خطبة بعنوان (شُكْرُ الْمَوْلَى جَلّ وَعَلَا عَلَى نِعْمَةِ الْمَطَر) بتاريخ 5-4-1429هـ.

السبت 4 جمادى الآخرة 1440هـ 9-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء من شيء بعد، الحمد لله على نعمه الكثيرة، وعطائه الجزيل، وفضله العميم، أحمده سبحانه حمداً يليق بعظمته، ويوافي جوده وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالعطاء والكرم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من شكر الله تعالى على نعمه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله: واشكروه على وافر نعمه يزدكم، فمن سواه نشكره، ومن سواه نذكره، ومن سواه نتوب إليه ونستغفره.
اللهم إنَّا نَحمدك على ما أوليت به علينا من نعمة الغيث، وأسبغت علينا من نعمة المطر، فقد حُرمناه في الفترة الماضية ونخشى أن يكون ذلك بسبب ذنوبنا، وتقصيرنا وتفريطنا، وما زال ربنا يكرمنا، يده سحاء الليل والنهار يجود علينا ونحن مقصرون، مفرطون، لم نقم بتمام الطاعة والعبادة.
وصدق ربنا فيما أنزل إلينا في كتابه بقوله العزيز [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ](الشورى).
وقال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](الأعراف)، فلك الحمد يا ربنا جميعاً، ولك الشكر جميعاً.
عباد الله: لقد نزل المطر بعد أن يئس كثير من الناس من نزوله، ونزل المطر بعد أن مضى الشتاء بطوله، ونزل المطر بعد أن ضج الناس من قلته، فلله الحكمة البالغة في تأخيره، فلما انصرف الناس عن الاستغاثة به، وظنوا أنهم محرومون من فضله بشؤم معاصيهم أتاهم الغيث من حيث لم يحتسبوا، ونزل المطر مدراراً، فلله الحمد أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً.
عباد الله: وإن من آيات الله تعالى وعجائب قدرته أن يرينا بأعيننا أن الأمر أولاً وآخراً بيده، وأن الملك ملكه والعطاء عطاءه، وأن الغيث يرسله على من يشاء من خلقه.
لقد نزل المطر بفضل الله تعالى ورحمته خلال يومين فقط ولمدة ساعات معدودات فأصبحت سيولاً تتدفق، وأنهاراً تجري، فاهتزت الأرض، واخضر الشجر، وسقيت البهائم، وترعرت الأشجار والأزهار، وصدق الله العظيم إذ يقول: [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ](فصلت)، فمن الذي أمر بحمله إلينا سواه؟ ومن الذي أمر بإنزاله علينا سواه؟ ومن الذي يستحق أن يشكر على نعمته تلك سواه؟ إنه الله جل جلاله.
عباد الله: لقد فرح الناس كثيراً بهذا الغيث، حيث دمعت العيون، وانشرحت الصدور، وعمت السعادة الكبير والصغير، ورفعت الأيدي إلى علام الغيوب شكراً له على نعمته.
عباد الله: نحن نتقلب ليلاً ونهاراً في كثير من النعم، وكلها منه سبحانه وتعالى، ولكن للأسف الشديد أن الكثير منا لا يشكرها، بل ربما يستعملها في غير طاعته، بل الأدهى والأمر أن يباهي بها البعض في الجهر بمعصيته.
لقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يشكروه، ويحمدوه، ويرجعوا الفضل إليه، وإنَّ شكر الله واجب على الجميع كبيراً وصغيراً، ذكراً وأنثى، فالشكر يأتي بالزيادة، قال تعالى[وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] (إبراهيم)،
والشكر ينافي الكفر، قال تعالى:[ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ](البقرة).
ومن أفضل صفات عباد الله تعالى صفة الشكر، وكيف لا وقد أثنى الله تعالى على عبده نوح بأنه كان [عَبْداً شَكُوراً](الإسراء).
ووصف خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (النحل).
بل لقد جعل الله تعالى الشكرَ الغايةَ من خلقهِ وأمرهِ، فقال تعالى [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ](النحل).
وأخبر سبحانه أنه إنما يعبده من شكره، ومن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته، فقال عز من قائل [وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ](البقرة).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم أن عبداً من عباد الله قال: (يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم شأنك، فأعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها)(رواه ابن ماجة، وضعفه الألباني في سنن ابن ماجة).
