فضل شهر الله المحرم وصوم عاشوراء – خطبة الجمعة 3-1-1445هـ

الجمعة 3 محرم 1445هـ 21-7-2023م

الحمدُ للهِ ذِي العِزَّةِ والْجَلالِ، المحْمُود بكلِّ لِسَانٍ، وعَلَى كُلِّ حَالٍ، بِلُطْفِهِ تُدْرَكُ الآمالُ وإلَيْهِ المرجِعُ والمآلُ، أَحْمَدُهُ سبحانَهُ حَمْدًا كثيرًا، وأَشْكُرُهُ على نِعَمِهِ بُكْرَةً وَعشيًّا، لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.

وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسُولُهُ، أَرْسَلَهُ رحمَةً لِلْعَالمينَ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلى يومِ الدينِ أمَّــا بَعْـدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، واعْلَمُوا أنّ في تَقْوَاهُ النَّجَاةَ، قَالَ تَعَالَى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الزمر: [61].

أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: انْظُرُوا إِلى آَثَارِ رَحْمَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لا يَنْقَضِي مَوْسِمٌ للخيرِ، إلا ويَتْلُوهُ مَوْسِمٌ آخرُ، آلاءُ اللهِ تَتَوَالَى، ونَفَحَاتُهُ تَتْرَى، ونِعَمُهُ تَتَتَابَعُ عَلَى خَلْقِهِ، فبِالأَمْسِ القَريبِ تَوَارَتْ شمسُ عامٍ هجريٍ بانقضاءِ شهرِ ذيِ الحِجَّةِ، وهو شهرٌ حَرَامٌ؛ لتتجددَ النفحاتُ الإيمانيةُ والهِبَاتُ الرّبانيةُ بِشَهْرِ اللهِ المحَرّمِ أحدِ الأشهرِ الحُرمِ؛ لِيَزْدَادَ المؤمنونَ إيمانًا معَ إيمانِهِم، ويَنْعَمُوا بِمَوَاسِمَ إيمَانِيَّة، تكونُ مِنْحَةً للعَابِدِينَ، وفُرْصَةً لتوبةِ العصاةِ والمذنبينَ، قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) التوبة:[36].

عِبَادَ اللهِ: وَشَهْرُ اللهِ المحَرَّم هو أَحَدُ الأشْهُرِ الحُرُمِ التي ذكرهَا النبيُّ ﷺ في قولِهِ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) أخرجه البخاري (3197) ومسلم (1679).

أيُّهَا المؤمنونَ: ومِنَ العباداتِ المشروعةِ في شهرِ اللهِ المُحَرَّمِ، الإكثارُ مِنْ نَافلةِ الصِّيَامِ فقدْ سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: أَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ؟ وَأَيُّ الصِّيامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضانَ؟ فَقالَ: (أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ المَكْتُوبَةِ، الصَّلاةُ في جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضانَ، صِيامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ) أخرجه مسلم (1163).

عِبَادَ اللهِ: وفِي ثَنَايَا شَهْر اللهِ المُحَرَّم تَبْصِرَةٌ وذكرى لكلِّ عَبْدٍ مُنِيب، وعِظَةٌ وعِبْرَةٌ لكُلِّ حَصِيفٍ لَبِيبٍ، وهوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، ففي الصحيحينِ مِنْ حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدِمَ المَدِينَةَ فَوَجَدَ اليَهُودَ صِيامًا يَومَ عاشُوراءَ، فَقالَ لهمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ما هذا اليَوْمُ الذي تَصُومُونَهُ؟ فَقالوا: هذا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أنْجى اللهُ فيه مُوسى وقَوْمَهُ، وغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وقَوْمَهُ، فَصامَهُ مُوسى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَنَحْنُ أحَقُّ وأَوْلى بمُوسى مِنكُم فَصامَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وأَمَرَ بصِيامِهِ) أخرجه البخاري (2004) ومسلم (1130).

أيُّهَا المؤمنونَ: ويُسَنُّ للمسلمِ أنْ يتحَرَّى يومَ عاشُورَاء، وأنْ يَحْرِصَ على صيامِهِ؛ لقولِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (ما رَأَيْتُ النبيَّ ﷺ يَتَحَرّى صِيامَ يَومٍ فَضَّلَهُ على غيرِهِ إلّا هذا اليَومَ يَومَ عاشُوراءَ، وهذا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضانَ) أخرجه البخاري (2006) وقد حثَّنَا النبيُّ ﷺ على صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بقولِهِ: (صِيامُ يومِ عاشُوراءَ؛ إنِّي أحْتسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنةَ التِي قَبلَه) أخرجه مسلم برقم (1162) وَلمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ والمُشْرِكِينَ في صِيَامِهِم لهذا اليومِ قَالَ ﷺ: (فَإِذَا كانَ العَامُ المُقْبِلُ -إنْ شَاءَ اللَّهُ- صُمْنَا اليومَ التَّاسِعَ، فَلَمْ يَأْتِ العَامُ المُقْبِلُ حتَّى تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ ﷺ) أخرجه مسلم (1134).

