خطبة بعنوان: (فاجعة جدة -دروس وعِبَر-) بتاريخ 24-12-1430هـ.

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز الجبار القوي القهار القائل في كتابه العزيز [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] (الحديد الآية 22)، وأشهد أن لا إله إلا الله له الأمر من قبل ومن بعد [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] (القصص الآية 88)، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير من ابتلى فصبر وأنعم الله عليه فشكر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] (آل عمران الآية 102).

أيها المؤمنون لقد تابع الجميع فاجعة جدة وما حصل من الآثار والأضرار وهذا الحدث الكبير يحسن أن نقف عنده لنتأمل ونتدبر ونتفكر ونتعظ ونستلهم الدروس والعبر فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: قدر الله نافذ وأمره واقع لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهنا يطمئن قلب المؤمن الموحد وصدق الله العظيم: [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ](التوبة الآية 51).

ثانياً: المصائب والكوارث سبب للاتعاظ والتذكر والرجوع إلى الله قال تعالى: [فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ] (الأنعام الآية42).

ثالثاً: ما حدث دليل على ضعف الإنسان وقلة حيلته وعظيم قدرة الله وخضوع الكون له أمره كن فيكون وهذا يتطلب افتقار العبد لربه وانطراحه بين يديه وطلب المعونة والتسديد فلا حول ولا قوة للناس إلا بالله وهذا أمر شاهده الجميع يموت الناس بين أيديهم ولا يستطيعون فعل شيء لأن قدر الله نافذ لا محالة وصدق الله العظيم: [إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحديد الآية 25)
وقال تعالى: [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً]( النساء الآية 28).

رابعاً: الأمطار قد تكون نعمة ورحمة وقد تكون عقوبة ونقمة فيحيي الله بها الأرض بعد موتها ويجعلها تطهيراً للناس وأحياناً يصبها على أقوام عذاباً وبيلاً كما حصل مع قوم نوح عليه الصلاة والسلام.

خامساً: ما بين طرفة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال فهناك أقوام سافروا قبيل الفاجعة فنجوا، وهناك أقوام وصلوا إلى جده قبيل الحدث فهلكوا وهكذا يسوق الله كل واحد إلى ما قدره عليه وصدق الله العظيم: [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ] (لقمان الآية34).
وقال تعالى: [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ](الجمعة الآية8).
من الناس من لم يحج خوفاً من إنفلونزا الخنازير فجاءهم الموت في بيوتهم ومن الناس من توكل على الله فحج فكتب الله له النجاة وكل ذلك بتقدير العليم الخبير.

سادساً: الشهادة مرتبة عالية يوفق الله لها بعض أوليائه فالشهداء يصطفيهم ويختارهم لأعلى المراتب والمنازل وهؤلاء الذين غرقوا في سيل جدة يرجى أن يكونوا من الشهداء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ غَرِقَ فَهُوَ شَهِيدٌ). رواه مسلم.
والشهداء ثلاثة أنواع شهيد دنيا وآخرة وهو من يقاتل لإعلاء كلمة الله ثم يقتل في المعركة ، وشهيد آخرة فقط ومنه الغريق والحريق والمبطون والمطعون ومن ماتت على ولادتها، وشهيد دنيا فقط وهو من يقاتل حمية أو عصبية ثم يقتل فهذا وإن أعطى أحكام الشهيد في الدنيا بأنه لا يغسل ولا يصلي عليه لكنه في الآخرة في النار كما ثبت في ذلك الحديث عن رسول الها صلى الله عليه وسلم.

سابعاً: هذا السيل العظيم آية من آيات الله وصدق الله العظيم: [وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً](الإسراء الآية 59).
وهو ابتلاء وامتحان من الله جل وعلا والله يبتلي عباده المؤمنين وصدق الله العظيم: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ](البقرة الآية155).
فعلينا أن نصدق مع الله جل وعلا ونصدق في توبتنا ونكثر من الاستغفار والعمل الصالح وندعو لمن مات ونبذل ما نستطيع لمساعدة المحتاجين والمتضررين وأقل ما نقوم به الدعاء لهم والشعور بشعور الجسد الواحد (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى). رواه مسلم.

ثامناً: هذا الحدث العظيم أظهر بعض الناس على حقائقهم فهناك طائفة لا هم لها إلا التجريح والتوبيخ وإلصاق التهم والدعاوى وهي مع ذلك لم تفعل شيئاً تساهم به فهذه الطائفة تهدم ولا تبني وتفسد ولا تصلح.
وطائفة أخرى استغلت الحدث للسرقة ونهب البيوت واستغلال انشغال الناس وتلك طائفة خاسرة أعمى الطمع أعينها عن التفكر والاتعاظ والشعور بمصيبة الجسد الواحد وطائفة ثالثة استغلت الحدث ورفعت الأسعار فيما يحتاجه الناس وكأنه لا يهمهم إلا أنفسهم وربحهم المادي.
وطائفة رابعة وقفت موقف الشهامة والنجدة فتطوعوا لإنقاذ المصابين وجندوا أنفسهم لفعل ما يستطيعون وقد رأينا مشاهد تثلج الصدر وتدل على أن هذا المجتمع فيه الخير الكثير وخصوصاً من الصالحين الذين أثبتوا أنهم الأمناء في المواقف العصيبة.

