خطبة بعنوان: (الحزن المشروع والحزن الممنوع) 28-4-1430هـ.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ].
عباد الله : الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة وتفاخر، هي دار ممر، حكم الله بفنائها وزوالها، والحياة الآخرة هي الحياة الأبدية، فيها النعيم المقيم، والعيش الهني، والسعادة الحقيقية، وقلَّ أن يسلم أحد من هموم الدنيا، وغمومها، وأكدارها، ومنغصاتها، ومن يطلب غير ذلك في هذه الدنيا فهو مكلف الأيام ضد طباعها.
ليست الدنيا بدار قرار، والمنية لا بد آتية، ولذا يكثر في الدنيا الهم والحزن وهما قرينان، فالحزن على ما مضى، والهم على الحاضر والمستقبل، وقد جاء النهي صريحاً عن الحزن في القرآن، قال تعالى: [وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ](آل عمران)، وقال تعالى: [وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ](النحل).
بل إن أهل الجنة يحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن، قال تعالى: [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ](فاطر).
وقد استعاذ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الحزن والهم، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)(متفق عليه).
عباد الله: الحزن لا فائدة من ورائه فهو لا يقدم شيئاً، لا يدفع مضرة ولا يجلب خيراً، بل هو مشتت للفكر، مشغل عن العمل، لا تستقيم معه الحال، ولا يهدأ لصاحبه بال، وهو يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، وهو مدخل من مداخل الشيطان ليقعد به عن عمل الصالحات، وكل ما قدر على المرء حاصل لا محالة، فما أصاب المرء لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وكل مصيبة قدرها الله فلا مدفع لها، قال تعالى: [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (التغابن).
وبعض المصائب قد تكون نعمة على المصاب، فالله وحده هو الذي يعلم مآلات الأمور، فعسى أن يحب المرء شيئاً وهو شر له، وعسى أن يكره شيئاً وفيه خير كثير [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً].
عباد الله: وينبغي للمسلم إذا حزن على شيء يكرهه ألا يتسخط ولا يعترض على قدر الله، بل يسلم ويرضى، ويفعل الأسباب الدافعة لهذا الهم والحزن، وله برسولنا صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة، فهو القائل (إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)(متفق عليه).
كما ينبغي للمسلم عند حصول الهم والحزن أن يبث شكايته إلى الله، ويكثر من الدعاء الصادق الخالص، وله بيعقوب عليه الصلاة والسلام أسوة وقدوة حيث قال: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)(يوسف).
ولا ينبغي أن يكون لليأس طريق إلى قلبه فذلك شأن الغافلين عن الله، المعرضين عن أبوابه، ولذا حذر يعقوب أبناءه من ذلك فقال [يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ](يوسف).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد ألا إله إلا الله ولي المتقين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فا تقوا الله عباد الله واعلموا أن الله كتب على عباده حظهم من الخير والشر ولابد أن ينالهم ذلك، لكن مواقف الناس تختلف باختلاف عقولهم ومداركهم وقربهم وبعدهم من الله.
فأقوام يحزنون لفوات مرغوب وحصول مكروب، يحزنون إذا خسروا في التجارة، أو رسبوا في الاختبارات، أو لم تحصل لهم ترقية في وظائفهم، وهؤلاء لن يتحقق لهم بهذا الحزن شيء فات عليهم لكنها آهات وأنات لا تقدم شيئاً لا تحقق طلباً ولا ترد قدراً.
وأقوام آخرون امتلأت قلوبهم خشية وخوفاً من الله، وعمرت الطاعات أفئدتهم، فهم يحزنون إذا قصروا في الطاعة، أو وقعوا في المعصية، لا يكاد يهدأ لهم بال، ولا يرتاح لهم خاطر، وهؤلاء هم أصحاب القلوب الحية العامرة بالإيمان، الصادقة في لجوئها إلى الله، وعلى كل حال فكلما كان القلب أشدَّ حياة كان شعوره بألم فوات الطاعة وحصول المعصية أقوى وأعظم.
عباد الله: وإذا أراد المسلم دفع هذه الأحزان وتلك الهموم فعليه أن يعرف ربه حق المعرفة، فمن عرف الله أحبه، ومن أحبه ذهبت عنه الغموم والهموم والأحزان، وحل مكانها الفرح والسرور.
وهذا ما تحقق للمعصوم صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر وهما في الغار حيث قال أبو بكر يا رسول الله والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا فأجابه الرسول قائلاً: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)(التوبة)، ويحفظ الله نبيه ويتحقق موعود الله بتمام الهجرة والوصول إلى المدينة دون أذى.
عباد الله: والأمر نفسه حصل لأنبياء الله، فيوسف عليه الصلاة والسلام أوذي في
عرضه، واتهم وسجن ظلماً وزوراً ومع ذلك صبر وثبت لأنه مع الله، فأنزل الله عليه سكينته وحفظه ونصره وأعزه وأصبح والياً بعد أن كان سجيناً بين جدران السجن.
وهكذا أولياء الله لا يحزنون على فوات المرغوب ولا حصول المكروب لأنهم مع الله يتوكلون عليه ويلجئون إليه، ومن كان مع الله فالله جل وعلا معه في كل أحواله وشؤونه.
عباد الله: وإليكم هذه الحادثة التي وجه فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مخرج من الهم والحزن حيث دخل ذات مرة المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال (يا أبا أمامة ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟)، قال هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال (أفلا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك) قال قلت بلى يا رسول الله، قال (قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)، قال ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني(رواه أبو داود، وضعفه الألباني في سنن أبي داود 2/93 رقم 1555).
فاحرصوا أيها المؤمنون على لزوم مرضاة الله والسير على الطريق المستقيم واحذروا من استيلاء الهموم والأحزان فإنها تقعد بالعاجزين الغافلين، واجتهدوا في محبة الله والسير على هدي الحبيب صلى الله عليه وسلم فالطريق إلى الله واضحة المعالم، سالمة من النقائص والعيوب، والسالكون لهذا الطريق سيتحقق مطلوبهم ويصلون إلى مرغوبهم طال الزمن أو قصر.
اللهم وفقنا للسير على الطريق المستقيم وجنبنا صراط المغضوب عليهم والضالين وأسلك بنا طريق الأبرار وجنبنا طريق الفجار واحفظنا بالإسلام قائمين قاعدين في جميع أوقاتنا وأحوالنا يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين.
عباد الله: صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم بذلك فقال جل من قائل عليما [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لكل خير.
اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم إذا ذكروا وتذكرهم إذا نسوا اللهم اجعلهم رحمة على شعوبهم يا كريم.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأقم الصلاة.
الجمعة 28-4-1430هـ