فضل العشر الأواخر وليلة القدر ثم بيان سماحة المفتي حول الجهاد – 23- 9- 1428هـ
الخطبة الأولى :
الحمد لله الكريم المنان ذي الفضل والإحسان والحلم والصفح والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي امتن علينا بشهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كان أسرع الناس سعياً لتحصيل رضا الرحمن، فقام وتلا القرآن، ودعا ربه في كل آن، وسأله العفو والغفران، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فيأيها المؤمنون والمؤمنات أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون](الحشر: ).
عباد الله اعلموا: أن الله تعالى وجه عباده إلى التزود للدار الآخرة، وحثهم على استغلال المواسم الفاضلة، فقال تعالى:[يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد](آل عمران: ).
ومن عظيم فضل الله تعالى أن امتن علينا بهذه الليالي المباركة ، ليالي العشر الأخيرة من رمضان والتي نحن فيها الآن والتي قد مضى منها ثلاث ليال، هذه الليالي المباركة فيها الخيرات والبركات، وتزيد فيها الأجور والهبات، وينال فيها نفحات الرحيم الرحمن، فياله من فضل عظيم، وعطاء جزيل من رب العالمين، فنحمده سبحانه حمداً كثيراً يرتضيه، ويوفي جزءًا من آلائه وفضله العميم.
عباد الله: إن هذه الليالي العظيمة في قدرها وشرفها تنادي أصحاب الهمم العالية، وأصحاب القلوب المؤمنة، والراغبين في الدار الآخرة أن هلموا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها الأرض والسماوات، فأين الصادقون الراغبون إلى نعيم القرب من الحليم الكريم، والتلذذ بمناجاته ودعائه، والعمل على بذل الجهد من أجل إرضائه، أين رهبان الليل ليتلذذوا بالقيام والركوع والسجود بين يدي مولاهم لينالوا الأجر والثواب يوم الجزاء، أين أصحاب الحاجات والكربات ليرفعوا أيديهم لرب الأرض والسماوات ليكشف عنهم ما هم فيه، أين المذنبون الذين يرجون العفو والرحمات ومغفرة الزلات، أين المرضى والمبتلون من دعاء من بيده الشفاء والدواء؟.
عباد الله: إن هذه الليالي الفاضلة تذكرنا بسيرة السابقين وأولهم سيد المرسلين وخاتم النبيين الذي كان حريصاً على استغلال هذه الليالي العشر، فقد روت عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)(رواه مسلم).
وقالت أيضاً: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله)(رواه البخاري ومسلم). وهذا دليل صريح على فضيلة هذه العشر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيها أكثر مما يجتهد في غيرها، وهذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاة وقراءة للقرآن، وذكر، ودعاء، وصدقة وغير ذلك، ولأنه صلى الله عليه وسلم يشد مئزره أي يعتزل أهله ويتفرغ للصلاة والذكر، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يحيي ليالي العشر بالصلاة والقراءة والذكر طلباً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في هذه العشر، وهذا فيه بيان مزية لهذه العشر دون سواها.
ولاشك أن المسلم العاقل اللبيب يسعى لاغتنام هذه الأوقات قبل أن ترحل لعل الله أن يدركه برحمته، وإنه لمن الحرمان والعياذ بالله أن تمر هذه الليالي المباركة على الشخص وهو يسرح ويمرح بأصناف الملذات والمحرمات، وإنه لمن الحرمان أيضاً أن يعمر المسلم نهاره بالنوم وليله بالعبث واللهو واللعب المحرم الذي يجر عليه من المصائب ما الله به عليم.
عباد الله: لاحظوا الفرق بين واقعنا اليوم وواقع السلف سابقاً، فقد كانوا يقضون نهارهم بالصيام والذكر وتلاوة القرآن، وليلهم بالقيام والتسبيح والتهليل والاستغفار، ويقضي الكثيرون منا نهارهم بالنوم وليلهم باللهو واللعب المحرم وشرب الدخان ولعب الورق وغير ذلك مما ابتلي به أهل زماننا من الغفلة والإعراض عن طاعة الله.
فكيف يليق بمسلم يؤمن بالله والدار الآخر، ويعلم أنه موقوف بين يدي ربه، وأنه سيحاسبه عن كل صغيرة وكبيرة أن يفرط في مثل هذه الليالي الفاضلة والتي تحمل بين طياتها ليلة عظيمة جعلها الله ذخراً لمن قامها إيماناً واحتساباً، فيا ليت شعري أين المشمرون، واين المتنافسون؟ وأين المجتهدون ليروا الله منهم خيرا.
