خطبة بعنوان: (حول العلماء).
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل في محكم التنزيل [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] وأشهد أن لا إله إلا الله علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من تعلم وعلم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً.
أمـــــا بـــــعــــد:
أيها المؤمنون ــ والمؤمنات العلم شجرة والعمل ثمرة وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً والعلم يراد للعمل والعمل يراد للنجاة. والمسلم الحق الطالب لهذا العلم يعلم أن الله عز وجل فرض عليه عبادته والعبادة لا تكون إلا بعلم. وعلم أن العلم فريضة. وعلم أن المؤمن لا يحسن به الجهل فَطَلبَ العلمَ لينفي عن نفسه الجهل وليعبد الله عز وجل كما أمره ليس كما تهوى نفسه فكان هذا مراده في السعي في طلب العلم معتقداً للإخلاص في سعيه لا يرى لنفسه الفضل في سعيه بل يرى لله الفضل عليه إذ وفقه لطلب العلم الذي يبعد به ربه في أداء فرائضه واجتناب محارمه. فاستحق بذلك رفعة الدرجات ونيل رضوان رب الأرض والسماوات فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع فالعلم طريق موصل إلى الجنة وهو يدل على الله من أقرب الطرق وأسهلها ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من سلك طريقا يلتمس فيه علماً سلك الله له به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
هذا حديث عظيم يرويه أبو الدرداء رضي الله عنه وقد صنف حوله العلماء الكتب الكثيرة ولقد كان لراوي الحديث سهم وافر في التعلم و التعليم اسمع إليه وهو يقول: معلم الخير والمتعلم في الأجر سواء ولا خير فيما سواهما إن أخوف ما أخاف إذا لقيت ربي تبارك وتعالى أن يقول لي قد علمت فماذا عملت فيما علمت. لا يكون تقيا حتى يكون عالماً ولن يكون بالعلم جميلاً حتى يكون به عاملا.
أرأيتم حال العلم وأهله إنهم في كل جيل زينته وخلاصته وقادة سفينته هم حملة الأفكار والمثل والمفاهيم والعقيدة ولذا كثيراً ما تعرضوا لكيد الأعداء ودسائس الماكرين أما في أمة الإسلام أما في بلاد العقيدة فلهم شأن أخر كيف لا وهم جند الحق وحراس العقيدة وموجهوا الأمة وراسموا نهضتها هم الذين إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس.
هم الذين ينصرون المظلوم ويعينون المهضوم ويردون الحق للمغبون.
هم لسان الأمة وقلبها وعقلها ورأيها وضميرها ووجدانها هم الذين لا ينامون وإذا انتشرت المنكرات. ولا يسكتون إذا انتهكت محارم الله.
هم الذين يجهرون بالحق في كل زمان ومكان.
هم الذين يرخصون في سبيل لله الدماء والأموال والجهد والأوقات.
هم الذين يضعون يدهم في يد ولاة الأمر ويناصحونهم ويدعون لهم في السراء والضراء.
هم الذين يرفعون حقوق الله وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم وحقوق ولاة الأمر فيقومون بها على أتم وجه وأكمله هؤلاء هم علماء الأمة ودعاتها الذين لهم المكانة الرفيعة في نفوس المسلمين ولهم المحل الأرفع عند ولاة أمر المسلمين ولكي تتضح الصورة أذكر هنا مثلين اثنين أحدهما من سلف هذه الأمة والثاني من الواقع الذي نعيشه.
أما الأول: فقال عثمان ابن عطاء الخرساني انطلقت مع أبي نريد هشام بن عبد الملك فلما قربنا إذا الشيخ على حـمار أسود عليه قميص وجبه وقلنسوه وركاباه من خشب فضحكت منه وقلت لأبي من هذا الأعرابي فقال اسكت هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح فلما قرب منا نزل أبي عن بغلته ونزل هو عن حماره فاعتنقا وتساءلا ثم عادا فركب وانطلقا حتى وقفا على باب هشام فما استقر بهما الجلوس حتى أُذن لهما.
