أصحاب الهمم العالية (2)

الجمعة 29 شوال 1439هـ 13-7-2018م

لقد حذر الله جل وعلا من الوقوع في الدنيا فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) سورة فاطر الآية ( 5 ).
ووجه الاغترار بالدنيا أن فيها مباهج ومناظر وملذات للأنفس والأعين والأسماع تهواها نفسه بطبيعتها وتؤثرها على ما سواها قال الله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) سورة الأعلى الآيتان(16/17). وقال تعالى: (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ) سورة القيامة الآيتان( 21/22). فإذا تركت النفس وشأنها زاد تعلقها بالدنيا وزاد التصاقها بها حتى تصبح هي كل غايتها ومنتهى أملها ومبلغ علمها قال تعالى: ( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا). سورة النجم الآية (29). وعلاج ذلك كله تخليص القلب من أسرارها وطرد تعلقه بها بأن يجعل زوالها نصب عينيه ويجزم بلقاء الآخرة وما أعد الله فبها من النعيم المقيم لأوليائه. ويتدبر الآيات المنزلة مثل قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً). سورة الإسراء الآيتان (18/19). وقوله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) سورة النساء الآية(77). وقوله تعالى: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) سورة الشورى الآية(20). والله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) سورة يونس الآيتان(6/7). إن أصحاب العقول الراجحة يقارنون بين ملذات الدنيا وملذات الآخرة وهنا يرجحون دون أدنى شك الآخرة على الدنيا ويستصحبون معهم قطع الأمل في هذه الدنيا ويحسون أنهم في غربة وأنهم مسافرون عنها وعما قليل سيرحلون وهذا الرحيل إجبارياً وليس اختيارياً
وإذا وسوس لهم الشيطان وألقى في روعهم أنهم شباب وأنهم في صحة وعافية وبإمكانهم الرجوع إلى الطاعة والإقبال على الآخرة في سن متأخرة فإنهم يطردون هذا الوسواس باستحضار الذين رحلوا شباباً وكهولاً وهم الآن تحت الثرى ومتى وقف المسلم وقفة محاسبة وهو في المقبرة تذكر من عيش وفاتهم من الصغار والكبار والأغنياء والفقراء والرجال والنساء وجزم أنه بعد وقت سيثوى معهم وهنا لا ينفعه إلا عمله الصالح فهذا يعطيه دافعاً للعمل وزيادة الطاعة والعبادة وهنا يتجهز للآخرة بعمل الطاعات إذ لا يدري متى ينادى عليه بالرحيل وكلما زاد تعلق العبد المؤمن بالآخرة خفت روحه وسمت وتلذذت بأنواع العبادة وزهدت في الدنيا ومتاعها الزائل. وقد أوصى الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ابنه الحسن بقوله: ( أحي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة وقوِّه باليقين ونوره بالحكمة وذلِّله بذكر الموت وقرِّره بالفناء وبصره بفجائع الدنيا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام واعرض عليه أخبار الماضين وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين وسر في ديارهم وآثارهم وانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا عن الأحبة وحلوا في دار غربة وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك… الخ هذه الوصية الطويلة العظيمة.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.