خطبة بعنوان: ( حج عام 1430 والنجاح الكبير) 17-12-1430هـ.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران الآية 102).
أيها المؤمنون الشكر على النعماء خلق عظيم ومقام كريم يصدر دائماً عن النفوس المؤمنة والقلوب الطاهرة، والشكر الحقيقي أن تكون جوارح المسلم وأحاسيسهً ومشاعره وحركاتهُ وسكناتهُ ناطقة بالحمد والثناء على المنعم المتفضل، فهو صاحب المنن والعطايا القائل:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(إبراهيم الآية 7).
والشكر خلق الأنبياء والمرسلين، وهو زينةُ الأبرار المتقين، وعباد الله الصالحين، فهم أكثر الناس شكراً وأوفرهم في هذا الباب حظاً.
ونحن ولله الحمد نعيش في هذه الأيام بعد أيام الحج فرحة عظيمة لنجاح هذا الموسم نجاحاً باهراً بكل المقاييس، فلم نر ولله الحمد والمنة ما يكدر على الناس، بل شاهدنا ولمسنا ما يسر كل مسلم على ظهر هذه الأرض.
عباد الله ولقد حدث قبل أيام الحج ثلاثة أمور كان لها آثار على الناس بين مقل ومكثر:
الأول: تهويل بعض الناس ومبالغتهم حول مرض أنفلونزا الخنازير وآثاره على من يذهبون إلى مكة، ولكن جاءت الإحصائيات بعد الحج تكذب ظنونهم وتظهر رحمة الله بعباده المؤمنين ممن قصدوا بيته المعظم استجابة لنداء أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ..}(الحج الآية 27)
الثاني: تهديد وتخويف بعض أعداء هذه البلاد وزعمهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ومع ذلك خاب سعيهم وأبطل اله كيدهم وأدى حجاج بيت الله الحرام حجهم بأيسر السبل وأسهل الطرق وبقي هذا الكلام الذي أطلقوه قبل الحج شاهداً عليهم بالخزي والخذلان وشاهداً لبلادنا بالعز والتمكين وثبات المبادئ وصدق الولاء وقوة التلاحم.
ثالثاً: ما حدث من الاعتداءات على حدود بلادنا الجنوبية والمقاصد الدنيئة منها، فهم يريدون التشويش على هذه البلاد والتلبيس على الناس وزعزعة أمن الحجيج، لكن الله أبطل كيدهم وثبت جنودنا البواسل، ولقنوا هؤلاء المعتدون دروساً لن ينسوها، ولعل الله أراد ببلادنا خيراً حيث يتبين هؤلاء المعتدين على حقيقتهم وتظهر نواياهم السيئة ومقاصدهم الإجرامية، ونحن كلنا على أهبة الاستعداد للدفاع عن عقيدتنا ومقدساتنا وبلادنا مهما كلفنا ذلك من الجهد والوقت والمال.
أيها المؤمنون: وفي مشهد الحج العظيم تجلت الروح الإسلامية والأخلاق النبيلة والتطلعات الإيمانية، حيث أجتمع المسلمون من كل مكان يعلنون التوحيد الخالص، ويرددون نداء التوحيد الخالد ـــ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ـــ ويتمتعون بما قدمته وتقدمه هذه البلاد من تسهيلات فاقت التصورات، ونحن نحمد الله ونشكره أن جعل الإشراف على الحرمين الشريفين بأيد أمينة ترعاهما وتنفق عليهما بسخاء لا تطلب من أحد منًّا ولا ثمناً، تبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة.
وإن ما لمسناه وشاهدنا من مشاريع عملاقة في جسر الجمرات والمسعى وقطار الحرمين الشريفين وما تمتعنا به من قرارات إيجابية في حركة السير كل ذلك كان له الأثر البارز على الحجيج حيث أدوا حجهم دون عناء وتعب ولا نبالغ إذا قلنا إننا منذ ثلاثين عاماً لم نشاهد مثل حج هذا العام تيسيراً وتسهيلاً ووفرة خدمات فلله الحمد والمنة.
