فضل الوقف وثمراته
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ خالقِ كل شيءٍ وهاديه، ورازقِ كلِّ شيءٍ حيٍّ وكافيهِ، وجامعِ النَّاسِ ليومٍ لا ريبَ فيه، العالمِ بكلِّ ما يُبديهِ العبدُ وما يُخفيه، وما يذرهُ وما يأتيه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولا ربَّ لنَا سُواه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه حاملُ لواءِ الحقِّ ومُعليه، ومُعلِّمُ الهُدى وداعيهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه ومَنْ تَبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعدُ: فاتقوا اللهَ حقَّ التَّقوى، وراقبوه في السرِّ والنَّجوى، واعلموا أنَّ تقواهُ خيرُ زادٍ ليومِ المعادِ.
عبادَ اللهِ: حثَّ الإسلامُ على بذلِ الخيرِ، والسعيِ فيه، ودَلَّ على كلِّ ما فيه صلاحٌ للعبادِ والبلادِ، ومن ذلكَ ما يُوقفه المسلمُ في حياتِه أو بعدَ مماتِه، قالَ تعالى:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحـج:77]، وقال تعالى:{وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ}[آل عمران:115] وقال:{وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}[البقرة:280]، وكمْ مِنْ مالٍ أنَفَقَه صاحبُه فكانَ سببًا في نجاتِه، وكمْ مِنْ مالٍ تصدَّق به رَفَعَ في الآخرةِ باذلَه، وكمْ مِنْ إطعامٍ أو كسوةٍ كانتَا سببًا للوقايةِ من كروبِ الدُّنيا وأهوالِ الآخرةِ، وأعظمُ النفقاتِ وأنفسُها عندَ صاحبِها أكثرُها نفعًا للناسِ، وأبقاهَا أثراً؛ وخيرُ الأعمالِ أدومُها وإنْ قلَّ، فما أحسنَ أن يكونَ للمؤمنِ أثرٌ يَبقى له بعدَ موتِه وذخرٌ له عندَ ربِّه، وقدَ حَمَلَ العلماءُ الصدقةَ الجاريةَ على الوقفِ، قالَ جابرٌ رضي اللهُ عنه: (ما بقي أحدٌ من أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ له مقدرةٌ إلا وقَفَ)، وقال الشافعيُّ رحمهُ اللهُ: “بلغني عن ثمانينَ رجلاً من الصحابةِ من الأنصارِ وَقَفَوا”.
وعن مالكِ بنِ أوسِ بنِ الحدثانِ، قالَ: ” كانَ فيمَا احتجَّ بِهِ عمرُ رضيَ اللَّهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: كانَت لرسولِ اللَّهِ ﷺ: ثلاثُ صفايا بنو النَّضيرِ، وخَيبرُ، وفدَكُ، فأمّا بنو النَّضيرِ فَكانت حبسًا لنوائبِهِ، وأمّا فدَكُ فَكانت حبسًا لأبناءِ السَّبيلِ، وأمّا خيبرُ فجزَّأَها رسولُ اللَّهِ ﷺ، ثلاثةَ أجزاءٍ، جُزأينِ بينَ المسلمينَ، وجزءًا نفقةً لأَهْلِهِ، فما فضلَ عن نفقةِ أَهْلِهِ جعلَهُ بينَ فقراءِ المُهاجرينَ)(رواه أبو داود (2967)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2967).
أيُّها المؤمنونَ: إنَّ الوقفَ من أفضلِ الصدقاتِ وأعلاها وأنفعِها؛ لحبسِ أصلِه وتسبيلِ منفعتِه، وهوَ من خصائصِ المسلمينَ. قالَ أَنَسٌ رَضِيَ الله عَنْهُ: (قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ المَدِينَةَ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي، فَقَالُوا: لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى الله)(رواه البخاري (2779)، ومسلم (524)، فكمْ يا عبادَ اللهِ لبني النجارِ من الأجورِ منذُ بُني المسجدُ النَّبويُّ، وحتى يأذنَ اللهُ تعَالى في قيامِ الساعةِ؟.
وفي مَقْدَم النبي ﷺ للْمَدِينَةِ لم يكنْ بها مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غير بِئْرِ رُومَةَ فقال ﷺ:(مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلُ فيها دَلْوَهُ مع دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ له منها في الْجَنَّةِ)(رواه النسائي (3610)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3610)، فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رَضِيَ الله عَنْهُ من صُلْبِ مَاله فَجَعَل دَلْوَه فيها مع دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
عبادَ اللهِ: لقد كانَ الصحابةُ رضي اللهُ عنهم أَحْرصَ النَّاسِ على الوقفِ، وكانوا يتخيَّرون أنفسَ أموالِهم وأغلاها فيتصدَّقونَ بهَا للهِ رجاءَ ثوابِها عندَ اللهِ، فعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال:(كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ الله ﷺ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ:{لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لله، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ الله، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ الله حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ)(رواه البخاري (1461)، ومسلم (998).
ومن أشهرِ الأحاديثِ الواردةِ في الوقفِ، وعدَّه الفقهاءُ أصلاً في نظامِ الوقفِ: ما رواهُ ابنُ عمرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ:(أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ فِي الفُقَرَاءِ وَالقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ)(رواه البخاري (2737)، ومسلم (1632).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم}[آل عمران:92]. باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ أيها المؤمنون، واعلموا أنَّ للوقفِ ثمراتٍ كثيرةً طيبةً مباركةً يَظهرُ أثرُها على المجتمعِ والأمةِ، ومن ذلكَ:
(1) ضمانُ بقاءِ الصدقةِ للواقفِ والموقوفِ عليه.
(2) حفظُ عينِ الصدقةِ من التصرفِ فيهَا ببيعٍ أو هبةٍ أو نحوِها.
(3) تزدادُ نفاسةُ العينِ ويرتفعُ ثمنُها كلَّما تَقَادمَ الزمنُ، إذا أحسنَ ناظرُ الوقفِ إدارتَها، فيكثرُ ريُعها، ويعظمُ نفعُها.
(4) الوقفُ دعامةٌ للقضاءِ على المشكلاتِ الماليةِ والصحيةِ والاجتماعيةِ للأمةِ.
(5) في الوقفِ تربيةٌ للمجتمعِ على القيامِ بأكثرِ حاجاتِه، وتحقيقُ كفايتِه من العيشِ الكريمِ.
(6) بالأوقافِ تَملكُ الأمةُ قرارَها ولا يبتزُّها أعداؤُها في طعامِها وحاجاتِها الضروريةِ.
(7) الوقفُ من أسبابِ ترسيخِ الاستقرارِ.
عبادَ اللهِ: ووصيتي لكلِّ مَنْ أرادَ أَنْ يُوقفَ أن يوَّثق وَقفَه ويضبطَه ويحرَّره مع مراعاةِ حاجاتِ النَّاسِ وضروراتِهم، لضمانِ الحفاظِ عليه واستمرارِ عطائِه والانتفاعِ به. وعلى أصحابِ الأموالِ والموسرين أن يقفوا بعضَ أموالِهم لصالحِ المسلمينَ لئلا تَمضي أعمارُهم ويدهمهم الموتُ ولم يُوقِفوا شيئًا ينتفعونَ بِه بعدَ موتِهم.
وهنا أحب أن أنبه على أمر مهم جدا وهو أن بعض الإخوة مع ظروف الجائحة يصلون الفريضة في المقبرة، وهذا لا يجوز والصلاة باطلة، فانتبهوا ونبهوا غيركم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].
الجمعة: 28/7/1442هـ