سلفنا الصالح وأحوالهم في رمضان – خطبة الجمعة 14-9-1443هـ

الجمعة 14 رمضان 1443هـ 15-4-2022م

 

الخطبة الأولى:

إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا مَنْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:

فاتّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ حقَّ التَّقوى واستمسكوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقى، واعلموا أنَّ الجنَّةَ أعدَّها الرحمنُ لمن اتَّقى.

عبادَ اللهِ: ما أسرعَ مرورَ اللَّيالي ومضيَّ الأيَّامِ، وانقضاءِ الأوقاتِ وذهابَ الأعوامِ. منذُ أيامٍ دَخَلَ شهرُ رمضانَ، ثمَّ ها هو اليومَ قد بادرَ على الانتصافِ كلمحٍ بالبصرِ، وفي ذلكَ عبرةٌ لمن تفكَّر في سرعةِ مضيِّ الأعمارِ والأزمانِ.

لقد كان سلفُنا الصالحُ يهتمُّون بهذا الشهرِ اهتمامًا بالغًا، ويحرصونَ على ساعاتِه الثمينةَ أشدَّ الحرصِ في شتَّى الطاعاتِ والقرباتِ، ومن مظاهرِ استغلالِهم لهذا الشهرِ الكريمِ ما يأتي:

أولاً: حرصُهم على قراءةِ القرآنِ: فهذا الأسودُ بنُ يزيدٍ I يُروى عنه أنَّه كان يَعكُف على القرآنِ في رمضانَ حتى يختمَه كلَّ ليلتينِ ، وكذلك كان يفعلُ سعيدُ بنُ جبير، وكان قتادةُ يختمُ القرآنَ في سبعٍ، وإذا جاءَ رمضانُ خَتَمَ في كلِّ ثلاثٍ، فإذا جاءَ العشرُ خَتَمَ كلَّ ليلةٍ.

وهذا مالكُ بنُ أنسٍ كان إذا دَخَلَ عليه رمضانُ يُقبلُ على تلاوةِ القرآنِ من المصحفِ، ويتركُ كلَّ شيءٍ حتى مدارسةَ الحديثِ.

وهذا سفيانٌ الثوريُّ كان إذا دَخَلَ عليه رمضانُ تَرَكَ كلَّ مشاغلِ الدنيا، وأقْبلَ على قراءةِ القرآنِ.

وكذا الإمامُ البخاريُّ كان يجلسُ بعدَ صلاةِ القيامِ ليختمَ القرآنَ كلَّ ثلاثِ ليالٍ. وكان الزهريُّ إذا دَخَلَ عليه رمضانُ يتركُ قراءةَ الحديثِ، ومجالسةَ أهلِ العلمِ، ويُقبلُ على تلاوةِ القرآنِ من المصحفِ.

ثانيا: قيامُ الليلِ في رمضانَ: فهو دأْبُ الصالحينَ، وصفةُ المحبينَ، أثنى عليهم ربُّ العالمينَ في كتابهِ بقولِه: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان:64]، روى مالكُ في الموطأِ عن عبدِ اللهِ بنِ أبي بكرٍ L أنه قال: سمعتُ أبي يقولُ:” كنَّا ننصرفُ في رمضانَ من القيامِ فيستعجلُ أحدُنا الخدمَ بالطعامِ مخافةَ الفجرِ“.

يقولُ نافعُ مولى ابنِ عمرَ L: سمعتُ ابنَ أبي ملكيةَ يقولُ: كنتُ أقومُ بالنَّاسِ في شهرِ رمضانَ فأقرأُ في الركعةِ الحمدُ للهِ فاطرِ ونحوِها، وما يبلغني أنّ أحداً يستثقلُ ذلك.

وقال يزيدُ بنُ خَصْفةَ عن السائبِ بنِ يزيدِ: كانوا يقومونَ على عهدِ عمرَ بنِ الخطابِ I في شهرِ رمضانَ بعشرينَ ركعةٍ، وكانوا يقرءونَ بالمائتينِ.

فأين الذينَ يتسابقونَ في الخروجِ مِنَ المسجدِ ويُخففونَ التَّراويحَ حتَّى أنَّهم لا يُقيمونَ رُكوعهَا ولا سُجودُها؟ أينَ خُصوصيةَ هذا الشهر المبارك؟.

 ثالثًا: الإنفاقُ والبذلُ في رمضانَ: كان رسولُ اللهِ ﷺ أجودَ النَّاسِ، وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضانَ، كان أجودُ بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ، وقد قالَ ﷺ عندمَا سُئلَ عن أيِّ الصدقةِ أفضلُ:(صَدقةٌ في رمضَانَ) رواه الترمذي (663)، وقال الألباني في الترغيب والترهيب (2/131):إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما.

ولمَّا عَلِمَ السَّلفُ فَضْلَ ذلكَ أقبلوا عليه بنفوسٍ راضيةٍ، فهذا ابنُ عمر L روي عنه أنَّه كان لا يفطرُ في رمضانَ إلا مع المساكينِ، ويحافظُ على ذلكَ باستمرارٍ، فإذا مَنَعَهم أهلُه عنه لم يتعشَّ تلكَ الليلةِ!.