تاسعاً: هذا الحدث نستفيد منه أن الإنسان يبعث على ما مات عليه فهناك أناس غرقوا في المساجد وهناك آخرون في أعمالهم وهناك من ماتوا وهم على الطاعة والعبادة وهناك من مات وهو ينهب ويسرق ويفعل المعاصي وكل سيبعث على ما مات عليه.

عاشراً: لقد أثلج صدورنا وأفرحنا ذلك القرار الشجاع بتشكيل لجنة عليا لدراسة الأسباب لهذه الكارثة ومحاسبة المقصرين خلال السنوات الماضية وإذا كان خادم الحرمين الشريفين يرمي في هذا القرار إلى الإصلاح ويدفع سفينة المجتمع للعمل الجاد المثمر فإننا نلتمس من الجهات ذات العلاقة الإعلان أولاً بأول ليرتاح المصابون وتهدأ نفوس المنكوبين وتضمد جراح المكلومين وهذه اليد الحانية من المليك زاده الله توفيقاً وهدى وأمده بالصحة والعافية ليست بغريبة على قادة هذه البلاد فهم أهل الوفاء والشيم وهم أهل النجدة وبذل المعروف ولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.

أحد عشر: أًذكِّر نفسي وأخواني بأن كل كاتب سيبلى ويبقى الدهر ما كتبت يداه والناس ذهبوا مذاهب في تحليل هذه الأحداث وبالغوا مبالغات غريبة عجيبة ووظفها بعض الناس للانتصار لنفسه والتهجم على غيره ولكن الله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ولذا علينا جميعاً أن نتقي الله ولا نظلم أحداً لم تثبت تهمته ونحن ننتظر ما تسفر عنه جهود اللجنة ونحمد الله أن الأمر بأيدٍ نثق بها ونطمئن إليها نسأل الله لهم التوفيق والإعانة وصدق الله العظيم: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ](المائدة الآية 2).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام الصابرين وقدوة الناس أجمعين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن الحياة مليئة بالمنغصات والمكدرات والله جل وعلا يجعل بعد العسر يسراً وصدق الله العظيم: [إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً].
عباد الله تترقب هذه البلاد قيادة وشعباً وصول صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام هذا الأمير المحبوب الذي بادل المواطنين والمقيمين حباً بحب وعطاءً بعطاء وهو يلامس شغاف القلوب بعد أن وقفت معه هذه القلوب الكبيرة في رحلته العلاجية ولا غرابة في ذلك فهذا الكيان الكبير هو المثل الحي في طول بلاد العالم وعرضها تعاوناً ومحبة ووفاء وولاء وصدقاً في الطاعة يتمثل الجميع قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] (النساء الآية 59).

وأميرنا الكريم الأمير سلطان بن عبد العزيز له القدح المعلى في بذل الخير ومساعدة الآخرين وتحقيق أسمى صور التكافل الإسلامي وبصماته واضحة ظاهرة على مجتمع بلادنا وشواهد بذله غير خافية ما بين منشأة خيرية ومؤسسة اجتماعية وجمعيات وهيئات ومصحات ومرضى كل هذه الجهات والمستفيدين منها امتدت لهم يد سموه الحانية ولامست حاجتهم احتساباً لوجه الله ورغبة فيما عنده حتى شاع بين الناس وصفه ــــ بسلطان الخيرـــ لبذله الخير في كل الاتجاهات والمناسبات والظروف والأحوال ومن يدري لعل دعوة صادقة من رجل أو امرأة امتدت لها يد أميرنا الغالي فأجاب الله هذه الدعوة فكانت سبباً في كل خير لأميرنا المحبوب.

عباد الله ونحن نرحب بأميرنا الغالي وقد حل في القلوب قبل أن تطأ قدماه أرض الوطن لأنه عمر ما بينه وبين تلك القلوب فزادت محبتها له وصدق ولاؤها وتوجهت لخالقها تسأله أن يمن عليه بالشفاء والعافية.

نرحب بولي عهدنا ليواصل مسيرة البناء مع أخيه خادم الحرمين الشريفين وأيديهم تمتد لكل محتاج تمسح دمعة اليتيم وتعين المحتاج وتفرج كربة المكروب دون صخب أو دعايات بل هي صدقات في السر ونحن نسأل الله أن يصدق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ) رواه البخاري.

اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا اللهم أدم علينا نعمة الصحة والعافية.
اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا أو ولاة أمرنا بسوء اللهم فأشغله بنفسه ورد كيده إلى نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم احفظ المرابطين على حدودنا الجنوبية وأعنهم وسددهم واربط على قلوبهم.
اللهم اجعل الدائرة تدور على أعدائهم.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم أسق به البلاد والعباد واجعله زاداً للحاضر والباد.

[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](النحل: الآية 90). ـ وأقم الصلاة ـــ.
الجمعة: 24-12-1430هـ