خطر الرشوة على الفرد والمجتمع – خطبة الجمعة 29-10-1444هـ

الجمعة 29 شوال 1444هـ 19-5-2023م

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ إلى يوم الدين، أمَّــا بَعْـدُ:

فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِوَصِيَّةِ اللهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} النساء: [131].

أيُّهَا المُؤمنونَ: آَفَةٌ مِنَ الْآَفَاتِ وَالْعُيُوبِ، وَكَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، تَنُمُّ عَنْ فَسَادِ النِّيَّةِ، وَضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَسُوءِ الطَّوِيَّةِ، وقِلَّةِ الْخَوْفِ مِنَ الرَّحْمَانِ، وَهِيَ عُنْوَانٌ لِلْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ، وَإِيذَانٌ بِالْهَلَاكِ وَالْخَرَابِ، أَلَا وَهِيَ الرِّشْوَة.

والرِّشْوَةُ عِبَادَ اللهِ: أَكْلٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} النساء: [29] تَوَعَّدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يَسْتَحِلُّهَا، أَوْ يَتَعَامَل بِهَا بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْخِزْيِ الْعَظِيمِ، قَالَ سُبْحَانَهُ عَن الْيَهُودِ: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} المائدة: [41-42] قاَل الْمُفَسِّرُونَ: (سَمِعُوا كِذْبَةً وَأَكَلُوا رِشْوَةً) وقَالَ مَسْرُوق: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ عَنِ  السُّحْتِ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يَطْلُبُ الْحَاجَةَ لِلرَّجُلِ فَيَقْضِيَهَا، فَيُهْدِي إِلَيْهِ فَيَقْبَلُهَا. وهَذَا فِيمَنْ تُهْدَى إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يَطْلُبهَا، فَمَا بَالُكُمْ بِمَنْ يَطْلُبهَا؟ بَلْ، وَيَشْتَرِطهَا!

أيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: والرِّشْوَةُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، واللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، وَدَاءٌ عضَالٌ ابْتُلِيَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَآَفَةٌ سَامَّةٌ دَبَّتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُؤَسَّسَاتِ، وَشَاعَتْ فِي عَدَدٍ مِنَ الْهَيْئَاتِ، اسْتَبَاحَهَا أَقْوَامٌ انْطَفَأَتْ جَذْوَة الْإِيمَانِ فِي صُدُورِهِمْ، وَطَالَ عَلَيْهِم الْأَمَدُ فَفَسَدَتْ قُلُوبُهُمْ، سَيْطَرَ الشَّيْطَانُ عَلَى عُقُولِهِمْ، وَامْتَلَأَتْ بِالْحَرَامِ أَفْوَاهَهُمْ، لَا يَرْجُونَ للهِ وَقَارًا وَلَا يَتَّخِذُونَ مِنْ عِبَادِهِ حُجُبًا وَلَا أَسْتَارًا، وَفِي الْحَدِيثِ: (لَعَنَ رسولُ اللهِ ﷺ الراشِيَ والمرْتَشِيَ) أخرجه الترمذي (1336) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٢٦٢٠) وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِم (وَالرَّائِش: يَعْنِي الّذي يَسْعَى بَيْنَهُمَا).

عِبَادَ اللهِ: جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأسْدِ على الصدقة، يُقَالُ له: ابنُ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قالَ: هذا لَكُمْ، وَهذا لِي، أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ رَسولُ اللهِ ﷺ علَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عليه، وَقالَ: (ما بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فيَقولُ: هذا لَكُمْ، وَهذا أُهْدِيَ لِي، أَفلا قَعَدَ في بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ في بَيْتِ أُمِّهِ، حتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَنَالُ أَحَدٌ مِنكُم منها شيئًا إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إبْطَيْهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ، هلْ بَلَّغْتُ؟ مَرَّتَيْنِ) أخرجه مسلم (1832)

أيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وللرِّشْوَةِ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وأَلْوَانٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَمُسَمَّيَاتٌ مُتَبَايِنَةٌ فمَرَّة هَدِيَّة، وتَارَة إِكْرَامِيَّة، وأَضْرَارُهَا لَا تَتَنَاهَى مِنْ طَمْسِ الْحَقِّ، أَو السُّكُوتِ عنِ الْبَاطِلِ، أَوْ إِعْطَاءِ مَنْ لَا يَسْتَحِقّ، ومَنْعِ مَنْ يَسْتَحِقّ، أَوْ تَقْدِيم الْمُتَأَخِّر، وَتَأْخِير الْمُتَقَدِّم، والتَّجَاوُز عنِ الشُّرُوط، والْإِخْلَال بِالْمُوَاصَفَات والْعَبَث بِالْمُنَاقَصَات، فَتَعُمّ الْبَلْوَى، وَتَسُوء الْعَاقِبَة.

