خطبة بعنوان: (منزلة الأم وما لها من حقوق) 16-3-1430هـ
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له،ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى طريق النجاة والفوز بدار النعيم [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً](الأحزاب).
عباد الله: في تقلب الليالي والأيام تمر على العباد محن وآلام، ومصائب وأحزان، وإن من أشد ما نجد في وقتنا الحالي ما ظهر بين المسلمين من التقصير في حق الوالدين، وحصول العقوق من بعض الأبناء، وما كان هذا ليحدث لولا ما تأثر به هؤلاء من فتن ومؤثرات فغاب عنهم حق والديهم ووقعوا في العقوق وحصل منهم التنكر لجميل والديهم. وكم سمعنا من قصص عن العقوق للآباء والأمهات تتقطع لها القلوب، وتدمى لها الأفئدة، وتدمع لها العيون.
عباد الله: المعلوم لدى كل عاقل أن حق الوالدين عظيم، وبالأخص الأم، فالأم هي النبع الصافي، والحضن الدافئ، وهي حمَّالة الأسى، ألم ير كل منا ما تحملته أمه من أجله، [حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً](الأحقاف)، ولقيت وقت وضعه من الآلام والمزعجات الكثير والكثير، وبالغت في تربيته، وسهرت من أجل راحته، وأعرضت عن جميع ملذاتها طمعاً في إرضائه، وقدمته على نفسها في كل حال.
وكل عاقل يعرف حق المحسن، ويجتهد في مكافأته، وجهل الإنسان بحقوق المنعم من أخس صفاته، لاسيما إذا أضاف إلى جحد الحق المقابلة بسوء المنقلب، فكيف بمن يقلب الإحسان إساءة، والعطاء جحوداً، والبر عقوقاً، ألم يعلم هذا الغافل حق أمه، فوالله لو أراد رد جزء من الجميل ما وفى غير القليل، فعن زرعة بن إبراهيم، أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه، فقال: إن لي أماً بلغ بها الكبر، وأنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأوضئها، وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟ قال: لا. قال: أليس قد حملتها على ظهري، وحبست نفسي عليها؟ قال: (إنها كانت تصنع ذلك بك، وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنع ذلك وأنت تتمنى فراقها).
ورأى عمر رضي الله عنه رجلاً يحمل أمه، وقد جعل لها مثل الحوية على ظهره، يطوف بها حول البيت وهو يقول: (أَحمِلُ أُمِي وَهِيَ الحَمالَة … تُرضِعُني الدِرَةَ وَالعَلالَة) فقال عمر: (أَلإِنْ أكون أدركت أمي، فَوَلِيتُ مِنها مِثل ما وليت أحب إلي من حمر النعم).
وقال رجل لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها المناسك، أتراني جزيتها؟ قال: (لا، ولا طلقة من طلقاتها).
ورأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يمانيًا يطوف بالبيت حمل أمه وراءه على ظهره، يقول: إني لها بعيرها المذلَّل، إن أُذْعِرتْ ركابُها لم أُذْعَر، الله ربي ذو الجلال الأكبر، حملتها أكثر مما حملتني، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟! قال ابن عمر: (لا، ولا بزفرة واحدة).
عباد الله: إن الله جل وعلا أمر ببر الوالدين، والإحسان إليهما، وأخبر أن فضلهما عظيم، وفرض على الأبناء صحبة والديهم صحبة طيبة، قال تعالى: [وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوَلِدَينِ إِحساناً إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولاً كَريماً وَاِخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَةِ وَقُل رَبِّ اِرحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيراً](الإسراء)، وقال تعالى: [أَنِ اشَكُر لي وَلِوَالِدَيكَ] (لقمان). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: (أحي والداك؟) قال: نعم. قال: (ففيهما فجاهد) (متفق عليه). ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: عن (أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ فذكر منها: بر الوالدين)(متفق عليه).
عباد الله: وإن من أحق الوالدين بالبر الأم لما بذلته من نفسها وعمرها وشبابها، فكم عانت من آلام حملها، فكانت لا تنام إلا القليل، ولا تتحرك إلا بصعوبة بالغة من ثقل ما تحمله، وكم بذلت من لبنها عند الرضاع لتغذي رضيعها، وكم عانت من تنظيفه وغسله وإزالة الأذى عنه، وكم تألمت من الجوع والبرد من أجله، وكم فرَّطت في كثير من ملذاتها من أجل إدخال السرور عليه.
فهذه الأم جعلها الله تعالى سكناً له في أول حياته حتى خرج إلى الدنيا طفلاً، ثم تولته بلبنها حتى اشتد عوده، ثم راعته بقية عمره حتى صار شاباً يافعاً قوياً.
وهكذا هي الأم دائماً في بذلها وعطاءها. فانظر يا رعاك الله إلى عظيم فضلها، فهل جزاء ما قدمته من أجلك أن تسيء إليها، وأن تدخل الحزن والجزع على قلبها؟
استمع يا عبد الله إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إليه رجل فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ)(رواه البخاري). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثلاثاً إن الله يوصيكم بآبائكم إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب)(رواه ابن ماجة، وصححه الألباني في سنن ابن ماجة 2/1207).
