فضل العشر الأواخر من رمضان – خطبة الجمعة 21-9-1443هـ

الجمعة 21 رمضان 1443هـ 22-4-2022م

 

الخطبة الأولى:

إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا مَنْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ واعلموا أنَّ الجنَّةَ قد أعدَّها اللهُ تعالى لعبادهِ المتقينَ المحسنينَ .

عبادَ اللهِ: ها هي ليالي العابدينَ، وقرةُ عيونِ القانتينَ، وملتقى القائمينَ الراكعينَ الساجدينَ الخاشعينَ، ومحطُّ المخبتينَ، ومأوى المجتهدينَ الصابرينَ، قد أقبلتْ، إنَّها عَشْرُ المغفرةِ والنَّفحاتِ، عَشْرُ إقالةِ العَثَراتِ، وتكفيرِ السيِّئاتِ، واستجابةِ الدَّعواتِ، عَشْرٌ تصفو فيها الأوقاتُ بلذيذِ المناجاةِ، وتُسكبُ فيها العَبَراتُ، فيها يحلو الدعاءُ، ويكثرُ البكاءُ، ويزيدُ الشوقُ والحنينُ إلى اللهِ ودخولِ الجناتِ، إنها ليالٍ معدودةٌ، عاليةُ الفضلِ، عظيمةُ القدرِ، والكيَّسُ مَنْ جاهدَ فيها نفسَه للهِ، وبادرَ باستغلالِها، وقدَّم فيها ذخرًا للدارِ الآخرةِ، فيا لسعادةِ السعداءِ، الذين هاجروا في هذهِ العَشْرِ إلى اللهِ، وهجروا مِنْ أجلِه كلَّ محبوبٍ ومرغوبٍ ومطلوبٍ، واشتغلوا فيها بنَيْلِ رضاه، وكانوا من أكرمِ القادمينَ على اللهِ.

ولقد كان نبيُّنا ﷺ  يجتهدُ في هذهِ العشرِ ما لا يجتهدُ في غيرِها، وكانَ يعتكفُ فيها ويتحرَّى ليلةَ القدرِ، فعن عائشةَ J قالت:(كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ إذا دَخَلَ العَشْرُ، أَحْيا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ)، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (2024)، وَمُسْلِمٌ (1174). فينبغي أن نجتهدَ فِيها، وألا نضيِّعَ ساعاتِها الثمينةَ؛ والمرءُ منَّا لا يدري فإنَّه قد لا يدركُها مرةً أخرى.

أيُّها المؤمنونَ: ومن أعظمِ خصائصِ هذهِ العشرِ المباركةِ؛

(1) أنَّ فيها ليلةَ القدرِ، قال الله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: 1 ـ 3].

(2) هذه الليلةُ نَزَلَ فيهَا القرآنُ جملةً واحدةً، قال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }[القدر: 1].

(3) وَصَفَهَا اللهُ تعالى بأنَّها خيرٌ من ألفِ شهرٍ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}،  (4) وَصَفهَا سبحانه بِأَنَّهَا مُبَارَكَة: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3].

(5) يكثرُ فيها تنزُّلُ الملائكةِ لبركتِها وعظيمِ قدرِها، قَالَ تَعَالَى:{تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر: 4]، وهي ليلةٌ سالمةٌ، من كلِّ آفةٍ وشرٍّ لكثرةِ خيرِها.

(6) العبادةُ فيها خيرٌ من عبادةِ ثلاثٍ وثمانينَ سنةً، وقد حَثٌّ النبيُّ ﷺ عَلَى تحرِّيهَا وقِيَامِهَا، قال ﷺ:(تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ) رواه البخاري(2017).

(7) مَنْ قامهَا غَفَرَ اللهُ له ما تقدَّمَ من ذنبِه، قال ﷺ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) رواه البخاري (35)، ومسلم (760)، فما أعظمَ الربحَ لِمنْ اجْتَهدَ في تحصيلِها وقيامِها وقبولِها.

