مقال بعنوان: وداعًا شيخنا العالم العابد المحتسب. بتاريخ 23-12-1441هـ

الخميس 23 ذو الحجة 1441هـ 13-8-2020م

الموت حق، والفناء مكتوب على كل مخلوق، وصدق الله العظيم: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ}. الرحمن الآية (26-27).

الموت حقيقة تواجه كل حي، فلا يستطيع لها ردًا ولا دفعًا، ولا يملك أحد أن يقدم شيئًا لأنها آجال مضروبة، وأنفاس معدودة، وأعمار مكتوبة، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها.

لقد ودّعنا شيخنا وجارنا وحبيبنا الغالي فضيلة الشيخ أبي مرزوق محمد بن مرزوق المعيتق، يوم الأربعاء 22/12/1441هـ، وقد عرفته عن قرب منذ ما يزيد على أربعين عامًا.

عرفته عالمًا، صادقًا، يتّصف بصفات العلماء من الإخلاص، والأمانة، والتواضع، والحلم، والصبر، والرفق، واللين.

والعلماء الصادقون هم الذين يحسنون للآخرين، ويحيون القلوب بعلمهم، وتذكيرهم، ومواعظهم، فما يقدّمونه لقلوب الناس وأبدانهم كالطعام والشراب والصحة والعافية.

وهم كالشمس للدنيا، ميّزهم خالقهم على غيرهم، وأثنى عليهم في آيات تُتلى إلى يوم القيامة.

وموت العلماء مصيبة؛ وأيّ مصيبة؟!

لأنه مُصاب الأمة، فهم مصابيح الدجى، وعلامات الهدى، ورغم رحيلهم إلا أنّ ذكرهم باقٍ، والذّكر للإنسان عمر ثاني.

وعرفته جارًا محبًّا، صاحب خلق ودين، والجار رفيق الدرب، وقرين مسكن، يؤنسك بقربه، ويكرمك بحديثه، ويسدي لك نصحه، وتسمع دعواته في كل مناسبة، وكل ذلك لمسته من شيخنا خلال سنوات الجوار.

ومثل هذا الجوار نعمة لا تُشترى بالمال، جاء في الحديث: ” خيرُ الأصحابِ عندَ اللهِ تعالى خيرُهم لِصاحِبِه، وخيرُ الجيرانِ عِندَ اللهِ خيرُهم لِجارِهِ” أخرجه الترمذي (١٩٤٤)، وأحمد (٦٥٦٦) وصححه الألباني.

وعرفته مكبًّا على كتاب الله، له عناية خاصة به، قراءة، وحفظًا، ومراجعة، ومدارسة، جلسنا سنوات في مسجدنا الذي يؤمّنا فيه نتدارس القرآن تلاوة وحفظًا ومراجعة وفهمًا للمعاني، وهو أكثر شخصٍ وجدت منه التشجيع في هذا الباب حيث كان يجلس معي يوميًا للمراجعة والمدارسة بعد صلاة العصر.

وعرفته إمامًا لمسجدنا –مسجد الحي- سنوات طويلة يحرص على القيام بالمسؤولية، وأداء الواجب، ومتابعة جماعة المسجد، وتفقدهم حتى أن مسجدنا –فيما أعلم- آخر مسجد في المحافظة كان الإمام فيه يتفقد الجماعة في صلاة الفجر بمناداتهم بأسمائهم، وينادونه ويجيبونه، ولم يكن يفرق بين صغير وكبير ممن يتخلّفون أحيانًا، بل كان يبدأ بأولاده قبل غيرهم رحمه الله.

كما أنه يحرص على نفع الجماعة بالقراءة والتوجيه، وإلقاء الكلمات والمواعظ، واستغلال كل مناسبة لنفع الناس وإفادتهم.

وعرفته حريصًا على الوعظ في مساجد المحافظة، وإلقاء الكلمات، وكان ممن أنشأوا دار العلم في المحافظة، حيث كان يجتمع فيها بعض كبار السن، ومحبّي الخير، للقراءة في كتب شيخ الإسلام، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب، وابن باز، وابن عثيمين، وغيرهم.

