خطبة بعنوان: (النزاع الفلسطيني ومبادرة خادم الحرمين الشريفين) 21-1-1428هـ

السبت 4 جمادى الآخرة 1440هـ 9-2-2019م

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون والمؤمنات[يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا](آل عمران:102، 103).

عباد الله: تتمع أرض فلسطين بمكانة خاصة في قلوب المسلمين، ففيها المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين في صلاتهم، كما يعتبر ثالث المساجد مكانة ومنزلة في الإسلام بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي، ويسن شدُّ الرحال إليه وزيارتُه والصلاةُ فيه، وأرض فلسطين أرض مباركة بنص القرآن [سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله..] (الإسراء:1)، فهي الأرض المقدسة، وهي أرض الأنبياء ومبعثهم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وهي مسرى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وهي أرض المحشر والمنشر، وهي عقرُ دارِ المسلمين وقت اشتداد المحن والفتن، والمقيمُ المحتسبُ فيها كالمجاهدِ والمرابطِ في سبيل الله، فهذه مكانة فلسطين في عقيدة المسلمين إلى يوم الدين.

فكل هذه الفضائل لأرض الأقصى الشريف تجعل المسلمين في أشد الحزن على ما يجرى عليها من أيدي اليهود الغاصبين، ومن التنازع المقيت بين الإخوة الفلسطينيين.

لقد وصل الحال بإخواننا في فلسطين الجريحة المسلوبة أن تحدث بينهم الفتنة الكبرى ألا وهي التقاتل بالسلاح حتى أوقع بعضهم بعضاً، وجرح بعضهم بعضاً، فبدلاً من أن تسلط أسلحتهم تجاه عدوهم اللدود إذا هم يوجهون أسلحتهم لصدور إخوانهم، ونسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(صححه الألباني في السلسلة الصحيحةرقم3/71).

عباد الله: إن عداوة اليهود للمسلمين لن تنتهي إلى قيام الساعة، قال تعالى:[لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا..](المائدة:82)، وبداية هذه العداوة كانت في عهد رسولنا صلى الله عليه وسلم مع بداية دعوته حتى نصره الله عليهم وعلى المشركين، وحتى أجلاهم من ديارهم وأخرجهم منها أذلة صاغرين، وهم اليوم يدبرون المؤامرات والمكائد من أجل إخراج إخواننا الفلسطينيين من بلادهم لتوسيع احتلالهم الغاصب لأرض فلسطين، فقاموا بقتل الأبرياء، واعتقال الشباب، وتجريف الأراضي، وتدمير المنازل، وتهجير أصحابها، وحرق المزارع، والتضييق على الفلسطينيين في طلب أرزاقهم، وقاموا بإيقاع العداوة بينهم حتى ظهرت هذه الفتنة العمياء التي أقلقت قلوب المسلمين، وهاهم الآن يريدون أن يتموا هدم المسجد الأقصى وذلك بالقيام بحفريات جديدة حوله ليبنوا هيكلهم المزعوم، ولقد استغلوا إنشغال إخواننا في فلسطين بالتنازع والتقاتل فعملوا على مد الحفريات حتى وصلوا إلى باب المغاربة أحد أبواب المسجد الأقصى، مع هدم بعض الغرف للوقف الإسلامي، والتخطيط لإقامة كنيس يهودي ومدينة سياحية على جزء من الأراضي التابعة للمسجد.

عباد الله: لقد حرَّم الله تعالى دم المسلم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله)(رواه مسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) (رواه البخاري ومسلم)، ولقد نهى الله تعالى عن التقاتل بين المسلمين، ولكن إذا وقع تقاتل فعليهم أن يصلحوا بين الفئات المتقاتلة فهو الخير للجميع، فكيف يليق بالمسلم العاقل الذي يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً أن يقف في وجه أخيه ويرفع عليه سلاحه ويقتله به!!

عجباًَ لأحوالنا أيها المسلمون فبدلاً من توجيه هذه الأسلحة التي يتقاتل بها الأشقاء إلى صدور أعداء الله تعالى نجدها توجه إلى صدور الإخوة في الدين وفي العقيدة.

