خطبة بعنوان (تذكير العباد بمناسبة حر الصيف) 29-7-1429هـ.
الخطبة الأولى :
الحمد لله القائل في كتابه [وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ](يوسف)، والصلاة والسلام على خير البرية جمعاء محمد بن عبد الله القائل في سنته (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم)، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى هي سبيل النجاة من حر الدنيا والآخرة.
عباد الله: إن في تقلب الفصول عبرة لأولي الألباب والأبصار، وفي تنوع الفصول حكم بليغة لا يعيها إلا ذووا القلوب الحاضرة، فهي تذكر في كل وقت بلقاء الله، ونعيم الجنة وعذاب الآخرة.
والله جل وعلا لم يخلق هذه الدنيا عبثاً ولا سدى، إنما خلقها لحكمة بالغة، خلقها لتكون دار بلاء وامتحان وممراً للآخرة، قال تعالى[الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]، فمن وعى قدرها، وعلم حقارتها، وعمل لما بعدها فاز بالرضا والرضوان، والنعيم والجنان، ومجاورة الكريم المنان، ومن فرط فيها وأهمل، وسوَّف، وأضاع عمره سدى خسر السعادة والهناء ونال الهم والشقاء والخلود في دار المهانة والبقاء، دارٌ طعامها من النار، وشرابها من النار، ولباسها من النار، وفراشها من النار، وظلها من النار، فهو يتقلب في النار في كل وقت وآن.
فيا عجباً من غفلة الناس عنها ووقوعهم فيما يؤدي إليها.
عباد الله: إننا نعيش الآن في فصل من فصول العام، معروف بقوة شمسه، وشدة حره، تقل فيه البرودة، ويكثر فيه الجفاف، ويقل فيه المطر، يهرب الناس فيه من الشمس إلى الظل، ويكثر فيه السفر إلى البلاد الباردة من أجل قضاء هذا الفصل في جو بارد، يكثر الناس فيه من استعمال المكيفات بجميع أنواعها، والمبردات وغيرها من الأسباب كل هذا من أجل الابتعاد عن هذا الحر الشديد.
هذا هو فصل الصيف الذي تجد فيه الكثير من الناس يتأففون، ويتضجرون بسبب الحرارة المفرطة من لهيب الشمس، ولكن الله تعالى امتن على عباده بنعمه الكثيرة، فيستطيع الإنسان منا في هذا الصيف أن يستظل بأي شيء، وأن يسبح بالماء في بيته أو في المسابح أو في البحر أو غيرها، ويلبس الملابس التي تعينه على تخفيف هذا الحر، ويضع الأطياب بأنواعها في لباسه، ويفتح مكيف السيارة التي يركبها، أو مكيف البيت الذي يسكنه، وهكذا.
عباد الله: إن المؤمن يتذكر النار كلما لفحته رياح الصيف وألهبت وجهه الناعم بحرها فيقول في نفسه: إذا كان هذا من نفس جهنم فكيف بجهنم نفسها؟! نعوذ بالله تعالى منها. وإذا كنا يا عباد الله لا نحتمل نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة، فما الشأن بنار الآخرة؟!.
ولقد كان السلف الصالح يتذكرون هذه الأمور لأن قلوبهم كانت حية، فكل ما يرونه ويشاهدونه في الدنيا يذكرهم بالآخرة.
ومن ذلك أن بعضهم كان إذا شرب الماء البارد في الصيف بكى وتذكر أمنية أهل النار حينما يشتهون الماء، فيقولون لأهل الجنة:[أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ] فيحال بينهم، ويقال لهم [إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ](الأعراف).
وكان بعضهم إذا صبّ على رأسه ماء من الحمام ووجده شديد الحر، بكى وقال: ذكرت قوله تعالى:[يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ](الحج)، فلا إله إلا الله ما أشد تذكرهم.. وما أعظم اعتبارهم!! وكان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حرّ الظهيرة، يذكر انصراف الناس من موقف الحساب إلى الجنة أو النار، فإن الساعة تقوم يوم الجمعة. وليس هذا فحسب! فهم رضي الله عنهم رغم انعدام وسائل التكييف والراحة التي ننعم بها في زماننا ــ ولله الحمد ــ إلا أن ذلك لم يقطعهم عن طاعة ربهم مهما كانت مشقتها على النفس.