وهذا واثلةُ بنُ الأسقعِ I يقولُ: حَضَرَ رمضانُ ونحنُ في أهلِ الصُّفةِ فَصُمنَا، فكنَّا إذا أفطرنَا أتى كلُّ رجلٍ منَّا رجلاً من أهلِ السَّعةِ فأَخَذَه فانطلقَ به فعشَّاه. وهذا أحمدُ بنُ حنبلَ يأتي إليه سائلٌ فيدفعُ إليه رغيفينِ كان يُعدِّهما لفطرِه ، ثمَّ يَطوي ويصبحُ صائماً، كما وَرَدَ أيضاً أنَّ داوودَ الطائيَّ ومالكَ بنَ دينارٍ كانَا يؤثرانِ بفطورهِما وهما صائمانِ.

وكان الشافعيُّ يقولُ: أُحبُّ للرجلِ الزيادةَ بالجودِ في شهرِ رمضانَ اقتداءً برسولِ اللهِ ﷺ ، ولحاجةِ النَّاسِ فيه إلى مصالحِهم، ولتشاغلِ كثيرٍ منهم بالصَّومِ والصلاةِ عن مكاسبهِم.

رابعًا: استغلالُ العشرِ الأخيرةِ منه والحرصُ على سنةِ الاعتكافِ في رمضانَ: فقد حَرصَ النَّبيُّ ﷺ عليها أشدَّ الحرصِ (فكان يعتكفُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ حتَّى قَبَضَه اللهُ) رواه مسلم (1171)،  وعن عائشةَ J أنَّها قالتْ:(كانَ النبيُّ ﷺ إذا دَخَلَ العشرْ أحيا اللَّيلَ وشدَّ المئزرَ وأيقظَ أَهلَهُ) رواه البخاري (2024)، مسلم (1174)، وهكذا سارَ السلفُ من بعدِه.

خامسًا: كانَ من عادةِ السلفِ أيضًا تركُ الهَزَلِ في رمضانَ وحفظُ الجوارحِ عن كلِّ ما يشينُ، كانَ أبو هريرةَ I يقولُ: “إذا كنتَ صائماً فلا تجهلْ ولا تسابُّ أحدًا، وإنْ جُهِلَ عليكَ فقل: إنِّي صائمٌ”، وكانوا حريصينَ على استثمارِ أوقاتِهم، واغتنامِ ساعاتِ ليلهِم ونهارهِم. حتى كانَ أحدُهم أشحَّ على وقتِه من صاحبِ المالِ على مالِه.

قالَ ابنُ مسعودٍ I: “ما نَدِمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غَرَبتْ شمسُه نَقَصَ فيه أجلي ولم يزددْ فيه عملي”.

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين}[العنكبوت:69].

باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعدُ:

فاتقوا الله أيُّها المؤمنونَ، واعلموا أنَّ أيامَ العتقِ باتتْ تنقضي يومًا بعدَ يومٍ، وهذا شهرُ الرَّحمةِ والغفرانِ يوشكُ أن يودَّعكم، ألا فلنصمْ صيامَ مودِّعٍ ولنصلِّ صلاةَ مودِّعٍ، ولنقمْ قيامَ مودِّعٍ ولَنتبْ إلى اللهِ تَوبةَ مودِّعٍ، ولنبذلْ كلَّ خيرٍ بَذْلَ مودَّعٍ، ولنعلمْ أنَّ للهِ تعالى في هذا الشهرِ عُتقاءَ من النَّارِ وذلكَ في كلِّ ليلةٍ، فالصَّبرَ الصَّبرَ، والمرابطةَ المرابطةَ، والمجاهدةَ المجاهدةَ، فكلُّها أيامٌ معدودةٌ ويرحلُ عنَّا.

فيا أيُّها المجتهدُ المحسنُ فيما مضى، دُمْ على طاعتِك وإحسانِك فيما بقي، ويا أيُّها المسيءُ المفرِّطُ الغافلُ، وبِّخْ نفسكَ على التَّفريطِ ولمُها على التَّقصيرِ، وقلْ لي بربِّك إذا خسرتَ في هذا الشَّهرِ فمتى ستربحْ؟ وإلى متى التَّفريطُ والتَّهاونُ؟ كفى لهوًا وسهوًا ونومًا وغفلةً! .

فعلينا أن نستغلَ ما بقيَ من شهرِنا، وأن نصلحَ فيه نيَّاتِنا وأعمالَنا، وأن نُرِيَ اللهَ من أنفُسِنا خيرًا، وأن نقتديَ بمن سَلَفَ، عسى أن يكتبنَا اللهُ وإيَّاكم من المرحومينَ في هذا الشهرِ العظيمِ.

هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمدِ بنِ عبدِ اللهِ فقد أَمَرَكم اللهُ بذلك فقال جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦]. 

     14/9/1443هـ