وذلك بعد المغرب من كل يوم، فكان يحرص على القراءة في المسجد والبيت والسيارة وفي كل مجلس يجلس فيه.

وعرفته آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر برفق ولين وحرص على المنصوح، وكان يتعامل مع هؤلاء كما يتعامل مع أبنائه، ولذا سرعان ما يستجيب له المنصوح لما يتميز به من أسلوب في المناصحة يأخذ بقلب السامع.

وعرفته متواضعًا رغم مكانته في المجتمع وكونه رئيسًا للمحكمة لفترة طويلة، ثم أصبح قاضي استئناف، ومع ذلك فهو يتعامل مع الصغير والكبير بتواضع جم، وخلق عالي، ورغم أنه شيخي وأستاذي إلا أنه يحضر الدروس مع الطلاب ويناقش ويسأل في تواضع قلّ نظيره.

وعرفته سليم الصدر، لا يحمل على أحد، بل كان يعامل كل من يسيء إليه بالعفو والصفح، وقد وقفت على حالاتٍ كثيرة عفا فيها وصفح عن المخطئ رغم أنّ الكثيرين يطالبونه بأخذ حقه لأنه واضح لا لبس فيه.

وعرفته ورعًا يتحرّز من دخول أي مال عليه لا يجزم بحّله ونزاهته، سخيًّا كريمًا كثير البذل في وجوه الخير.

وعرفته كثير الخشوع في صلاته، يتأثر أثناء قراءته للقرآن، محافظًا على قيام الليل في الحضر والسفر، وقد صحبته أكثر من مرة فرأيت منه في هذا الباب عجبًا؛ رحمه الله رحمة واسعة.

وعرفته محمود السيرة في القضاء، يحرص على نفع الناس وإنزالهم منازلهم وتخفيف معاناتهم، ولا سيّما في إثبات تملك المزارع القديمة، فقد نفع الناس نفعًا عظيمًا؛ رحمه الله بحكم معرفته للناس وصدقهم وحرصهم على الحلال والبعد عن الحرام في هذا الباب.

وعرفته رئيسًا لمجلس إدارة جمعية تحفيظ القرآن سنين عديدة، يوجّه ويعلّم، ويسدّد، ويبذل من وقته وجهده الشيء الكثير.

وعرفته صابرًا على المرض، محتسبًا لا تسمع منه إلا الحمد والشكر والثناء على ربه بما هو أهله وبين يديه القرآن يستغل وقته بالقراءة والمراجعة.

وصدق القائل:

عليك بالصبر إن نابتك نائبة        من الزمان ولا تركن إلى الجزع.

وإن تعرضت الدنيا بزينتها         فالصبر عنها دليل الخير والورع.

فالمرض إذا اشتدّ ضاعف الله به الأجر، ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحطّ السيئات كلها، والمؤمن في هذه الدنيا مبتلى بما يطهّره من الذنوب والآثام، فإذا نزل به المرض وصبر واحتسب، ثم فارق الدنيا، فارقها بحول الله بذنبٍ مغفور، نقيًّا طاهرا.

هذا هو شيخنا التقي العابد الصابر الزاهد المحتسب، صاحب السيرة العطرة المحمودة، عمّر وقته بالطاعة والعبادة، ونفع الناس، وانشغل بنفسه عن الآخرين، فلا تسمع في المجالس إلا الثناء عليه، والدعوات له من الصغير والكبير والذكور والإناث.

وصدق القائل:

فلو كان يفدى بالنفوس وما غلا        لطبنا نفوسًا بالذي كان يطلب

ولكن إذا تم المدى نفذ القضا           وما لامرئ عما قضى الله مهرب

وما الحال إلا مثل ما قال من مضى      وبالجملة الأمثال للناس تُضرب

لكل اجتماع من خليلين فرقة            ولو بينهم قد طاب عيش ومشرب.

رحم الله شيخنا رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به ووالدينا وأحبابنا في الفردوس الأعلى من الجنة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                                              وكتبه

                                                               أ.د عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار.