حاجة العباد إلى رحمة الله. بتاريخ 7-7-1442هـ
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ مُعزِّ من أطاعهُ واتقاهُ، ومُذلِّ من عصاهُ وخالفَ أمرهُ، له من الحمدِ أسْمَاهُ، ومن الشُّكرِ أٍسْنَاهُ، وله من الثناءِ الحسنِ منتهاهُ، سبحانهُ وبحمدهُ، لا تُحصَى نعمهُ وآلاؤُه، ولا تكافىءُ عطاياهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ولا ربّ لنا سواهُ، ولا نعبدُ إلا إياهُ، وهو الذي في السماءِ إلهُ وفي الأرضِ إلهُ وهو الحكيمُ الخبيرُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه ومصطفاهُ، وخليلهُ ومجتباهُ، كمُلَ به عقدُ النبوةِ، فطوبَى لمنْ والاهُ وتولاهُ، واتبعَ سُنتهُ واهتدَى بهداهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه الذين جاهدوا في اللهِ حقَّ جهادِه، وكانَ هواهُم تبعًا لهداهُ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ لقياهُ، أما بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فتقوى الله هي الزادُ الأعظمُ، والطريقُ الأكرمُ، والمنهجُ الأقومُ، والسبيلُ الأسلمُ، والتزموا سنةَ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم تهتدوا، وأخلصُوا أعمالكُم تفلحُوا، واجتنبُوا المنكراتِ تسلمُوا، واستبِقُوا الخيراتِ تفوزُوا وتُفلحُوا وتغنموا.
أيُّها المؤمنونَ: ما أحوجَ العبادَ إلى عظيمِ مغفرةِ اللهِ ورحمتِه، وما أهونَهم عليه إنْ هُمْ عَصَوه وخالفوا أمرَه، وأعرضوا عن طاعتِه.
لقد أرشدَهم خالقُهم جلَّ وعلا إلى طريقِ الفوزِ والفلاحِ، ورغَّبَهم في الجنةِ دارِ النَّعيمِ المقيمِ، وأخبرَهم بها وشوَّقَهم إليها، وخوَّفهم من النَّارِ دارِ البوارِ وحذَّرهم منها، وأخبرَهم بعداوةِ الشَّيطانِ لهم، وأنَّه يدعو حزبَه ليكونوا من أصحابِ السَّعيرِ، وكَتَبَ عليهُم الفناءَ والرحيلَ من دارِ الدنيَا إلى دارِ المقامِ والحياةِ الخالدةِ، وحذَّرهم من يومِ العرضِ عليه، وأنذَرَهم بأسَه وسطوتَه، فقالَ في كتابِه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم* يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد}[الحج:1، 2].
أيُّها المؤمنونَ: إنَّ للهِ جلَّ وعلا سننًا كونية لا تتغير ولا تتبدل، إذْ جعل هلاك الأمم وخرابَ الدُّولِ وشقاءَ المجتمعاتِ بسببِ ما أقْترَفَتْهُ الأيديْ من الذنوبِ والمعاصي والآثامِ، وما حَملَته القلوبُ من الأمراضِ والأحقادِ، قالَ تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون}[الروم:41]، وقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير}[الشورى:30]، ورتَّبَ على ذلكَ نزولَ الهلاكِ على العاصينَ والمعرضينَ والمتكبرينَ، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِين}[يونس:13].
عبادَ اللهِ: اعلموا أنَّ مِنْ رحمةِ اللهِ تعَالى بعبادِه أَنْ جَعَلَ لهم أسبابًا كثيرةً لرفعِ العذابِ والبلاءِ، حتَّى وإنْ حَصَلَ تقصيرٌ أو عصيانٌ، ومن ذلك ما يلي:
أولا: الرجوعُ إليه تعالى، والحرصُ على طاعتِه وتوحيدِه وتعظيمِه والخوفِ منه، وحسنِ الظنِّ به، فما رَكَنَ العبادُ إلى جنابِه إلا أحاطَهم بعافيتِه وفضلِه ورحمتِه.
ثانيًا: لزومُ التَّوبةِ والاستغفارِ، قالَ اللهُ جلَّ وعلا:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}[النور:31]، وقالَ تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}[التحريم:8].
وقد كان نبيُّنا محمدٌ ﷺ أَحْرصَ الناسِ على التوبةِ والاستغفارِ ، فقد وَرَدَ عنه ﷺ أنَّه قالَ:(إنَّه لَيُغانُ على قَلْبِي، وإنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، في اليَومِ مِئَةَ مَرَّةٍ)(رواه مسلم (2702) ، وفي روايةٍ أنَّه ﷺ قال:(واللَّهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إلَيْهِ في اليَومِ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً)(البخاري (6307).
وعن ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما قال: إنْ كُنّا لنعدُّ لرسولِ اللهِ ﷺ في المجلسِ يقولُ (ربِّ اغفرْ لي وتبْ عليَّ إنَّكَ أنتَ التوابُ الرحيمُ مائةَ مرةٍ)(رواه ابن ماجه (3814)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3090).
ثالثًا: الإحسانُ إلى الخلقِ؛ وهو للأقاربِ ببرِّهم ورحمتِهم والعطفِ عليهِم، وهو لليتامى بالمحافظةِ على أموالِهم، وصيانةِ حقوقِهم، وتأديبِهم وتربيتِهم بالحسنى، والمسحِ على رؤوسِهم، وهو للمساكينِ بسدِّ جوعتِهم، وسترِ عورتِهم، وعدمِ احتقارِهم وازدرائِهم، وإيصالِ النَّفعِ إليهم، وهو لابنِ السَّبيلِ بقضاءِ حاجتِه وسدِّ خلَّتِه، ورعايةِ مالِه، وصيانةِ كرامتِه، وإرشادِه إن استرشدَ، وهدايتهِ إن ضلَّ، وهوَ للأجيرِ بإعطائِه أجرَه قبلَ أَنْ يَجفَّ عرقُه، وهو للخادمِ بعدمِ تكليفِه بمَا لا يطيقُ، وصونِ كرامتِه واحترامِ شخصيَّتِه.
وهو لعمومِ النَّاسِ بالتَّلطُّفِ في القولِ لهم، ومجاملتِهم في المعاملةِ، وإرشادِ ضالِّهم، وتعليمِ جاهِلهم، والاعترافِ بحقوقِهم، وإيصالِ النَّفعِ إليهم، وكفِّ الأذى عنهم، وهو للحيوانِ بإطعامِه إنْ جاعَ، ومداواتِه إنْ مَرِضَ، وعدمِ تكليفِه ما لا يطيقُ، وحملِه على ما لا يقدرُ، وبالرِّفق به إنْ عَمِلَ، وإراحتِه إنْ تَعِبَ.
وقد أثنى اللهُ تعالى على عبادِه المحسنينَ بقولِه تعالى:{واللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِين}، وقالَ ﷺ:(مَن نفَّسَ عن مُؤْمنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنيا؛ نفَّسَ اللهُ عَنه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَوْمِ القِيامَةِ، ومَن ستَرَ مُسْلمًا ستَرَه اللهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، ومَن يسَّرَ على مُعْسِرٍ يسَّرَ اللهُ عليه في الدُّنيا والآخِرَةِ، واللهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كان العَبْدُ في عَوْنِ أَخيه)(رواه مسلم (2699).
والإحسانُ ينفعُ صاحبَه في الدنيا وفي الآخرةِ، فقد وَرَدَ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال:(بيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ برَكِيَّةٍ، كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِن بَغايا بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لهَا بهِ)(رواه البخاري (3467) ومسلم (2245).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}[الزُّمَر:53]
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ من أسبابِ رفعِ العذابِ والبلاءِ عن العبادِ أيضًا:
رابعًا: إصلاحُ القلوبِ والأعمالِ؛ وذلكَ بأنْ نملأهَا إيمانًا ويقينًا وتوكلاً ومحبةً وخشيةً للهِ تعالى، وتواضعًا وحلمًا وصبرًا وحسنَ أخلاقٍ ومحبةً للخيرِ وأهلِه، وكلَّما صَلَحَ قلبُ العبدِ صَلحَتْ نيَّاتُه وأعمالُه.
خامسًا: تذكُّرُ الدارِ الآخرةِ والعملُ لها؛ فالسابقونَ الأولونَ رأوا أنَّ الدنيا ليستْ وطنَهم الذي به يستقرِّون، ومقامَ مستقبلِهم الذي له يَبْنون، وإنَّما هي منزلُ سفرٍ عمَّا قريبٍ عنه يرتحلونَ، فتهيَّأوا بالزادِ المُعينِ لهم على السَّفرِ. يقولُ ابنُ عمرَ رضي الله عنهُما:(أخَذَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ بمَنْكِبِي، فَقالَ: كُنْ في الدُّنْيا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عابِرُ سَبِيلٍ وكانَ ابنُ عُمَرَ، يقولُ: إذا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حَياتِكَ لِمَوْتِكَ “(رواه البخاري (6416).
فهلْ بعدَ ذلكَ ينشغلُ الناسُ بدنيًا حقيرةٍ زائلةٍ، يخرجونَ منهَا بدونِ زادٍ ولو قليلٍ، فلينتبهْ العاقلُ قبلَ فواتِ الأوانِ، وليستيقظْ الغافلُ من سنَا الأوهامِ، وليعملْ كلُّ واحدٍ بمَا يوصلُه إلى رضَا الرحمنِ، وسُكنى الجنَانِ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].
الجمعة: 7 / 7 / 1442هـ