نداء إلى أهل البلاء – خطبة الجمعة بتاريخ 7 -3- 1429هـ
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين،سامع الصوت، وسابق الفوت، مجيب دعوة المضطرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ] (البقرة)، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قدوة الأنام في التحلي بصفة الصبر وقوة الإيمان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى خير زاد للقاء الله، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(البقرة).
عباد الله: تكلمنا في جمعة ماضية عن سُنَّة الابتلاء، وذكرنا أنها سُنَّة ربَّانية عظيمة القدر، فهي تحتوي على فوائد كثيرة يختص بها عباد الله المؤمنون دون غيرهم، وإلا فالبلاء ربما يحل بالكافرين وغيرهم، ولكنه بلاء يشتمل على عذاب شديد لعصيانهم وتمردهم على أمر مولاهم، وهو درس وعظة للخلق أجمعين.
عباد الله: إن البلاء يمسُّ الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والقريب والبعيد، والمؤمن والكافر، فالبلاء لا يترك أحداً من خلق الله تعالى، وصور البلاء عديدة، فمنا من يصاب في نفسه بالمرض، أو فقد جزء من جسده، أو فقد ماله، أو عياله، أو زوجه، أو والديه أو أحدهما، أو أحد أحبابه، وقد يبتلى بفقد عمله، أو حادثة لسيارته، أو مرض ولده، أو خسارة تجارته، أو فراق زوجته، أو عقوق أبنائه، وغير ذلك من صور البلاء التي ربما تكون بسبب الذنوب والمعاصي، أو لرفع درجات العبد عند الله ولتكفير ذنوبه، وأعظم البلاء هو ما يكون في الدين، لأن الدين أغلى ما عند المؤمن، فيبتلى فيه ليرى الله منه قوة إيمانه وصبره، وهذا البلاء اختص به بعض خواص العباد.
فما يقع على المؤمنين من البلاء والمصائب في الدنيا، فهو بما كسبت أيديهم من جهة، وبحسب منازلهم عند الله في الدار الآخرة من جهة ثانية.
فمنهم من يجزى بكل ما اكتسب من الذنوب في هذه الدنيا، حتى يلقى الله يوم القيامة وليس عليه خطيئة، وهذا أرفع منـزلة ممن يلقى الله بذنوبه وخطاياه، ولهذا اشتد البلاء على الأنبياء، فالصالحين، فالأمثل، فالأمثل؛ لأنهم أكرم على الله من غيرهم.
ومن كان دون ذلك فجزاؤه بما كسبت يداه في هذه الدنيا بحسب حاله.
وليس الكفار كذلك؛ فإنهم [لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ](هود:16)، فليس هناك أجور تضاعف ولا درجات ترفع، ولا سيئات تُكفّر.
ومقتضى الحكمة ألا يدّخر الله لهم في الآخرة عملاً صالحاً، بل ما كان لهم من عمل خير، وما قدّموا من نفع للخلق يجزون ويكافئون به في الدنيا، بأن يخفف عنهم من لأوائها وأمراضها. وبالتالي لا يمنُّ عليهم ولا يبتليهم بهذا النوع من المصائب والابتلاءات.
فما يصيب المؤمنين ليس قدراً زائداً على ما كسبته أيديهم، بل هو ما كسبوه أو بعضه، عُجل لهم، لما لهم من القدر والمنـزلة عند الله.
وإن البلاء إذا نزل بأحد من خلق الله لا يستطيع أحد رده إلا بإذن الله تعالى، وهذا يحتاج منا إلى مراجعة أنفسنا وحساباتنا، وننظر في أحوالنا مع خالقنا، ونتوجه إلى من أنزل البلاء فنلح عليه في الدعاء ليرفعه عنا، أو يخففه عنا بقدر ما نتحمله.
عباد الله: هل يستطيع أحد غيرُ الله رفعَ البلاء، هل يستطيع أحد ردَّ قضاء الله وقدره؟ إن الناظر في أحوال الناس يجدهم إذا ابتلوا ببلاء اعتمدوا على الأسباب فقط وتركوا مسبب الأسباب، ولا يليق بالمؤمن أن يتوجه إلى غير خالقه لكشف ضره، أو تفريج همه؟.
عباد الله: لقد ذكر الله تعالى قصصاً عظيمة في كتابه، ومن ذلك قصة أيوب ـ عليه السلام ـ عندما ابتلي بمرض شديد عانى معه الآلام والأوجاع، وكان سبباً في هجر أهله وأقاربه وبعض أصحابه إلا زوجته التي صبرت، فماذا يفعل كي يرفع ربه عنه ضره، فناداه، ورفع إليه شكواه بقلب خالص منيب، قال تعالى[وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ](الأنبياء)، فكانت الإجابة لما رأى من صبره وقوة إيمانه وتعلقه به [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ] (الأنبياء).
وهذا يونس ـ عليه السلام ـ لما ابتُلي ببلع الحوت له، ووجد نفسه بين ظلمات ثلاث، فعلم أنه لا ينجيه من هذا البلاء إلا إذا استغاث بربه فناداه نداء المستغيثين، ورفع إليه نداء المضطرين:[فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ]، فكانت الإجابة السريعة ممن بيده الأمر من قبل ومن بعد:[فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ] (الأنبياء). وهكذا زكريا وإبراهيم وموسى ومحمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وغير ذلك كثير من القصص الحق.
وهكذا كل مؤمن ومؤمنة في دار الدنيا إذا ابتلوا ببلاء وجب عليهم التوجه إلى الله تعالى لكشفه ورفعه، فليس لهم سواه، قال تعالى:[أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ](الروم).
