خطبة بعنوان:(مأساة غزّة والحصار المُر) بتاريخ 21-1-1430هـ.

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
الحمد لله القويِ القهارِ، العزيزِ الجبارِ، مكوِّرِ اللَّيل على النَّهار ومكوِّرِ النَّهار على اللَّيل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }(الحج). وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائل في سنته (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) (رواه البخاري) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً،
أمّا بعد:
فاتقوا الله عباد الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ](آل عمران).
عباد الله: لقد شاهد العالم بأسره محنةً من أعظم المحن في وقتنا الحاضر، وهي تلك المحنة العظيمة التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة تحت عين وبصر العالم بأسره شرقه وغربه، وتلك المأساة بدأت من أيام وهذه الأيام طويلة وشاقة على من عانى مُرّها، وتقلب في بلائها، واكتوى بنارها، وتأثر بعنفها وشدتها.
فالمسلمون في غزة تقذفهم الطائرات من فوقهم بالقنابل بشتى أنواعها، تدك المنازل والمساجد والدوائر، وتركز على ما يتعلق بضرورات الحياة، والجنود تدخل على الناس في البيوت، تعتقل من تشاء، وتقتل من تشاء، وتفعل ما تشاء، وكأنهم داخلون على قطيع غنم ليس له صاحب ولا راع، فهم يفعلون كل ذلك دون حسيب أو رقيب أو رادع.
أيها المؤمنون: قوات العدو محملة بشتى أنواع الأسلحة يضربون ويأسرون ويهدمون ويخرِّبون ويقتلون، وبالمقابل أمامهم أُناسٌ لا حول لهم ولا قوة ليس معهم سلاح يقفون به أمام تلك الجحافل ليصدوا هذا العدوان عنهم، انقلبت الموازين، وتغيرت الأمور، وأصبح الحق باطلا، والباطل حقاً.
لُغة القوة هي التي أصبحت تُسْمَع، ولُغة الضعف ليس لها حس ولا خبر، معاناة وأي معاناة تلك التي يتعرض لها إخواننا في فلسطين، والله إن القلب ليتفطر ألماً، والعين تذرف دمعاً، والأجساد تقشعر من هول تلك المصيبة التي حلت بإخواننا في فلسطين، وكيف لا يكون ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(متفق عليه).
عباد الله:
انظروا لحال المسلمين في غزة وما يفعله الصهاينة المعتدون، وتلك المآسي التي يتعرضون لها ليل نهار، فتلك الأم المكلومة أصيبت هي وزوجها بجروح ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد رأت بناتها الصغيرات وهن أموات أمام عينيها من تلك القذائف التي ضربت جزءًا من بيتها فحولته إلى أنقاض، وذلك الأب الحزين يجد خمساً من بناته قد تحولوا إلى موتى بعد أن كانوا يلهون ويلعبون أمام ناظريه.
وهذا أبٌ آخر يسير بتثاقل وهو يشيع فلذات أكباده إلى مثواهم في المقبرة بعد أن ضربهم الطيران الصهيوني بقذيفة قاتلة.
وهذا عالمٌ يُقتل بنيران العدو مع زوجاته وأبنائه وبناته في منزله.
وهذا شاب أثناء عودته من الجامعة فوجئ بقصف يهودي وسقوط صاروخ بجواره فأصيب بكسر، وتم زرع شريان له بسبب شظية من ذلك الصاروخ.
وهذا آخر بترت ساقه بعد إصابته بقذيفة من تلك القذائف المدمرة.
وآخر أصيب بشظية صاروخ قد ضرب منشأة من المنشآت فظل ينزف حتى تمكنت سيارة إسعاف من نقله إلى المستشفى.
وشاب آخر أصيب بكسر في جمجمته ومرفقه الأيمن يقول (لم أشعر بالصاروخ الذي سقط بجواري، ورأيت صديقاً لي يصرخ من شدة الألم بعد أن أصيب معي، الانفجارات كانت سريعة ومتتالية ولم نستطع الهروب).
وهذا طفل أصيب بكسور مختلفة نتيجة القصف يقول (أصبت نتيجة تهدم الجدران عليّ بعد أن قصفت الطائرات الإسرائيلية المبنى الذي كنت فيه).
والجامعة الإسلامية لم تسلم أيضاً فقد ضربوها بالصواريخ حتى سووها بالأرض.
ومرفأ الصيادين على شاطىء غزة لم يسلم أيضاً من الضرب بالصواريخ والقذائف مما أدى إلى إصابة عدد من الفلسطينيين بجراح فيما اشتعلت النيران في داخله، كما استهدفت المساجد وتم ضرب العديد منها بالصواريخ.
أسر كاملة أبيدت، ومرافق ومنشآت، أشلاء وأموات وكأن القوم لا يقرؤون التاريخ، ولا يعرفون الحقائق ولا يتعظون من دروس الحياة.
وفي سائر أنحاء قطاع غزة تدمير، وتقتيل، ودماء وأشلاء، وجرحى، ومرضى، وإصابات، وآهات، وإسعاف يمشي في نواحي البلدة الصغيرة التي يسكنها مليون ونصف المليون من البشر يحمل الجثث والجرحى والمصابين في عملية مستمرة لا تكاد تقف، معاناة من جميع الجهات، لا كهرباء، ولا ماء نظيف، ولا أمن ولا أمان، الناس يعيشون تحت ظل الصواريخ والقنابل، في أي مكان يجلس الناس يجدون أصوات الطائرات تضرب هنا وهناك، الجميع في رعب وخوف، قتلى وجرحى، المستشفيات قد امتلأت بالمصابين ولا توجد خدمات كافية لهم، موتى بأعداد كثيرة، وفي بعض الأحيان لا يستطيعون تغسيل تلك الجثث أو تكفينها فيكتفون بدفنها كما هي من كثرتها.