عباد الله: بعضنا يعجز عن مجاهدة نفسه على القيام ببعض الطاعات، وهو منطرح على فراشه الوثير تحت المكيف، آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده من ألوان الطعام الشيء الكثير، ومع ذلك يتثاقل عن صلاة الفجر جماعةً مع المسلمين، أو يتكاسل عن القيام بحقوق الوالدين، وصلة الأرحام، أو بالإحسان إلى الآخرين وغيرها من أبواب الخير الكثيرة التي فرط فيها الكثير من المسلمين بسبب الغفلة والإعراض.
عباد الله: أما في الآخرة فانظروا ما يحصل للناس، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم أن يخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا، [يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ..](المعارج).
في هذا اليوم تدنو الشمس من الرؤوس قدر ميل، ليس معهم شيء يمنعهم من هذه الشمس الحارقة لا مظلة، ولا لباس، ولا أي شيء يقيهم حر هذا اليوم، وترى الناس في هذا الموقف يغرقون في العرق حتى يبلغ في الأرض سبعين ذراعاً، قال صلى الله عليه وسلم (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب في الأرض عرقهم سبعين ذراعا وإنه يلجمهم حتى يبلغ آذانهم)(رواه البخاري ومسلم).
وقال أيضاً (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل) قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض أو الميل التي تكحل به العين قال (فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه)(رواه مسلم).
فماذا أعدننا لهذا اليوم العصيب الذي لا ظل فيه إلا من أظله الله، فتخيلوا أيها المؤمنون هذا الموقف الرهيب ونحن حفاةً عراةً غرلاً ليس معنا شيء يسترنا، وليس معنا شيء يحمينا من حر الشمس ووهجها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يتمنى الناس فيه أن يخرجوا منه إلى أي شيء ــ عياذاً بالله من أليم عقابه ــ.
عباد الله: إن المسلم العاقل الذي يعلم حقيقة هذا الموقف حري به أن يأخذ بالأسباب التي تقيه من حر هذا اليوم وشدته، ويحرص على الأخذ بالأسباب التي تهون عليه هذا الموقف العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}(النور) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن من أسباب النجاة من حر يوم القيامة ما يلي:
أولاً: تقوى الله تعالى؛ فالتقوى من أعظم الأسباب التي تقي العبد كربات يوم القيامة، قال تعالى [وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ](الزمر).
ثانياً: إنظار المعسر أو الوضع عنه: فهنيئًا لمن أنظر معسراً أو وضع عنه شيئًا، ونقول له أبشر بخير عظيم من الله، فيكفيك شرفاً أن يعدك الله بأن يظلك في هذا اليوم العصيب، قال صلى الله عليه وسلم (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)(رواه مسلم).
ثالثاً: أعمال لسبعة أصناف من الناس حازوا السبق وفازوا ونجوا تحت ظل ربهم، ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)(متفق عليه).
رابعاً: صوم النافلة: وهو ما زاد عن الفريضة مما وردت به السنة؛ قال صلى الله عليه وسلم(من صام يوما في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)(متفق عليه) كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حراً فتصومه،فيقال لها في ذلك، فتقول: إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد. تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم، وهذا من علو الهمة.
خامساً: الصدقة: وهي تشمل جميع أنواع الصدقات، من مال، أو شفاعة، أو قضاء حاجة، أو غير ذلك مما وردت به السنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: (كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس)(رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع)، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يكثرون من الصدقة من أجل ذلك.
سادساً: حفظ سورتي البقرة وآل عمران: قال صلى الله عليه وسلم (يأتي القرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران يأتيان كأنهما غيابتان وبينهما شرق أو كأنهما غمامتان سوداوان أو كأنهما ظلتان من طير صواف يجادلان عن صاحبهما)(رواه مسلم).
فهذه يا عباد الله بعض الأعمال مما وردت به النصوص الشرعية فتمسكوا بها واجتهدوا في بذلها تنالوا خيري الدنيا والآخرة.
عباد الله: من أراد النجاة والفوز برضا الله فليحرص على طاعة الله تعالى والبعد عن معصيته، ولينظر كل منا في حالة مع ربه إذا كان يريد النجاة من كربات وشدائد يوم القيامة، فالنجاة لن تكون للمتقاعسين، والغافلين، والمقصرين، بل النجاة تكون للسابقين، والحريصين على الأعمال الصالحة. فاعملوا بارك الله فيكم من أجل هذا اليوم، وتذكروا حر يوم الموقف العظيم، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربنا بظلام للعبيد. أسأل الله تعالى بمنه وكرمه وعظيم فضله أن يمن علينا بالنجاة من كربات يوم القيامة، وأن ينجينا من فزع الموقف، وأن يحشرنا في زمرة عبادة الصالحين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب)
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. الجمعة: 29-7-1429هـ