وعن معاوية بن جاهمة السلمي رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي وجه الله والدار الآخرة، قال: (ويحك، أحية أمك؟) قلت: نعم، قال: (ارجع فبرها)، ثم أتيته من الجانب الآخر، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي وجه الله والدار الآخرة، قال: (ويحك، أحية أمك؟) قلت: نعم يا رسول الله، قال: (فارجع إليها فبرها)، ثم أتيته من أمامه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه اللهَ والدار الآخرة، قال: (ويحك، أحية أمك؟) قلت: نعم يا رسول الله، قال: (ويحك، الزم رجلَها فثمّ الجنة). إنها الجنة وربّ الكعبة: (الزم رجلها فثمّ الجنة)(رواه أحمد والنسائي وابن ماجه).
وها هي بعضٌ من صور البر للسلف الصالح لكي تعلم أخي المسلم عظيم ما كانوا يقدمون لكي تتأسى بهم وتسير على دربهم: فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه من شدة بره بأمه كان يقول: ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت.
وهذا حارثة بن النعمان رضي الله عنه كان يفلي رأس أمه ويطعمها بيده، ولم يستفهمها كلاماً قط تأمر به حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج: ما أرادت أمي؟.
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه كان إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه، فقال: (السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته. فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً). وإذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك.
وهذا هشام بن حسان يقول: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: (تعش العشاء مع أمك تقر به عينها، أحب إلي من حجة تحجها تطوعاً).
وعن الزهري، قال: كان الحسن بن علي لا يأكل مع أمه، وكان أبر الناس بها، فقيل له في ذلك، فقال: (أخاف أن آكل معها، فتسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أدري، فآكله، فأكون قد عققتها).
ودخل رجل على ابن سيرين وعنده أمه، فقال: ما شأن محمد يشتكي؟ قالوا: لا، ولكنه هكذا يكون إذا كان عند أمه.
وعن أنس بن النضر الأشجعي: استَقَتْ أمُّ ابن مسعود ماء في بعض الليالي، فذهب فجاءها بشربة، فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت بالشربة عند رأسها حتى أصبح.
وعن محمد بن المنكدر قال: “بتّ أغمز رجلَ أمي، وبات أخي عمر ليلته يصلّي، فما تسرّني ليلته بليلي”. وهكذا دأب سلف الأمة كانوا من أشد الناس حرصاً على بر أمهاتهم، وكانوا يبذلون ما يستطيعون من أجل إرضائهنَّ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }(الحجرات).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن البر طريق إلى رضا الله والفوز بدار الخلود.
عباد الله: قال ابن عمر رضي الله عنهما لرجل: (أتفرق من النار وتحب أن تدخل الجنة قلت إي والله قال أحي والداك قلت عندي أمي قال فوالله لو ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر )(رواه البخاري في الأدب المفرد).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما من مسلم له والدان مسلمان يصبح إليهما محتسبًا إلا فتح الله بابين ـ يعني من الجنة ـ وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرضى الله عنه حتى يرضى عنه)، قيل: وإن ظلما؟ قال: (وإن ظلما).
وقال محمد بن سيرين: “بلغت النخلة على عهد عثمان رضي الله عنه ألف درهم، فعمد أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى نخلة فاشتراها، فنقرها وأخرج جمّارها، فأطعمها أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟! قال: إن أمي سألتني ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها”.
وهذا عبد الله بن عون نادته أمه فَعَلا صوتُه صوتَها، فأعتق رقبتين.
إنها الأم، يا من تريد النجاة، الزم رجليها، فثمّ الجنة.
عباد الله: واختم هذه الخطبة بقصة عجيبة فيها العظة والعبرة لمن كان يعق والدته ويقصر في حقها ويقدم زوجته وأولاده أو عمله وماله عليها لكي يتعظ، وينتبه من غفلته:
فعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه آت، فقال: يا رسول الله! شاب يجود بنفسه، فقيل له: قل لا إله إلا الله فلم يستطع أن يقولها، فقال صلى الله عليه وسلم: أكان يصلي؟ قال: نعم، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهضنا معه، فدخل على الشاب، فقال له: قل لا إله إلا الله. فقال: لا أستطيع. قال: لم؟ قالوا: كان يعق والدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحية أمه؟ قالوا: نعم. قال: ادعوها، فدعوها فجاءت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهذا ابنكِ؟ قالت: نعم.
فقال لها: أخبريني لو أُججت نار عظيمة، فقيل لكِ: إن شفعت له صلينا عليه، وإلا حرقناه في هذه النار هل كنت تشفعين له؟ قالت: يا رسول الله! إذاً أشفع. قال: فأشهدي الله وأشهديني أنكِ قد رضيتِ عنه. قالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقالها: ففاضت روحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أنقذ ابنك من النار). وكان هذا الشاب كما جاء في سياق القصة يؤذي أمه، ويؤثر رضا زوجته على رضاها.
فكيف بمن يؤثر هواه وملذاته، وكيف بمن يؤثر أصحابه وخلانه، وكيف بمن يؤثر زوجته وأولاده على أمه صاحبة القلب الرحيم وصاحبة الفضل الجسيم عليه؟
فاتق الله يا من تعق أمك أو تقصر في حقها من مغبة ذلك، فلا سعادة لك إلا ببرها وإرضائها، واعلم أن ما تقدمه اليوم ستجده غداً، وكما تدين تدان.
أسأل الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى أن يرحم آبائنا وأمهاتنا الميتين وأن يغفر لهم، وأن يوسع لهم في قبورهم، وأن ينور لهم فيها.. وأسأله تعالى أن يبارك في الأحياء منهم، وأن يعينهم على كل خير إنه قريب مجيب، كما أسأله أن يوفقنا لبرهم أحياءً وأمواتاً.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب>
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. الجمعة: 16-3-1430هـ