خطبة بعنوان:(ماذا نستفيد من الإجازة؟) 7-6-1428هـ.

السبت 4 جمادى الآخرة 1440هـ 9-2-2019م

 

الخطبة الأولى:
الحمد لله خالق الأكوان، ومقلب الدهور والأزمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقلب الليل والنهار عبرة لأولي النهى والأفهام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أمره ربه بقوله:[فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب]، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم مبعثه، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ](الحشر:17، 18).

عباد الله:
إن الإنسان خلق في هذه الحياة من أجل عبادة الله وحده، والقيام بأمره، وقد وعد على ذلك بالسعادة في الدارين إذا وفى بما أُمر به ونُهي عنه، قال تعالى:[مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ](النحل:97)، فترتب على ذلك أن يعلم العبد أنه ما خلق في هذه الدنيا هباءً منثورا، يأكل ويشرب، ويلهو ويلعب، إنما خلق لطاعة ربه، فإذا علم ذلك كان حريصاً على كل ما يوصله إلى مرضاته وجنته، والسبيل يا عباد الله في ذلك هو السعي فيما يرضيه، والقيام بما يحبه ويرتضيه، ومعلوم أن أنفاس العبد بيده جل في علاه، وأنه مجازيه عن كل دقيقة من عمره، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه)(رواه الترمذي وصححه الألباني في جامع الترمذي 4/612 رقم 2417). فالرابح والخاسر هما الساعيان في جمع ما يقابلان به ربهما، ولكن البون شاسع، والفرق كبير بين من يسعى إلى الجنة، وبين من يسعى إلى النار، فهما يعلمان أن عمرهما هو رأس مالهما، فالساعي إلى الجنة ينفقه فيما يعود عليه بالربح عند ملاقاة الله والفوز بجنته، والساعي إلى النار يغفل عن لقاء ربه، وينساق وراء شهواته وملذاته حتى أردته غفلته صريعأ لعذاب ربه. فشتان بين الصنفين، وشتان بين الفريقين، وصدق الله تعالى إذ يقول:[فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ](الشورى:7).

عباد الله:
لقد انتهى العام الدارسي بما فيه من تعب ونصب، وجد اجتهاد، فنجح من بذل، ورسب من أهمل وتكاسل، والجميع الآن يفكرون في كيفية قضاء الإجازة الصيفية بطولها، وكيف يستفيدون من أوقاتهم الكثيرة، وهنا تختلف الهمم والإرادات، فالبعض يستغل الإجازة في اللعب واللهو والنوم، والبعض الآخر يقسم وقته فيما يعود عليه بالفائدة في دينه ودنياه، فتجده تارة في المسجد محافظاً على الصلوات، حافظاً لكتاب الله، وتارة يساعد أباه في عمله، وتارة يسافر إلى بيت الله الحرام معتمراً وزائراً، وتارة واصلاً لرحمه مؤدياً حق أقاربه، وتارة يتعلم مهنة تعينه على أمر دنياه، وهكذا.

عباد الله:
إذا عرف المسلم قيمة شيءٍ ما وأهميته حرص عليه وعزَّ عليه ضياعه وفواته، وهذا شيء بديهي، فالمسلم إذا أدرك قيمة وقته وأهميته كان أكثر حرصاً على حفظه واغتنامه فيما يقربه إلى ربه، وها هو الإمام ابن القيم رحمه الله يبين لنا هذه الحقيقة بقول: (وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمرُّ مرَّ السحاب، فمن كان وقته لله، وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته…. فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير من حياته)اهـ.

ويقول ابن الجوزي رحمه الله: (ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل)اهـ.

ولقد عنى القرآن العظيم والسنة النبوية بالوقت من نواح شتى وبصور عديدة، فقد أقسم الله به في مطالع سور عديدة بأجزاء منه مثل (الليل، النهار، والفجر، والضحى، والعصر) كما في قوله تعالى:[والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى]، [والفجر وليال عشر]، والضحى والليل]، [والعصر إن الإنسان لفي خسر ]، ومعروف أن الله تعالى إذا أقسم بشيء من خلقه دلَّ ذلك على أهميته وعظمته، وليلفت الأنظار إليه وينبه على جليل منفعته.