وفِي هذا العام حيثُ ثَبَتَتْ رُؤْيَة هلال شهرِ اللهِ المحَرَّم ليلةَ الأربعاء فيكونُ اليوم العَاشر هو يومُ الجمعة القادمَ، ويكونُ التاسِعُ هو يومُ الخميس، فمنْ صَامَ يومين فليَصُمْ التَّاسِعَ والعَاشِرَ، أو العَاشِرَ والْحَادِي عَشَر، ومنْ صَامَ ثَلاثَةَ أيَّامٍ فَلْيَصُمْ يَوْمًا قَبْلَ التَّاسِع أوْ يَوْمًا بَعْدَ الْعَاشِرَ وكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ إِنْ شَاءَ اللهُ.

وقَدْ كَانَ ابنُ شِهَابٍ يتحرَّى صيامَ يومِ عاشوراءَ، ويصومُهُ حتّى في سفرِهِ ويقولُ: (إِنَّ رَمَضَانَ لَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَاشُورَاءُ يَفُوتُ) التمهيد لابن عبد البر (7/215).

فاللهَ اللهَ في الإقبالِ على اللهِ عزَّ وجلَّ، فإنَّ الكريمَ مَا دَعَاكُمْ إلا لِيُدْنِيكُمْ، ومَا نَدَبَكُمْ للدُّعَاءِ إلا لِيُجِيبكم، وحَرِيٌّ بالمسلمِ اتِّبَاعُ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ واقْتِفَاءُ أَثَرِهِ، ولُزُومُ سُنَّتِهِ.

أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرِّجِيمِ: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) النور: [54].

أقولُ قَوْلِي هَذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:

الْحَمْدُ للهِ وليُّ الصَّالِحِينَ، ومَوْلَى المؤمنينَ، يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ المتَّقِينَ، ويَجْزِي بِفَضْلِهِ المتصَدِّقِينَ، وَأَشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الواحدُ الحقُّ المبينُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعلمُوا أنَّ يومَ عاشوراءَ خَصَّهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بمزيدِ فَضْلٍ وعِنَايَةٍ ومَزِيَّةٍ ومَكَانَةٍ، فأظهرَ فيه دينَهُ، ونَصَرَ عبادَهُ، وأثبتَ وَحْدَانِيَّتَهُ، وأَظْهَرَ قَيُّومِيَّتَهُ فنجَّى موسَى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقَوْمَهُ، وأَغْرَقَ فرعونَ وجُنْدَه، في مشهدٍ مَهِيبٍ ومعجِزَةٍ خالدةٍ صَوَّرهَا القرآنُ الكريمُ؛ لتكونَ آيةً للمؤمنينَ، وحُجَّةً على الكافرينَ تَنْطِقُ بعظمَةِ الخالقِ سبحانَهُ، وقدرتِه، وكمالِ حِكْمَتِهِ، قالَ سبحانَهُ: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الشعراء: (61-68).

أيُّهَا المؤمنونَ: وفي هذا المشهدِ دروسٌ عظيمةٌ، ينبغي على المسلمِ أنْ يَعْقِلَهَا بِقَلْبِهِ ويَسْتَحْضِرَهَا بِعَقْلِهِ، فيوقنَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وحْدَهُ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، لا رادَّ لِقَضَائِهِ ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، ولا غَالِبَ لأَمْرِهِ، ويُوقِنَ أيضًا بِنَصْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ مهمَا علاَ الْبَاطِلُ وتَمَدَّدَ، ويُوقِنُ أنَّ قُوَّةَ الإيمانِ والثِّقَةِ بمعيَّةِ اللهِ ونَصْرِهِ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ النَّصْرِ والتَّمْكِينِ، ويعْلَمَ أنَّ في ارتفاعِ البَاطِلِ ودَوَامِهِ، تمحيصًا وتحقيقًا؛ ليميزَ اللهُ الخبيثَ من الطَّيِّبِ، ويَعْلمَ كذلكَ مَآَل َالشِّرْكِ وأَهْلِهِ، وعَاقِبَةَ البغْيِ وأَثَرِهِ.

اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا رُشْدَنَا، وَقِنَا شَرَّ أَنْفُسِنَا، وَأَعِنَّا عَلى طَاعَتِكَ، وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيَتك.
اللَّهُمَّ إنَّا نعوذُ بكَ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ، ودَرَكِ الشَّقَاءِ، وسُوءِ القضَاء، وشَمَاتَةِ الأعداءِ.
اللَّهُمَّ أَمِّنَّا في الأوْطَانِ والدُّورِ، وَأَصْلِح الأَئِمَّةَ وَوُلاةَ الأُمُورِ، بِرَحْمَتِكَ يَا عَزِيزُ يَا غَفُورُ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِنا لِكلِّ خيْرٍ، واصْرِفْ عنهُم كُلَّ شَرٍّ، واجْعَلْهُمْ ذُخْرًا للإسلامِ والمسلمينَ وَارْزُقْهُم الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَتُعِينُهُمْ عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.

اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَات، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ، واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وأُمَّهَاتِهِم، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا، وأزواجًنا، وجيرانَنَا، وَمَشَايِخنَا، ومَنْ لهُ حقٌّ علينَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.                                                          

الجمعة 1445/1/3هـ