اللجوء إلى الله تعالى – خطبة الاستسقاء 29-3-1443هـ

الخميس 29 ربيع الأول 1443هـ 4-11-2021م

 

الحمدُ للهِ الكريمِ الوهابِ، غفارِ الذنوبِ، ومجيبِ الدعاءِ، يعلمُ ضعفَ العبادِ، ويُنزِّلُ الغيثَ من السماءِ، نحمدهُ سبحانَه حَمْدَ الشاكرينَ، ونستغفرُه استغفارَ التائبينَ المنيبينَ، ونسألُه من فضلِه العظيمِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:

فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].

عبادَ اللهِ: إذَا أجدِبتْ الأرضُ، وانْقطَعَ الغيثُ من السماءِ، واشتدَّ البلاءُ، وكثرتْ اللأواءُ، وقلَّتْ الأرزاقُ، وفشى الغلاءُ، تذكَّرَ العبادُ أنَّهم لم يُحرموا نِعَمَ اللهِ إلا بسببِ ذنوبِهم وتقصيرِهم في جنبِه جلَّ في علاه، فسارعوا إلى الخروجِ لصلاةِ الاستسقاءِ لإظهارِ ضعفهِم وفاقتِهم وحاجتِهم إلى فضلِه، والتوبةِ إليه من ذنوبِهم، ويكثرونَ من الاستغفارِ لينالوا المغفرةَ ونزولَ الغيثِ والمطرِ، فالفرجُ بيدِ اللهِ وحدَه، وهو القائلُ في كتابِه على لسانِ عبدِه هود {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}[هود:52].

أيُّها المؤمنونَ: إِنَّ طَلَبَ الاستسقاءِ عبادةٌ جليلةٌ فيها ذُلٌّ ومسكنةٌ، وتضرُّعٌ ورجاءٌ، وافتقارٌ وإقرارٌ بعظمةِ الباري وقدرتِه، واعترافٌ بنعمتِه وفضلِه، وتخلصٌ من عَجَبِ النَّفسِ وكبريائِها وعتوِّها لعلمِ العبادِ بأنَّ اللهَ تعالى وحدَه هو الذي يَملكُ إرسالَ الرياحِ وإنزالَ المطرِ؛ ولقد أجدَبتْ قُريشٌ في جاهليتِها فطلبوا من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم أن يستسقيَ لهم، فاستسقى لهم فَسُقوا، وخبر ذلك في صحيحِ البخاريِّ.

ولمَّا بعَثَ اللهُ تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أرشدَ أمتَه إلى صلاةِ الاستسقاءِ، وعلَّمهم إيَّاها، فلقد استسقى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دعاءِ خُطبةِ الجمعةِ، وَرَفَعَ يديْه في استسقائِه؛ وشكَا أعرابيٌّ إليه الجدْبَ فَصعِدَ المنبرَ واستسقى بالدعاءِ فقط.

واستسقى كذلكَ بالدعاءِ فقط وهو جالسٌ في المسجدِ، فَرَفَعَ يديِّه ودعَا، واستسقى بالدعاءِ خارجَ المسجدِ، واسْتَسْقَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ لَمَّا سَبَقَهُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَاءِ فَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ الْعَطَشُ، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَاسْتَسْقَى لِقَوْمِهِ كَمَا اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: “أَوَقَدْ قَالُوهَا؟ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَسْقِيَكُمْ ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ وَدَعَا” فَمَا رَدَّ يَدَيْهِ مِنْ دُعَائِهِ حَتَّى أَظَلَّهُمُ السَّحَابُ وَأُمْطِرُوا، فَأَفْعَمَ السَّيْلُ الْوَادِيَ، فَشَرِبَ النَّاسُ فَارْتَوَوْا، وَوَعدَ الناسَ يومًا في المصلَّى، فخرجَ بهم، وصلَّى واستسقى، وهذه الصفةُ هي أصلُ صلاةِ الاستسقاءِ التي لها خطبةٌ ويجهرُ بالقراءةِ فيها، وهي أكملُ صورِ الاستسقاءِ وأعظمُها؛ لأنَّ النَّاسَ يخرجونَ لأجلِها بطلبٍ من وليِّ الأمرِ، الذي أمرهم بالصلاةِ جزاه الله عنا خير الجزاء، وأتمَّ عليهِ الصحةِ والعافيةِ، وألْبسَه لباسَ التَّقوى وحَفظَهَ ووليَّ عهدِه من كلِّ سوءٍ ومكروهٍ.