وجاءت السنة أيضاً مؤكدة على أهمية الوقت وقيمة الزمن، وأنه نعمة من الله ليستغلها المسلم فيما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ)(رواه البخاري).

عباد الله:
لما كان الوقت ذو أهمية حتى أنه ليعد هو الحياة حقا كان على المسلم واجبات نحو وقته ينبغي أن يدركها، ويضعها نصب عينه، ومن هذه الواجبات:

أولاً: الحرص على الاستفادة من الوقت بحيث يستفيد منه في كل ما ينفعه من عمل دنيوي، وعمل صالح أخروي، وعلم ينفعه ويقربه إلى ربه، ولقد كان السلف رضوان الله عليهم أحرص ما يكونون على أوقاتهم لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها، وكانوا يحرصون كل الحرص على ألا يمر يوم أو بعض يوم أو برهة من الزمان وإن قصرت دون أن يتزودوا منها بعلم نافع أو عمل صالح أو مجاهدة نفس، أو إسداء نفع إلى الغير، يقول الحسن البصري رحمه الله: (أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم).

ثانياً: تنظيم الوقت: بحيث يقوم المسلم بتنظيم وقته بين الواجبات والنوافل، وبين الأعمال الدينية والدنيوية بحيث لا يطغى بعضها على بعض، ولا يطغى غير المهم على الأهم، قال أحد الصالحين: (أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية، ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية: فمن كان وقته الطاعة فسبيله شهود المنَّة من الله عليه أن هداه لها ووفقه للقيام بها، ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر، ومن كان وقته المعصية فسبيله التوبة والاستغفار، ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا والصبر).

ثالثاً: اغتنام وقت الفراغ: ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم عليها حيث قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: وذكر منها: وفراغك قبل شغلك)(رواه الحاكم وصححه الألباني في الترغيب والترهيب ج3 رقم3355)، يقول أحد الصالحين: (فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر العبد هذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى، وانجرَّ في قياد الشهوات، شوَّش الله عليه نعمة قلبه، وسلبه ما كان يجده من صفائه).

رابعاً: محاسبة النفس: وهي من أعظم وسائل حفظ الوقت لأن محاسبة النفس تعود على المسلم بالحرص عليه، وعدم التفريط فيه، والاجتهاد في تحصيل ما يعود عليه بالفائدة منه، وصدق عمر رضي الله عنه حين قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزودوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية)اهـ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ](العصر).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي جعل الدنيا دار مهلة وعمل، وجعل الآخرة دار حساب وجزاء، والصلاة والسلام على خير خلقه الذي كان لا يضيع وقته إلا فيما يرضي به ربه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين،

وبعد:

فاعلموا يا عباد الله:
أن الوقت هو عمر الإنسان، وراس ماله، وكلما فرط الإنسان في عمره تحسر يوم يلقى ربه، فيقول كما قال الله تعالى في كتابه:[ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ] (الزمر:56)، فهل بعد هذا التحذير من عمل وبذل.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي).

وقال الحسن البصري رحمه الله: (يا ابن آدم إنما أنت أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضك).

وقال أيضاً: (الدنيا ثلاثة أيام: أما الأمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلك لا تدركه، وأما اليوم فلك فاعمل فيه).

وقال ابن القيم رحمه الله: (إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها).

وقال السرِّي بن مفلس: (إن اغتممت بما ينقص من مالك، فابك على ما ينقص من عمرك)

عباد الله:
إن هذه الإجازة التي امتن الله بها على كثير منا نعمة من الله تحتاج إلى شكر وعمل، فلا يضيعها الإنسان في غير ما يقربه إلى الجنة ويباعده عن النار.