عبادَ اللهِ: وقد رجَّح بعضُ العلماءِ أَنَّ ليلةَ القدرِ تَتَنقَّلُ كلَّ عامٍ، وليستْ في ليلةٍ معيَّنةٍ، قال النَّوويُّ رحمهُ اللهُ:(وهذا هو الظَّاهرُ المختارُ لتعارضِ الأحاديثِ الصَّحيحةِ في ذلك، ولا طريقَ إلى الجمعِ بينَ الأحاديثِ إلا بانتقالِها) المجموع (6/450)، وإنَّما أخفى اللهُ تعالى هذه اللَّيلةَ ليجتهدَ العبادُ في طلبِها.

(وعلامةُ ليلةِ القَدْرِ أنَّها صافيةٌ بَلْجةٌ، كأنَّ فيها قَمرًا ساطعًا، ساكنةٌ ساجيةٌ لا بَرْدَ فيها ولا حَرَّ، ولا يَحِلُّ لكَوكبٍ أنْ يُرمى به فيها حتى تُصبِحَ، وإنَّ أمارتَها أنَّ الشَّمسَ صَبيحتَها تَخرُجُ مُستَويةً ليس لها شُعاعٌ، مِثلَ القَمرِ لَيلةَ البَدرِ، لا يَحِلُّ للشَّيطانِ أنْ يَخرُجَ معها يومئذ) رواه أحمد (22765)،  وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريج المسند (2276).

فينبغي للمؤمنِ أن يجتهدَ في هذهِ العشرِ أكثرَ مما يجتهدُ في غيرِها، ويُكثرَ فيها من الدُّعاءِ والتضرُّعِ إلى اللهِ بطلبِ العفوِ والمغفرةِ والعتقِ من النيرانِ. قَالَتْ عَائِشَةُ J: يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ إن وافقتُ ليلةَ القدرِ ما أدعو قالَ تقولينَ: (اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي) رواه ابن ماجه (3850)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3119)،

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر: 1 ـ 5].

باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيمِ ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعدُ:

فاتُّقوا الله أيُّها المؤمنونَ، واعلموا أنَّ مِنَ الأعمالِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ القيامُ بها فِي هَذِهِ الْعَشْرِ؛ الْاِعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ كَانَ نبينا ﷺ أحرص ما يكون على الاعتكاف، فعن أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ رسول الله ﷺ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ ثُمَّ الْوَسَطَ، ثُمَّ أخبرهم أَنَّه كان يلتمس ليلة القدر، وأنه أريها في العشر الأواخر، وقال: (مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِيَ فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ) رواه البخاري.

وعن عائشةَ J أنَّ النَّبِيَّ ﷺ (كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَاهُ اللهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) رواه البخاري (2026)، ومسلم(1172).

وعنها J قالت:(كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ، ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ) رواه .

وعنها J (وَكَانَ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ) رواه مسلم (1172).

والسنةُ للمعتكفِ أن يدخلَ المسجدَ قبلَ غروبِ الشَّمسِ من اليومِ العشرين، ولا بأسَ باعتكافِ بعضِ أيامِ العشرِ، ويُسنُّ له الاشتغالُ بالطَّاعاتِ من الصلاةِ وقراءةِ القرآنِ والذكرِ والدعاءِ، ويحرمُ عليه الجماعُ ومقدِّماتُه؛ ولا يخرجُ من المسجدِ إلا لحاجةٍ لا بدَّ منها، وله أَنْ يشترطَ الخروجَ لشيءٍ معينٍ.

أيُّها المؤمنونَ: الكيِّسُ الفَطِنُ يعلمُ يقينًا أنّ هذهِ العشْرَ موسمٌ عظيمٌ، وهي أيامٌ وليالٍ تكثرُ فيها المغفرةُ والعتقُ من النَّارِ، فلنمضي جميعًا قُدمًا إلى أبوابِ الرحماتِ، ولا نكسلُ ولا نضعُفُ أمامَ شهواتِ النفسِ الضعيفةِ، ولنعلمْ أنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل.

أسالُ اللهَ تعالى أن يوفّقنَا وإيَّاكم في هذهِ العشرِ للعملِ الصالحِ المُتقبلِ، وأَنْ يبلِّغنَا ليلةَ القدرِ، وأَنْ يعينَنَا على قيامِها إيمانًا واحتسابًا.

هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمدِ بنِ عبدِ اللهِ فقد أَمَرَكم اللهُ بذلك فقال جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦]. 

     21/9/1443هـ