خطبة بعنوان (فَضَائِلُ أَبِي بَكْرٍ الصّدِّيق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) بتاريخ 2-6-1428هـ
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى هي رأس مال العبد، وهي الحرز الواقي ـ بإذن الله ـ من شر الدنيا وفتنها، وهي التي ترفع ذكره، وترضي ربه، وبها ينال الشرف العالي والمزيد في الجنات. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران).
عباد الله: لقد منَّ الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بنفر من الصحابة الكرام ذوي الفضائل العديدة والخصال الحميدة نصر الله بهم الإسلام ونصرهم به، وكان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون الذين قاموا بالخلافة حق القيام، وحافظوا على الدين، وساسوا أمة الإسلام بالعدل والحزم والتمكين، قال الله تعالى فيهم [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ..](التوبة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم(لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)(متفق عليه).
وكان أجلهم قدرا وأعلاهم ذكراً أبا بكر الصديق (عبد الله بن عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تميم) الملقب بالعتيق، والمكنى بأبي بكر، ويعرف بالصديق، يلقب أبوه عثمان بأبي قحافة، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر من بني تميم أيضاً) رضي الله عنه وأرضاه. ولد في السنة الحادية والخمسين قبل الهجرة، وكان من وجهاء قريش وأشرافهم وأحد رؤوسهم، لم يشرب في حياته الخمر، ولم يسجد لصنم قط.
فما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين خير من أبي بكر.
لما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم بادر رضي الله عنه إلى الإيمان به وتصديقه ولم يتردد حين دعاه إلى الإيمان، وكان أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله)(البخاري). وأسلم على يديه خمسة من المبشرين بالجنة وهم (عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله).
ولازم النبي صلى الله عليه وسلم طول إقامته بمكة، وصَحِبَه في هجرته ولازمه في المدينة، وكان أول من أوذي في الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، آذاه الكفار على إيمانه حتى خرج من مكة مهاجراً إلى أرض الحبشة، ثم رجع في جوار ابن الدغنة حتى ترك جواره ودخل في جوار الله عز وجل.
ومن مواقفه العظيمة حينما أراد المشركون إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلوا عقبة بن أبي معيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في فناء الكعبة فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: [أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ])(رواه البخاري).
وكان رضي الله عنه أول من بذل ماله لنصرة دين الله تعالى، قال عنه صلى الله عليه وسلم (ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر)(رواه أحمد).
وكان رضي الله عنه صاحب رحلة الهجرة إلى المدينة، قال تعالى[إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا..](التوبة).
وكان رضي الله عنه أعلم الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بان هذا في فهمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يخطب (إن عبدا خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر. قال فديناك بآبائنا وأمهاتنا.(متفق عليه).
خَلَفَ النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم. فقد ثبت في صحيح البخاري «أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأمرها أن ترجع إليه فقالت أرأيت إن لم أجدك قال فائتي أبا بكر)(رواه الترمذي، وصححه الألباني في جامع الترمذي (5/615)، وهمَّ صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاباً لأبي بكر ثمَّ قال«يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر»، وفي رواية(معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر)(صححه الألباني في ظلال الجنة)، وخلَّفَهُ النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في الصلاة والحج فقد أمر أن يصلي أبو بكر بالناس حين مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله أميرا على الناس في الحج سنة تسع من الهجرة، وكل هذا إشارة إلى أنه الخليفة من بعده.
عباد الله: كان أبو بكر رضي الله عنه من سادات قريش وأشرافهم وأغنيائهم شهد له ابن الدغنة أمام أشراف قريش بما شهدت به خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له: إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق).
اشترى سبعة من المسلمين كان يعذبهم الكفار بسبب إسلامهم فأعتقهم، منهم بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامر بن فهيرة الذي صحبهما في هجرتهما ليخدمهما. شهد معه جميع الغزوات، وكان أشجع الناس، يثبت في المعارك كالجبال الرواسي، لا يحيد خطوة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدافع عنه ويذود، وكان يدافع عنه بكل شجاعة ويتلقى الضربات عنه.
عباد الله: وكان رضي الله عنه كريماً سخياً، أنفق كل ماله في سبيل الله، وبان ذلك عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتصدق، فوافق ذلك مالاً عنده، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله)، وقد نزل في حقه قول الله تعالى [وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى](الليل).
قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة)(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وكان رضي الله عنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس «إن أمنَّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ولو كنت متخذاً من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته» .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن سعادة العباد في محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم اندهش المسلمون لذلك، وقام بعض الصحابة بالإنكار على من قال بموته، ومنهم عمر رضي الله عنه الذي قال: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم (من خلاف). ولكن أبا بكر رضي الله عنه وقف موقفاً عظيماً، ومنع الله به شراً كبيراً، فجاء وكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، ثم خرج إلى الناس فصعد المنبر فخطبهم بقلب ثابت وقال: (ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وتلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}. ولما أراد أن ينفذ جيش أسامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم راجعه عمر وغيره من الصحابة أن لا يسير الجيش من أجل حاجتهم إليه في قتال أهل الردة ولكنه رضي الله عنه صمم على تنفيذه وقال: والله لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن الطير تخطفنا.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب ومنعوا الزكاة عزم على قتالهم فراجعه من راجعه في ذلك فصمم على قتالهم. قال عمر فعرفت أن ذلك هو الحق.
تولى أبو بكر الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار بالناس سيرة حميدة وبارك الله في مدة خلافته على قلتها، فقد كانت سنتين وثلاثة أشهر وتسع ليال، ومات ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء ليلة ثلاث وعشرين من جمادى الثانية سنة ثلاث عشرة من الهجرة.
كان رضي الله عنه أتقى الأمة، وأرقها قلباً، وأفضلها، وأعلمها، وأرجح الأمة إيمانا، وكان أزهد الصحابة، وكان أشجع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أفصح الناس وأخطبهم، مدحه الله بقوله تعالى[والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون] (الزمر).
بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول من يدخل الجنة من أمته بقوله(أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي)(رواه أبو داود).
وصفه علي رضي الله عنه فقال: (كان أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأحسنهم صحبة وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديا وسمتا وأكرمهم عليه خلفته في دينه أحسن خلافة حين ارتدوا ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف متواضعا في نفسك عظيما عند الله أقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم).
ومن بركته أن خلَّف على المسلمين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإن هذا من حسناته رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة .
رضي الله عن أبي بكر، وجميع الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمه وجوده إنه أكرم الأكرمين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب:٥٦). اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. الجمعة: 2-6-1428هـ