خطبة بعنوان: (الحج وفضائله العظيمة) 27-11-1428هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين خالق البشر أجمعين، ومصرف أمورهم في الدنيا والدين، القائل في كتابه العظيم [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ](آل عمران)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له دعا عباده إلى حج بيته العظيم ليكتب لهم الثواب الجزيل، ولينالوا جوده وإكرامه بالعتق من نار عذابها أليم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للمتقين، أفضل من طاف وسعى ولبى،والذي قال في سنته الغراء(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) (رواه البخاري ومسلم) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي الوصية الجامعة لكل خير، قال تعالى:[يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون](آل عمران).
فالتقوى هي التي تُسَيِّر العبد إلى الجنة، فتعينه على كل خير، وتصده عن كل شر، وتأخذ بيده إلى فضائل الأعمال وأحسنها، وتمنعه من قبائحها وسيئها، فهي النجاة لكل من تمسك بها في الدنيا، وهي خير زاد لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها.
عباد الله: لقد أكرم الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأزمنة فاضلة، رتب عليها خيراً عظيماً وثواباً كبيراً، فقد شرع سبحانه وتعالى عبادات جليلة متنوعة من أتى بها كما أُمِر نال خيري الدنيا والآخرة، ومن هذه العبادات التي أكرمنا الله بها فريضة الحج.
فالحج رحلة كريمة مباركة، ومناسبة سعيدة طيبة، وسياحة للمؤمنين محبوبة، فهو النداء العظيم لعباد الله الصالحين، حينما يسمعونه من ربهم يلبون مهرولين، ولداعيه مستجيبين، ولطاعته حريصين باذلين، فللحج ثمارٌ يانعة، وفوائد متعددة، وبركات متنوعة، ودروس مفيدة، تعود على من لبى نداء الله الكريم.
فأين الذين يتهاونون في أدائه، وأين المتكاسلون عن تلبية ندائه.
عباد الله: إن الحج غذاء روحي كبير تمتلىء فيه جُنبات المسلم خشية وتقى لله عز وجل، وعزماً صادقاً على طاعته، وندماً وبُعداً عن معصيته، وتنمو وتترعرع فيه عاطفة الحب لله ولرسوله وللمؤمنين الصادقين، وتتلاقى فيه مشاعر المودة والمحبة والإخاء بين المؤمنين المخلصين.
عباد الله: إن الحج ركن من أركان الإسلام ومبانيه العظام، ودعائمه الخمس، وفرض من فروضه، دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وهو فرض عين على المكلف المستطيع مرة واحدة في العمر، قال تعالى: [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ](آل عمران)، وقال تعالى:[ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ..](الحج)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا](رواه البخاري ومسلم)، وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم..)(رواه مسلم).
عباد الله: إن للحج فضائل عظيمة، ومن ذلك: أنه يهدم ما كان قبله لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: (وأن الحج يهدم ما كان قبله.)(رواه مسلم).
وأيضاً: أن الحاج يعود بعد حجه كيوم ولدته أمه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)(رواه البخاري ومسلم).
وأيضاً: أن الحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل: فذكر الإيمان، ثم الجهاد، ثم الحج المبرور)(رواه البخاري).
وأيضاً: الحج أفضل الجهاد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: أفضل الجهاد حج مبرور)(رواه مسلم).
وأيضاً: الحج المبرور جزاؤه الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (.. والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)(رواه مسلم).
عباد الله: وللحج أهداف عديدة منها:
أنه تمرين عملي للرحلة الطويلة إلى الدار الآخرة، وأنه امتثال لأوامر الله تعالى واستجابة لندائه، وفيه تأس بأبينا إبراهيم عليه السلام، وفيه ارتباط بمهبط الوحي ومتنزل التشريع، وفيه نوع من أنواع السياحة المحمودة التي يحبها المؤمنون الصادقون، وفيه إعلان عملي لمبدأ المساواة بين الناس، قال تعالى:[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ](الحجرات)، وفيه تذكرة بيوم لقاء الله تعالى، وفيه توثيق لمبدأ التعارف والتعاون والمحبة، وفيه جمع للناس على مبدأ التوحيد الصافي، وهو مؤتمر سنوي للمسلمين يجتمعون فيه تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهكذا تتعدد أهداف الحج وآثاره العظيمة على المسلمين جميعاً.