عبادَ اللهِ: احذروا من شؤمِ المعاصي، قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم: 41]؛ قال مجاهدُ: “إنَّ البهائمَ لتلعنُ عصاةَ بني آدمَ، إذا اشتدَّتْ السنةُ وأَمْسَكَ المطرُ، وتقولُ: هذا بشؤمِ معصيةِ ابنِ آدمَ”، واحذروا مَنْعَ زكاةِ أموالِكم، وبخسَ المكاييلِ والموازينِ، والإعراضَ والغفلةَ عن طاعةِ اللهِ، والجهرَ بالمعاصي والذنوبِ، وظلمَ العبادِ، فكلُّ ذلكَ يُوصلُ إلى محقِ بركةِ الأرزاقِ، واشتدادِ المؤنةِ، وضيقِ الأرزاقِ.

عبادَ اللهِ احذروا بأْسَ اللهِ، وفُجاءةَ نقمتِه، وتَحوَّلَ عافيتِه، وزوالَ نِعَمِه، فإنَّه تعالى لم يكنْ مغيرًا نعمةً أنْعمَها على قومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسِهم، وإنَّه ما نَزَلَ بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفعَ إلا بتوبةٍ، واعلموا أنَّ اللهَ تعالى ما ابتلاكُم إلا لتُقبِلوا عليه، فالتجئوا وتضرَّعوا إليه، وادعوهُ مخلصينَ لهُ الدينَ؛ فهو سبحانَه يُحبُّ الملحينَ؛ فقد قالَ تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..}[غافر: 60]، وتصدَّقوا فإنَّ الصدقةَ تُرضي ربَّكم، وتُطفئُ غَضَبَه، وتدفعُ البلاءَ عنكم.

وأبْشِروا بالخيراتِ والأرزاقِ، وصَدَقَ اللهُ العظيمُ {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}[الشورى: 28].

الَّلهم وفِّق وليَّ أمرِنَا بتوفيقِك واحفظْهُ بحفظِك، واجزِه ووليَّ عهدِه خيرَ الجزاءِ على ما يقدِّمونَه للإسلامِ والمسلمينَ، وأتمَّ على بلادِنا الأمنَ والأمانَ، والسلامةَ والإسلامَ، وزدنَا من الخيراتِ والبركاتِ يا أرحمَ الراحمينَ.

الَّلهم أنت اللهُ لا إلَه إلا أنت، أنتَ الغنيُّ ونحنُ الفقراءُ، أَنْزِل علينَا الغيثَ ولا تجعلنَا من القانطينَ، الَّلهم أَغثْنا، الَّلهم أغثْنا، الَّلهم أغثْنا، الَّلهم أَسْقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، طبقًا مجللًا، سحًّا عامًّا، نافعًا غيرَ ضارٍّ، عاجلًا غيرَ آجلٍ، الَّلهم تُحيْيِ به البلادَ، وتغيثُ به العبادَ، وتجعلُه بلاغًا للحاضرِ والبادِ.

الَّلهم سُقيا رحمةٍ لا سُقيَا عذابٍ، ولا هدمٍ ولا غرقٍ.

الَّلهم أسْقِ عبادكَ وبلادَك وبهائِمكَ وانْشرْ رحمتَك، وأَحْي بلدَك الميتْ.

الَّلهم أَنْبِتْ لنَا الزرعَ، وأدرَّ لنا الضرعَ، وأَنْزلْ علينَا من بركاتِك، واجعلْ ما أَنْزلتَه علينَا قوةً لنا على طاعتِك، وبلاغًا إلى حينٍ.

الُّلهم إنَّا خلقٌ من خلقِك فلا تمنعْ عنَّا بذنوبِنَا فضلكَ.

{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.

الَّلهم يا مَنْ وسعتْ رحمتُه كلَّ شيءٍ، ارحمْ الشيوخَ الركَّعَ، والأطفالَ الرضَّعَ، والبهائمَ الرُّتَّعَ، وارحمْ الخلائقَ أجمعْ، برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ.

عبادَ اللهِ، ولقد كانَ من هديْ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كانَ يَقلبُ الرِّدَاءَ تفاؤلاً بتغييرِ الحالِ، وإذا استسقى اسْتَقبَل القبلةَ، ودعا ربَّه وأطالَ الدعاءَ، فتأسَّوا بنبيكم، وادعُوا اللهَ وأنتمْ مُوقنونَ بالإجابةِ؛ عسى ربُّكم أن يرحمَكم، فيغيثَ قُلوبَكم بالرجوعِ إليهِ، وبلادَكم بإنزالِ الغيثِ.

وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّ الرحمةِ، النبيِّ المجتبى وإمامِ الحنفاءِ، صلَّى اللهُ عليه وآلِه وصحبِه وسَلَّمَ تسليما كثيرا.