حرمة إتيان الكهان وتصديقهم – خطبة الجمعة 23-3-1443هـ
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِِ ربِّ العالمينَ، أَمَرَ عبادَه بالإيمانِ بهِ وتوحيدِه، ونبذِ الشركِ والبعدِ عنه، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدُاللهِ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّم ورضي الله عن صحابته الأخيار، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
أَيُّهَا المؤمنونَ: جاءتْ شريعةُ الإسلامِ تَحثُّ على حفظِ جنابِ التوحيدِ، وتُغْلقُ كلَّ بابٍ يُوصلُ إلى ضدِّهِ من الشركِ والكفرِ، وكانَ نَّبيُّنا ﷺ حَريصًا على سَدِّ كلِّ ذَريعةٍ تَمسُّ جَنابَ التَّوحيدِ أو تُخِلُّ به؛ إذ توحيدُ اللهِ تعالى وإفرادُه بالعُبوديَّةِ أوَّلُ مَطلوبٍ وأعظمُه، وقد تقرَّرَ شرعًا أنَّ كلَّ سببٍ يُوصلُ إلى محرَّمٍ فهوَ محرمٌ، وما كانَ وسيلةً للشركِ فهو شركٌ، ولمَّا كانَ الشركُ الأكبرُ أعظمَ ذنبٍ عُصيَ اللهُ به؛ حرَّم اللهُ ورسولُه ﷺ كلَّ قولٍ أو فعلٍ يُؤدي إليه، أو يكونُ سببًا في الوقوعِ فيه، وكلُّ مَْ خالفَ ما نَهَى عنه النبيُّ ﷺ وحذَّرَ منه وَقَعَ في عظائمِ الذنوبِ.
عبادَ اللهِ: ومِنْ أَخْطرِ ما يَتَعرَّضُ له المسلمونَ اليومَ ويُروَّجُ له عَبْرَ وسائلِ الإعلامِ المرئيةِ والمسموعةِ وبرامجِ التواصلِ الكهانةُ، وهي بابٌ من أبوابِ الشركِ والعياذُ باللهِ، والكهانةُ هي طلبُ العلمِ بالمستقبلِ والإخبارُ عمَّا في الضميرِ، فالكاهنُ مُدَّعٍ لعلمِ الغيبِ، والغيبُ لا يعلمُه إلا اللهُ، وما يتكلَّمُ به الكاهنُ ربَّما يقعُ منه ما أَخْبرَ عنه، وسببُ ذلكَ أنَّ مُسْترقُ السَّمعِ من الشياطينِ يُلقي للكاهنِ ما اسْترَقَه وتسعًا وتسعينَ كَذْبةً، روى البخاريُّ عن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالت : سَأَلَ رَسولَ اللَّهِ ﷺ ناسٌ عَنِ الكُهّانِ، فَقالَ: ليسَ بشيءٍ فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّهُمْ يُحَدِّثُونا أحْيانًا بشيءٍ فَيَكونُ حَقًّا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: تِلكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ، يَخْطَفُها مِنَ الجِنِّيِّ، فَيَقُرُّها في أُذُنِ ولِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ معها مِئَةَ كَذْبَةٍ) رواه البخاري (5762)، وهؤلاءِ الكهَّانُ يَستغِّلونَ جَهَلةَ الناسِ وبُسطائِهم، فيُعلِّقونَ قلوبَهم بهم، ويَنْشرونَ بينهم وعن طريقِهم أنواعَ الشعوذةِ والدَّجلِ، ويَسْلبونَ أموالَهم بالباطلِ.
والكاهنُ كافرٌ لادعائِه عِلْمَ الغيبِ الذي لا يعلمُه إلا اللهُ، ومَنْ أتَاهُ وصدَّقَهُ أنَّه يعلمُ الغيبَ فهو كافرٌ إذا انْتَفَتْ موانعُ تكفيرِه، لقولِه ﷺ:(مَنْ أَتى كاهِنًا فصدَّقَهُ بما يَقولُ فقدْ كفرَ بما أُنزِلَ على محمَّدٍ) رواه أبو داود (3904)، والترمذي (135)، والنسائي (9017)، وابن ماجه (639)، وأحمد (10167) مطولاً، وصححه الألباني في النصيحة (164)، أمَّا مَنْ أتَاهُ سائلاً دونَ تصديقٍ له، فَقَدْ قالَ عنه ﷺ: (مَن أتى عَرّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) رواه مسلم (2230) ، وهذا على سبيل الوعيد.
عبادَ اللهِ: ويلْتحقُ بالكهانةِ حُكْماً بعضُ الصورِ الأخرى، كالرمَّالِ، والضَّربِ بالحصى، وقراءةِ الكفِّ، والفنجانِ، وقراءةِ الأبراجِ، والخطوطِ ونحوِها، ومن ذلك أيضا بعضُ المسميَّاتِ الأخرى مثلُ البرمجةِ العصبيةِ، وتحليلِ الشخصيةِ بالتوقيعِ، والطَّاقةِ الكونيةِ، وغيرِ ذلك ممَّا انتشرَ في عصرِنا الحاضرِ.
