خطبة بعنوان: (صور الندم يوم القيامة) .

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً:

أمــا بــعـــد:

أيها المؤمنون والمؤمنات روى البخاري في صحيحه بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال \”نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ\”

يقول ابن بطال [ معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكفياً صحيح البدن فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه فمن فرط في ذلك فهو المغبون ]

وقال ابن الجوزي [قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل في الطاعة فهو المغبون وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون .

وينبغي على ذلك صور الندم يوم القيامة التي ورد ذكروها في الكتاب والسنة و منها:

1ـ القيامة الأولى:
ونعني بالقيامة الأولى التي يواجهها الإنسان الموت ويبدأ الندم عند اللحظات الأخيرة من عمره عندما يستيقن بخروج روحه من جسده ((وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ))

وفي تلك الأثناء يتذكر الساعات التي لم يستغلها في طاعة الله ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا ليعمل صالحاً ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)) فهي أول أمنية يتمناها الإنسان أن تترك له فرصة العودة ليعمل صالحاً وقد نسي أنه يخاطب علاَّم الغيوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وقد علم بكذبه وأنه لو أعاده إلى الدنيا لعاد كما كان من فعل المعاصي والتكاسل عن فعل الخيرات لذلك جاء الجواب قاطعاً لكل بصيص من أمل ولكل ألفاظ الخداع التي كان يستخدمها للهروب من عذاب القبر.

((كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)).

2ـ عض الأيــدي:
إنها لحظات الحسرة والندام عندما يستيقين الإنسان وهو في أرض القيامة إن صاحبه الذي كان يصاحبه قد خذله ولم يغن عنه من الله شيئا وإن تلك الجلسات والقهقهات والليالي الحمراء والمشاركة على موائد اللهو والعبث لم تشفع في النجاة مما هو فيه وهو يرى أمامه أن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه ـ حينها ((يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً)).

هكذا المرء حين يندم ويتحسر يأخذ في يديه عضا وفرقعة وهي حالة نفسية يجسمها النادم فعلاً يشاهده الآخرون وهذه هي النتيجة الطبيعية لمصالحة أهل السوء ومعاداة أهل الخير والصلاح.

3ـ عند عرض الأعمال:
عندما ما يوضع كتاب الأعمال ويرى كل إنسان ما قدم وأخر, يُفاجأ صاحب المعصية بما في كتابه فهذا الكتاب لم يترك كلمة قالها منذ بلوغه ولا فعلاً قام به داخل الأبواب الموصودة وفي ظلمة الليل وحين غفله الرقيب إلا من الله جل وعلا.

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليَّ رقيب

هذا الكتاب سُطرت فيه جميع الحركات والسكنات عندها يصيح صاحبه نادماً ((مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا))

((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه)) نعم لقد سجل الملكان كل شيء فهيهات أن يظلم هذا المرء بل يجازى بعمله إن خيراً فخيرا وإن شراً فشراً.
وفي هذا الموقف العصيب يتمنى أنه لم يُسلم الكتاب ولم يدر ما الحساب بل يتمنى الموت دون العذاب الذي بدأ يعاينه ولم يغن عنه مال ولا جاه ولا سلطان.

وصدق الله العظيم ((يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ))

بل إن الكافر والعياذ بالله يتمنى أن يكون ترابا تطؤه الأقدام فبقدر حرصه على الحياة في الدنيا تجده يحرص على الموت في الآخرة ((إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)).

4ـ عند مجيء النار:
روى مسلم في صحيحه بسنده إلى رسول صلى الله عليه وسلم قال \” يؤتي بالنار يومئذٍ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها \”

عندما يرى المرء النار بهذه الصورة العظيمة المفزعة يجرها أربعة آلاف وتسعمائة مليون ملك وقد تصاعدت منها الألسنة العملاقة وهو يسمع تغيضها وزفيرها وهي تصيح بصوت مرعب (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) حينها يتذكر الإنسان لحظات المعاصي والكسل والتسويف ومخادعة الله والآهات وقتها تبدأ الزفرات والآهات ويصيح الظالم ((وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ)) هذه الأمنية التي يتمناها المرء هي أقصى ما يملكه ويستطيعه ولكن أتى له ذلك نسأل الله العفو والعافية.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ((فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أنعم على عباده المؤمنين بالإيمان وأشهد أن لا إله إلا الله جعل عاقبة الأخيار في دار القرار وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الآمنين وسيد الناجين حين يندم الكفار والفجار صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.

أمـا بـعــد:

أيها المؤمنون والمؤمنات وخامس هذه الموقف العصيبة التي يندم فيها المفرطون واللاهون عند وقوفهم على النار وقد قال الله فيهم وقوله حق ((وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ )).

يقول العلامة ابن كثير في تفسيره يذكر تعالى حال الكفار إذ وقفوا يوم القيامة على النار وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال فعند ذلك قالوا ـ يا ليتنا ـ.

6ـ بعد إلقائهم في النار:
يقول الله تعالى ((يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)) هاهم قد اكتشفوا الطريق التي كانوا يسلكوها كانت طريقا خاطئة بسبب إتباعهم لسادتهم وكبرائهم ممن سلك طريق الشيطان وها هم يتجرؤن في تلك اللحظات على لعن سادتهم ومخاطبتهم بمثل هذه اللهجة الجريئة بعد ما عاشوا في الدنيا جبناء أذلاء صاغرين عن قولة الحق وإنكار المنكر وبعدما قذفوا في النار وذاقوا عذابها استيقظ شعورهم المتبلد وأخذوا يندمون على عدم إتباعهم لطريق الله ورسوله ولكن بعد فوات الأوان.

نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا لسلوك الطريق المستقيم طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

هذا صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين فقد أمركم الله بذلك في كتابه الكريم فقال جل من قائل عليما [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد. عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والله يعلم ما تصنعون.