لذلك فإن أبواب استثمار وقت الإجازة كثيرة جداً وخاصة للشباب والفتيات، ولهما أن يجتهدا في تحصيل ما يستطيعانه خلالها، ومن تلك الأبواب:

(1) حفظ كتاب الله تعالى وتعلمه: وهذا خير ما يستغل به المسلم وقته، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعلم كتاب الله فقال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)(رواه البخاري)، فليحرص أبناؤنا وبناتنا على الالتحاق بدورات تحفيظ القرآن خلال الفترة الصيفية التي تقيمها جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظتنا المباركة.

(2) طلب العلم: فقد كان السلف الصالح أكثر حرصاً على استثمار أوقاتهم في طلب العلم وتحصيله، وذلك لأنهم أدركوا أنهم في حاجة إليه أكبر من حاجتهم إلى الطعام والشراب، فعلى الشباب الحرص على حضور الدورات العلمية التي تقيمها وزارة الشؤون الإسلامية على مستوى محافظات المملكة.

(3) ذكر الله تعالى: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)(رواه الترمذي وصححه الألباني في جامع الترمذي 5/458 رقم3375)، وذلك بالمحافظة على أذكار الصباح والمساء، والأذكار في دبر الصلوات، وغير ذلك من الأوراد والأذكار والأدعية، فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء.

(4) صلة الأرحام: وخاصة في هذه الإجازة، لتفرغ الكثير من الأسر، فيقوم المسلم بزيارة أقاربه، وإدخال السرور عليهم، والحرص على دعوتهم للخير وتوجيههم إليه، فهذا من أفضل الأعمال التي يحبها الله تعالى.

(5) الإكثار من النوافل والطاعات: وهو مجال مهم لاغتنام أوقات العمر في طاعة الله، وعالم مهم في تربية النفس وتزكيتها، علاوة على أنه فرصة لتعويض النقص الذي يقع عند أداء الفرائض، وأكبر من ذلك كله أنه سبب لحصول محبة الله للعبد لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)(رواه البخاري).

(6) القيام بزيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة والتمتع بالصلاة فيه، وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم للسلام عليه.

(7) ومن الأعمال الصالحة أيضاً التي يمكن الاستفادة منها: الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة للمسلمين، وذلك عن طريق توزيع الكتيبات والأشرطة النافعة على الأهل والأقارب والجيران ليعم النفع بها على المجتمع.

(8) زيارة مصايف بلادنا، والسفر في رحلات عائلية أو شبابية مع البعد عما حرم الله تعالى.

(9) حضور المناسبات العائلية مثل مناسبات الزواج واللقاءات الأسرية لما فيها من تأليف القلوب وصلة الأرحام.

(10) إنجاز المشاريع الخاصة والعامة التي لا يتمكن المرء من إنجازها خلال العام الدراسي لكثرة المشاغل والمعوقات، فالإجازة فرصة لتعويض كل نقص خلال العام.

عباد الله:
ووصيتي لأولياء أمور الطلاب أن ينتبهوا لأولادهم خلال هذه الإجازة، ويحرصوا على الصحبة الصالحة لهم، ويحيطوهم برقابتهم وتوجيههم، ويأخذوا على أيديهم بما يعود عليهم بالنفع في العاجل والآجل.

ووصيتي للشباب والشابات: بتقوى الله، ورقابته، وأن يعلموا أنه محيط بكل ما يقومون به، وأن يحرصوا على التزود للقاء الله، ويبتعدوا عن الصحبة السيئة، والنظر إلى المناظر المضرة لقلوبهم وأجسامهم، ويكونوا عوناً لآبائهم وأمهاتهم على الخير، ويضعوا نصب أعينهم أن من نشأ في طاعة الله واستمر عليها إلى أن يلقى الله فهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ وذكر منهم: وشاب نشأ في عبادة الله)(متفق عليه).

أسأل الله بمنه وكرمه أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمرنا وعلمائنا وأولادنا، وأن يبصر أبنائنا وبناتنا بالصراط القويم، وان ينفع بهم أمة الإسلام والمسلمين.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 7-6-1428هـ