عباد الله: وهنا بعض التوجيهات التي ينبغي على من رغب في الحج أن ينتبه لها، وأن يعمل بمقتضاها كي يتم حجه وليكون حجه مبروراً، وسعيه مقبولاً مشكوراً،
ومن ذلك:
(1) الاستشارة والاستخارة: فيستحب للحاج أن يستشير من يثق بدينه وخبرته وعلمه في حجه هذا، وأن يستخير الله فيه، وهذه الاستخارة وتلك الاستشارة لا تعود إلى الحج نفسه فالحج خير، وإنما تعود إلى ملائمة الوقت والرفقة والراحلة والزاد.
(2) إخلاص النية لله تعالى، لقول الله تعالى:[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] (البينة).
(3) المبادرة إلى كتابة الوصية.
(4) المبادرة إلى التوبة النصوح.
(5) التفقه في أحكام الحج.
(6) اصطحاب الرفقة الصالحة.
(7) تأمير أمير للرحلة.
(8) حسن العشرة للأصحاب.
(9) تخيُّر النفقة الطيبة.
(10) لزوم السكينة واستعمال الرفق.
(11) الحرص على راحة إخوانه الحجاج.
(12) حفظ اللسان، وغض البصر.
(13) لزوم النساء الستر والعفاف.
(14) إعانة الحجاج.
(15) الاستكثار من النفقة.
(16) استشعار عظمة الزمان والمكان.
(17) اغتنام الأوقات في سائر الطاعات.
(18) المحافظة على أداء الصلوات المكتوبة.
(19) عدم إجهاد النفس فيما لا يعني.
(20) ألا يكون هم الحاج قضاء المناسك فقط.
عباد الله: ومما ينبغي التنبيه عليه ما يلي:
أولاً: على من لم يحج أن يبادر إلى الحج، فمن تحققت فيه شروط الوجوب، وهي: (الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة من مال وبدن وزاد، وللمرأة المحرم)، وانتفت عنه موانع الأداء أن يبادر لإبراء ذمته، وأداء ما عليه من حق لله تعالى، قبل أن يأتيه الموت فيقول كما ذكر الله ذلك في كتابه:[أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ..](الزمر).
ثانياً: من سبق له أداء فريضة الحج له أن يعطي من لم يحج ويعجز عن أدائه قيمة الحج وله أجر مثله إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: من أراد أن يوكل أحداً ليؤدي الحج عن أحد أقاربه أن يتحرى الشخص المناسب، الموثوق في دينه وأمانته وتقواه كي يكون حجه مقبولاً بإذن الله تعالى.
رابعاً: ينبغي على المواطنين والمقيمين عدم التحايل على الأنظمة وأن يلتزموا بها كي يحصل الخير للجميع، فالمخالفة للنظام الذي وضعه ولي الأمر يسبب كثرة الزحام في المناسك، والتضييق على الآخرين الذين جاءوا ليؤدوا مناسك الحج لأول مرة، وفيه التعسير على المسلمين في أداء مناسكهم وخاصة عند رمي الجمرات وفي سائر المناسك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] (الحج).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل لأمة الإسلام أزمنة فاضلة يتنافس فيها الأخيار ويبادر لها عباد الله الأطهار، والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله خير من بادر لاستغلال وقته فيما يعود عليه بالخير له ولأمته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: فالتقوى مفتاح كل خير، ومغلاق كل شر.