وعن حبيب بن أبي ثابت رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يعجبه أو يحبه قال: (الحمد لله المنعم المتفضل، الذي بنعمته تتم الصالحات)(رواه ابن أبي شيبة). فالشكر أعلى منازل السالكين، وهو فوق منزلة الرضا، فإن الشكر يتضمن الرضا وزيادة.
والشكر كما قال العلماء مبني على خمس قواعد:
خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره. فمتى فقد منها واحدة اختلت.
والشكر على ثلاثة أضرب:
فالأول: شكر القلب، وهو تصور النعمة وتيقنها أنها منه سبحانه.
والثاني: شكر اللسان: وهو الثناء على المنعم بما هو أهله.
والثالث: شكر الجوارح: وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقه، وذلك بالقيام بحقه، والاجتهاد في طاعته، وإخلاص العمل من أجله.
وفي قوله تعالى[اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً](سبأ)، ذكر [اعملوا] ولم يقل اشكروا لينبه على التزام الأنواع الثلاثة من الشكر بالقلب، واللسان، وسائر الجوارح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ](الروم). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الهادي إلى جنته ورضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بـعـد:
فاتقوا الله عباد الله واشكروه على فضله، والزموا أمره ونهيه، تنالوا الرزق الوفير والعيش الهنيء، ويوم لقائه تفوزوا بالمزيد.
عباد الله: وإن من الشكر الواجب علينا أن نتمسك بكتاب الله، ونتلوه حق تلاوته، وأن نتدبره، وأن نعمل بما فيه، وأن نتحاكم إليه في شؤون حياتنا كلها، وأن نحافظ على فرائضه، بأداء الصلوات في بيوت الله تعالى، وألا نفرط فيها ولا نضيعها، ولا نكون ممن قال فيهم سبحانه [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً](مريم).
وأن نحرص على أداء الزكاة طيبة بها نفوسنا، حتى لا نكون ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(ما منع قوم الزكاة إلا مُنِعُوا القَطر من السماء ولولا البهائم لم يُمطروا)(رواه البيهقي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
وأن نحافظ على بر الوالدين، وصلة الأرحام، وأن نقوم بتربية الأولاد التربية الصحيحة وأن نوجههم إلى الخير، والإحسان إلى الغير.
وأن نوفي حقوق الناس، وأن نكثر من الصدقات، والبذل والإحسان، وأن نقوم من الليل ولو قليلاً ، وأن نكثر من ذكر الله تعالى وشكره.
وأن تصفو قلوبنا، وأن نطهرها من الغل والحسد والبغضاء، وأن نوجه أولادنا إلى حب الآخرين، واحترام الكبير، وعدم أذية المسلمين.
وأن نحافظ على أعراضنا من كل شائبة، بإبعادهم عن كل ما يؤثر عليهم من الشر وأهله، بإخراج مفسدات الأخلاق من بيوتنا، وأن نبادر إلى إدخال وسائل الخير بدلاً عنها.
ومن تمام شكر نعمة المطر إذا خرجنا إلى البر ألا نقع فيما حرم الله، وبعض الناس يجعلون نزول الغيث فرصة لهم للوقوع في بعض المعاصي كالتبرج واستماع الغناء، وأحياناً يقعون في أذية الناس بالتفحيط ورفع الأصوات، وتعريض أنفسهم للمخاطر في التطعيس وغيره.
عباد الله: إن النعم التي نتقلب فيها تحتاج إلى الوقوف عندها، هل هي منحة منه سبحانه، أم هي استدراج لنا، فإن كانت الأولى وجب علينا شكرها والمحافظة عليها بالقيام بما يرضيه والبعد عن معاصيه، وإن كانت الأخرى فلنحذر أثرها، ولنتذكر قول الله تعالى [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ](لقمان). فتزودوا للقاء الله، ولا تلهكم الدنيا عن طلب الآخرة.
أسأل الله تعالى أن يبارك لنا فيما أنزل علينا من نعمة المطر، وأن يعيننا على شكرها، وأن يفيض علينا بالمزيد من فضله.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال جل في علاه [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك وحبيبك نبينا محمد، وارض اللهم عن أمهات المؤمنين، وسائر الصحابة والتابعين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نحمدك ونشكرك على ما أنزلت علينا من الغيث، اللهم تابع علينا خيراتك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.