ويجبُ على المسلمِ إذا أنكرَ عليهِ أخوهُ ألا يغضبَ منهُ وألا يردَّ عليهِ إلا خَيَّرا، وأن يشكرهُ على نصيحتِه وتنبيهِه، ويدعُو له بالخيرِ، ولا يجوزَ لهُ أن يتكبَّر عليهِ وألا يزدريهِ ويحتقرَه.
وليعلمْ أنَّ ذِكرَ الإنسانِ بما يكرهُ محرمٌ إذا كانَ المقصودُ منهُ مجردَّ الذمِّ والعيبِ والنقصِ، وأما إن كان فيه مصلحةٌ لعامةِ المسلمينَ، وكان المقصودُ منه تحصيلُ تلك المصلحةِ فليس بمحرِّمٍ، لكن يكونُ بالطرقِ المشروعةِ التي تحققَ المصلحةَ وتدفعُ المفسدةَ.
ومن الأخطاءِ الظاهرةِ ما يكونُ من النصحِ العلني على أشخاصٍ معينين وتسميتِهم، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم من حكمتهِ في التعاملِ مع تلكَ المواقفِ أن يخطبَ الناسَ ويقولُ: (ما بالُ أقوامٍ يفعلونَ كذا وكذا)(رواه أبو داود وصححه الألباني)، لُيشعُرَ المخطئَ بخطئِه، ويحملَ الجميلَ لمَن سترَ عليه.
ولا ينبغي اتخاذُ المنابِر مكاناً لإلصاقِ التُّهمِ بفلانٍ أو فلانٍ، بل إن المنابرَ جُعلتْ لتعليمِ النَّاسِ أمرَ دينهِم، ونصحِهم، وتوجيهِهم لما فيهِ الخيرِ لهُم في الدُّنيَا والآخرة.
وإذا أراد الناصحُ أن تُؤتيَ النصيحةُ أُكلَها، وتُجنى ثمارُها، فعليهِ أن يتلمَّس هَدْيَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في بذلِ النصيحةِ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم كان دقيقًا في متابعةِ أحوالِ النَّاسِ وتصرُّفاتِهم وإرشادِهم ونصحِهم، وحذار حذارِ من شغلِ الأوقاتِ بالقيلِ والقالِ، والكلامِ على فلان وفلانْ، فكلُّ شيءٍ مسجلٌ ومكتوبٌ، وسيحاسبُ عليهِ العبدُ، وصدقَ اللهُ {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد}[ق:18]، وسينشرُ للعبادِ كتابٌ لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصَاهَا ووجدُوا ما عَملوا حاضرًا ولا يظلمُ ربُّك أحداً.
واتقوا الله يا من تتكلمونَ في عبادِ اللهِ، واعلموا أنكمْ تهدُونَ لهُم حَسناتِكم، فكُونوا على وجلٍ، ولا تُضيعُوا حَسناتِكم بالنَّيلِ من الآخرينَ كذباً وزوراً.
أسألُ اللهَ جلَّ وعلا أن يرزقنَا وإياكُم العلمَ النافعَ والعملَ الصالحَ.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:٥٦). الجمعة: 7/11/1439هـ