عِبَادَ اللهِ: والرِّشْوَة بِذْرَةٌ للشَّحْنَاءِ والضَّغِينَةِ، وَسَبِيلٌ لِهَدْمِ الْأُمَمِ، وَإِفْسَادِ الْحَضَارَاتِ، وَغِيَابِ الْكَفَاءَاتِ، فَهِيَ تُخْفِي الْحَقَائقَ، وَتَسْتُرُ الْقَبَائِحَ، وَتُزَيِّنُ الْبَاطِلَ، فَأَيُّ بَرَكَةٍ تُرْجَى مِنْ عَمَلٍ لَا يُنْجَزُ إِلَّا بِمَعْصِيَةٍ للهِ وَرَسُولِهِ؟ وَأَيُّ خَيْرٍ يُؤَمَّلُ مِنْ عَامِلٍ وَقَفَ سَدًّا مَنِيعًا فِي سَبِيلِ مَصَالِحِ النَّاسِ وَأُمُورِ مَعَاشِهِمْ؟ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.  

أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرِّجِيمِ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} النمل: [35-36]. أقولُ قَوْلِي هَذا، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:

الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشُّكْرُ له على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ ألّا إلهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، الدَّاعِي إلَى رضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ: واعْلَمُوا أَنَّ بِلَادَنَا -حَفِظَهَا اللهُ- تَضْرِبُ بِيَدٍ مِنْ حَدِيدٍ عَلَى أَيْدِي الْعَابِثِينَ وَالْمُفْسِدِينَ، وَتَهْدِمُ بِمِعْوَلٍ صَلْبٍ آَمَالَ الرَّاشِينَ وَالْمُرْتَشِينَ، وَلَا تَتَهَاوَن فِي قَضَايَا الْفَسَاد الْمَالِيِّ وَالْإِدَارِيِّ، وَاسْتِغْلَالِ الْوَظِيفَةِ، والثَّرَاءِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ، وتَقْتَلِعُ بِقُوَّةٍ وَجَلَدٍ جُذُورَ الْفَسَادِ، بِوَاسِطَةِ رِجَالِ الرَّقَابَةِ، ومُكَافَحَةِ الْفَسَادِ، والتَّحَرِّيَّاتِ الْإِدَارِيَّةِ.

واعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ لَكُمْ دَوْرًا تِجَاهَ هَذَا الْوَطَن الَّذِي تَعِيشُونَ عَلَى ثَرَاهُ بِأَنْ تَكُونُوا صَمَّامَ أَمَانٍ فِي وَجْهِ الْعَابِثِينَ، وَعَيْن يَقِظَة عَلى الْمُرْتَشِينَ بِالْإِبْلَاغِ الْفَوْرِيِّ عَنْهُمْ عَلَى الرَّقْمِ الْمُخَصَّص لِتَلَقِّي الْبَلَاغَاتِ تسعمائة وثمانون (980) بِسِرِّيَّةٍ وَأَمَانٍ، فَبَادِرُوا -رَعَاكُمُ اللهُ-.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: اعْلَمُوا أنَّ هَذَا الْمَالَ حَلَالُهُ حِسَابٌ، وحَرَامُهُ عِقَابٌ، واحْذَرُوا الرشوة، فإنها أَكْلٌ لأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، قالَ ﷺ: (يَأْتي على النّاسِ زَمانٌ لا يُبالِي المَرْءُ ما أخَذَ منه؛ أمِنَ الحَلالِ أمْ مِنَ الحَرامِ) أخرجه البخاري (2059) واحْذَرُوا مَغَبَّةَ أَكْلِ الْحَرَامِ، قالَ ﷺ (يَا كَعْبُ بْنَ عُجرةَ إنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ) أخرجه الترمذي (614).

اللَّهُمَّ اكْفِنَا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، واغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، وَارْزُقْنَا حَلَالًا طَيِّبًا، وَقَنِّعْنَا بِمَا رَزَقْتَنَا، اللَّهُمَّ جَنِّبْ بِلَادَنَا الْفَسَادَ وَالْمُفْسِدِينَ، وَاجْعَلْهَا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِر بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِنَا لكلِّ خيْرٍ، واصْرِفْ عنهُمَ كُلَّ شَرٍّ، واجْعَلْهُمْ ذُخْرًا للإسلامِ والمسلمينَ، واجْعَلْهُمْ سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ، وَحَرْبًا عَلى أَعْدَائِكَ وارْزُقْهُم البِطَانَةَ النَّاصِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وتُعِينُهُمْ عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ رجالَ الأمنِ، ومكافحة الفساد، والمُرَابِطِينَ على الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أيمانِهِمْ وعنْ شمائِلِهِمْ ومِنْ فَوْقِهِمْ، ونعوذُ بعظَمَتِكَ أنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.

اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ، واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وجيرانَنَا، ومَنْ لهُ حقٌّ علينَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.             

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.                    

     الجمعة 1444/10/29هـ