خطورة الديَّن وبعض أحكامه
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى أمر من الله تعالى لعباده فمن عمل بها فاز بالحياة الطيبة في الدنيا وبدار النعيم المقيم في الآخرة.
عباد الله: لقد جاء الإسلام موجهاً الناس إلى كل خير، مبشراً لمن بذل وسعه من نفس أو مال ابتغاء وجه الله بالأجر العظيم والثواب الجزيل، وجعل من يبذل ذلك من خير الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم (خير الناس أنفعهم للناس)(رواه البيهقي، والحاكم، وصححه الألباني في الصحيحة 1/787 رقم426).
ومعلوم لدى الجميع أن من المسلمين من يحتاج إلى إخوانه ليمدوا له يد العون، فيلجأَ إلى الاستدانة من الآخرين باقتراض شيء من المال، حتى يتهيأَ له إعادتُها وييسرَ اللهُ سَدادَها، وهذا فعلٌ مباحٌ لمن كان محتاجاً ولا شائبةَ فيه، وهو من باب الرفقِ بالمسلم والتعاونِ معه وتفريجِ كربتهِ قال صلى الله عليه وسلم:(.. من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة)(متفق عليه).
ومن الناس من يكون غنياً وقد أنعم الله عليه بنعمة المال فلا يتردد في إجابةِ أخيه المحتاجِ والسعي في قضاءِ حاجتهِ وإعانتهِ احتسابًا للأجر، وطلبًا للنماء والبركة، وهذا الصنفُ من الناسِ هم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم:(إن لله عز وجل خلقا خلقهم لحوائج الناس يفزعُ الناسُ إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله)(رواه الطبراني، وضعفه الألباني في الضعيفة ج7 رقم3319).
عباد الله: ولما رأيت أن الناس في حاجة إلى معرفة تلك الصورة وكيفية التعامل بها لكي يُحفظ لكل إنسان حقَّهُ، ويؤدي كلُّ من عليه دينُ حقَّ أخيه أحببتُ أن أوضح بعض الأحكام المهمةِ التي تتعلق بالدين، والتي يجدرُ بكل مسلم أن يقف عليها لأهميتها وخاصةً في تلك الأوقات التي نعيشُها مع كثرةِ التعاملات بين الناس، وتنوِّع أبواب الدين واختلاف صورِه، ومن تلك الأحكام:
أولاً: أنَّ آيةَ الدين الواردةَ في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}(البقرة:282)، قد دلت على مشروعية القرض، مع التأكيد على تسجيله وتوثيقه بالكتابة والإشهاد، فينبغي على المقرض والمقترض إيضاحُ مبلغ الدينِ، ونوعهِ وصفتهِ، مع تحديد مدتهِ. فبعضُ الناسِ يتحرجُ أن يكتبَ الدينَ أو يشهدَ عليهِ ويكتفي بالثقةِ في المدين وهذا مخالفٌ لأمر الله تعالى، وفيه من الضرر على المقرض في حالةِ وفاتهِ، أو حصولُ ما يمنع المقترض من السداد.
ثانياً: توثيق الدين بالإشهاد عليه لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}(البقرة:282)، لأن إثبات الدَّين بشهادة الشهود تنفي أيَّ شك، وترفعُ أدنى خلافٍ أو نزاعٍ يحصل بين الطرفين،وملزمةٌ لكل منهما بما تضمنته، فبعض المقترضين إذا لم يكن هناك إشهادٌ على الدين ينكر أخذه ويتهرب من سداده.
ثالثاً: أن يحرصَ المقترضُ على المبادرةِ إلى سدادِ الدين عند حلولِ الأجلِ المتفقِ عليه، وأن لا يماطلَ في ذلك عند قدرته على السداد لقول الله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}(المؤمنون8)؛ ولأن أمر الدين عظيمٌ، فقد يفجأهُ الموتُ وهو مستمرٌ في مماطلته، فتبقى حقوقُ الناسِ في ذمته.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم خطورةَ ذلك، وحثَّ على التعجيلِ في قضاء الدين، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من الدين ابتداءً، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يدعو في الصلاة فيقول:(اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)، فقال له قائل: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال:(إن الرجل إذا غرِم حدَّث فكذب، ووعدَ فأخلف)(رواه البخاري ومسلم).
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن أمر الدين من الحقوق العظيمةِ التي يجبُ قضاؤها، وأن دخول الجنةِ متوقفٌ على قضائهِ، فقد قال لأصحابه مرةً وقد وضعَ راحتَه على جبهته (سبحان الله ماذا نزل من التشديد)، فسكتنا وفزعنا فلما كان من الغد سألته يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال: والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيى ثم قتل ثم أحيى ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه)(رواه النسائي، وحسنه الألباني في سنن النسائي 7/314 رقم4684).