عباد الله: إن هذه الفتنة التي وقعت بين إخواننا في فلسطين تبين واقع كثير من المسلمين وأنهم بعيدون عن هدي كتاب ربهم وعن هدي سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وكان الأولى بهم أن يتقوا الله تعالى فيما هم فيه من المحن والشدائد، وأن يتواصوا بالحق فيما بينهم، وأن يسعوا في إصلاح أحوالهم وأمورهم.

عباد الله: الأمة الإسلامية بقضها وقضيضها، حكامها ومحكوميها كانت ولا تزال مع الفلسطينيين، لكن أخشى ما نخشاه ألا تتفق قياداتهم وتوجه الأسلحة والأموال لإبادة بعضهم بعضاً، فيجب علينا كمسلمين أن نتفهم هذه الأمور جيداً وأن نبذل كل ما في وسعنا لئلا يأتي يوم من الأيام فنجد أن المسجد الأقصى قد سقط بنيانه وبنت عليه إسرائيل بنيانها المزعوم.

عباد الله: إن دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للفصائل الفلسطينية للاجتماع بمكة المكرمة دعوة مباركة وبادرة كريمة لم تكن لتحصل إلا لما يحمله هذا القائد الشجاع من كريم الخلق وحسن التصرف، فنسأل الله تعالى أن يكلل جهوده بالنجاح والتوفيق.

ونحن من على هذا المنبر نوصي إخواننا الأشقاء أن يعلموا أن أخذ المواثيق عند البيت العتيق له حرمة عظيمة تختلف عن سائر الأمكنة، فعليهم أن يتقوا الله فيما يأخذون على أنفسهم من هذه المواثيق وأن يوفوا بها استجابة لأمر الله تعالى [وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أمر عباده بالاجتماع، ونهى عن الفرقة والنزاع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله جل وعلا يحب لعباده الاجتماع، ويبغض لهم التفرق والنزاع، وقد وجههم لما فيه الخير والفلاح لهم في الدنيا والآخرة، (وإنني أوصي إخواني الفلسطينيين أن يتقوا الله تعالى فيما أمرهم به وأن يجتنبوا ما نهاهم عنه، وأن يحرصوا على لم شمل أبناء فلسطين، وأن يتباحثوا في قضيتهم بهدوء، وأن يسعوا جادين إلى الخروج من هذه الأزمة، وليحققوا لأمتنا الإسلامية أحقيتها في قضيتها، وليصلوا إلى حل يرضي الله سبحانه وتعالى، ويحقق آمال وتطلعات الشعب الفلسطيني الشقيق، والشعوب الإسلامية والعربية).

عباد الله: وما زالت المملكة العربية السعودية لها دورها المميز حكومة وشعباً منذ تأسيس الدولة السعودية على يد الملك عبد العزيز رحمه الله تجاه القضية الفلسطينية، وحرصها الشديد على فك أزمة أشقائنا الفلسطينيين، ودعمها مادياً ومعنوياً وإعلامياً، وحضوراً في المؤتمرات العالمية على الساحة الدولية، وحرصها على لم الشمل بين الأشقاء، ووقوفها يداً واحدة مع الفلسطينيين أمام البغاة المعتدين الغاصبين.

عباد الله: وإن مما أثلج صدورنا وأدخل السرور على نفوسنا مبادرة خادم الحرمين الشريفين التي وجهها إلى القادة الفلسطينيين لوقف القتال والتحاور لوحدة الصف، وتغليب لغة الحوار على لغة السلاح، وقد صدر هذا النداء في العاشر من شهر الله المحرم.
ولقد حظي نداء خادم الحرمين الشريفين للقادة الفلسطينيين باهتمام سياسي وإعلامي واسع على جميع المستويات، وعلى كافة الأصعدة الإسلامية والعربية والدولية، التي وجدت في هذه الدعوة المخرج الوحيد من المنزلق الذي وقع فيه الأشقاء، ولوقف نزيف الدم الفلسطيني بأيدي فلسطينية، ولقد حظيت مبادرة خادم الحرمين الشريفين على الفور باستجابة من القادة الفلسطينيين من كافة الفصائل والاتجاهات، وثمَّنت هذه الدعوة الكريمة من خادم الحرمين الشريفين وأكدوا أن المملكة مواقفها معروفة كأكبر داعمة ومساندة للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.

