خطبة بعنوان:(خاتمة هذا العام وكيفية استقبال العام الجديد) 25-12-1428هـ.

السبت 4 جمادى الآخرة 1440هـ 9-2-2019م

الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، المستحق لغاية التحميد، المتوحد في كبريائه وعظمته الولي الحميد، الغني المغني المبديء المعيد، المعطي الذي لا ينفد عطاؤه ولا يبيد، المانع فلا معطي لما منع ولا راد لما يريد.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الخلق وأوضح لهم أحسن طريق، وهداهم إلى الأمر الرشيد، وصورهم فأحسن صورهم، وبشّر من أطاعه بالجنة والنعيم والتخليد، وحذّر من عصاه من العذاب الشديد.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كان اتقى الناس لربه فبذل القليل والكثير إرضاءً لربه العظيم المجيد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بالعمل الصالح الرشيد وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم المزيد، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، فهي وصية الله لعباده الأولين والآخرين للعمل من أجل يومٍ هولُه عظيم، وكربُه شديد.

عباد الله: لقد أكرمنا الله تعالى بالإسلام، وأفاض علينا بنعمة الأمن والإيمان، وإن من الشكر لهذه النعم بذلَ الشكر والحمد لمن وعد بالمزيد، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ](إبراهيم).

عباد الله: إن الله تعالى حكم على خلقه بالفناء فما لأحد عنه محيص ولا محيد، فالموت أوحش المنازل من أصحابها، ونفّر الطيور من أوكارها، وعوّضهم من لذة العيش بالتنغيص والتنكيد.

عباد الله: لقد مرت الأيام وكأنها ساعات، ومرت الساعات والدقائق كأنها لحظات، فهل من معتبر قبل الرحيل، وهل من متزود ليوم البكاء والعويل، وهل من منتبه من غفلته قبل أن يجد نفسه متحسراً على ما فرط في جنب ربه الجليل [أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ](الزمر).

عباد الله: لقد مر عام كامل بين أيدينا ولم يبق فيه إلا أيامٌ قليلة، والناظر في أحوال الناس اليوم يجدهم قد شغلهم الأمل عن الدار الآخرة، وجمعوا بين أيديهم من صنوف الدنيا الزائلة، فاغتروا بها، وانشغلوا بلذاتها، وانكبوا على شهواتها.

فهل تذكرنا من رحل من بين أيدينا وقد كان يأمل أن يعيش ويتمتع كما نحن الآن، هل تذكرنا أجدادنا، وآبائنا وأمهاتنا، وأعمامنا وأخوالنا، وإخواننا وأخواتنا، وأحبابنا، كانوا يجلسون معنا يأكلون ويشربون ويتنعمون، فراحت عليهم الرائحة فحملت بين طياتها الموت فكسر أنوفهم، وغبّر وجوههم، وأوحش أنسهم، وقطع لذاتهم، وأقدمهم على السؤال والحساب، فما لنا لا نتذكر ما نحن مقدمون عليه، يوم نعرض على الله لا تخفى منا خافية.

ألم نسمع قول ربنا جل وعلا يحذرنا من الغفلة، ويحفزُّنا على طلب الآخرة، [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ..](الأنبياء).

ألا نتذكر الموت وكربته، والقبر وظلمته، والموقف وحسرته، والحساب وشدته، والجنة والنار وقد عرضتا على الناس أجمعين، فمنهم مؤمل للنجاة، ومنهم الهالك، ففي هذا اليوم ينقسم الناس إلى قمسين، قسم آخذ كتابه بيمينه فهو سعيد مسرور، ومن شدة فرحه يسعى بين الخلائق فيقول [هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ]، وقسمٌ آخذ كتابه بشماله فيقول من شدة الحزن والأسى [يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ](الحاقة).
هنالك في ذلك اليوم المهول الذي تقف فيه كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما كسبت، في هذا الموقف الذي وقف فيه الناس ليوم الفصل والحساب [هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ]، [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً]، [يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ].

هذا اليوم العظيم العصيب الذي جمع الله فيه صوراً عديدة من الشدائد والكربات يتبين من خلالها عجز الخلائق وضعفهم وكمال سلطان الله وقدرته ونفوذ مشيئته [إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ].

إنه اليوم الذي يفر فيه المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، إنه اليوم الذي تُنسى فيه الأنساب [لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ].

عباد الله: لقد تعلقت قلوبنا بالدار الفانية وقد حذرنا الله منها، وأوصانا بعدم الركون إليها، والحرص على التزود منها بما يوصلنا إلى الدار الباقية، فقال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ].

فعلينا أن نحاسب أنفسنا في خلواتنا، ونتفكر في سرعة انقضاء أعمارنا، وأن نعمل بجدٍّ واجتهاد في وقت فراغنا لوقت حاجتنا وشدتنا.

وعلينا أن نتدبر قبل أن نقدم على ما حرَّم الله من المظالم وأنه يملى في صحائف أعمالنا.
وعلينا بمحاسبة أنفسنا قبل يوم الحساب، قال صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

وقال عمر رضي الله عنه (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر [يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية].