كما أن المسلم إذا مات وعليه دين لم يقضه أو لم يُقْضَ عنه ـ يُخشى عليه من عذاب القبر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما امتنع في بداية الأمر من الصلاة على مَن عليه دين وتكفل أبو قتادة رضي الله عنه بأدائه ولقيه من الغد، قال:(ما فعل الديناران؟) قلت: إنما مات أمس، قال فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الآن بردت جلدته)(رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب ج2 رقم1812) وفي الحديث الآخر قال:(نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)(رواه أحمد والترمذي،وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم6779).
رابعاً: من احتاج إلى اقتراض شيء من المال فعليه أن يُبيت النية الحسنة بسداد الدين وإعادة المال المقترض عند حلول أجله أو توفر المال لديه، وأن لا ينوي استغلاله ومماطلته وأكل ماله، فإنه إن نوى ذلك فقد عرَّض نفسه للعقوبة، قال صلى الله عليه وسلم:(من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)(رواه البخاري). فإن كان في نيته الأداء أعانه الله تعالى ويسر ردها، وهيأ له من الأسباب ما يعينه على قضاء الدين ورده، وإن كان في نيته غير ذلك ابتلاه الله بالعقوبات وكثرة المصائب مع محقِ بركة ماله.
خامساً: كثير من الناس يستدين من غير حاجة ولا ضرورة فيثقل كاهله في الدين من أجل شراء سيارة فارهة، أو تغيير أثاث البيت، أو المباهاة في أشياء كمالية لا حاجة لها ثم يعجز هذا المسكين عن سداد دينه، وتحصل له ضوائق تؤثر على حياته وعبادته وسلوكه وتعامله مع الآخرين.
ولذا وصيتي لنفسي ولإخواني وأخواتي ألا يلجأ الواحد منا إلى الدين إلا إذا كان مضطراً أو محتاجاً حاجة ماسة يتضرر لو تأخر في الحصول على المال، فهنا لا حرج أن يستدين على نية الوفاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً..}(البقرة282). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن سعادة العبد وراحته في أدائه لحقوق الله وعباده.
عباد الله: بعض الناس يتوفاه الله قبل أن يقضي دينه، وهنا يكون الدين لازماً في ذمة ورثته، فعليهم أولاً بأدائه من ماله إن كان له مال، أو أدائه من أموالهم إن لم يكن له مال، أو طلب العفو من صاحب الدين لتبرأ ذمة قريبهم، فإن أصرَّ صاحب الدين على ماله لزمهم سداده.
عباد الله: لقد انتشر في الآونة الأخيرة بين بعض المقترضين والمقرضين ظاهرة عدم الوفاء بالدين، فتجد الشخص يأتي إلى أخيه في بداية الأمر يطلب منه سُلفةً نقدية أو سلعة يشتريها بالدَّين، ويُظهِر له حسنَ النية بكلام معسول وعبارات مُنَمَّقَة، وأنه سيسدّده في الوقت الذي يحدّده المقرِض، وهو في الحقيقة يضمر خلافَ ذلك، ثم يأخذ المال وتمر عليه شهورٌ وربما سنوات دون أن يعتذِر منه، أو يطلب فسحة في الأجل. وهذا ليس من خلق المسلم، وليس من الأدب الإسلامي في شيء، فإن ديننا يحثّ على رد الجميل، والمكافأة للمعروف بمثله أو أحسن منه والدعاء لصاحبه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(خير الناس أحسنهم قضاء)(متفق عليه).
فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى في ذلك، وأن يخشى عقوبته ووعيده الذي أخبر به، وليبادر إلى رد القرض وأدائه عند حلوله دون تسويف أو مماطلة.
عباد الله: وبعض الناس من حبه للمال وشغفه به، وبعد أن ييسر الله له أمره ويوسع عليه يماطل في سداد الدين الذي عليه، وهذا هو الجاهل بعينه، فمن علم يقيناً بشدة الموقف بين يدي الله جل وعلا حرص على التحرر من مظالم الناس وخشي على نفسه أن يلقى الله وللناس عليه حقوقٌ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)(رواه البخاري).
عباد الله: لا تستهينوا بأمر الدين واعلموا أن ما يلقاه بعض الناس من عذاب القبر والحرمان من دخول الجنة بسبب عدم سداد الدين، فلنحرص جميعاً على سداد الدين ولو ببيع ما نملك، فإنه لا يليق بمن أراد الله تعالى والدار الآخرة أن يقصر في ذلك، بل عليه الحرص بقدر استطاعته، وليعلم المسلم الذي يريد سداد دينه أن الله سوف يعينه على ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ثلاثةٌ حق على الله تعالى عونهم: وذكر منهم المكاتب الذي يريد الأداء)(رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم3050). عافانا الله وإياكم من مظالم العباد كلها، وأعاننا جميعاً على رد الحقوق لأصحابها.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب:٥٦).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً سحاً طبقا مجللا تسقي به البلاد وترحم به العباد..
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 23/3/1430هـ