وكان من كلام خادم الحرمين الشريفين في ندائه لإخوانه في فلسطين الشقيقة: (إن المملكة العربية السعودية حكومة وشعباً لا تقبل أن تقف صامتة متفرجة لتنظر بحزن وألم عميقين لما يدور على الساحة الفلسطينية من اقتتال بين الأشقاء وأصحاب القضية الواحدة دون أن تتصدى لدورها الإسلامي…)

وقال حفظه الله في موضع آخر: (إن ما يحدث في أرض فلسطين لا يخدم غير أعداء الأمة الإسلامية والعربية ويضع ألف علامة استفهام أمام المجتمع الدولي الذي ينظر باحترام لعدالة قضيتنا فبماذا سنجيب)

وقال أيضاً: (إن الخلاف بين الأشقاء لا يحتمل ما يحدث، وإن لم يضع له العقلاء في فلسطين حداً حاسماً فورياً فسوف يستنزف كل طاقتنا ليقضي على كل المنجزات النضالية الفلسطينية وسيحرم الشعب الفلسطيني الصامد كل أمل في نفض جحيم الاحتلال الصهيوني الغاشم وإقامة دولة فلسطين الحرة المستقلة وهو ما لا نرضاه لأشقائنا ولا يرضاه كل الشرفاء في العالم).

كل هذه الكلمات التي وجهها خادم الحرمين الشريفين تبين مدى حرصه على جمع كلمة الفلسطينيين ولم شملهم، وإبعادهم عن نار التفرق والتنازع، وها هي المبادرة تؤدي ثمرتها ويزف خادم الحرمين الشريفين البشرى للشعب الفلسطيني خاصة وللمسلمين عامة باتفاق تاريخي أطلق عليه (اتفاق مكة) أكد فيه المتفقون على حرمة الدم الفلسطيني، واتخاذ كل الإجراءات التي تحول دون سفك دم فلسطيني واحد، كما أكدوا فيه على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وتأكيد مبدأ الشراكة السياسية على أساس مبدأ الأنظمة المعمول بها في السلطة الفلسطينية.

عباد الله: هنيئاً لهذه البلاد قيادة وشعباً هذا الموقف المشرف، وهنيئاً لخادم الحرمين الشريفين هذا الإنجاز الإسلامي المتميز الذي يضاف إلى رصيد هذه البلاد في مواقفها السابقة تجاه القضية الفلسطينية، وهنيئاً للفلسطينيين هذا الاستعلاء على كل النعرات والقوميات والعصبيات والخلافات، وبهذا يعلم الفلسطينيون في أرض فلسطين الحبيبة أن أرض فلسطين للمسلمين جميعاً وليست لهم وحدهم، وأن القدس من المقدسات التي يفديها المسلمون بكل ما يملكون وليس من حق الفلسطينيين الاختلاف وتمكين الأعداء من القدس وغيرها، فعليهم أن يتحدوا في وجه أعداء الله تعالى، وأن يوجهوا نضالهم الشرعي إليهم، وأن يحرصوا على التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:[فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر..](النساء:59).

اللهم جنب إخواننا الفلسطينيين الفرقة والتنازع، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم.
اللهم كما وفقت ولي أمرنا للإصلاح بين إخواننا الفلسطينيين، اللهم أمده بعونك وتوفيقك، واجعل عمله في رضاك يا أكرم الأكرمين، اللهم أصلح له البطانة، واصرف عنه بطانة السوء يارب العالمين.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد …………

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
أ.د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
خطبة يوم الجمعة
الموافق:21-1-1428هـ