عباد الله: لقد اقتربت عشر أيام من ذي الحجة، وهي من أفضل أيام العام كما ورد ذلك عن ابن عباس مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بماله ونفسه ثم لم يرجع من ذلك بشيء)(رواه البخاري)
وبهذا يتبين لنا أن عشر ذي الحجة من أفضل أيام العام على الإطلاق، ذلك أن أمهات العبادات تجتمع فيها، ولا تجتمع في غيرها، ففي عشر ذي الحجة الحج والعمرة وهما من أفضل الأعمال، وصيام يوم عرفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)(رواه مسلم)، وفيها التكبير والذكر، وفيها الأضحية في يوم العيد وأيام التشريق، والحرص على النوافل من صلاة وقراءة وصدقة وتجديد التوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي صغيرها وكبيرها، ويقول ابن قدامة رحمه الله: (وأيام عشر ذي الحجة كلها شريفة مفضلة، يضاعف العمل فيها ويستحب الاجتهاد في العبادة فيها).
فينبغي علينا استغلال هذه الأيام فيما ينفعنا في العاجل والآجل، وهناك بعض التوجيهات الخاصة بمن أراد أن يضحي إذا دخل شهر ذي الحجة،
ومن ذلك:
(1) من أراد أن يضحي عن نفسه وأهل بيته أو أن يتبرع لحي أو ميت فيحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره، أو جلده، حتى يذبح أضحيته.
(2) إذا دخل عشر ذي الحجة ولم ينو المسلم أن يضحي فأخذ من شعره وظفره ثم بدا له بعد يومين أو ثلاثة أو أكثر أن يضحي فعليه أن يمسك من حين نوى ولا حرج عليه فيما مضى.
(3) النهي عن أخذ الشعر والظفر والبشرة خاص بمن أراد أن يضحي عن نفسه وأهل بيته، أو يضحي تبرعاً لحي أو ميت.
(4) لا حرج أن تذبح المرأة الأضحية، وما يظنه بعض الناس من عدم جواز ذلك فلا أصل له في الشرع.
(5) من أراد أن يضحي وعقد العزم على الحج أو العمرة فلا يأخذ من شعره وظفره عند الإحرام، أما الحلق أو التقصير للحج والعمرة فيجب ولو كان الحاج أو المعتمر سيضحي لأن هذا التقصير أو الحلق نسك فلا يشمله النهي عند أخذ الشعر والظفر.
وأما بالنسبة للتكبير في هذه الأيام فينقسم إلى قسمين: مطلق ومقيد:
فالمطلق: يبدأ من أول العشر إلى فراغ الإمام من الخطبة على الصحيح من كلام أهل العلم.
والمقيد: يبدأ من فجر عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، هذا بالنسبة لغير الحاج.
وأما الحاج فيبدأ التكبير من صلاة الظهر يوم العيد إلى عصر آخر أيام التشريق لأن الحجاج مشغولون قبل ذلك بالتلبية.
والمطلق: يشرع في كل وقت من ليل أو نهار، والمقيد: خاص بأدبار الصلوات المفروضة.
ويستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق والدور، والطرق، والمساجد، وأماكن تجمع الناس إظهاراً لهذه الشعيرة وإحياء لها، واقتداءً بسلف هذه الأمة.
وصفة التكبير المشروع أن يقول المسلم: ( الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد)، وإن قال الله أكبر ثلاثاً جاز.
عباد الله:
احرصوا على ما ينفعكم وابتعدوا عما يضركم، واسعوا في بذل الخير والإسراع إلى الطاعة فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.
أسال الله تعالى بمنه وكرمه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى.
اللهم احفظ علينا دينا وأمننا وولاة أمورنا وعلمائنا وإخواننا المسلمين، اللهم اجعل هذا البلد مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، اللهم عليك بمن يكيد بالإسلام والمسلمين، اللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم أسق به البلاد والعباد واجعله زاداً للحاضر والباد.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب).
27-11-1428هـ