عباد الله: لقد كان السلف يسمعون كلام الله فيتأثرون ويبكون ويبادرون إلى العمل من أجل إرضائه، وأما الآن فنجد الكثيرين يسمعون كلام الله ولا يتأثرون، ولا يبكون بل ولا يتباكون، ولا يبادرون إلى العمل الصالح ليقربهم إلى الله، كان السلف يجتهدون اجتهاداً عظيماً لنيل الأجر والثواب، أما الآن ـ نسأل الله تعالى أن يعفو عنا ـ فنحن إذا قمنا لصلاة التراويح مع الإمام اكتفينا بها عن صلاة القيام، بل ربما يمنُّ أحدنا على الله أنه صلى وصام، وما علم هذا المسكين أن الفضل أولاً وآخراً لربه الذي أعانه ووفقه للصيام والقيام.
عباد الله: إن هذه الليالي الفاضلة تحتاج منا إلى المبادرة بشغل الأوقات بما يعود علينا بالنفع في الدارين، وكم من عبادة جليلة علمنا إياها رسولنا صلى الله عليه وسلم لنستفيد منها ومن تلك العبادات: * الاعتكاف ولو لليلة واحدة، والحمد لله أن غالبنا الآن في إجازة، فيمكن للمسلم الذي ليس عنده أعمال مهمة، أو أداء حقوق أهله وأولاده، أو والديه، أن يجلس ولو ليوم واحد في المسجد ليزكي نفسه، ويطهر قلبه وعقله من شواغل الدنيا وهمومها، فينقطع عن الدنيا متقرباً إلى ربه بالصيام والقيام وتلاوة القرآن والذكر والدعاء، وسائر القربات، فيا لذة من تقرب إلى ربه، وبادر إلى طاعته ومرضاته، وسارع إلى جنته ورضوانه، ووالله ثم والله لو ذاق المعتكف لذة المناجاة، والقرب من الله، لحرص على هذه الأوقات في كل حين وآن.
* وأيضاً في هذه العشر ليلة خير من ألف شهر، من قامها أيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، قال صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)(متفق عليه)، فيالها من منحة عظيمة قلَّ من اجتهد لتحصيلها، ولقد أخفاها الله عن عباده كي يحرصوا على الاجتهاد في طلبها ولئلا يقصروا في غيرها، وكان من دعاء الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفوا عنا).
* ومن ذلك أيضاً الحرص على الإكثار من الدعاء والبكاء بين يدي الله، وطلب رحمته وعفوه ومغفرته، فلا ملجأ وملا منجى إلا إليه، فمن لم يتب في رمضان فمتى يتوب، ومن لم يرجع إلى ربه ويئوب متى يرجع، ومن كثرت ذنوبه فمن يغفرها له سوى الله، ومن أراد النجاة من النار، والفوز بالجنان متى يطلب ذلك من الله سوى في هذه الأيام، فالبدار البدار قبل انقضاء الآجال، وتصرم الليالي والأيام، فنتحسر على التفريط في جنب الله، قال تعالى:[أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله..](الزمر).
ومن ذلك تربية النفس على الصبر والتواضع واحتقار الذات، فكم من الناس من يتكبر على خلق الله، ويؤذيهم بسوء خلقه فإذا خلا بربه وشعر بضعفه وفقره احتقر نفسه، وبادر إلى إصلاحها كي ينال رضا ربه. فبادروا رحمكم الله قبل رحيل هذه الأيام، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، فمن قدم لنفسه وجد الخير الكثير، ومن فرط في جنب ربه نال الخسران المبين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:[واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وعد المتقين بالعتق من النيران والفوز بالجنان، ووعد الكافرين بالعذاب الأليم والخلود في دار الهوان، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خير، ووجههم ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن المواسم الفاضلة هبة ومنحة من الله امتن بها على عباده، فبادروا باستغلالها، واجتهدوا في تحصيل فضلها.
عباد الله: لقد صدر بيان من سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله بيَّن فيه خطورة سفر بعض الشباب للخارج بحجة الجهاد، وقد بيَّن سماحته آثار هذا الخروج من مفاسد عظيمة، ومن ذلك:
(1) عصيان ولي أمرهم والافتيات عليه، وهذا كبيرة من كبائر الذنوب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني)، ويقول أيضاً: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره) والأدلة في تحريم معصية ولي الأمر كثيرة.
(2) وجد من بعض الشباب الذين خرجوا لما يظنونه جهاداً خلع بيعة صحيحة منعقدة لولي أمر هذه البلاد الطاهرة بإجماع أهل الحل والعقد، وهذا محرم ومن كبائر الذنوب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)(أخرجه مسلم).
(3) وقوعهم فريسة سهلة لكل من أراد الإفساد في الأرض، واستغلال حماستهم حتى جعلوهم أفخاخاً متحركة يقتلون أنفسهم لتحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية لجهات مشبوهة.