فلما خرج أبي قلت له حدثني ما كان منكما قال لما قيل لهاشم إن عطاء بن أبي رباح بالباب أذن له فو الله ما دخلت إلا بسببه فلما رآه هشام قال مرحبا مرحبا هنا هنا ولا زال يقول هنا هنا حتى أجلسه معه على سريره ومس بركبته ركبته وعنده أشراف الناس يتحدثون فسكتوا فقال لهم ما حاجتك يا أبا محمد قال نعم يا أمير المؤمنين أهل الحرمين أهل الله وجيران رسوله تقسم عليهم أرزقهم وأعطياتهم قال يا غلام اكتب لأهل مكة والمدينة بعطاياهم لسنة, ثم قال هل حاجة غيرها يا أبا محمد قال نعم يا أمير المؤمنين أهل الحجاز وأهل نجد أصل العرب وقادة الإسلام ترد فيهم فضول صدقاتهم قال نعم يا غلام أُكتب بأن ترد فيهم فضول صدقاتهم ثم قال هل من حاجة غيرها يا أبا محمد قال نعم يا أمير المؤمنين أهل الثغور يردون من وراءكم ويقاتلون عدوكم تجري لهم أرزاقا تدرها عليهم فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور قال نعم يا غلام أُكتب بحمل أرزاقهم إليهم ثم قال هل من حاجة غيرها يا أبا محمد قال نعم يا أمير المؤمنين أهل ذمتكم لا يكلفون ما لا يطيقون فإن ما تجبونه منهم معونة لكم على عدوكم قال نعم يا غلام أٌكتب لأهل الذمة بألا يكلفوا ما لا يطيقون. ثم قال هشام هل من حاجة غيرها يا أبا محمد قال نعم اتقي الله في نفسك فإنك خلقت وحدك وتحشر وحدك وتحاسب وحدك ولا والله ما معك ممن ترى أحداً.
فأكب هشام ينكت في الأرض وهو يبكي فقام عطاء فلما كان عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس لا أدري ما فيه فقال إن أمير المؤمنين أمر لك بهذا فقال لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على رب العالمين.
هذا مثل حي للعالم العامل الناصح المخلص الذي وظف علمه في مصالح المسلمين وخدمة قضاياهم وهو مثال بل نموذج لولاة الأمر الذين يعلون مكانة العلماء ويرفعون من قدرهم ويعاملونهم بما يستحقون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون فاستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل في محكم البيان [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أمـــــا بــــــعـــــــــد:
عباد الله أما المثال الثاني من واقعنا الذي نعيشه فهو سماحة العلامة والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز الذي جاهد ولا يزال ولله الحمد خلال سبعين سنة مضت يحدثني بنفسه يقول منذ بدأت أكتب لولاة الأمر والله ما كتبت خطاباً واحداً فيه مصلحة خاصة بل كل ما كتبته في مصالح المسلمين ولقد حضرت مجلسه مرات كثيرة وتعجب حين ترى صبره على أذى الناس والحرص على قضاء حاجتهم بل يكفي أن نعلم أنه لا ينام في الليل إلا في حدود أربع ساعات وفي النهار ساعة بعد العصر وله جهود مخلصة داخل المملكة وخارجها ومع ولاة الأمر وهو ولله الحمد محل تقديرهم واحترامهم بل إن ولاة الأمر يأتونه في منزله تقديراً له واعترافا بمكانته والأمة التي تحترم علماءها وتعرف مكانتهم وتقدرهم وتنصفهم هي أمة عزيزة بعز الله تعالى ولكن متى رأيت الأمة تلوك في علمائها وتقلل من شأنهم فقل عليها السلام وصدق ابن الجوزي رحمه الله (اللهم لا تعذب لسانا يخبر عنك ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك ولا قدماً تمشي إلى خدمتك. ولا يداً تكتب حديث رسولك فبعزتك لا تدخلني النار فقد علم أهلها أني كنت أَذُبَّ عن دينك).
هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين فقد أمركم الله بذلك في كتابه الكريم فقال جل من قائل عليما [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] وقال صلى الله عليه وسلم (من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد. عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.