عباد الله: وهذه المآسي وتلك المجازر الوحشية، وشلالات الدم وغيرها على مرأى ومسمع العالم كله، لا تجد من يستطيع أن يوقف تلك المجزرة الوحشية ضد هؤلاء المستضعفين، فأين الأصوات التي تترنم بنصر الحريات، وتنادي بحقوق الإنسان، أين الذين يهزجون بشعارات الديمقراطية ونشر السلام في ربوع الأرض.
عباد الله: تلك والله محنة وأي محنة، وهذا والله بلاء وأي بلاء أن يرى العالم المتحضر المتقدم تلك المآسي ويسكت عليها، ويخرج من بلاد الغرب من يبارك تلك المجازر الدموية ويقول حق لإسرائيل أن تدافع عن نفسها، بل ومن أبناء المسلمين ومن بني جلدتهم من يعاتب حماس على أنها هي السبب في تلك المآسي ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإلى الله المشتكى وهو حسبنا ونعم الوكيل..
عباد الله:
إن إخواننا في غزة يعانون أشد المعاناة من وطأة المعتدين الظالمين، لماذا لأنهم مسلمون، يحملون عقيدة التوحيد، ويلتزمون بمنهج الحق، وصدق الله تعالى إذ يقول [قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ](البروج).
عباد الله: إن المسلمين اليوم يعانون آلاماً حقيقية مرّة ولابد من الاعتراف بها على مرارتها، لأن المحافل الدولية تكيل بمكيالين، فهي تصف الضعيف الذي يسكن أرضه ويأكل من عمل يده ويدافع عن دينه وحريته وأرضه بالإرهابي الذي لا حق له، وتجعل الظالم المعتدي على حرمات المسلمين وأعراضهم ومقدساتهم، الغاصب لحقوقهم تجعله مالكاً للأرض وللرقاب، ولكنه ملكها بالحصار الجائر، والقتل الجماعي، والقهر النفسي.
بل إن هذا الظالم المعتدي يعتبر حق المسلمين باطلاً، وباطل غيرهم حقاً، وهذا هو المنطق الغريب والمعكوس، فالذي يدافع عن نفسه ولو بآلة لا تقتل ولا تجرح يعتبر في نظرهم إرهابي، ولكن الذي يقتل البشر بوحشية منكرة بوسائل متعددة من صواريخ وقنابل ودبابات وبنادق حديثة بلا تفريق بين كبير وصغير، ورجل وامرأة، وعسكري ومدني، فتلكم هي الحضارة التي يترنمون بها، وذلكم هو الرقي الذي يُطالب المسلمون بالسكوت عنه ولزوم ضبط النفس تجاهه، فأي عدل هذا، وأي إنصاف للبشرية إذا كانت الأمور توزن هكذا، وفي الأخير يتحول الأمر ضد المسلمين مهما كانت الأسباب والنتائج.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ](المائدة).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ناصر المستضعفين ومذل أعناق المستكبرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك القائل في كتابه المبين [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ](الحج)، وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً،
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن على المسلمين جميعاً حكومات وشعوباً أن يأخذوا بشتى الأسباب الموصلة للوقوف بجوار إخوانهم المظلومين المستضعفين، وأن يحذروا من خذلانهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته..)(رواه أحمد وأبو داود)، ولا يكفي في النصرة مجرد الشجب والاستنكار؛ بل لابد من أفعال تبرهن على صدق المناصرة لوقف المعتدين وإظهار قوة المسلمين.
أسأل الله تعالى أن يكشف عن إخواننا ما بهم من ضر وأن يرفع عنهم البلاء ويرد عنهم كيد الكائدين وعدوان المعتدين ويعجل لهم بالنصر المبين.
اللهم يا منان، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم.
اللهم برحمتك نستغيث، وعليك نتوكل، وبك نستعين، فأنت حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربنا إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي غير أن عافيتك هي أوسع لنا نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علينا غضبك، أو ينزل بنا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم يا جامع الشتات، ومخرج النبات، ومحي العظام الرفات، اللهم يا مجيب الدعوات، ويا قاضي الحاجات، ويا فارج الكربات ويا سامع الأصوات من فوق سبع سموات، يا من أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، نسألك اللهم بقدرتك على كل شيء، يا عظيماً يرجى لكل عظيم، يا عليماً أنت بحالنا وحال إخواننا في فلسطين عليم.
اللهم إنّا نسألك أن تفرج عن إخواننا المستضعفين في فلسطين، اللهم تقبل من قتل منهم، واشف جرحاهم، وعافي مبتلاهم، وفك أسراهم، واجعل اللهم لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجاً.
اللهم وحد صفوفهم، وسدد رميهم، وأعلي كلمتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم أمدهم بمدد من عندك، وجند من جندك.
اللهم يا حي يا قيوم، يا قوي يا عزيز، انصر عبادك الموحدين في فلسطين وفي كل مكان.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، سريع الحساب، اهزم اليهود الغاصبين ومن عاونهم على المسلمين.
اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم.
اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل عليهم رجزك وغضبك ومقتك وبأسك وعذابك إله الحق.
اللهم خالف بين كلمتهم واقتلهم بسلاحهم، وسلط عليهم عدواً من أنفسهم يسومهم سوء العذاب.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا وأمننا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، اللهم أمده بعونك وتوفيقك، واجعل عمله في رضاك يا أكرم الأكرمين، اللهم أصلح له البطانة، واصرف عنه بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن عبادك الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، واجعله بلاغا للحاضر والباد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 21-1-1430هـ