ولعل من أعظم ما قصَّه الله علينا في كتابه قصة عائشة رضي الله عنها وابتلائها في عرضها الطاهر فصبرت ولجأت إلى ربها، ثم نزلت براءتُها من الحكيم العليم في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.
عباد الله: إن الله تعالى بحكمته قدر البلاء من أجل أسباب وفوائد عديدة، منها ما هو تذكير وتخويف، ومنها ما هو تكفيرٌ للذنوب ورفعٌ للدرجات، وأذكر هنا ما تيسر، فمن ذلك:
أولاً: أن البلاء ينزل في بعض الأحيان عقوبة وانتقاماً من الظالمين: ومعاقبتهم على ظلمهم وعدوانهم، وطغيانهم، وتقصيرهم، وهذا النوع من البلاء يشمل ظالمي أهل القبلة، وغيرهم من الكفرة الظالمين، قال تعالى:[وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً](الإسراء).
وقال تعالى:[أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ](آل عمران).
وقال تعالى:[فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ](الذاريات).
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إذا استحلت أمتي خمساً فعليهم الدمار: إذا ظهر التلاعنُ، وشربوا الخمورَ، ولبسوا الحرير، واتخذوا القيانَ، واكتفى الرجالُ بالرجال، والنساءُ بالنساء)(رواه البيهقي، وحسنه الألباني). فهذا الدمار ينزل بهم عقوبة وانتقاماً لارتكابهم لهذه الكبائر ـ نعوذ بالله من ذلك ـ.
وقال أيضاً:(يا معشر المهاجرين خمسٌ إذا ابتليتم بهنَّ وأعوذ بالله أن تُدركوهنَّ: لم تظهر الفاحشةُ في قومٍ قط، حتى يُعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاعُ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضَوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين ـ أي بالقحط ـ وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيرون مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسَهم بينهم)(رواه البيهقي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع) فهذا البلاء هو عقاب يترتب على الوقوع في هذه المخالفات.
فما بالنا ونحن نعيش الآن في هذه النبوءات التي أخبرنا بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ونرى بأعيننا ما يعيشه المسلمون بسبب تفريطهم في جنب الله، والوقوع فيما حرم الله.
وإذا نظرنا إلى قلة الأمطار في بلادنا طوال هذا الشتاء تبين لنا أن الأمر يحتاج منا لمراجعة حساباتنا مع الله، بالتوبة من المظالم وتأدية حقوق الآخرين، وأن نؤدي حق الله بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها، وأن نؤدي زكاة أموالنا، وأن نبتعد عن المعاصي والذنوب مع عدم التمادي فيها حتى لا تكون سبباً في نزول العذاب بنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ](الأعراف). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أسباب وفوائد البلاء أيضاً:
ثانياً: رفع مقامات ودرجات العبد المؤمن عند الله يوم القيامة: وما نزل بساحة الأنبياء والصديقين والشهداء إلا من أجل رفع درجاتهم ومقاماتهم، ومضاعفة الأجر الجزيل لهم يوم القيامة، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال:(أشد الناس بلاء الأنبياء،ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه،فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)(رواه البخاري).
وقال أيضاً:(إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياه)(أبو يعلى وابن حبان، وصححه الألباني في الصحيحة)، وقال:(إن العبدَ إذا سبقتْ له من الله منزلةٌ فلم يبلُغْها بعملٍ، ابتلاهُ الله في جسدِه أو ماله أو في ولده، ثم صَبَر على ذلك حتى يُبلِغَهُ المنزلة التي سَبقت له من الله عز وجل)(رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب). وقال أيضاً فيما يرويه عن رب العزة تبارك وتعالى أنه قال:(من أذهبتُ حبيبتيه (أي عينيه) فصَبَرَ واحتسَب، لم أرضَ له ثواباً دون الجنَّة)(رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
ثالثاً: أنه يكون سبباً في تطهير العبد من ذنوبه وخطاياه: حتى إذا جاء يوم القيامة يكون طاهراً من الخطايا والذنوب، والبلاء الذي ينزل بعصاة أهل التوحيد، وأصحاب الذنوب والخطايا هو من هذا القبيل. كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في جسده وأهله وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)(رواه الترمذي، وصححه الألباني في الأدب المفرد). وقال أيضاً:(ما ابتلى الله عبداً ببلاء وهو على طريقة يكرهها، إلا جعل الله ذلك البلاء كفارة وطهوراً ما لم يُنزل ما أصابه من البلاء بغير الله، أو يدعو غير الله في كشفه)(رواه ابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب)، وقال أيضاً:(ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)(رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع). وقال:(ما يُصيبُ المؤمنَ من نصَبٍ ـ تعب ـ، ولا وصَبٍ ـ مرض ـ ولا همٍّ ولا حزَنٍ، ولا أذىً ولا غمٍّ، حتى الشوكَة يُشاكها؛إلا كفَّرَ اللهُ بها من خطاياه)(متفق عليه)،وقال صلى الله عليه وسلم:(ما من مصيبةٍ تصيبُ المسلمَ؛ إلا كفر الله عنه بها، حتى الشوكَةِ يُشاكُها)(متفق عليه). وفي رواية لمسلم:(إلا رفعه الله بها درجةً وحطَّ عنه بها خطيئةً). أسأل الله جل وعلا أن يمنَّ علينا جميعاً بالصبر عند البلاء، والشكر عند السراء، وأن يجعل ما نبتلى به كفارة لذنوبنا ورفعة في درجاتنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الموافق: 7/3/1429هـ