(4) استغلالهم من قبل أطراف خارجية لإحراج هذه البلاد الطاهرة، وإلحاق الضرر والعنت بها، وتسليط الأعداء عليها، وتبرير مطامعهم فيها. وهذا من أخطر الأمور إذ هذا الفعل منهم قد تعدى ضرره على الأمة المسلمة، وطال شره بلاداً آمنة مطمئنة، وفعلهم هذا فيه إدخال للوهن على هذه البلاد وأهلها.
ومعلوم أن أمر الجهاد موكول إلى ولي الأمر، وعليه يقع واجب إعداد العدة وتجهيز الجيوش، وله الحق في تسيير الجيوش والنداء للجهاد وتحديد الجهة التي يقصدها والزمان الذي يصلح للقتال إلى غير ذلك من أمور الجهاد كلها موكولة لولي الأمر، بل إن علماء الأمة أهل الحديث والأثر قد أدخلوا ذلك في عقائدهم، وأكدوا عليه في كلامهم، يقول الحسن البصري رحمه الله في الأمراء: (هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن والله إن طاعتهم لغيظ وإن فرقتهم لكفر).
ويقول الطحاوي رحمه الله: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى يوم القيامة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما).
ويقول ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: (ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً).
وهذا الأمر مستقر عند أهل السنة والجماعة أن لا جهاد إلا بأمر الإمام وتحت رايته، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه)(أخرجه الشيخان).
وغيره من الأحاديث في هذا الباب وعلى هذا جرى إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من سائر المسلمين، وعليه فإن الذهاب بغير إذن ولي الأمر مخالفة للأصول الشرعية، وارتكاب لكبائر الذنوب والمحرض لهؤلاء رجلان:
إما جاهل بحقيقة الحال؛ فهذا يجب عليه تقوى الله عز وجل في نفسه وفي بلاده، وفي المسلمين، وفي هؤلاء الشباب، فلا يزج بهم في ميادين تختلط فيها الرايات وتلتبس فيها الأمور، فلا تتضح الراية الصحيحة من غيرها ويزعم أن ذلك جهاداً.
وإما رجل يعرف حقيقة الحال، ويقصد إلحاق الضرر بهذه البلاد وأهلها بصنيعه هذا، فهذا والعياذ بالله يخشى عليه أن يكون من المظاهرين لأعداء الدين على بلاد التوحيد وأهل التوحيد، وهذا خطر عظيم.
وواجب الجميع تقوى الله عز وجل، والتبصر في حال الأمة، والعمل وفق شرع الله، والصبر في طريق العلم والتعليم والدعوة، وعدم الاستعجال والتهور، وليعلم الجميع أن الأيام دول، وأن الله ناصر من نصر دينه، وأن العاقبة لأهل التقوى، فالنصيحة أن نجتهد في تعليم الناس التوحيد ونحملهم عليه، وعلى القيام بحق الله عز وجل وهذا واجب العلماء والدعاة وطلبة العلم، مع إعداد القوة والتهيؤ للعدو، وهذا من واجبات ولي الأمر.
كما أوصي أبنائي الشباب بطاعة الله قبل كل شيء ثم ولاة أمرهم، والارتباط بعلمائهم، هذا مقتضى الشريعة، وأوصي أصحاب الأموال بالحذر فيما ينفقون حتى لا تعود أموالهم بالضرر على المسلمين، كما أحث إخواني من العلماء وطلبة العلم على بيان الحق للناس، والأخذ على أيدي الشباب وتبصيرهم بالواقع، وتحذيرهم من مغبة الانسياق وراء الهوى، والحماسة غير المضبطة بالعلم النافع.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداة مهتدين، وان يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يبصرنا بمواطن الزلل منا، كما اسأله سبحانه أن يعز دينه ويعلي كلمته وينصر عباده الموحدين، وأن يحفظ على بلادنا وسائر بلاد المسلمين الأمن والإيمان، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واسأله سبحانه أن يغفر لنا ويرحمنا وأن لا يسلط علينا بذنوبنا من لا يخافه فينا ولا يرحمنا إنه سبحانه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.)انتهى كلامه حفظه الله.
وأنبه هنا إلى أمر مهم وهو أن العيد إذا وافق يوم الجمعة فمن صلى مع الإمام صلاة العيد سقطت عنه صلاة الجمعة، لكن يجب أن يصليها ظهراً ولا يكون ذلك في المساجد بل من رغب أن يصلي جماعة فليصل مع الإمام الجمعة، لكن لو خرج للبر أو لاستراحة أو مزرعة فلا حرج عليه أن يصلي ظهراً لأن الجمعة سقطت عنه.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون] فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب).
الجمعة: 23-9-1428هـ