ولنحذر من مغبة الغفلة والإعراض عن طاعة الله تعالى، والوقوع في معصيته، فالدنيا بما فيها هينة على الله تعالى إلا ما كان فيه ذكر لله وما والاه.

وعلينا يا عباد الله: بصدق التوبة مع الله، والحرص على عدم العودة إلى الذنوب، وليكن ختام عملنا في هذا العام مما يرضي ربنا، ويكون سبباً لنا في نيل رحمته وجنته، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)(رواه البخاري).

عباد الله: وإن مما ينبغي التنبيه إليه في نهاية هذا العام أن نتذكر نعم الله تعالى، وفضله السابغ علينا، وما نتقلب فيه من الخيرات والبركات في وقت يعاني فيه الكثير من المسلمين في كل مكان من أقصى الأرض إلى أدناها من الحرمان وقلة الأرزاق، والزلازل والفيضانات، والظلم والاعتداءات، فعلينا ببذل العون لهم، والدعاء من أجل تفريج كربهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ](لقمان).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله خير من تدبر وتفكر في عظمة ربه وخالقه فزاده ذلك خشية وعملاً صالحاً مبرورا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع سنته إلى يوم الدين،
أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى مفتاح كل خير، ومغلاق كل شر.

عباد الله: أيام قليلة ويقبل علينا عام جديد، لا نعلم ما يحويه بين طياته من خير وشر، وإن مما حذرنا منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله(لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم)(رواه البخاري) وذلك من كثرة الفتن التي تظهر من خلال ما يراه الناس ويسمعونه، وخاصة في هذه الأزمنة المتأخرة والتي كثرت فيها الحروب والفيضانات والزلازل والبراكين والرياح المدمرة، ووسائل الإعلام الخبيثة التي تبث للناس السموم ليل نهار.

فعلينا يا عباد الله بالتمسك بطاعة الله تعالى، والحرص على هدي نبيه صلى الله عليه وسلم ففيهما النجاة في الدنيا والآخرة.

وأوصيكم بالمحافظة على الصلوات المكتوبات، وأداء الزكاة، والإحسان إلى القريب والجار، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام، وعليكم بالزهد في الدنيا وعدم التعلق بها والاغترار بزخرفها، وعليكم بما كان عليه سلف هذه الأمة ففيه سبيل النجاة، وليكن همكم هو النجاة من النار والفوز بدار النعيم المقيم بجوار الرب الكريم، واحذروا من الغلو في الدين وتأثير بعض أصحاب الفكر الضال على أبنائكم، فضررهم عظيم وخطرهم جسيم، ولابد من التعاون لرد كيدهم وعدوانهم.

عباد الله: اعلموا أن التقلل من الدنيا يعين على المسير إلى الدار الآخرة، وما أحببتم أن يكون معكم في الآخرة فقدموه اليوم، وما كرهتم أن يكون معكم في الآخرة فاتركوه اليوم.

واعلموا أنه من قنع بما قسم الله له استغنى، ومن اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن أشفق من النار انتهى عن الشهوات، ومن تيقن بالموت هانت عليه اللذات، ومن عرف الدنيا هانت عليه المصيبات.

ومن أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة أقبل الله عليه بوجهه وأقبل بقلوب العباد إليه، ويسّر له أمره وفرّج همه، وأعطاه ما يتمناه، ومن عمل لغير الله عز وجل والدار الآخرة صرف الله عز وجل عنه وجهه وصرف قلوب العباد عنه، وضيق عليه أمره، وزاده هماً وغماً، ولم يعطه من الدنيا إلا ما كتب له.

عباد الله: عليكم بصحبة الأخيار فإنها تذكركم بالله عز وجل والدار الآخرة، وتذكروا عظم المقام بين يدي الله جل وعلا وقلة زادنا والخوف من الحساب فلنتدارك أيام أعمارنا فيما ينفعنا ولا يضرنا.

عباد الله:
إن العاقل اللبيب هو الذي ينظر دائماً في صحيفة عمله، هل أحسن أم أساء، هل أخلص أم راءى، فتكون حياته كلها محاسبة فيفوز بخيري الدنيا والآخرة.

نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالثبات على دينه، وأن يحسن لنا العمل والختام.

اللهم فرج عن إخواننا المظلومين والمضطهدين في كل مكان، اللهم اخصص إخواننا في فلسطين، اللهم اجعل لهم من أمرهم يسرا.

اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، اللهم عليك بمن يكيد بالإسلام والمسلمين، اللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز.

اللهم أصلح لنا ولاة أمرنا، اللهم احفظهم بحفظك، اللهم أمدهم بعونك وتوفيقك، اللهم اجعل عملهم في رضاك، اللهم جنبهم بطانة السوء يارب العالمين.

اللهم احفظ علينا علمائنا وبارك اللهم في جهودهم ودعوتهم وتعليمهم الخير للناس.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً.

اللهم أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.

اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم أسق به البلاد والعباد واجعله زاداً للحاضر والباد.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب)

25-12-1428هـ