عباد الله ولقد وجه خادم الحرمين الشريفين بدراسة موضوع المطاف ووجه بإجراء مسابقة دولية لطرح فكرة أبحاث مشروعات تخدم موضوع الطواف ليستوعب أعداداً كبيرة، ولعل الله أن يحقق على يديه حلَّ هذا الأمر الذي هو أهم ما يحتاجه الحجاج الآن بعد انتهاء جسر الجمرات والمسعى وحل أزمة السير بقطار الحرمين، وإني لأرجو صادقاً أن يكتب الله الأجر لولاة أمر هذه البلاد وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين وكل مسئول عن أمر الحج بما في ذلك أجهزة الأمن المختلفة، بل وأرجو أن يكتب لهم أجر كل حاج وحاجه أدى فريضة الحج حيث كان المسؤولون عن الحج هم السبب في تحقيق الراحة وتيسير أمور الحج وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وصدق الله العظيم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(سورة النحل: الآية 97).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أمر بالعفو وحث عليه وأشهد أن لا إله إلا الله العفو الكريم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الذي بلغ الكمال في خلق العفو صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فأعلموا أيها المؤمنون أن الله جل وعلا مدح المؤمنين بقوله {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران 133، 134).
وقال تعالى{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور الآية22).
وقال صلى الله عليه وسلم: (وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا..)(رواه مسلم).
وكان من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا قدر عفا كيف لا وهو القائل عام الفتح للذين آذوه وحاصروه وأخرجوه من بلده وقاتلوه واتهموه بالسحر والشعوذة والجنون لما انتصر عليهم (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
وقد قيل: (ليس الحليم من إذا ظلم ثم قدر انتقم إنما الحليم الذي إذا ظلم ثم قدر عفا).
عباد الله والعفو طريق إلى الجنة ودليل على سلامة الصدر ولا يستطيعه إلا الرجال العظماء الذين تمتلئ قلوبهم بالخير والفضل ومحبة الآخرين، والرجال لا يعرفون إلا عند المواقف الكبيرة ومنها العفو عند المقدرة ولاسيما العفو عن النفس وإعتاق الرقبة المستحقة للقصاص وصدق الله العظيم [وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً].
ولقد شهدت هذه المحافظة يوم أمس حدثاً لا يمكن أن ننساه حيث وفق الله جل وعلا أهل الخير والفضل في إتمام الصلح وصدور العفو عن القاتل، وقد أعلن ولي الدم عفوه الكريم مبتغياً بذلك وجه الله تعالى، طالباً الأجر من الله وتلك مكرمة عظيمة وسنة حميدة لا يوفق لها إلا النوادر من الناس.
وقد عمت الفرحة القاصي والداني، ولهج الناس بالدعاء لوالد القتيل ووالدته وإخوانه وأخواته.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يجزيهم خير الجزاء، وأن يعلي شأنهم، وأن يسعدهم في الدنيا والآخرة، وأن يغفر لولدهم وأن ينزله منازل الشهداء.
هذا وصلوا وسلموا على الرسول المجتبى والنبي المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.
اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم اربط على قلوب جنودنا البواسل واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وأخذل أعداءهم.
اللهم أجز ولاة أمر هذه البلاد خيراً على ما يقدمونه للمقدسات وللمسلمين من خدمات لمس أثرها كل حاج ومعتمر، اللهم اجعل ذلك ثباتاً في دينهم وعافية في أبدانهم وعزاً في حكمهم ومحبة في قلوب الخلق لهم.
اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات، اللهم استر عوراتهم، وارفع درجاتهم، واغفر لهم ولآبائهم وأمهاتهم [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] البقرة الآية 201).
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا اللهم أغثنا غيثاً مغيثا سحاً طبقا عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد.
عباد الله: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ــــــ وأقم الصلاة ـ
الجمعة: 17-12-1430هـ