واعلموا رحمكم اللهُ أنَّه لا يجوزُ الذهابُ إلى هؤلاءِ الكهنةِ، والجلوسُ إليهم، وسماعهُم، وتصديقهُم، والاستجابةُ لطلباتِهم، والَّلهثُ ورائهم لكشفِ الضُرِّ، أو جلبِ النفعِ، أو رفعِ البلاءِ، أو طلبِ الشفاءِ، أو ردِّ الغائبِ، أو الحصولِ على منفعةٍ دنيويةٍ،
أو غيرِ ذلك من الأعمالِ التي تُنافي حقيقةَ الإيمانِ.
وما يدفعهُ بعضُ النَّاسِ لهؤلاءِ الكُهَّانِ فهو مالٌ حرامٌ، فعن أبي مسعودٍ عقبةَ بنِ عمرو قال:(نَهى رسولُ اللهِ ﷺ عن ثمنِ الكلْبِ وعن مَهْرِ البَغيِّ وعن حُلْوانِ الكاهِنِ) رواه البخاري (2237) وحلوانُ الكاهنِ هي الأجرةُ التي تُدفعُ للكاهنِ لقاءَ قيامِه بالعملِ من كشْفِ الغيبِ، وإزالةِ الضَّررِ، ونحوهِ.
وقد سُئل الشيخُ عبدُ العزيزِ بنِ بازٍ رحمهُ اللهُ: ما حكْمُ الذِّهابِ للسحرةِ والكهنةِ بقصدِ العلاجِ إذا كانَ مضطَّرًا إلى ذلكَ؟ فقال: ” لا يجوزُ الذهابُ إلى الكُهَّانِ والسحرةِ والمشعوذينَ ولا سُواهم، بل يجبُ أن ينبَّه عليهم ويُؤخذَ على أيديْهم ويُمنعوا…” مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (9/259).
وصَدقَ اللهُ العظيمُ: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا}[الإسراء:56].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على المبعوث رحمةً للعالمين، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واحذْروا ممَّا انْتَشرَ في بيوتِ كثيرٍ من الناسِ من قنواتِ الدَّجلِ والشعوذةِ التي تدَّعي القدرةَ على كَشْفِ الضُّرِّ وجلْبِ النَّفعِ، وعلاجِ الأمراضِ، وتأليفِ القلوبِ بين الأزواجِ، وتيسيرِ الأرزاقِ، وغيرِ ذلكَ مما يَبْحثُ عنه جُهَّالُ الناسِ، فهذه القنواتُ مليئةٌ بالمخالفاتِ العقديةِ، من الاستعانةِ بالشياطينِ، وادعاءِ علمِ الغيبِ، وتعليقِ القلوبِ بغيرِ اللهِ جلَّ وعلا، والوقوعِ في الشركِ والكفرِ، لذَا يَحْرُمُ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ مشاهدةُ هذهِ الفضائياتِ وأمثالِها، والتواصلُ معها، وسؤالُها.
أيُّها المؤمنونَ: إنَّ طَلَبَ التداوي والأخذَ بأسبابِ الشفاءِ لا يُنافي التَّوكلَ على اللهِ، واللهُ جلَّ وعلا ما أَنْزلَ داءً إلا أَنْزلَ لهُ دواءً، عَرَفَه مَنْ عَرَفَه وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه، ولم يَجْعلْ شفاءَ عبادِه فيما حرَّمه عليهم، وإنَّ أعظَمَ ما تُعالجُ به الأمراضُ الروحيةُ والسحرُ والحَسَدُ هوَ كتابُ اللهِ جلَّ وعلا، وما وَرَدَ في سنةِ نبيِّه ﷺ ، فإنَّ فيهمَا الخيرَ كلَّه، والشفاءُ كلَّه، فالجؤوا إلى اللهِ، وعظِّموهُ، وعَلَقوا قلوبَكم به، وتوكَّلوا عليهِ حقَّ التَّوكلِ، وأحسنوا الظَنَّ به، وفوِّضوا أمورَكم كلِّها له، فهو سبحانَه وحدَّه الذي يملكُ النَّفعَ والضرَّ، والشفاءَ والعافيةَ، وهو أرحمُ بكم من أنفسِكم ومن الناسِ أجمعينَ.
وعلى الجميعِ التعاونُ مع الجهاتِ المسؤولةِ عن التعاملِ مع هؤلاءِ الكُهَّانِ وغيرهِم، والإبلاغِ عنهم، وتحذيرِ الناسِ منهم، فهم بلاءٌ وشرٌ مستطيرٌ على البلادِ والعبادِ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].
الجمعة: 23 / 3 / 1443هـ