خطبة بعنوان (أهلا ومرحبا بشهر الخير) بتاريخ 28-8-1429

السبت 4 جمادى الآخرة 1440هـ 9-2-2019م

الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، الذي أكرم عباده بشهر رمضان الكريم، وأمرهم بصيامه، والحرص على قيامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحكيم في تشريعه لعبادة الصيام وليس ذلك من أجل تعذيبهم وإنما من أجل إصلاح قلوبهم وتهذيبهم وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أدى حق ربه فصام وقام وأنفق بالليل والنهار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن الله تعالى قد فرض الصيام من أجل الوصول إلى التقوى، لأنها طريق فلاح العبد ونجاحه في الدنيا والآخرة.

عباد الله: ها هو شهر رمضان المبارك قد أقبل عليكم بنفحاته، وخيراته، وبركاته، فهو شهر كريم وموسم عظيم خصَّه الله بالتشريف والتكريم، وأنزل فيه القرآن العظيم {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}(البقرة:185)، وفرض صيامه على جميع المسلمين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة)، وسن قيامه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)(متفق عليه).

فهو شهرُ التقوى، وشهر إجابة الدعوات، ومضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، وإجزال الهبات، وكثرة النفحات.

شهرٌ تكفر فيه السيئات، ويصفح فيه عن الموبقات، وتقال فيه العثرات.

شهرُ فضَّل الله أوقاته على سائر الأوقات، وخصَّه بأجل الأعمال وأسمى الصفات، جعل فيه ليلة من أفضل ليالي العام {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}(القدر:2).
فأين أصحاب الهمم العالية، والمطالب السامية لكي يغتنموا الفرصة قبل الفوات، ويسارعوا مع الصالحين إلى فعل الخيرات، ويتعرضوا في هذا الشهر المبارك لعظيم النفحات لعل الله أن يتجاوز عنهم كثير الخطيئات والسيئات.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل شهر رمضان بقوله (اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله)(رواه الترمذي، وحسنه الألباني في جامع الترمذي 5/405 برقم 3451).

وكان المسلمون يستقبلون شهر رمضان بقولهم: (اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر فسلمه لنا وسلمنا له وارزقنا صيامه وقيامه وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط وأعذنا فيه من الفتن) وذلك لما يعلمون من فضل رمضان وسعة فضل الله عليهم فيه، وما ينزله تعالى على عباده من الرحمات ويفيضه عليهم من النفحات، ويوسع عليهم من الأرزاق والخيرات، ويجنبهم فيه من الزلات، حيث يفتح لهم أبواب الجنان، ويغلق عنهم أبواب النيران، ويصفد فيه مردة الجان، فهو للأمة ربيعها، وللعبادات موسمها، وللخيرات سوقها.
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النيران، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)(رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (ج1 رقم 1960).
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين).
وروى البخاري ومسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به. يدع شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والصيام جنة؛ وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم).

فأي فضل بعد هذا الفضل، فهو بحق غنيمة لكل المسلمين.

عباد الله: بلوغ شهر رمضان نعمة عظيمة تحتاج إلى شكر المولى والحرص على رضاه، وأنتم ترون ما تتقلبون فيه من نعم تترى، فبين عافية في الأبدان، ورغد عيش، وأمن وأمان، فاغتنموا أوقاته قبل فواته فتندموا، وضاعفوا العمل فيه قبل أن يرحل عنكم فتتحسروا، فكم من شخص تحت الأجداث يتمنى أن يسبح تسبيحة، وكم من عاجز عن الصوم من مرض وعاهة يتمنى الصيام والقيام، وكم من قليل ذات اليد يتمنى أن يعطيه الله لينفق في سبيله ويقوم بتفطير الصوام.

فأصلحوا نياتكم، وقلوبكم، وأعمالكم لله، فالفوز كل الفوز في أداء حق الله، والبعد عن معاصيه، والاجتهاد فيما يقربكم إلى الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(الشورى).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أفاض علينا بفضله وإحسانه وأشكره سبحانه على جزيل نعمه وهباته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المستحق للحمد والشكر وحده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير أنبيائه ورسله الذي قام بحق ربه حق قيامه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن شهر رمضان فرصة لمراجعة الحسابات قبل فوات الأوان، فمن فرط وقصر وأساء قبل رمضان اجتهد وأحسن وأصلح فيما يأتي من أيامه، فهو فرصة لا تعوض، ومغنم لا يفرط، وعطاء لا يرد، من حاز فيه السبق فاز، ومن قصر وفرط باء بالخسران والإفلاس.

عباد الله: اعلموا بارك الله فيكم أن شهر رمضان أبواب الخير فيه كثيرة تحتاج منا إلى الحرص عليها، والمبادرة إلى كسبها، والتنافس في تحصيلها، ففيه الصيام، وفيه القيام، وفيه البذل، وفيه إفطار الصائمين، وفيه تلاوة القرآن العظيم، فعليكم أن تبذلوا جهدكم، وتكثروا من سعيكم من أجل تحصيل الثمرات، ولا تتكاسلوا قبل فوات الأوان، ويمر شهر رمضان فتندمون على تفريطكم، وتتحسروا على إضاعته من بين أيدكم.

عباد الله: إن رمضان ليس كما يظن بعض الناس أنه شهر أكل وشرب، وتمتع بالشهوات، ويسهر فيه الليالي على المنكرات والمحرمات، ويضيع فيه النهار في النوم والغفلة، لا بل هو شهر جاء ليربي نفوسنا على التقوى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فالصيام شرع ليربي المسلم على تقوى الله والخوف منه ومراقبته في السر والعلن، ألا ترون أن الصائم يمكن له أن يأكل أو يشرب أو يجامع دون أن يراه أحد سوى مولاه، فهنا تظهر التقوى ورقابة الله.

عباد الله: على كل صائم أن يبتعد عن كل ما يؤثر على صيامه وسائر أعماله الصالحة، فلا يقع في الغيبة والنميمة المحرمة، أو يسب أحداً أو يلعن أحداً، أو يأكل مال أحد، أو يظلم أحداً، أو يعتدي على أحد، قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)(رواه البخاري).
وقال صلى الله عليه وسلم (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)(رواه ابن ماجة، وصححه الألباني في سنن ابن ماجة 1/593 برقم 1690).
فيا فرحة المؤمن الصادق عندما يتناول فطره عند انتهاء صيامه، ويفرح بثواب عمله عند لقاءه لربه، قال صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)(متفق عليه).

فاللهم إنا نسألك باسمك العظيم، الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت أن تبارك لنا في رجب وشعبان، وتبلغنا رمضان، وأن تمن علينا بالعون فيه على طاعتك، وأن توفقنا فيه إلى مرضاتك، وأن تجعلنا ممن يصومه ويقومه إيماناً واحتساباً، وأن تبارك لنا فيه يا أكرم الأكرمين، وأن تعتق فيه رقابنا من النار ووالدينا وجميع المسلمين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 28-8-1429هـ